2655 فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
شارك محمد البلوشي وعبدالله البلوشي ابوعيسى ، وطارق أبو تيسير وعبدالملك وعبدالله المشجري وأحمد بن علي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى ، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا )
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
صحيح مسلم
٤ – بابُ كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ
١٨ – (٢٦٥٥) حَدَّثَنِي عَبْدُ الأعْلى بْنُ حَمّادٍ، قالَ: قَرَأْتُ عَلى مالِكِ بْنِ أنَسٍ، ح وحَدَّثَنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مالِكٍ، فِيما قُرِئَ عَلَيْهِ عَنْ زِيادِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طاوُسٍ، أنَّهُ قالَ: أدْرَكْتُ ناسًا مِن أصْحابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، يَقُولُونَ كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ، قالَ: وسَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ، حَتّى العَجْزِ والكَيْسِ، أوِ الكَيْسِ والعَجْزِ».
١٩ – (٢٦٥٦) حَدَّثَنا أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، وأبُو كُرَيْبٍ، قالا: حَدَّثَنا وكِيعٌ، عَنْ سُفْيانَ، عَنْ زِيادِ بْنِ إسْماعِيلَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبّادِ بْنِ جَعْفَرٍ المَخْزُومِيِّ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، قالَ: «جاءَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يُخاصِمُونَ رَسُولَ اللهِ ﷺ فِي القَدَرِ، فَنَزَلَتْ ﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ، إنّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر ٤٩]».
==========
التمهيد:
الإيمان بالقدر أصل من أصول الإيمان التي لا يتم إيمان العبد إلا به، ومن أنكر القدر فقد أنكر معلوما من الدين بالضرورة، وكذب بما جاء في القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، وما اتفق عليه المسلمون.
روى مسلم عن عمر أن جبريل سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وتؤمن بالقدر خيره وشره» قال صدقت).
قال الله تعالى: {إنا كل شيء خلقناه بقدر} [القمر:49]،
وقد تقاطر أهل العلم من أهل السنة أعلام الهدى وأنوار الدجى على وجوب الإيمان بالقدر: قال الإمام النووي: “تظاهرت الأدلة القطعيات من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأهل الحل والعقد من السلف والخلف على إثبات قدر الله سبحانه وتعالى… وأن جميع الواقعات بقضاء الله وقدره خيرها وشرها نفعها وضرها”.
وقال ابن حجر: “مذهب السلف قاطبة أن الأمور كلها بتقدير الله تعالى قال تعالى: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وماننزله إلا بقدر معلوم} [الحجر:21].
ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنه: “القدر نظام التوحيد، فمن وحد الله وآمن بالقدر تم توحيده، ومن وحد الله وكذب القدر نقض تكذيبه توحيده”. (الفتاوى 8/258)
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
قال الحافظ النووي رحمه الله:
(٤ – بابُ: كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ)
(عَنْ طاوُس) بن كيسان اليمانيّ؛ (أنَّهُ قالَ: أدْرَكْتُ ناسًا مِن أصْحابِ رَسُولِ اللهِ – ﷺ -) وفي رواية اللالكائيّ رحمه الله: «عن طاووس اليمانيّ قال: أدركت ثلثمائة من أصحاب رسول الله – ﷺ – يقولون: كلُّ شيء بقَدَر، وسمعت عبد الله بن عمر يقول: كان رسول الله – ﷺ – يقول: كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس» [«اعتقاد أهل السنة» ٤/ ٦٦١].
وسندها كالتالي عند اللالكائي:
1200 – أخبرنا محمد بن الحسين بن يعقوب، قال: ثنا جعفر بن نصير، قال: ثنا إسحاق بن إبراهيم بن جابر , بمصر قال: ثنا سعيد بن أبي مريم، قال: ثنا مالك , وابن أبي الزناد , عن زياد بن سعد , عن عمرو بن مسلم , عن طاوس اليماني، قال: أدركت ثلاثمائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: كل شيء بقدر
«شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة» (4/ 732) وهو سند جيد
(يَقُولُونَ: كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ)؛ أي: بتقدير الله -تعالى- له في الأزل.
وقال القاضي عياض -رضي الله عنه-: رويناه برفع «العجزُ، والكيس» عطفًا على «كُلُّ»، وبجرهما عطفًا على «شيء»، قال: ويَحْتَمِل أن العجز هنا على ظاهره، وهو عدم القدرة، وقيل: هو ترْك ما يجب فعله، والتسويف به، وتأخيره عن وقته، قال: ويَحْتَمِل العجز عن الطاعات، ويَحْتَمِل العموم في أمور الدنيا والآخرة، والكيسُ ضدُّ العجز، وهو النشاط، والحِذْق بالأمور، ومعناه أن العاجز قد قُدِّر عجزه، والكيس قد قُدِّر كيسه. انتهى [«إكمال المعلم» ٨/ ١٤٣].
ومعنى هذا الحديث:
أنه ما من شيء يقع في هذا الوجود كائنًا ما كان إلا وقد سبق به علم الله تعالى، ومشيئته، سواءٌ كان من أفعالنا، أو صفاتنا، أو من غيرها، ولذلك أتى بـ «كل» التي هي للاستغراق، والإحاطة، وعقّبها بـ «حتى» التي هي للغاية، حتى لا يخرج عن تلك المقدّمة الكلّية من الممكنات شيء، ولا يُتوهّم فيها تخصيص، وإنما جَعَل العجز والكيس غاية لذلك ليبيّن أن أفعالنا، وإن كانت معلومة، ومرادة لنا، فلا تقع منا إلا بمشيئة الله تعالى له وإرادته، وقدرته، كما قال تعالى: ﴿وما تَشاءُونَ إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ﴾ [الإنسان ٣٠]
ومذهب السلف قاطبةً أن الأمور كلها بتقدير الله تعالى، كما قال تعالى: ﴿وإنْ مِن شَيْءٍ إلّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وما نُنَزِّلُهُ إلّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١)﴾ [الحجر ٢١]، قاله في «الفتح»[«الفتح» ١١/ ٤٧٨]، والله تعالى أعلم.
وحديث عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما- هذا من أفراد المصنّف -رحمه الله-.
[تنبيه]:
تكلّم بعض من كتب على هامش «صحيح مسلم» ما يدلّ على تضعيف هذا الحديث، من أجل الكلام في عمرو بن مسلم الجَنَديّ، فقد تكلّم فيه أحمد، وغيره، لكن بعضهم قوّاه، فقد روى عنه جماعة، كما قدّمناه، ووثقه مسلم، حيث أخرج له هنا في الأصول ما تفرَّد به، وقال ابن معين في رواية: لا بأس به، وقال الساجيّ: صدوق يهم، ووثقه ابن حبّان، وقال ابن عديّ: ليس له حديث منكر جدًّا، وقال الذهبيّ: صالح الحديث، فمثل هذا أقلّ أحواله أن يكون حَسَن الحديث، فتنبّه، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
—
(عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، قالَ: جاءَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ)؛ أي: القبيلة المعروفة، قال الفيّوميّ: «قُريش» هو النضر بن كنانة، ومن لم يلده فليس بقرشيّ.
وقيل: قريشٌ هو فِهْر بن مالك، ومن لم يلده فليس من قريش. نقله السهيليّ وغيره.
وإلى هذا أشار الحافظ العراقيّ -رحمه الله- مع ترجيح الثاني في «ألفيّة السيرة» حيث قال:
أمّا قُرَيشٌ فالأصَحُّ فِهْرُ … جَمّاعُها والأكْثَرُونَ النَّضْرُ
وأصل القرش: الجمع، وتقرّشوا: إذا تجمّعوا، وبذلك سُمّيت قُريشٌ.
وقيل: قُريشٌ دابّة تسكن البحر، وبه سُمِّي الرجل [«المصباح المنير» ٢/ ٤٩٧].
(فِي القَدَرِ)؛ أي: في إثبات القدر.
وقال النوويّ –رحمه الله-: المراد بالقدر هنا:
القدر المعروف، وهو ما قدَّر الله وقضاه، وسبق به علمه وإرادته، وأشار الباجىّ إلى خلاف هذا، وليس كما قال. انتهى [«شرح النوويّ» ١٦/ ٢٠٥].
أي: في شأن القدر، (فَنَزَلَتْ) الآية، وهي قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ﴾ بالبناء للمفعول؛ أي: يُجرّ المشركون ﴿فِي النّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ﴾ ويقال لهم عند سحبهم وإلقائهم في نار جهنّم: ﴿ذُوقُوا﴾ على إنكاركم القدر، ﴿مَسَّ سَقَرَ﴾؛ أي: إصابة نار جهنّم لكم
وقال القرطبيّ –رحمه الله-: و«سقر» اسم من أسماء جهنم لا ينصرف؛ لأنه اسم مؤنّث معرفةٌ، وكذا لظى، وجهنم.
وقال عطاء: «سقر» الطبق السادس من جهنّم.
وقال قُطرُب: «سقر» من سَقَرته الشمس، وصقرته: لَوّحته، ويوم مُسَمْقِرٌ، ومُصَمْقِرٌ: شديد الحرّ. انتهى [«تفسير القرطبيّ» ١٧/ ١٤٧].
قوله: ﴿خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ﴾ القدر بفتحتين، أو بفتح فسكون: التقدير؛ أي: بتقدير سابق، أو خَلَقْنا كلّ شيء مقدّرًا محكمًا مرتّبًا على حَسَب ما اقتضته الحكمة، أو مقدّرًا مكتوبًا في اللوح، معلومًا قبل كونه، قد علمنا حاله، وزمانه. قاله النسفيّ [«تفسير النسفيّ» ٤/ ٢٠٦].
[شمول علمه سبحانه وتعالى]
ومفاتيح الغيب اختص بها سبحانه:
قوله عز وجل: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو} مفاتح الغيب خزائنه، جمع مفتح.
واختلفوا في مفاتح الغيب، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي أنا أبو الحسن الطيسفوني أنا عبد الله بن عمر الجوهري أنا أحمد بن علي الكشميهني أنا علي بن حجر أنا إسماعيل بن جعفر أنا عبد الله بن دينار أنه سمع ابن عمر يقول: قال رسول الله: “مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله، لا يعلم ما تغيض الأرحام أحد إلا الله تعالى، [ولا يعلم ما في الغد إلا الله عز وجل] ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت، ولا يعلم متى تقوم الساعة أحد إلا الله” .
وقال الضحاك ومقاتل: مفاتح الغيب خزائن الأرض، وعلم نزول العذاب.
وقال عطاء: ما غاب عنكم من الثواب والعقاب.
وقيل: انقضاء الآجال، وقيل: أحوال العباد من السعادة والشقاوة وخواتيم أعمالهم، وقيل: هي ما لم يكن بعد أنه يكون أم لا يكون، وما يكون كيف يكون، وما لا يكون أن لو كان كيف يكون؟ وقال ابن مسعود: “أوتي نبيكم علم كل شيء إلا علم مفاتيح الغيب” .
«تفسير البغوي – طيبة» (3/ 150)
بل رب العزة يعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون:
ففي الطحاويّة:
قوله: (ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم) .
قال ابن أبي العز في شرحه على الطحاويّة: فإنه سبحانه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن أن لو كان كيف يكون، كما قال تعالى: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} [الأنعام: 28] (الأنعام: 28) . وإن كان يعلم أنهم لا يردون، ولكن أخبر أنهم لو ردوا لعادوا، كما قال تعالى: {ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} [الأنفال: 23] (الأنفال: 23) . وفي ذلك رد على الرافضة والقدرية، والذين قالوا: إنه لا يعلم الشيء قبل أن يخلقه ويوجده. وهي من فروع مسألة القدر، وسيأتي لها زيادة بيان، إن شاء الله تعالى.
«شرح الطحاوية ت الأرناؤوط» (1/ 132)
قال الشيخ عبدالمحسن العباد حفظه الله في قطف الجنى الداني في شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني ص: ٧٦:
” ﻗﻮﻟﻪ: “ﺧﻠﻖ اﻹﻧﺴﺎﻥ، ﻭﻳﻌﻠﻢ ﻣﺎ ﺗﻮﺳﻮﺱ ﺑﻪ ﻧﻔﺴﻪ، ﻭﻫﻮ ﺃﻗﺮﺏ ﺇﻟﻴﻪ ﻣﻦ ﺣﺒﻞ اﻟﻮﺭﻳﺪ، ﻭﻣﺎ ﺗﺴﻘﻂ ﻣﻦ ﻭﺭﻗﺔ ﺇﻻ ﻳﻌﻠﻤﻬﺎ، ﻭﻻ ﺣﺒﺔ ﻓﻲ ﻇﻠﻤﺎﺕ اﻷﺭﺽ ﻭﻻ ﺭﻃﺐ ﻭﻻ ﻳﺎﺑﺲ ﺇﻻ ﻓﻲ ﻛﺘﺎﺏ ﻣﺒﻴﻦ”.
ﻋﻠﻢ اﻟﻠﻪ ﻣﺤﻴﻂ ﺑﻜﻞ ﺷﻲء، *ﻓﻘﺪ ﻋﻠﻢ ﺃﺯﻻ ﻣﺎ ﻛﺎﻥ ﻭﻣﺎ ﺳﻴﻜﻮﻥ، ﻭﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺃﻥ ﻟﻮ ﻛﺎﻥ ﻛﻴﻒ ﻳﻜﻮﻥ، ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻝ اﻟﻠﻪ ﻋﺰ ﻭﺟﻞ: {ﻭﻟﻮ ﺗﺮﻯ ﺇﺫ ﻭﻗﻔﻮا ﻋﻠﻰ اﻟﻨﺎﺭ ﻓﻘﺎﻟﻮا ﻳﺎ ﻟﻴﺘﻨﺎ ﻧﺮﺩ ﻭﻻ ﻧﻜﺬﺏ ﺑﺂﻳﺎﺕ ﺭﺑﻨﺎ ﻭﻧﻜﻮﻥ ﻣﻦ اﻟﻤﺆﻣﻨﻴﻦ ﺑﻞ ﺑﺪا ﻟﻬﻢ ﻣﺎ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺨﻔﻮﻥ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ﻭﻟﻮ ﺭﺩﻭا ﻟﻌﺎﺩﻭا ﻟﻤﺎ ﻧﻬﻮا ﻋﻨﻪ ﻭﺇﻧﻬﻢ ﻟﻜﺎﺫﺑﻮﻥ}، ﻓﺄﺧﺒﺮ ﻋﻦ ﺃﻣﺮ ﻻ ﻳﻜﻮﻥ، ﻭﻫﻮ ﺭﺟﻮﻉ اﻟﻜﻔﺎﺭ ﺇﻟﻰ اﻟﺪﻧﻴﺎ، ﻭﺃﻧﻬﻢ ﻟﻮ ﺭﺩﻭا ﻟﻌﺎﺩﻭا ﻟﻤﺎ ﻧﻬﻮا ﻋﻨﻪ* “.
وقال الإمام ابن كثير -رحمه الله- في «تفسيره»: قوله تعالى: ﴿إنَّ المُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨)﴾ [القمر ٤٧، ٤٨].
قال: يُخبر تعالى عن المجرمين أنهم في ضلال عن الحقّ، وسُعُر مما هم فيه من الشكوك والاضطراب في الآراء، وهذا يَشمل كل من اتّصف بذلك من كافر، ومبتدع، من سائر الفرق،
ثم قال تعالى: ﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ﴾؛ أي: كما كانوا في سُعُر، وشكّ، وتردُّد، أورثهم ذلك النارَ، وكما كانوا ضُلّالًا يُسحبون فيها على وجوههم، لا يدرون أين يذهبون، ويقال لهم تقريعًا وتوبيخًا: ﴿ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ﴾،
وقوله تعالى: ﴿إنّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩)﴾، قوله: ﴿وخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [الفرقان ٢]، وكقوله تعالى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوّى (٢) والَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣)﴾ [الأعلى: ١ -٣]؛ أي: قَدّر قَدَرا، وهدى الخلائق إليه، ولهذا يستدلّ بهذه الآية الكريمة أئمة السُّنَّة على إثبات قَدَر الله السابق لِخَلْقه، وهو عِلْمه الأشياء قبل كونها، وكتابته لها قبل بَرْئها، وردُّوا بهذه الآية، وبما شاكلها من الآيات، وما ورَدَ في معناها من الأحاديث الثابتات، على الفرقة القدرية، الذين نَبَغُوا في أواخر عصر الصحابة – رضي الله عنهم – [«تفسير ابن كثير» ٤/ ٢٦٨]، والله تعالى أعلم.
وحديث أبي هريرة – رضي الله عنه – هذا من أفراد المصنّف –رحمه الله-.
[تنبيه]:
ضعّف بعضهم هذا الحديث بسبب زياد بن إسماعيل؛ لأنهم تكلموا فيه.
[قلت]: زياد، وإن ضعَّفه ابن معين، وغيره، فقد رَوى عنه ابن جريج، والثوريّ، وقال ابن المدينيّ: رجل من أهل مكة معروف، وقال النسائيّ: ليس به بأس، وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه، ووثقه ابن حبّان، ووثّقه مسلم أيضًا حيث أخرج له هذا الحديث في الأصول، فأقلّ أحواله أن يكون حسن الحديث، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
فوائد الباب:
1 – (منها): بيان أن كلّ شيء بقدر الله -تعالى-، فيجب الإيمان بالقدر كلّه،
خيره وشرّه.
2 – (ومنها): إثبات القدر وأنه عامّ في كل شيء، فكل ذلك مقدور في الأزل معلوم لله –تعالى-، مراد له، وأن الإيمان به واجب.
3 – (ومنها): ما قاله أبو عمر –رحمه الله-: في قول ابن عمر – رضي الله عنهما -، أو مَن هو دونه: «أو الكيس والعجز» بالشكّ دليل على مراعاة الإتيان بألفاظ النبيّ – ﷺ – على رُتْبتها، قال: وأظن هذا من ورَع ابن عمر – رضي الله عنهما -، والذي عليه العلماء استجازة الإتيان بالمعاني، دون الألفاظ لمن يعرف المعنى، رُوي ذلك عن جماعة منهم منصوصًا، ومن تأمل حديث ابن شهاب ومثله، واختلاف أصحابهم عليهم في متون الأحاديث بأن له ما قلنا -وبالله توفيقنا- انتهى [«التمهيد لابن عبد البرّ» ٦/ ٦٣].
4 – (ومنها): ما قاله أبو عمر أيضًا: في هذا الحديث أدلّ الدلائل وأوضحها على أن الشرّ والخير كلّ من عند الله، وهو خالقهما، لا شريك له، ولا إله غيره؛ لأن العجز شرّ، ولو كان خيرًا ما استعاذ منه رسول الله – ﷺ -، ألا ترى أن رسول الله – ﷺ – قد استعاذ من الكسل، والعجز، والجبن، والدَّين، ومحال أن يستعيذ من الخير، وفي قول الله -تعالى-: ﴿قُلْ أعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ (١) مِن شَرِّ ما خَلَقَ (٢)﴾ [الفلق ١، ٢] كفاية لمن وُفِّق، وقال -تعالى-: ﴿يُضِلُّ مَن يَشاءُ ويَهْدِي مَن يَشاءُ﴾ [النحل ٩٣].
وروى مالك، عن زياد بن سعد، عن عمرو بن دينار، أنه قال: سمعت عبد الله بن الزبير يقول في خطبته: إن الله هو الهادي، والفاتن.
ثم أخرج بالإجازة عن عبد العزيز بن أبي روّاد قال: سمعت عطاء بن أبي رباح يقول: كنت عند ابن عباس، فأتاه رجل، فقال: أرأيت مَن حرمني الهدى، وأورثني الضلالة والردى، أتراه أحسن إليّ، أو ظلمني؟ فقال ابن عباس: إن كان الهدى شيئًا كان لك عنده، فمنعكه، فقد ظلمك، وإن كان الهدى له يؤتيه من يشاء، فما ظلمك شيئًا، ولا تجالسني بعده.
وقد رُوي أن غيلان القدريّ وقف بربيعة بن أبي عبد الرحمن، فقال له: يا أبا عثمان، أرأيت الذي منعني الهدى، ومنحني الردى، أأحسن إليّ، أم أساء؟
فقال ربيعة: إن كان منعك شيئًا هو لك، فقد ظلمك، وإن كان فضله يؤتيه من يشاء، فما ظلمك شيئًا، وإنما أخذه ربيعة من قول ابن عباس هذا، والله أعلم،
﴿وما رَبُّكَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت ٤٦]، ﴿لا يَظْلِمُ النّاسَ شَيْئًا ولَكِنَّ النّاسَ أنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [يونس ٤٤]، و﴿لا يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ وهُمْ يُسْألُونَ (٢٣)﴾ [الأنبياء ٢٣]،
ذكر عبد الرزاق عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس أنه قال له رجل: يا أبا العباس إن ناسًا يقولون: إن الشرّ ليس بقدر، فقال: بيننا وبين أهل القدر هذه الآية: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أشْرَكْنا ولا آباؤُنا ولا حَرَّمْنا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِن عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إنْ تَتَّبِعُونَ إلّا الظَّنَّ وإنْ أنْتُمْ إلّا تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أجْمَعِينَ (١٤٩)﴾ [الأنعام ١٤٨، ١٤٩]
وقال غيلان القدريّ لربيعة: أنت الذي تزعم أن الله يحب أن يُعْصى؟
قال: وأنت تزعم أن الله يعصى قسرًا؟ انتهى [«التمهيد لابن عبد البرّ» ٦/ ٦٢ – ٦٤].
كلام صاحب المنتقى على أثر ابن الزبير : : (مالك عن زياد بن سعد عن عمرو بن دينار أنه قال سمعت عبد الله بن الزبير يقول في خطبته: إن الله هو الهادي والفاتن) .ــ
[المنتقى]
الذين صحبوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وعلموا ما جاء به، وتكرر أخذهم وسماعهم لما قاله وفهمهم المراد وسؤالهم النبي – صلى الله عليه وسلم – عما أشكل عليهم، واتفاقهم على صحة النقل عنه فسمعهم يقولون كل شيء بقدر، وقد قال الله عز وجل {إنا كل شيء خلقناه بقدر} [القمر: 49] ويحتمل من جهة مقتضى لسان العرب معاني أحدها أن يكون معناه خلقنا منه شيئا مقدرا لا يزاد عليه، ولا ينقص منه، الثاني أن يكون معناه خلقناه على قدر ما لا يزاد فيه ولا ينقص منه، قال الله سبحانه وتعالى {قد جعل الله لكل شيء قدرا} [الطلاق: 3] ، والثالث أن يكون معناه نقدره عليه قال جل ذكره {بلى قادرين على أن نسوي بنانه} [القيامة: 4] الرابع أن يريد به بقدر أن نخلقه في وقته فقدر له عز وجل وقتا يخلقه فيه.
وقال الحسن الحلواني أملى علي علي بن المديني سألت عبد الرحمن بن مهدي عن القدر فقال كل شيء بالقدر والطاعة والمعصية بقدر، وقد أعظم الفرية من قال إن المعاصي ليست بقدر.
وقال والعلم والقدر والكتاب سواء، وعرضت كلام عبد الرحمن على يحيى بن سعيد فقال لم يبق بعد هذا قليل ولا كثير وهذا الذي قاله عبد الرحمن بن مهدي في الجملة هو مذهب أهل السنة، وهو موافق لمعنى الحديث غير أن العلم والقدر والكتاب كل واحد منها راجع إلى معنى مختص به غير أنها معان متقاربة، وقد تستعمل من طريق تقاربها بمعنى واحد.
قال مالك: وقد بلغني أن عمر بن عبد العزيز قال إن في كتاب الله تبارك وتعالى لعلما بينا علمه من علمه وجهله من جهله يقول الله عز وجل {فإنكم وما تعبدون} [الصافات: 161] {ما أنتم عليه بفاتنين} [الصافات: 162] {إلا من هو صال الجحيم} [الصافات: 163] .
وقال نوح {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا} [نوح: 26] {إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا} [نوح: 27] ، وأخبر نوح عمن لم يكن بأنه فاجر كفار بما سبق لهم من الله تبارك وتعالى وقدرته عليهم قال مالك وما رأيت أهله من الناس إلا أهل سخافة عقول وخفة وطيش، وقد اعتمدت في هذا الباب على إيراد أقوال الفقهاء والحديث لما في أقوال غيرهم من الغموض، وما في احتجاجهم مع المخالف من التطويل، وقد بلغ القاضي أبو بكر بن الطيب المالكي في كتبه من هذا الباب ما لا مزيد عليه ولا حاجة بالطالب إلا اليسير منه، وكان الشيخ أبو ذر محمد بن أحمد الهروي مالكيا، وكان على مذهبه، وممن أخذ عنه، وكان الشيخ أبو عمران موسى بن حاج الفاسي قد رحل إليه وأخذ عنه وتبعه، وكان الشيخ أبو محمد بن أبي زيد والشيخ أبو الحسن علي بن محمد القابسي يتبعان مذهبه، وقرأ عليه القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن نصر، وهو ممن أخذ عنه واتبعه وعلى ذلك أدركت علماء شيوخنا بالمشرق وأهل هذه المقالة هم الذين يشار إليهم بأنهم أهل السنة.
(فصل) :
وقوله: سمعت عبد الله بن عمر يقول قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – «يقول كل شيء بقدر حتى العجز والكيس أو الكيس والعجز» على وجه الشك من الراوي، ومعناه والله أعلم أن كل شيء بقدر، وأن العاجز قد قدر عجزه والكيس قد قدر كيسه، ولعله أراد بذلك العجز عن الطاعة والكيس فيها، ويحتمل أن يريد به في أمر الدين والدنيا والله أعلم.
(ش) : قوله – رضي الله عنه – في خطبته إن الله هو الهادي والفاتن يريد الراوي أن ذلك كان فاشيا عند الصدر الأول متفقا عليه متداولا النطق والحض على الأخذ فيه والاعتقاد له والإشاعة للفظه، ومعناه ولذلك كان عبد الله بن الزبير يعلن في خطبته وفي المحافل ومجتمع الناس والله أعلم، قال الله جل ذكره إخبارا عن كليمه موسى – عليه السلام – في مناجاته له {إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء} [الأعراف: 155] والهداية تكون على معنيين:
أحدهما: بمعنى الإيضاح والإرشاد يقال أهديت فلانا الطريق أي أرشدته إليه والآخر بمعنى التوفيق قال الله عز وجل {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من} [القصص: 56] معناه والله أعلم لا توفق من أحببت، ولكن الله يوفق من يشاء ولا يجوز أن يريد به هاهنا الإرشاد والإيضاح؛ لأنه لا خلاف بين المسلمين أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد أرشد وبين وأوضح وبلغ من يحب ومن لا يحب، وأما الفتنة فمعناها في كلام العرب الاختبار إلا أنها مستعملة في عرف التخاطب بمعنى الخذلان، يقال فتن فلان إذا أخذل وضل وفلان مفتون، ويدل على صحة هذا التأويل أنه قال الهادي بمعنى الموفق فمعناه والله أعلم أنه الموفق بفضله، والخاذل لمن شاء بعدله لا إله إلا هو الفعال لما يريد.
«المنتقى شرح الموطإ» (7/ 204)أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث التجيبي القرطبي الباجي الأندلسي (ت ٤٧٤هـ)
وبالجملة فهذا الباب هلك فيه كثير ممن اتّبع هواه من القدريّة وغيرهم، ونجا أهل السُّنَّة والجماعة باتباعهم نصوص الكتاب والسُّنَّة، وعدم الخوض والتعمّق فيما لا يعنيهم من أسرار القدر الذي اختصّ الله -تعالى- به دون عباده .
تنبيه : لا يقصد ابن الزبير أن الفاتن من أسماء الله:
قال ابن القيم رحمه الله: (الفعل أوسع من الاسم، ولهذا أطلق الله على نفسه أفعالا لم يتسم منها أسماء الفاعل، كأراد، وشاء، وأحدث. ولم يسم “بالمريد” و”الفاعل” …وغير ذلك من الأسماء التي أطلق أفعالها على نفسه. فباب الأفعال أوسع من باب الأسماء. وقد أخطأ- أقبح خطأ- من اشتق له من كل فعل أسماء، وبلغ بأسمائه زيادة على الألف فسماه “الماكر، والمخادع، والفاتن، والكائد” ونحو ذلك)] ا. هـ وراجع (معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله الحسنى) (1/ 56)
5 – (ومنها): بيان سبب نزول الآية الكريمة.
6 – (ومنها): أن الآية نصّ في تعذيب مكذّبي القدر، وهو محمول كما قال النوويّ على جحد القَدَر المعروف، وهو جحد تقدير الله -تعالى- للأشياء، وسَبْق علمه بها، وإرادته، فإن من كذب بهذا فهو كافر خارج عن الإسلام بلا خلاف بين أهل العلم. [راجع: «شرح النوويّ» ١٦/ ٢٠٥].
7 – (ومنها): ما قاله الإمام ابن كثير –رحمه الله-: أنه استَدَلّ بهذه الآية الكريمة أئمة السُّنَّة على إثبات قَدَر الله تعالى السابق لخلقه، وهو علمه الأشياء قبل كونها، وكتابته لها قبل بَرْئها، وردُّوا بهذه الآية وبما شاكلها من الآيات، وما ورد في معناها من الأحاديث الثابتات على الفرقة القدريّة الذين نبغوا في أواخر عصر الصحابة – رضي الله عنهم -. انتهى [«تفسير ابن كثير» ٤/ ٢٨٦].
8 – (ومنها): ما قاله أبو عمر –رحمه الله-: قال الله -تعالى-: ﴿وما تَشاءُونَ إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ العالَمِينَ (٢٩)﴾ [التكوير ٢٩]، فليس لأحد مشيئة تنفذ إلا أن تنفذ منها مشيئة الله تعالى، وإنما يجري الخلق فيما سبق من علم الله، والقدر سرّ الله، لا يُدرَك بجدال، ولا يشفي منه مقال، والحجاج فيه مرتجة، لا يُفتح شيء منها إلا بكسر شيء، وغَلْقه، وقد تظاهرت الآثار، وتواترت الأخبار فيه عن السلف الأخيار الطيبين الأبرار بالاستسلام، والانقياد، والإقرار بأن علم الله سابق، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد، ﴿وما رَبُّكَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت ٤٦] [»التمهيد لابن عبد البرّ«٦/ ١٣].
وقال أيضًا: وجملة القول في القدر أنه سرّ الله، لا يدرك بجدال، ولا نظر، ولا تشفي منه خصومة، ولا احتجاج، وحَسْب المؤمن من القدر أن يعلم أن الله لا يقوم شيء دون إرادته، ولا يكون شيء إلا بمشيئته، له الخلق، والأمر كلّه، لا شريك له، نظام ذلك قوله تعالى: ﴿وما تَشاءُونَ إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ﴾ [الإنسان ٣٠]، وقوله: ﴿إنّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩)﴾، وحَسْب المؤمن من القدر أن يعلم أن الله لا يظلم مثقال ذرّة، ولا يكلّف نفسًا إلا وسعها، وهو الرحمن الرحيم، فمن ردّ على الله تعالى خبره في الوجهين، أو في أحدهما، كان عنادًا، وكفرًا.
وقد ظاهرت الآثار في التسليم للقدر، والنهي عن الجدل فيه، والاستسلام له، والإقرار بخيره وشره، والعلم بعدل مُقدِّره، وحِكْمته، وفي نقض عزائيم الإنسان برهانٌ فيما قلنا، وتبيان، والله المستعان. انتهى كلام ابن عبد البرّ -رحمه الله- [»التمهيد لابن عبد البرّ” ٦/ ١٣٩ – ١٤٠]، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، وبحثٌ أنيس، والله تعالى أعلم. [البحر المحيط الثجاج، بتصرف يسير].
( 8) الشر هل ينسب إلى الله:
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في القول المفيد:
ﻗﻮﻟﻪ: “ﻣﻦ ﺷﺮ ﻣﺎ ﺧﻠﻖ”: ﺃﻱ: ﻣﻦ ﺷﺮ اﻟﺬﻱ ﺧﻠﻖ، ﻷﻥ اﻟﻠﻪ ﺧﻠﻖ ﻛﻞ ﺷﻲء: اﻟﺨﻴﺮ ﻭاﻟﺸﺮ، ﻭﻟﻜﻦ اﻟﺸﺮ ﻻ ﻳﻨﺴﺐ ﺇﻟﻴﻪ، ﻷﻧﻪ ﺧﻠﻖ اﻟﺸﺮ ﻟﺤﻜﻤﺔ، ﻓﻌﺎﺩ ﺑﻬﺬﻩ اﻟﺤﻜﻤﺔ ﺧﻴﺮا، ﻓﻜﺎﻥ ﺧﻴﺮا. ﻭﻋﻠﻰ ﻫﺬا ﻧﻘﻮﻝ: اﻟﺸﺮ ﻟﻴﺲ ﻓﻲ ﻓﻌﻞ اﻟﻠﻪ، ﺑﻞ ﻓﻲ ﻣﻔﻌﻮﻻﺗﻪ، ﺃﻱ: ﻣﺨﻠﻮﻗﺎﺗﻪ. ﻭﻋﻠﻰ ﻫﺬا ﺗﻜﻮﻥ “ﻣﺎ” ﻣﻮﺻﻮﻟﺔ ﻻ ﻏﻴﺮ، ﺃﻱ: ﻣﻦ ﺷﺮ اﻟﺬﻱ ﺧﻠﻖ، ﻷﻧﻚ ﻟﻮ ﺃﻭﻟﺘﻬﺎ ﺇﻟﻰ اﻟﻤﺼﺪﺭﻳﺔ ﻭﻗﻠﺖ: ﻣﻦ ﺷﺮ ﺧﻠﻘﻚ، ﻟﻜﺎﻥ اﻟﺨﻠﻖ ﻫﻨﺎ ﻣﺼﺪﺭا ﻳﺠﻮﺯ ﺃﻥ ﻳﺮاﺩ ﺑﻪ اﻟﻔﻌﻞ، ﻭﻳﺠﻮﺯ ﺃﻳﻀﺎ اﻟﻤﻔﻌﻮﻝ، ﻟﻜﻦ ﻟﻮ ﺟﻌﻠﺘﻬﺎ اﺳﻤﺎ ﻣﻮﺻﻮﻻ ﺗﻌﻴﻦ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ اﻟﻤﺮاﺩ ﺑﻬﺎ اﻟﻤﻔﻌﻮﻝ، ﻭﻫﻮ اﻟﻤﺨﻠﻮﻕ.
ﻭﻟﻴﺲ ﻛﻞ ﻣﺎ ﺧﻠﻖ اﻟﻠﻪ فيه ﺷﺮ، ﻟﻜﻦ ﺗﺴﺘﻌﻴﺬ ﻣﻦ ﺷﺮﻩ ﺇﻥ ﻛﺎﻥ ﻓﻴﻪ ﺷﺮ، ﻷﻥ ﻣﺨﻠﻮﻗﺎﺕ اﻟﻠﻪ ﺗﻨﻘﺴﻢ ﺇﻟﻰ ﺛﻼﺛﺔ ﺃﻗﺴﺎﻡ ﻫﻲ:
- ﺷﺮ ﻣﺤﺾ، ﻛﺎﻟﻨﺎﺭ ﻭﺇﺑﻠﻴﺲ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎﺭ ﺫاﺗﻴﻬﻤﺎ، ﺃﻣﺎ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎﺭ اﻟﺤﻜﻤﺔ اﻟﺘﻲ ﺧﻠﻘﻬﻤﺎ اﻟﻠﻪ ﻣﻦ ﺃﺟﻠﻬﺎ، ﻓﻬﻲ ﺧﻴﺮ
- ﺧﻴﺮ ﻣﺤﺾ ﻛﺎﻟﺠﻨﺔ، ﻭاﻟﺮﺳﻞ، ﻭاﻟﻤﻼﺋﻜﺔ.
- فيه ﺷﺮ ﻭﺧﻴﺮ، ﻛﺎﻹﻧﺲ، ﻭاﻟﺠﻦ، ﻭاﻟﺤﻴﻮاﻥ.
ﻭﺃﻧﺖ ﺇﻧﻤﺎ ﺗﺴﺘﻌﻴﺬ ﻣﻦ ﺷﺮ ﻣﺎ ﻓﻴﻪ ﺷﺮ.
فإذا قال قائل: كيف تجمع بين قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((وان تؤمن بالقدر خيره وشره)) وقوله صلي الله عليه وسلم: ((الشر ليس إليك)) ، فنفي إن يكون الشر إليه؟ فالجواب علي هذا إن نقول: إن الشر المحض لا يكون بفعل الله أبدا، فالشر المحض الذي ليس فيه خيرا لا حالا ولا مالا لا يمكن إن يوجد في
فعل الله أبدا، هذا من وجه، لأنه حتى الشر الذي قدره الله شرا لابد إن يكون له عاقبة حميدة، ويكون شرا علي قوم وخيرا علي آخرين. أرابت لو انزل الله المطر مطرا كثيرا فاغرق زرع إنسان، لكنه نفع الأرض وانتفعت به أمة، لكان هذا خيرا بالنسبة لمن انتفع به، شرا لمن تضرر به، فهو خير من وجه وشر من وجه. ثانيا: حتى الشر الذي يقدره الله علي الإنسان هو خير في الحقيقة، لان إذا صبر واحتسب الأجر من الله نال بذلك أجرا اكثر بأضعاف مضاعفة مما ناله من الشر، وربما يكون سببا للاستقامة ومعرفة قدر نعمة الله علي العبد فتكون العاقبة حميدة. ولهذا ذكر عن بعض العابدات إنها أصيبت في إصبعها أو يدها فانجرحت فصبرت وشكرت الله علي هذا وقالت: ((إن حلاوة اجرها آنستم مرارة صبرها)) ! ثم نقول: إن الشر في الحقيقة ليس في فعل الله نفسه، بل في مفعولاته، فالمفعولات هي التي فيها خير وشر، أما الفعل نفسه فهو خير، ولهذا قال الله عز وجل: (قل أعوذ برب الفلق) (من شر ما خلق) (الفلق: 2، 1) ، أي: من شر الذي خلقه الله، فالشر إنما يكون في المفعولات لا في الفعل نفسه، أما فعل الله فهو خير. ويدلك لهذا انه لو كان عندك مريض وقيل
إن من شفائه إن تكويه بالنار، فكويته بالنار، فالنار مؤلمة بلا شك، لكن فعلك هذا ليس بشر، بل هو خير للمريض، لأنك إنما تنتظر عاقبة حميدة بهذا الكي، كذلك فعل الله للأشياء المكروهة والأشياء التي فيها شر، هي بالنسبة لفعله وإيجاد خير، لأنه يترتب عليها خير كثير. فان قال قائل: كيف تجمع بين هذا وبين قوله تعالى: (ما أصابك من حسنة فمن الله) يعني من فضله، هو الذي من عليك بها أولا وأخرا (وما أصابك من سيئة فمن نفسك) أي: أنت سببها، وإلا فالذي قدرها هو الله، لكن أنت السبب، كما في قوله تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) (الشورى: 30) . وخلاصة الكلام: إن كل شئ واقع فانه بقدر الله، سواء كان خيرا أم شرا. ثم قال عمر_ رضي الله عنه_ فيما نقله عن جبريل_ عليه الصلاة والسلام_ قال للنبي صلي الله عليه وسلم: ((اخبرني عن الإحسان؟ قال: إن تعبد الله كأنك تراه، فان لم تكن تراه فانه يراك)) . الإحسان: ضد الإساءة، والمراد هنا بالإحسان هنا إحسان العمل، فبين النبي_ عليه الصلاة والسلام_ إن الإحسان إن تعبد الله كأنك تراه، يعني:
تصلي وكأنك تري الله عز وجل، وتزكي وكأنك تراه، وتصوم وكأنك تراه، وتحج وكأنك تراه، تتوضأ وكأنك تراه، وهكذا بقية الأعمال. وكون الإنسان يعبد الله كأنه يراه دليل علي الإخلاص لله_ عز وجل_ وعلي إتقان العمل في متابعة الرسول صلي الله عليه وسلم لان كل من عبد الله علي هذا الوصف فلا بد إن يقع في قلبه من محبة الله وتعظيمهما يحمله علي إتقان العمل وأحكامه.
«شرح رياض الصالحين لابن عثيمين» (1/ 478)
… وإضافته إلى السبب كقوله {من شر ما خلق} وقوله {فأردت أن أعيبها} مع قوله {فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما} وقوله تعالى {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} وقوله {ربنا ظلمنا أنفسنا} وقوله تعالى {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم} وأمثال ذلك.
ولهذا ليس من أسماء الله الحسنى اسم يتضمن الشر وإنما يذكر الشر في مفعولاته كقوله {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم} {وأن عذابي هو العذاب الأليم} وقوله {إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم} وقوله {اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم} وقوله {إن بطش ربك لشديد} {إنه هو يبدئ ويعيد} {وهو الغفور الودود} فبين سبحانه أن بطشه شديد وأنه هو الغفور الودود.
«مجموع الفتاوى» (8/ 95)
… وهذا فصل معترض لم يكن من غرضنا وان كان أهم مما سقنا الكلام لأجله ونكتة المسألة الفرق بين ما هو فعل له تستلزم محبته وقوعه منه وبين ما هو مفعول له لا تستلزم محبته له وقوعه من عبده وإذا عرف هذا فالظلم والكفر والفسوق والعصيان وأنواع الشرور واقعة في مفعولاته المنفصلة التي لا يتصف بها دون أفعاله القائمة به ومن انكشف له لهذا المقام فهم معنى قوله والشر ليس إليك فهذا الفرق العظيم يزيل أكثر الشبه التي حارت لها عقول كثير من الناس في هذا الباب وهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بأذنه والله يهدي من يشاء إلي صراط مستقيم فما في مخلوقاته ومفعولاته تعالى من الظلم والشر فهو بالنسبة إلي فاعله المكلف الذي قام به الفعل كما أنه بالنسبة إليه يكون زنا وسرقة وعدوانا وأكلا وشربا ونكاحا فهو الزاني السارق الآكل الناكح والله خالق كل فاعل وفعله وليست نسبة هذه الأفعال إلي خالقها كنسبتها إلي فاعلها الذي قامت به كما أن نسبة صفات المخلوقين إليه كطوله وقصره وحسنه وقبحه وشكله ولونه ليست كنسبتها إلي خالقها فيه فتأمل هذا الموضع واعط الفرق حقه وفرق بين النسبتين فكما أن صفات المخلوق ليست صفات لله بوجه وان كان هو خالقها فكذلك أفعاله ليست أفعالا لله تعالى ولا إليه وان كان هو خالقها .
«مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة» (2/ 111 ط العلمية)
وقوله {بيدك الخير} أي: الخير كله منك، ولا يأتي بالحسنات والخيرات إلا الله، وأما الشر، فإنه لا يضاف إلى الله تعالى، لا وصفا، ولا اسما، ولا فعلا، ولكنه يدخل في مفعولاته، ويندرج في قضائه وقدره.
فالخير والشر، كله داخل في القضاء والقدر، فلا يقع في ملكه إلا ما شاءه، ولكن الشر لا يضاف إلى الله، فلا يقال: “بيدك الخير والشر”، بل يقال: “بيدك الخير” كما قاله الله، وقاله رسوله.
وأما استدراك بعض المفسرين حيث قال: “وكذلك الشر بيد الله” فإنه وهم محض، ملحظهم، حيث ظنوا أن تخصيص الخير بالذكر، ينافي قضاءه وقدره العام، وجوابه ما فصلنا.
«تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن» (ص965)
(9) مراتب الإيمان بالقدر :
معنى القضاء والقدر
هو ما سبق به العلم، وجرى به القلم مما هو كائن إلى الأبد، ثم وقوع هذه الأمور على حسب ما قدرها سبحانه وتعالى. ومعنى القضاء والقدر، كما قال ابن حجر: “أن الله علم مقادير الأشياء وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد ذلك على ما سبق به علمه، فكل محدث صادر عن علمه وقدرته وإرادته”. وعليه فالإيمان بالقدر هو الإيمان بأن علم الله سبق الموجودات، فعلم ما كان وما يكون وما الخلق عاملون، زمانا ومكانا وكيفية، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ والكتاب المكنون، ثم أوجد ذلك بقدرته ومشيئته.
أركان الإيمان بالقدر:
ولا يتم إيمان العبد بالقدر حتى يؤمن بأربعة أشياء: .
الإيمان بعلم الله الشامل المحيط بكل شيء:
قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12]، وقال: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [النساء:32]، وقال: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس:61]، وقال {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59]. .
الإيمان بأن الله كتب ذلك في اللوح المحفوظ:
قال تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12]، وقال: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا} [النبأ:29]، قال: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ، وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر:52، 53]. وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، [قال] : وعرشه على الماء».
وفي سنن الترمذي عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أول ما خلق الله القلم فقال: اكتب قال: ما أكتب؟ قال: اكتب القدر ما كان، وما هو كائن إلى الأبد».
واللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه مقادير الخلائق سماه القرآن بالكتاب، وبالكتاب المبين، وبالإمام المبين، وبأم الكتاب، والكتاب المسطور. قال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} [الحج:70]، وقال: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف:4]. .
الإيمان بقدرة الله الشاملة ومشيئته النافذة:
التي لا يخرج عنها بر ولا فاجر.. فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.. قال سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، وقال: { {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18]، وقال: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [الحج:14]، وقال: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر:2]… وقال {وما تشاءون إلا أن يشاء الله} [سورة الإنسان، وسورة التكوير].
فهو سبحانه فعال لما يريد، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره. .
الإيمان بأن الله خالق كل شيئ :
فهو الذي خلق السموات والأرض وما فيهن وما بينهن، وخلق العباد وأعمالهم، بأن أعطاهم القدرة عليها والإرادة لها، قال جل في علاه: {الله خالق كل شيء} [الزمر]، وقال: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96].
(10 ) النهي عن التعمق والتنطع:
روى الترمذي في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتنازع في القدر، فغضب حتى احمر وجهه حتى كأنما فقئ في وجنتيه الرمان فقال: «أبهذا أمرتم، أم بهذا أرسلت إليكم؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر، عزمت عليكم ألا تنازعوا فيه» [حسنه الألباني].
إن العقل له حدود ينتهي إليها خاصة في هذا الموضوع الشائك، فإذا لم يقف عند تلك الحدود بل تجاوزها ورام الوصول إلى ما لا سبيل إليه تاه وزاغ وضل، وإنما كان سبب ضلال من ضل في هذا الباب أنهم أطلقوا لعقولهم العنان ولم يكبحوا جماح فكرهم، ولم يقفوا عند حدودهم فكان ما كان ولا عاصم إلا الله.
وصيانة لعقل المرء ودينه نهى الأئمة الراسخون عن التنقير في مسائل القدر، والتعمق في دقائقه ومُساءَلة الله عن فعله في الخلق، إذ الإحاطة بكل هذه الأمور مما لا تبلغه العقول ولا يحيط به العلوم القاصرة للبشر.. فالقدر كما قال الأئمة سر من أسرار الله العظيمة والكبيرة.
(11) القدر سر الله في خلقه:
قال الإمام الطحاوي رحمه الله:
“وَأَصْلُ القَدَرِ سِرُّ اللهِ تعالى في خَلْقِهِ، لم يَطَّلِعْ على ذلك مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، ولا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، والتَّعَمُّقُ والنظرُ في ذلك ذَرِيعَةُ الخِذْلاَنِ، وَسُلَّمُ الحِرْمَانِ، وَدَرَجَةُ الطُّغْيَانِ. فَالحَذَرَ كُلَّ الحَذَرِ مِن ذلكَ نَظَرًا وَفِكْرًا وَوَسْوَسَةً، فَإِنَّ اللهَ تَعَالى طَوَى عِلْمَ القَدَرِ عن أَنَامِهِ، وَنَهَاهُم عن مَرَامِهِ كما قالَ تعالى في كتابِهِ: {لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُم يُسْئَلُونَ}. فَمَنْ سَأَلَ: لِمَ فَعَلَ؟ فقد رَدَّ حُكْمَ الكتابِ. وَمَن رَدَّ حُكْمَ الكتابِ كانَ مِن الكافرينَ”.
وقال الإمام الآجرى: “لا يحسن بالمسلمين التنقير والبحث في القدر؛ لأن القدر سر من أسرار الله عز وجل”.
وقال الإمام أحمد: من السنة اللازمة: الإيمان بالقدر خيره وشره، والتصديق بالأحاديث فيه، والإيمان بها، لا يقال: لم ولا كيف؟ إنما التصديق بها والإيمان بها. ومن لم يعرف تفسير الحديث، ولم يبلغه عقله، فقد كفي ذلك وأحكم له، فعليه الإيمان به، والتسليم له، مثل حديث الصادق المصدوق، وما كان مثله في القدر”.
وقال الطحاوي أيضا: “فإنه ما سَلِمَ في دينه إلا من سلّم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه، ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام، فمن رام علم ما حظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه، حجبه مرامه عن خالص التوحيد، وصافي المعرفة، وصحيح الإيمان، فيتذبذب بين الكفر والإيمان، والتصديق والتكذيب، والإقرار والإنكار، موسوسًا تائهًا شاكًا، لا مؤمنًا مصدقًا، ولا جاحدًا مكذبًا”.
ثانيًا: ملحقات:
سبق ذكر منزلة وحقيقة الإيمان بالقدر، وهنا تتمة بعض المسائل:
(المسألة الأولى): مسألة الضلال والهدى، وأهمية بيان مراتب الهداية.
قال الطحاوي رحمه الله: “يهدي من يشاء، ويعصم ويعافي فضلا، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلا”. انتهى.
“هذا فعله -سبحانه وتعالى- يهدي من يشاء ويعصم، ويعافي فضلا منه وإحسانا، ويضل ويبتلي عدلا منه وحكمة، هو يهدي ويعصم ويعافي فضلا، ويضل ويبتلي حكمة منه وعدلا سبحانه وتعالى، وهذه المسألة؛ وهي مسألة الهدى والضلال مسألة عظيمة من أهم مسائل القدر، حتى إن العلامة ابن القيم -رحمه الله – قال: إنه قلب أبواب القدر؛ مسألة الهدى والضلال، هذه تسمى مسألة الهدى والضلال قلب أبواب القدر ومسائله.
وأراد الطحاوي -رحمه الله- الطحاوي الرد على القدرية والمعتزلة الذين يقولون: إنه يجب على الله فعل الأصلح للعبد، والقدرية أنكروا أن يهدي الله أحدا أو أن يضل أحدا فقالوا: إن العبد هو الذي يهدي نفسه، وهو الذي يضل نفسه، أما الله فلا يهدي أحدا، ولا يضل أحدا، وأجابوا على النصوص قالوا معنى يهدي: يعنى يبين له الطريق الصواب ويسميه مهتديا، ومعنى يضله، أي يسميه ضالا، أو يحكم عليه بالإضلال بعد خلقه الإضلال من نفسه.
فهذه المسألة وهي مسألة الهدى والضلال مسألة عظيمة من مسائل القدر، ولا بد من بيان مراتب الهداية وأقسامها حتى يتبين هذا الباب.
مراتب الهداية أربعة:
المرتبة الأولى: الهداية العامة لكل مخلوق إلى ما يصلحه هداية الله العامة لكل مخلوق إلى مصالح معاشه، وما يقيمه هذه الهداية العامة عامة لكل مخلوق للآدميين والطيور والوحوش والصغار والكبار والأطفال، هداية الله العامة لكل مخلوق إلى ما يصلحه في معاشه وإلى ما يقيمه، ويدخل في ذلك: هداية الطيور إلى أوكارها، وهداية الأنعام إلى مراتعها، وهداية الطفل إلى ثدي أمه، وهداية الإنسان إلى ما يصلحه في معاشه وما يقيم به أمور حياته، هداه الله كيف يأكل، كيف يشرب، كيف ينكح.
الحيوانات هداها الله تعرف كيف تأكل وكيف تشرب وكيف تنكح أنثاها.
هي عامة شاملة للآدميين وللحيوانات وللوحوش وللطيور، قال الله- سبحانه وتعالى-: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾(1) هذه دليل الهداية العامة، وقال -سبحانه- في جواب موسى لفرعون: ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾(2) كل المخلوقات هداها الله إلى ما يصلحها في معاشها؛ فالإبل والبقر والغنم هداها الله كيف تأكل وكيف تذهب إلى الماء وتشرب كيف تذهب إلى المراعي. الطفل من حين سقوطه من بطن أمه هداه الله إلى أن يلتقم ثدي أمه هذه هي الهداية العامة، الطيور هداها الله إلى أوكارها جلب غذائها لصغارها ﴿ الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾(2) هذه عامة للآدميين ولغيرهم وهذه ما أنكرها أحد.
النوع الثاني من الهداية: هداية البيان والدلالة والإرشاد والتعليم والدعوة والإبلاغ، التعليم والدعوة إلى ما يصلح الإنسان في معاده، وهذه خاصة بالآدميين خاصة بالمكلفين من الجن والأنس، هداية تسمى هداية البيان والدلالة والإرشاد والتعليم والدعوة إلى ما يصلح الإنسان في معاده يوم القيامة إلى ما يكون سببا في نجاته من النار وإيداعه بما أوجب الله عليه، وهذه المرتبة هي حجة الله على خلقه لا يعذب الله أحدا حتى تقوم عليه الحجة، وحتى يُهدى هذه الهداية وهي التي أرسل من أجلها الرسل وأنزل من أجلها الكتب قال سبحانه: ﴿ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾(3) وقال سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ﴾(4) يعني ما كان الله ليضلهم بعد أن هداهم وبين لهم طريق الخير فلما بين لهم طريق الخير وتركوه أضلهم عقوبة لهم، ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ﴾(4) هذه هي هداية الدلالة والإرشاد.
وقال -سبحانه-: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾(5) هديناهم يعني دللناهم طريق الخير وطريق الشر، ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾(5) فلما بين الله لهم طريق الخير وطريق الشر واستحبوا العمى على الهدى جاءتهم العقوبة ﴿فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾(5) .
وهذه هي هداية ثابتة للرسل والأنبياء والمصلحين والدعاة كلهم يقدرون عليها؛ قال الله -تعالى- للنبي -صلى الله عليه وسلم-: ﴿ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾(6) أي ترشد وتدل وتبلغ وتدعو، هذه هداية يقدر عليها الرسول – عليه الصلاة والسلام- ويقدر عليها الدعاة والمصلحون يهدون الناس هداية الدلالة والإرشاد والبيان والتبليغ والدعوة هذه خاصة بالمكلفين من الإنس والجن وليست للحيوانات ولا الطيور، هذه هداية يعني بيان وإرشاد الناس إلى الأمر الذي خلقوا له بيان ما أوجب الله عليهم من توحيده وطاعته وترك معصيته.
الله -تعالى- لا يعذب أحدا حتى تقوم عليه الحجة حتى تقوم الحجة عليه وحتى يتبين له ما أوجب الله عليه، كما قال-تعالى-: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ﴾(4) وقال -سبحانه-: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾(7) إذا بعث الرسول وأرشد الناس ودلهم على ما أوجب الله عليهم من التوحيد والطاعة واجتناب المعصية قامت الحجة عليهم. إذا قامت الحجة بعد ذلك استحقوا العذاب، إذا لم يعملوا، هذه هداية والبيان والدلالة والإرشاد، وهذه المرتبة ما أنكرها المعتزلة.
النوع الثالث: هداية التوفيق والإلهام والتسديد، وجعل الإنسان يقبل الحق ويرضاه ويختاره وخلق هداية القلب، هذه خاصة بالله، لا يقدر عليها إلا الله، لا يقدر عليها أحد من الخلق لا الأنبياء ولا غيرهم، وهذه هي المنفية عن النبي -صلى الله عليه وسلم- نفاها الله بقوله: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾(8) فهو لا يهدي يعني لا يخلق الهداية في القلب ولا يوفق ولا يلهم ولا يجعله يقبل الحق ويختاره ويرضاه إلا الله، ولو كانت هداية الدلالة والإرشاد لكان النبي -صلى الله عليه وسلم- أرشد من أحب ومن أبغض.
وقال سبحانه: ﴿مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾(9) فالله -تعالى- يهدي ويضل، فالهداية والإضلال، بيد الله -عز وجل- والعبد هو الضال والمهتدي، ولا بد في وقوع هذه الهداية من أمرين:
الأمر الأول: الهداية من الله، يعني يهديه الله.
والثاني: الاهتداء من العبد فإذا هداه الله واهتدى، حصلت له الهداية بالتوفيق وكذلك الإضلال من الله، والعبد هو الضال إذا أضله الله فضل صار ضالا.
فالهداية والإضلال بيد الله عز وجل، وقد اتفقت رسل الله وكتبه المنزلة على أن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وأنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وهذه المسألة مسألة الهداية والإضلال مسألة عظيمة؛ لأن أفضل ما يقدره الله على العبد وأجل ما يقسمه له هو الهداية، وأعظم ما يبتلي الله به العبد وأعظم مصيبة تصيبه هو أن يقدر الله عليه الإضلال، وكل نعمة فهي دون نعمة الهداية، وكل مصيبة هي دون مصيبة الإضلال، فلذلك كانت الهداية والإضلال بيد الله عز وجل.
هذه المرتبة أنكرها المعتزلة والقدرية أنكروها فأنكر عليهم أهل السنة وبدَّعُوهم وضللوهم، وهذا هو معنى قول المؤلف – رحمه الله-: “يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلا ويضل من يشاء ويبتلي حكمة وعدلا “.
المعتزلة والقدرية قالوا: الهداية والإضلال بيد العبد وليس بيد الله الهداية والإضلال أنكروا هذه المرتبة.
أنكر عليهم أهل السنة وقالوا: النصوص واضحة لأن الله – سبحانه وتعالى- بيده الهداية والإضلال قال: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي﴾(10) لو كانت الهداية بيد العبد لما قيدها بالمشيئة ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾(10) ولكن الله -سبحانه وتعالى- خص المؤمن بنعمة دينية دون الكافر، كما قال -سبحانه-: ﴿وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾(11) وقال -سبحانه-: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً﴾(12) .
هذه النعمة اختص الله بها المؤمنين اختصهم بنعمة دينية جعلهم يقبلون الحق ويرضون به ويختارونه وألهمهم إياه وخلق الهداية في قلوبهم فصاروا مهتدين، وله الفضل والإحسان.
والكافر أضله الله خذله وأضله الله وابتلاه – كل ذلك -عدلا منه حكمة بالغة -سبحانه وتعالى-.
فالهداية والإضلال بيد الله -عز وجل-، فالمؤمن اختصه الله بهذه النعمة الدينية دون الكافر والكافر خذله الله.
والمعتزلة والقدرية أنكروا هذه المرتبة، وقالوا: الهداية والإضلال بيد العبد، وتأولوا النصوص بقوله: ﴿ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾(13) قالوا معناه: يهدي أي: يسميه مهتديا ويبين لهم طريق الصواب فسروها بهداية الدلالة والإرشاد. ويضل من يشاء قالوا: يسميه ضالا أو يحكم عليه بالإضلال بعد أن يخلق الضلال من نفسه، وهذا من أبطل الباطل.
القدرية يضربون مثلا في هذا، والله -تعالى- قال: ﴿ فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ﴾(14) لكنهم يضربون مثلا يقولون: إن الله -تعالى- لم يهد أحدا ولم يضل أحدا، ولكن العبد هو الذي اختار الهداية بنفسه وخلق الهداية لنفسه، والكافر اختار الإضلال وخلق الإضلال لنفسه، واختار الإضلال لنفسه، والله -تعالى- لم يخص المؤمن بنعمة دينية ولم يخذل الكافر، وهذا مبني على شبهتهم السابقة.
وهو أن لو هدى هؤلاء وأضل هؤلاء لكان هذا جورا، والله عادل لا يجور، وسبق الجواب على هذه الشبهة، وأن الله له الحكمة البالغة فيما يقدره، وأن الله عاقبهم لما لم يستجيبوا للحق بعد ظهوره ووضوحه عاقبهم كما سبق في الآية ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ﴾(4) فلما بين لهم ما يتقون واتضح لهم الأمر فلم يقبلوه أضلهم الله عقوبة لهم، وقال -سبحانه-: ﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾(15) وقال -سبحانه-: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾(16) .
والآيات والنصوص في بيانها كثيرة؛ كقوله سبحانه وتعالى: ﴿أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾(17) .
والمرتبة الرابعة: الهداية إلى طريق الجنة والنار يوم القيامة، فالكفار يهديهم الله إلى النار، والمؤمنون يهديهم الله إلى الجنة، قال سبحانه وتعالى في الكفار: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ﴾(18) الآية من سورة الصافات.
وقال سبحانه في المؤمنين: ﴿وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾(19) فهذه هداية بعد قتلهم يهديهم إلى طريق الجنة، ويصلح بالهم في إلغاء خصومهم وقبول أعمالهم، فهذه مراتب الهداية.
المرتبة الأولى الهداية العامة والمرتبة الرابعة ليس فيهما إشكال، إنما البحث في المرتبة الثانية، مرتبة الهداية الدلالة والإرشاد، وهداية التوفيق والتسديد، هذا محل النزاع والخلاف بينهم وبين أهل السنة.
أهل السنة يقسمون الهداية إلى قسمين: هداية دلالة وإرشاد، وهداية توفيق وإلهام.
والقدرية والمعتزلة ليس عندهم إلا هداية واحدة: هداية الدلالة والإرشاد.
وهداية التوفيق يردونها إلى هداية البيان والإرشاد، وهذا من أبطل الباطل، وهذا مبني على أصلهم الفاسد وهو قولهم بوجوب فعل الأصلح للعبد على الله؛ قالوا: يجب على الله فعل الأصلح للعبد. وما دام يجب على الله فعل الأصلح للعبد قالوا: فلا يمكن أن يهدي الله أحدا ولا أن يضل أحدا!
وهذا أيضا مبني على أصلهم الآخر، وهو القول بأن أفعال العباد مخلوقة لهم، فالعباد هم الذين خلقوا الهداية والضلال، هم الذين يخلقون الطاعات والمعاصي، ولو خص الله أحدا بالهداية وخذل أحدا لكان ظالما، والله عدل لا يجور.
وكما سبق أن الله له حكمة بالغة -كما سبق- في بيان حكمة الله في تقدير الكفر والمعاصي وغيرها، وأن الذي ينسب إلى الله إنما هو الخلق، وهو مبني على الحكمة، والذي ينسب إلى العبد هو المباشرة والكسب.
ولهذا فإن الهداية والإضلال بيد الله، فالله تعالى يهدي ويضل، والعبد يباشر فيكون هو المهتدي وهو الضال، العبد هو المهتدي وهو الضال، والله يهدي ويضل ﴿يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾(13) ﴿مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾(9) ولا بد فيها من أمرين: الهداية والإضلال، هذا من الله، والعبد من هواه، الاهتداء والضلال، المباشرة والكسب. نعم”.[شرح الراجحي للطحاوية]
(المسألة الثانية): الفتاوي
[1] في مجموع الفتاوى لابن تيمية رحمه الله: “وسُئِلَ عَنْ البارِي – سُبْحانَهُ -: هَلْ يَضِلُّ ويَهْدِي ؟
فَأجابَ:
إنّ كُلَّ ما فِي الوُجُودِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ لَهُ خَلَقَهُ بِمَشِيئَتِهِ وقُدْرَتِهِ وما شاءَ كانَ وما لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وهُوَ الَّذِي يُعْطِي ويَمْنَعُ ويَخْفِضُ ويَرْفَعُ ويُعِزُّ ويُذِلُّ ويُغْنِي ويُفْقِرُ ويُضِلُّ ويَهْدِي ويُسْعِدُ ويُشْقِي ويُوَلِّي المُلْكَ مَن يَشاءُ ويَنْزِعُهُ مِمَّنْ يَشاءُ ويَشْرَحُ صَدْرَ مَن يَشاءُ لِلْإسْلامِ ويَجْعَلُ صَدْرَ مَن يَشاءُ ضَيِّقًا كَأنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ وهُوَ يُقَلِّبُ القُلُوبَ؛ ما مِن قَلْبٍ مِن قُلُوبِ العِبادِ إلّا وهُوَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِن أصابِعِ الرَّحْمَنِ إنْ شاءَ أنْ يُقِيمَهُ أقامَهُ وإنْ شاءَ أنْ يُزِيغَهُ أزاغَهُ وهُوَ الَّذِي حَبَّبَ إلى المُؤْمِنِينَ الإيمانَ وزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِهِمْ وكَرَّهَ إلَيْهِمْ الكُفْرَ والفُسُوقَ والعِصْيانَ أُولَئِكَ هُمْ الرّاشِدُونَ. وهُوَ الَّذِي جَعَلَ المُسْلِمَ مُسْلِمًا والمُصَلِّيَ مُصَلِّيًا. قالَ الخَلِيلُ ﴿رَبَّنا واجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ومِن ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ وقالَ: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ ومِن ذُرِّيَّتِي﴾ وقالَ تَعالى: ﴿وجَعَلْنا مِنهُمْ أئِمَّةً يَهْدُونَ بِأمْرِنا لَمّا صَبَرُوا﴾ وقالَ عَنْ آلِ فِرْعَوْنَ: ﴿وجَعَلْناهُمْ أئِمَّةً يَدْعُونَ إلى النّارِ﴾ وقالَ تَعالى: {إنّ الإنْسانَ خُلِقَ هَلُوعًا} ﴿إذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا﴾ ﴿وإذا مَسَّهُ الخَيْرُ مَنُوعًا﴾ وقالَ: ﴿واصْنَعِ الفُلْكَ بِأعْيُنِنا ووَحْيِنا﴾ وقالَ: ﴿ويَصْنَعُ الفُلْكَ﴾. والفُلْكُ مَصْنُوعَةٌ لِبَنِي آدَمَ وقَدْ أخْبَرَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالى أنَّهُ خَلَقَها بِقَوْلِهِ: ﴿وخَلَقْنا لَهُمْ مِن مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ﴾ وقالَ: ﴿واللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وجَعَلَ لَكُمْ مِن جُلُودِ الأنْعامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ ويَوْمَ إقامَتِكُمْ ومِن أصْوافِها وأوْبارِها﴾ الآياتِ. وهَذِهِ كُلُّها مَصْنُوعَةٌ لِبَنِي آدَمَ. وقالَ تَعالى: ﴿أتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ﴾ ﴿واللَّهُ خَلَقَكُمْ وما تَعْمَلُونَ﴾ فَما بِمَعْنى «الَّذِي» ومَن جَعَلَها مَصْدَرِيَّةً فَقَدْ غَلِطَ لَكِنْ إذا خَلَقَ المَنحُوتَ كَما خَلَقَ المَصْنُوعَ والمَلْبُوسَ والمَبْنِيَّ دَلَّ عَلى أنَّهُ خالِقُ كُلِّ صانِعٍ وصَنْعَتِهِ وقالَ تَعالى: ﴿مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ المُهْتَدِي ومَن يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ ولِيًّا مُرْشِدًا﴾ وقالَ ﴿فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإسْلامِ ومَن يُرِدْ أنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا﴾ وهُوَ سُبْحانَهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ورَبُّهُ ومَلِيكُهُ ولَهُ فِيما خَلَقَهُ حِكْمَةٌ بالِغَةٌ ونِعْمَةٌ سابِغَةٌ ورَحْمَةٌ عامَّةٌ وخاصَّةٌ وهُوَ لا يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ وهُمْ يُسْألُونَ لا لِمُجَرَّدِ قُدْرَتِهِ وقَهْرِهِ بَلْ لِكَمالِ عِلْمِهِ وقُدْرَتِهِ ورَحْمَتِهِ وحِكْمَتِهِ. فَإنَّهُ أحْكَمُ الحاكِمِينَ وأرْحَمُ الرّاحِمِينَ وهُوَ أرْحَمُ بِعِبادِهِ مِن الوالِدَةِ بِوَلَدِها وقَدْ أحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ. وقالَ تَعالى: {وتَرى الجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} وقَدْ خَلَقَ الأشْياءَ بِأسْبابِ كَما قالَ تَعالى: ﴿وما أنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِن ماءٍ فَأحْيا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِها﴾ وقالَ: ﴿فَأنْزَلْنا بِهِ الماءَ فَأخْرَجْنا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَراتِ﴾ وقالَ تَعالى: ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ﴾”. انتهى.
[2] بيان أن الإنسان مسير ومخير جميعا
س: مستمع يسأل، ويقول: أرجو أن تتفضلوا بإجابتي عن السؤال التالي: هل الإنسان في هذه الحياة مسير أو مخير؟ مع اصطحاب جميع الأدلة؟ وجزاكم الله خيرا.
ج: الإنسان مسير ومخير جميعا، له الوصفان فهو مخير؛ لأن الله أعطاه عقلا وأعطاه مشيئة، وأعطاه إرادة يتصرف بها، فيختار النافع ويدعو الله، يختار الخير ويدع الشر، يختار ما ينفعه، ويدع ما يضره، كما قال تعالى: ﴿لِمَن شاءَ مِنكُمْ أنْ يَسْتَقِيمَ﴾، ﴿وما تَشاءُونَ إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ العالَمِينَ﴾، وقال ﷿: ﴿تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا واللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ﴾.
فالناس لهم إرادة ولهم مشيئة، ولهم أعمال، قال تعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ﴾، ﴿إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ﴾ فلهم أعمال ولهم إرادات، ولهم مشيئة هم مخيرون فإذا فعلوا الخير، استحقوا الجزاء من الله فضلا منه ﷾، وإذا فعلوا الشر استحقوا العقاب، فهم إذا فعلوا الطاعات فعلوها باختيارهم، ولهم أجر عليها وإذا فعلوا المعاصي، فعلوها باختيارهم وعليهم وزرها وإثمها، والقدر ماض فيهم، هم أيضا مسيرون بقدر سابق، قال جل وعلا: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي البَرِّ والبَحْرِ﴾، وقال النبي ﷺ: «كل شيء بقدر حتى العجز والكيس»، وقال سبحانه: ﴿ما أصابَ مِن مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ ولا فِي أنْفُسِكُمْ إلّا فِي كِتابٍ مِن قَبْلِ أنْ نَبْرَأها﴾، وقال جل وعلا: ﴿ما أصابَ مِن مُصِيبَةٍ إلّا بِإذْنِ اللَّهِ ومَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾، ولما سأل جبرائيل النبي ﷺ عن الإيمان قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره»، وقال ﵊: «إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء».
فالله قدر الأشياء سابقا، وعلم أهل الجنة وأهل النار، وقدر الخير والشر والطاعات، والمعاصي كل إنسان يسير فيما قدر الله له، وكل مسير لما خلق له، جاء في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال لأصحابه ذات يوم: «ما منكم من أحد إلا ويرى مقعده من الجنة ومقعده من النار. قالوا: يا رسول الله، ففيم العمل؟ يعني ما دامت مقاعدنا معروفة من الجنة والنار، ففيم العمل، قال ﵊: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فييسروا لعمل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسروا لعمل الشقاوة، ثم تلا قوله سبحانه: »، فأنت يا عبد الله عليك أن تعمل، ولن تخرج عن قدر الله ﷾، عليك أن تعمل وتجتهد بطاعة الله، وتسأل ربك التوفيق، وعليك أن تحذر ما يضرك، وأسأل ربك الإعانة على ذلك، وأنت ميسر لما خلقت له، كل ميسر لما خلق له، نسأل الله للجميع الهداية والتوفيق. [فتاوى نور على الدرب لابن باز بعناية الشويعر]
[3] بيان أن الدعاء من القدر
س: هل الدعاء يغير المكتوب عند الله تعالى؟
ج: الدعاء من القدر، والمكتوب لا يتغير، فالقدر قدران قدر محتوم لا حيلة فيه، وقدر معلق، فيكون بعض القدر معلقا بالدعاء فإن دعا زال المعلق، قد يكون معلقا: أن الله جل وعلا يتوب عليه إذا صلى، إذا صام، إذا فعل كذا، هذا قدر معلق الله جل وعلا يرفعه عنه بما فعل من الطاعات، والأعمال الصالحات والتوبة، فالأقدار تعالج بالأقدار، مثل ما قال عمر لما أشار عليه الصحابة في غزوته للشام ووقوع الطاعون أشاروا عليه بالرجوع وأشار بعضهم بعدم الرجوع، ثم استقر أمره على الرجوع إلى المدينة وعدم القدوم على الطاعون فقالوا: تفر من قدر الله، فقال ﵁: نفر من قدر الله إلى قدر الله، الله أمرنا بألا نقدم على هذا المرض فإذا تركنا القدوم عليه فقد فررنا من قدر الله إلى قدر الله، ثم جاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، فأخبر عمر: أن الرسول ﷺ أمر بألا يقدم عليه، ففرح عمر بذلك (١) بأن الله وفقه لما جاء به النص بعد ما استشار الصحابة، وهكذا الإنسان تصيبه الحمى فيتعاطى الأسباب يفر من قدر الله إلى قدر الله، يجوع يأكل حتى يزول الجوع يفر من قدر الله إلى قدر الله، يصيبه الحر فيشرب الماء البارد، أو يستحم يفر من قدر الله إلى قدر الله، يصيبه مرض في عينيه فيعالجها، بأنواع العلاج يفر من قدر الله إلى قدر الله، وهكذا أنواع كله يفر من قدر الله إلى قدر الله.[فتاوى نور على الدرب لابن باز بعناية الشويعر].
[4] بيان أن الدعاء من أسباب رد القدر المعلق
س: في الحديث يا سماحة الشيخ يقول: هل الدعاء يرد القدر؟ وكيف ذلك؟
ج: نعم، الدعاء من أسباب رد القدر المعلق، والقدر يكون معلقا ويكون مبتوتا، فإذا كان قدرا معلقا، قد قدر الله جل وعلا، أن يهبه ولدا، إذا دعا ربه، فدعا ربه واستجاب دعوته، هذا معلق بالدعاء، أو قدر الله له مالا، إذا دعا ربه في طلب ذلك المال، فإذا دعا ربه يسر الله له المال المعلق، على هذا الدعاء، أو طلب زوجة، طلب أن يزوجه فلانة، والله قد قدر له ذلك بهذا الطلب، قد علق القدر بهذا الطلب، أن فلانا قدر الله في سابق علمه، أنه يسأل ربه أن الله يزوجه فلانة بنت فلان، فإذا ألهمه الله الدعاء ووفقه للدعاء، حصل المقدور المعلق، أما الأقدار المبتوتة التي ليست معلقة، هذه ما تتعلق بالدعاء، الموت المحدود في يوم معلوم، دون دعاء، إذا جاء يوم موته، المحدود مات، دعا أو لم يدع. [فتاوى نور على الدرب لابن باز بعناية الشويعر].
س: م. س. من العراق رسالة ضمنها سؤالين: سؤاله الأول يقول: سمعت أن الرسول ﷺ قال حديثا معناه: إن الجنين في بطن أمه يكتب له الشقاء والسعادة، فهل الشقاء على وتيرة واحدة، أو السعادة على وتيرة واحدة أم أنها درجات؟ وهل في الدنيا أم في الآخرة، أم في الآخرة والدنيا؟ جزاكم الله خيرا.
ج: هذا حديث صحيح رواه البخاري ومسلم في الصحيح من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، عن النبي ﷺ أنه أخبر أن الجنين إذا مضى عليه ثلاثة أطوار: كل طور أربعون يوما، يعني أربعة أشهر، يدخل عليه ملك، ويأمر الله بكتب رزقه وأجله، وعمله ويكتب شقي أو سعيد، إما من أهل النار أو من أهل الجنة، فالشقي من أهل النار، والسعيد من أهل الجنة، والله جل وعلا يكتب أعماله كلها، ولا يمنع في هذا الأمر والنهي، فالقدر ماض في أمر الله، ولكن على العبد أن يعمل، مثل ما قال النبي ﷺ لما قال الصحابة لرسول الله: «إذا كانت الأعمال تكتب شقاء وسعادة، فلماذا العمل؟ قال النبي ﷺ: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فميسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فميسرون لعمل أهل الشقاوة»، فالعبد على ما كتب له، إن كتب له الشقاوة في الدنيا والآخرة فهو شقي، وإن كتب له السعادة فهو سعيد في الدنيا والآخرة، يكتب له شقاوة في الدنيا دون الآخرة، أو شقاوة في الآخرة دون الدنيا وقد يعمل بعمل أهل الجنة في الدنيا، ثم يموت على أعمال أهل النار، فيدخل النار، نسأل الله السلامة، وقد يكون شقيا في الدنيا بأعمال أهل النار، ثم يكتب الله له التوبة، فيتوب عند موته، قبل أن يموت، فيكون من أهل السعادة، فكل شيء يكتب عليه، شقاوته وسعادته في الدنيا والآخرة، لكن مع هذا كله الواجب عليه العمل الواجب عليه أن يتقي الله، وألا يقول هذا كتب علي وأنا أجلس، لا، مثل ما أمر النبي الصحابة قال: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له»، والله يقول سبحانه: ﴿وقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرى اللَّهُ عَمَلَكُمْ ورَسُولُهُ والمُؤْمِنُونَ﴾.
فالإنسان مأمور بالعمل، ويقول ﷺ في الحديث الصحيح: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن» فكل إنسان مأمور بأن يطيع الله ورسوله، مأمور بأن يكسب الحلال، مأمور بأن يبتعد عن أسباب الشر، مأمور بأن يحذر الخطر، منهي أن يقتل نفسه، مأمور بالكف عن المعاصي إلى غير ذلك، فعليه أن يمتثل للأوامر، ويحذر النواهي ويجتهد في ذلك، ولا يتأخر عن شيء أمر الله به، ولا يقدم على شيء نهى الله عنه، وهو مع هذا ميسر لما خلق له. [فتاوى نور على الدرب لابن باز بعناية الشويعر].