2652 فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
شارك محمد البلوشي وعبدالله البلوشي ابوعيسى ، وطارق أبي تيسير وعبدالملك وعبدالله المشجري وأحمد بن علي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى ، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا )
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
٢ – بابُ حِجاجِ آدَمَ ومُوسى عليهما السلام
١٣ – (٢٦٥٢) حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حاتِمٍ، وإبْراهِيمُ بْنُ دِينارٍ، وابْنُ أبِي عُمَرَ المَكِّيُّ، وأحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ – واللَّفْظُ لِابْنِ حاتِمٍ وابْنِ دِينارٍ – قالا: حَدَّثَنا سُفْيانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ طاوُسٍ، قالَ: سَمِعْتُ أبا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «احْتَجَّ آدَمُ ومُوسى، فَقالَ مُوسى: يا آدَمُ أنْتَ أبُونا خَيَّبْتَنا وأخْرَجْتَنا مِنَ الجَنَّةِ، فَقالَ لَهُ آدَمُ: أنْتَ مُوسى، اصْطَفاكَ اللهُ بِكَلامِهِ، وخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ، أتَلُومُنِي عَلى أمْرٍ قَدَّرَهُ اللهُ عَلَيَّ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَنِي بِأرْبَعِينَ سَنَةً؟» فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «فَحَجَّ آدَمُ مُوسى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسى» وفِي حَدِيثِ ابْنِ أبِي عُمَرَ وابْنِ عَبْدَةَ، قالَ أحَدُهُما: خَطَّ، وقالَ الآخَرُ: كَتَبَ لَكَ التَّوْراةَ بِيَدِهِ.
١٤ – (٢٦٥٢) حَدَّثَنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مالِكِ بْنِ أنَسٍ، فِيما قُرِئَ عَلَيْهِ عَنْ أبِي الزِّنادِ، عَنِ الأعْرَجِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ، قالَ: «تَحاجَّ آدَمُ ومُوسى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسى، فَقالَ لَهُ مُوسى: أنْتَ آدَمُ الَّذِي أغْوَيْتَ النّاسَ وأخْرَجْتَهُمْ مِنَ الجَنَّةِ، فَقالَ آدَمُ: أنْتَ الَّذِي أعْطاهُ اللهُ عِلْمَ كُلِّ شَيْءٍ واصْطَفاهُ عَلى النّاسِ بِرِسالَتِهِ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: فَتَلُومُنِي عَلى أمْرٍ قُدِّرَ عَلَيَّ قَبْلَ أنْ أُخْلَقَ؟!».
١٥ – (٢٦٥٢) حَدَّثَنا إسْحاقُ بْنُ مُوسى بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُوسى بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ يَزِيدَ الأنْصارِيِّ، حَدَّثَنا أنَسُ بْنُ عِياضٍ، حَدَّثَنِي الحارِثُ بْنُ أبِي ذُبابٍ، عَنْ يَزِيدَ وهُوَ ابْنُ هُرْمُزَ وعَبْدِ الرَّحْمَنِ الأعْرَجِ، قالا: سَمِعْنا أبا هُرَيْرَةَ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «احْتَجَّ آدَمُ ومُوسى عليهما السلام عِنْدَ رَبِّهِما، فَحَجَّ آدَمُ مُوسى، قالَ مُوسى: أنْتَ آدَمُ الَّذِي خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِهِ ونَفَخَ فِيكَ مِن رُوحِهِ، وأسْجَدَ لَكَ مَلائِكَتَهُ، وأسْكَنَكَ فِي جَنَّتِهِ، ثُمَّ أهْبَطْتَ النّاسَ بِخَطِيئَتِكَ إلى الأرْضِ، فَقالَ آدَمُ: أنْتَ مُوسى الَّذِي اصْطَفاكَ اللهُ بِرِسالَتِهِ وبِكَلامِهِ وأعْطاكَ الألْواحَ فِيها تِبْيانُ كُلِّ شَيْءٍ وقَرَّبَكَ نَجِيًّا، فَبِكَمْ وجَدْتَ اللهَ كَتَبَ التَّوْراةَ قَبْلَ أنْ أُخْلَقَ، قالَ مُوسى: بِأرْبَعِينَ عامًا، قالَ آدَمُ: فَهَلْ وجَدْتَ فِيها وعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى، قالَ: نَعَمْ، قالَ: أفَتَلُومُنِي عَلى أنْ عَمِلْتُ عَمَلًا كَتَبَهُ اللهُ عَلَيَّ أنْ أعْمَلَهُ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَنِي بِأرْبَعِينَ سَنَةً؟» قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «فَحَجَّ آدَمُ مُوسى».
١٥ – حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وابْنُ حاتِمٍ، قالا: حَدَّثَنا يَعْقُوبُ بْنُ إبْراهِيمَ، حَدَّثَنا أبِي، عَنِ ابْنِ شِهابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «احْتَجَّ آدَمُ ومُوسى، فَقالَ لَهُ مُوسى: أنْتَ آدَمُ الَّذِي أخْرَجَتْكَ خَطِيئَتُكَ مِنَ الجَنَّةِ؟ فَقالَ لَهُ آدَمُ: أنْتَ مُوسى الَّذِي اصْطَفاكَ اللهُ بِرِسالَتِهِ وبِكَلامِهِ، ثُمَّ تَلُومُنِي عَلى أمْرٍ قَدْ قُدِّرَ عَلَيَّ قَبْلَ أنْ أُخْلَقَ؟ فَحَجَّ آدَمُ مُوسى».
١٥ – حَدَّثَنِي عَمْرٌو النّاقِدُ، حَدَّثَنا أيُّوبُ بْنُ النَّجّارِ اليَمامِيُّ، حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ أبِي كَثِيرٍ، عَنْ أبِي سَلَمَةَ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، ح وحَدَّثَنا ابْنُ رافِعٍ، حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّزّاقِ، أخْبَرَنا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، بِمَعْنى حَدِيثِهِمْ.
١٥ – وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ مِنهالٍ الضَّرِيرُ، حَدَّثَنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنا هِشامُ بْنُ حَسّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ نَحْوَ حَدِيثِهِمْ.
١٦ – (٢٦٥٣) حَدَّثَنِي أبُو الطّاهِرِ أحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَرْحٍ، حَدَّثَنا ابْنُ وهْبٍ، أخْبَرَنِي أبُو هانِئٍ الخَوْلانِيُّ، عَنْ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الحُبُلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاصِ، قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، يَقُولُ: «كَتَبَ اللهُ مَقادِيرَ الخَلائِقِ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ السَّماواتِ والأرْضَ بِخَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ، قالَ: وعَرْشُهُ عَلى الماءِ».
١٦ – حَدَّثَنا ابْنُ أبِي عُمَرَ، حَدَّثَنا المُقْرِئُ، حَدَّثَنا حَيْوَةُ، ح وحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ التَّمِيمِيُّ، حَدَّثَنا ابْنُ أبِي مَرْيَمَ، أخْبَرَنا نافِعٌ يَعْنِي ابْنَ يَزِيدَ، كِلاهُما عَنْ أبِي هانِئٍ، بِهَذا الإسْنادِ مِثْلَهُ، غَيْرَ أنَّهُما لَمْ يَذْكُرا: وعَرْشُهُ عَلى الماءِ.
==========
التمهيد:
قال الحافظ النووي رحمه الله تعالى في رياض الصالحين: ”
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
قال أبو عمر بن عبد البرّ – رحمه الله -: هذا الحديث ثابت بالاتفاق، رواه عن أبي هريرة جماعة من التابعين، ورُوي عن النبيِّ – ﷺ – من وجوه أخري،
من رواية الأئمة الثقات الأثبات.
قال الحافظ: وقع لنا من طريق عشرة عن أبي هريرة……فذكرها
وممن رواه عن النبيِّ – ﷺ -: عمر، عند أبي داود، وأبي عوانة، وجندب بن عبد الله، عند النسائيّ، وأبو سعيد، عند البزار، وأخرجه ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق، والحارث من وجه آخر عنه، وقد أشار إلى هذه الثلاثة الترمذيّ. انتهى كلام الحافظ – رحمه الله -. [«الفتح» ١٥/ ٢٣١ – ٢٣٢، كتاب «القدر» رقم (٦٦١٤)]
وفي رواية يزيد بن هرمز: «عند ربهما»، وفي رواية محمد بن سيرين: «التقى آدم وموسى»، وفي رواية عمار والشعبيّ: «لقي آدم موسى»، وفي حديث عمر: «لقي موسى آدم»، كذا عند أبي عوانة، وأما أبو داود فلفظه: «قال موسى: يا رب أرني آدم».
[تنبيه]: قد اختَلَف العلماء في وقت هذا التحاجّ،
فقيل: يَحْتَمِل أنه في زمان موسي، فأحيا الله له آدم – رحمه الله – معجزةً له، فكلَّمه، أو كُشف له عن قبره، فتحدثا، أو أراه الله روحه، كما أرى النبيّ – ﷺ – ليلة المعراج أرواح الأنبياء، أو أراه الله له في المنام، ورؤيا الأنبياء وحي، ولو كان يقع في بعضها ما يقبل التعبير، كما في قصّة الذبيح، أو كان ذلك بعد وفاة موسي، فالتقيا في البرزخ، أولَ ما مات موسي، فالتقت أرواحهما في السماء، وبذلك جزم ابن عبد البرّ، والقابسيّ، وقد وقع في حديث عمر – رضي اللَّه عنه -: لَمّا قال موسى: أنت آدم، قال له: من أنت؟ قال: أنا موسي، وأن ذلك لَمْ يقع بعدُ، وإنما يقع في الآخرة، والتعبير عنه في الحديث بلفظ الماضي؛ لتحقُّق وقوعه.
وذكر ابن الجوزيّ وذكر احتمالات : وهذا مما يجب الإيمان به، لثبوته عن خبر الصادق، وإن لمِ يُطَّلَع على كيفية الحال، وليس هو بأول ما يجب علينا الإيمان به، وإن لَمْ نقِف على حقيقة معناه، كعذاب القبر، ونعيمه، ومتى ضاقت الحيل في كشف المشكلات لَمْ يبق إلّا التسليم.
وقال ابن عبد البرّ: مِثْلُ هذا عندي يجب فيه التسليم، ولا يوقف فيه على التحقيق؛ لأنا لَمْ نؤتَ من جنس هذا العلم إلّا قليلًا. انتهى [«الفتح» ٥ ١/ ٢٣٢ – ٢٣٣، كتاب «القدر» رقم (٦٦١٤)].
قال الأتيوبي عفا الله عنه: ما أحسن قول ابن الجوزيّ، وابن عبد البرّ – رحمهما الله – في هذا، وأجمله
قال الراجحي: أجساد الأنبياء دُفنت في الأرض، ولكن أرواحهم مصورة في صور أبدانهم، والنبي صلى الله عليه وسلم رآهم ليلة المعراج بأرواحهم، كما بيَّن المحققون من أهل العلم، كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله(1)، وابن القيم رحمه الله(2).
إلا عيسى عليه السلام، فإنه لم يمت، بل رُفع بروحه وجسده، وسينزل في آخر الزمان، ويحكم بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم، ويموت كما كتب الله له، ويُدفن في الأرض.
أما لقاء موسى بآدم عليه السلام فقد ذكر القاضي عياض وعنه النووي ثلاثة احتمالات:
الأول: أن اللقيا بأرواحهما.
الثاني: أنه على ظاهره، وأنهما اجتمعا بأشخاصهما.
الثالث: أن ذلك كان فى حياة موسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنه سأل ربه أن يريه آدم(3).
والاحتمال الثاني: ليس بوجيه؛ لأن الأجساد لا تبعث إلا يوم القيامة، فيبقى الاحتمالان الأول والثاني بالنسبة للقاء موسى بآدم، ويبقى احتمال واحد بالنسبة للقاء النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء، والإحياء لا بد له من دليل.
(فَقالَ مُوسى: يا آدَمُ أنْتَ أبُونا) الاستفهام تقريريّ، وفي رواية يحيى بن أبي كثير: «أنت أبو الناس»، وكذا في حديث عمر، وفي رواية الشعبيّ: «أنت آدم، أبو البشر».
(خَيَّبْتَنا) بالخاء المعجمة، ثم الموحّدة، من الخيبة، والمراد به: الحرمان، وقيل: هي كـ«أغويتنا» من إطلاق الكل على البعض، والمراد: من يجوز منه وقوع المعصية، ولا مانع من حَمْله على عمومه، والمعنى: أنه لو استمرّ على تَرْك الأكل من الشجرة لَمْ يخرج منها….. وفاتَ أهل المعصية تأخر الكون في الجَنَّة مدة الدنيا، وما شاء الله من مدة العذاب في الآخرة، إما مؤقتًا في حقّ المودعدين، وإما مستمرًّا في حقّ الكفار، فهو حرمان نسبيّ [«الفتح» ١٥/ ٢٣٥].
(وأخْرَجْتَنا مِنَ الجَنَّةِ) معنى: «أخرجتنا» كنت سببًا لإخراجنا جميعًا، فهو على عمومه، بخلاف رواية: «أغويتنا»، و«أهلكتنا» فهما من إطلاق الكل على
البعض.
وفي رواية حميد بن عبد الرَّحمن: «أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجَنَّة»، وفي رواية عنه: «أخرجت ذريتك»، وفي رواية مالك: «أنت الذي أغويت الناس، وأخرجتهم من الجَنَّة»، ومثله في رواية همام، وكذا في رواية أبي صالح، وفي رواية محمد بن سيرين: «أشقيت» بدل «أغويت».
ومعنى «أغويت»: كنت سببًا لغواية مَن غَوى
وفي رواية أبي سلمة: «أنت الذي أخرجت الناس من الجَنَّة بذنبك»، وعند أحمد من طريقه: «أنت الذي أدخلت ذريتك النار»، والقول فيه كالقول في «أغويت»، وزاد همام: «إلى الأرض»، وكذا في رواية يزيد بن هرمز:
«فأهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض»، وأوله عنده: «أنت الذي خلقك الله
بيده، وأسجد لك ملائكته»، ومثله في رواية أبي صالح، لكن قال: «ونفخ فيك
من روحه»، ولم يقل: «وأسجد لك ملائكته»، ومثله في رواية محمد بن
عمرو، وزاد: «وأسكنك جنته»، ومثله في رواية محمد بن سيرين، وزاد: «ثم
صنعت ما صنعت»، وفي رواية عمرو بن أبي عمرو، عن الأعرج: «يا آدم
خلقك الله بيده، ثم نفخ فيك من روحه، ثم قال لك: كن، فكنت، ثم أمر
الملائكة، فسجدوا لك، ثم قال لك: اسكن أنت وزوجك الجَنَّة، وكلا منها
رغدًا حيث شئتما، ولا تقربا هذه الشجرة، فنهاك عن شجرة واحدة، فعصيت»،
وزاد الفريابيّ: «وأكلت منها»، وفي رواية عكرمة بن عمار، عن أبي سلمة:
«أنت آدم الذي خلقك الله بيده»، فأعاد الضمير في قوله: «خلقك» إلى قوله:
«أنت»، والأكثر عَوْده إلى الموصول، فكأنه يقول: خلقه الله، ونحو ذلك ما
وقع في رواية الأكثر: «أنت الذي أخرجتك خطيئتك»، وفي حديث عمر بعد
قوله: «أنت آدم؟ قال: نعم، قال: أنت الذي نفخ الله فيك من روحه، وعلَّمك
الأسماء كلها، وأمَر الملائكة، فسجدوا لك؟، قال: نعم، قال: فلِمَ أخرجتنا،
ونفسك من الجَنَّة؟» وفي لفظ لأبي عوانة: «فوالله لولا ما فعلت ما دخل أحد
من ذريتك النار»، ووقع في حديث أبي سعيد عند ابن أبي شيبة: «فأهلكتنا،
وأغويتنا، وذَكر ما شاء الله أن يذكر من هذا»، وهذا يُشعر بأن جميع ما ذكر
في هذه الروايات محفوظ، وأن بعض الرواة حَفِظ ما لَمْ يحفظ الآخر [»الفتح” ١٥/ ٢٣٥].
وقال النوويّ – رحمه الله -: المراد بتقديرها: كَتْبه في اللوح المحفوظ، أو في التوراة، أو في الألواح، ولا يجوز أن يراد أصل القَدَر؛ لأنه أزليّ، ولم يزل الله – تعالى – مريدًا لِما يقع من خَلْقه، وكان بعض شيوخنا يزعم أن المراد: إظهار ذلك عند تصوير آدم طينًا، فإن آدم أقام في طينته أربعين سنة، والمراد على هذا بخلقه: نَفْخ الروح فيه.
قال الحافظ: وقد يعكر على هذا رواية الأعمش، عن أبي صالح:
«كتبه الله عليّ قبل أن يخلق السماوات والأرض»، لكنه يُحمل قوله فيه: «كتبه الله
عليّ»: قدّره، أو على تعدُّد الكتابة؛ لتعدُّد المكتوب، والعلم عند الله تعالى.
(فَقالَ النَّبِيُّ – ﷺ -: «فَحَجَّ آدَمُ مُوسى)؛ أي: غلبه بالحجة،
واتفق الرواة، والنقَلة، والشرّاح على أنّ «آدم» بالرفع، وهو الفاعل،
وشذّ بعض الناس، فقرأه بالنصب، على أنّه المفعول، وموسى في محلّ الرفع
على أنّه الفاعل، نَقَله الحافظ أبو بكر بن الخاصية، عن مسعود بن ناصر
السجزي الحافظ، قال: سمعته يقرأ: «فحج آدَمَ» بالنصب، قال: وكان قدريًّا.
قال الحافظ: هو محجوج بالاتفاق قبله على أنّ آدم بالرفع، على أنّه الفاعل،
وقد أخرجه أحمد من رواية الزهريّ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، بلفظ:
«فحجه آدم»، وهذا يرفع الإشكال، فإن رواته أئمة حفّاظ؛ والزهريّ من كبار
الفقهاء الحفاظ، فروايته هي المعتمَدة في ذلك [»الفتح«١٥/ ٢٣٥ – ٢٣٧، كتاب»القدر” رقم (٦٦١٤)].
[قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
“الْجَنَّةُ الَّتِي أَسْكَنَهَا آدَمَ وَزَوْجَتَهُ ، عِنْدَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ : هِيَ جَنَّةُ الْخُلْدِ ” انتهى من ” مجموع الفتاوى ” (4 /347) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
“الصواب أن الجنة التي أسكنها الله- تعالى – آدم وزوجه هي الجنة التي وعد المتقون ؛ لأن الله – تعالى – يقول لآدم : ( اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ) ، والجنة عند الإطلاق هي جنة الخلد التي في السماء ” . انتهى من ” مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين ” (2 /51) .]
وقوله: (أنْتَ الَّذِي أعْطاهُ اللهُ عِلْمَ كُلِّ شَيْءٍ) قال عياض: عامّ يراد به الخصوص؛ أي: مما علّمك، ويَحْتَمِل مما علمه البشر [«شرح الزرقانيّ على الموطّأ» ٤/ ٣٠٤].
وقوله: (واصْطَفاهُ عَلى النّاسِ بِرِسالَتِهِ)؛ أي: اختاره على أهل زمانه، وقوله: «برسالته» بالإفراد، وقُرئت الآية به، وبالجمع [«شرح الزرقانيّ» ٤/ ٣٠٤].
وقوله: (فَتَلُومُنِي) بتقدير همزة الاستفهام، وفي الرواية الماضية: «أتلومني».
والحديث متّفقٌ عليه.
قال الأتيوبي عفا الله تعالى عنه: قوله: «إضافة الله خلق آدم إلى يده في الآية إضافة تشريف» هكذا قال الحافظ في «الفتح»؛ يعني: أنه من المجاز، لا من الحقيقة، وفيه نظر، بل الحقّ أنه على ظاهره . وكون الإضافة حقيقية يستفاد منها مع إثبات اليد تشريف آدم – عليه السلام- وذريته، حيث خلقه الله -عزوجل – بيده، فتبصّر، والله -عزوجل – الهادي إلى سواء السبيل.
وفي الحديث( فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ أَبُوكُمْ آدَمُ فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُونَ يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ وَأَسْكَنَكَ الْجَنَّةَ أَلَا تَشْفَعُ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ وَمَا بَلَغَنَا فَيَقُولُ رَبِّي غَضِبَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَا يَغْضَبُ بَعْدَهُ مِثْلَهُ وَنَهَانِي عَنْ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُهُ نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ …) الحديث ، رواه البخاري (3340) ومسلم (194) .
قال الإمام الدارمي رحمه الله : ” وولي خلق آدم بيده مسيسا ، لم يخلق ذا روح بيديه غيره ، فلذلك خصه وفضله وشرف بذلك ذكره ” انتهى من “نقض الدرامي على المريسي” ص 64
وروى الدرامي واللالكائي والآجري وغيرهم بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنه قال : ( خلق الله أربعة أشياء بيده : العرش والقلم وعدن وآدم ، ثم قال لسائر الخلق : كن فكان ).
وروى الدارمي بسند حسن عن ميسرة أبي صالح مولى كندة ، أحد التابعين أنه قال: ( إن الله لم يمس شيئا من خلقه غير ثلاث : خلق آدم بيده ، وكتب التوراة بيده ، وغرس جنة عدن بيده ). “نقض الدارمي” ص 99، وقال محققه الشيخ منصور السماري في مقدمته : ” وقد روي عن غيره من التابعين مثل حكيم بن جابر ، ومحمد بن كعب القرظي بأسانيد صحيحة ذكرتها عند التعليق على الأثر في موضعه من الكتاب “.
فهذه أربعة أشياء خلقها الله بيده : العرش والقلم وجنة عدن وآدم ، وأما سائر الخلق ، فهم مخلوقون بالكلمة ( كن) فكانوا].
[قال ابن القيم رحمه الله في كتاب “الروح” :
” المسألة السابعة عشرة : وهي هل الروح قديمة أو محدثة مخلوقة ؟
ثم قال : فهذه مسألة زل فيها عالَمٌ ، وضل فيها طوائف من بنى آدم ، وهدى الله أتباع رسوله فيها للحق المبين ، والصواب المستبين ، فأجمعت الرسل صلوات الله وسلامه عليهم على أنها محدثة مخلوقة مصنوعة مربوبة مدبَّرة ، هذا معلوم بالاضطرار من دين الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ، كما يعلم بالاضطرار من دينهم أن العالم حادث ، وأن معاد الأبدان واقع ، وأن الله وحده الخالق وكل ما سواه مخلوق له ” ثم نقل عن الحافظ محمد بن نصر المروزي قوله : ” ولا خلاف بين المسلمين أن الأرواح التي في آدم وبنيه وعيسى ومن سواه من بنى آدم كلها مخلوقة لله ، خلقها وأنشأها وكونها واخترعها ثم أضافها إلى نفسه كما أضاف إليه سائر خلقه قال تعالى: ( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ) الجاثـية/13 “. انتهى من “الروح” (ص144) .
[إشكال]
قال ابن كثير رحمه الله :
” فقوله في الآية والحديث : ( وَرُوحٌ مِنْهُ ) كقوله : ( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ) أي من خلقه ومِنْ عنده ، وليست (مِنْ) للتبعيض كما تقوله النصارى عليهم لعائن الله المتتابعة ، بل هي لابتداء الغاية كما في الآية الأخرى ، وقد قال مجاهد في قوله : (وروح منه) أي ورسول منه ، وقال غيره : ومحبة منه ، والأظهر الأول ، وهو أنه مخلوق من روح مخلوقة . وأضيفت الروح إلى الله على وجه التشريف ، كما أضيفت الناقة والبيت إلى الله في قوله : ( هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ ) الأعراف/73 ، وفي قوله : ( وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ ) الحج/26 . وكما روي في الحديث الصحيح : ( فأدخل على ربي في داره ) أضافها إليه إضافة تشريف ، وهذا كله من قبيل واحد ونمط واحد ” انتهى من “تفسير ابن كثير” (1/784) .
وقال الألوسي رحمه الله:
حكي أن طبيبا نصرانيا حاذقا للرشيد ناظر على بن الحسين الواقدى المروزى ذات يوم فقال له : إن في كتابكم ما يدل على أن عيسى عليه السلام جزء منه تعالى ، وتلا هذه الآية : ( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ) فقرأ الواقدي قوله تعالى : ( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ) الجاثـية/13 . فقال : إذاً يلزم أن يكون جميع الأشياء جزءاً منه سبحانه وتعالى علوا كبيرا ، فانقطع النصراني فأسلم ، وفرح الرشيد فرحا شديدا ” .
وقال رحمه الله :
“لا حجة للنصارى على شيء مما زعموا في تشريف عيسى عليه السلام بنسبة الروح إليه ؛ إذ لغيره عليه السلام مشاركة له في ذلك ، ففي إنجيل لوقا : قال يسوع لتلاميذه : إن أباكم السماوي يعطي روح القدس الذين يسألونه.
وفى إنجيل متى : إن يوحنا المعمداني امتلأ من روح القدس وهو في بطن أمه .
وفى التوراة : قال الله تعالى لموسى عليه السلام : اختر سبعين من قومك حتى أفيض عليهم من الروح التي عليك.
وفيها في حق يوسف عليه السلام : يقول الملك : هل رأيتم مثل هذا الفتى الذي روح الله تعالى عز وجل حال فيه .
وفيها أيضا : إن روح الله تعالى حلت على دانيال . . . إلى غير ذلك ” انتهى من “روح المعاني” (6/25)].
وقوله: (ونَفَخَ فِيكَ مِن رُوحِهِ) قال في «الفتح»: «من» زائدة على رأي، والنفخ بمعنى الخلق؛ أي: خلق فيك الروح. انتهى [«الفتح» ١٥/ ٢٣٤ – ٢٣٥].
وقوله: (وأسْجَدَ لَكَ مَلائِكَتَهُ)؛ أي: أمرهم بالسجود لك، فسجدوا له،
قال قتادة: فكانت الطاعة لله، والسجدة لآدم، أكرم الله آدم أن أسْجَدَ له ملائكته، وقال بعضهم: كان هذا سجود تحيّة، وسلام، وإكرام، كما قال تعالى: ﴿ورَفَعَ أبَوَيْهِ عَلى العَرْشِ وخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾ [يوسف ١٠٠]، وقد كان
هذا مشروعًا في الأمم الماضية، ولكنه نُسخ في ملّتنا، ذكره الإمام ابن كثير -رحمه الله- في «تفسيره» [راجع: «مختصر أحمد شاكر» ١/ ١٠٣].
وقوله: (وأعْطاكَ الألواحَ فِيها تِبْيانُ كُلِّ شَيْءٍ) قال ابن جرير -رحمه -: قوله:
﴿مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الحجر ١٩] يقول: من التذكير، والتنبيه على عظمة الله، وعز
سلطانه، ﴿مَوْعِظَةٌ﴾ [البقرة ٢٧٥] لقومه، ومِن أمْر بالعمل بما كُتب في الألواح،
﴿وتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام ١٥٤] يقول: وتبيينًا لكل شيء، من أمر الله،
ونهيه. انتهى [«تفسير الطبريّ» ٩/ ٥٧].
وقوله: (وقَرَّبَكَ نَجِيًّا)؛ أي: حال كونه مناجيًا، قيل: حتى سَمِع صريف
القلم، حين كُتب له في الألواح، قاله في «العمدة» [«عمدة القاري» ١٥/ ٢٨٤].
وقال المناويّ: النجيّ: المناجي الواحد، وهو الذي يخاطِب الإنسان،
ويحدّثه سرًّا. انتهى [«فيض القدير» ١/ ١٠٩].
وقال المناويّ: «بخمسين ألف سنة» معناه طول الأمد، وتكثير ما بين
الخلق والتقدير من المُدَد، لا التحديد؛ إذ لم يكن قبل السموات والأرض سنة
ولا شهر، فلا تدافع بينه وبين خبر الألفين.
وقال البيضاويّ: أو تقديره ببرهة من الدهر الذي يوم فيه كألف سنة مما
تعدُّون، أو من الزمان نفسه. انتهى [«فيض القدير» ٤/ ٥٤٨].
قال الأتيوبي عفا الله عنه: ما قاله البيضاويّ هو الحقّ، وأما قول المناويّ: معناه طول المدّة لا التحديد فليس بشييء، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وقال القرطبيّ -رحمه الله-: قوله: «كتب الله مقادير الخلائق إلخ»؛ أي: أثبتها
في اللوح المحفوظ، أو فيما شاء، فهو توقيت للكَتْب، لا للمقادير؛ لأنّها
راجعة إلى علم الله تعالى، وإرادته، وذلك قديم، لا أول له، ويستحيل عليه
تقديره بالزمان؛ إذ الحقّ -عزوجل بصفاته موجود، ولا زمان، ولا مكان، وهذه
الخمسون ألف سنة سنون تقديرية؛ إذ قبل خلق السموات لا يتحقق وجود
الزمان؛ فإنّ الزمان الذى يعبّر عنه بالسنين، والأيام، والليالي إنما هو راجع
إلى أعداد حركات الأفلاك، وسَيْر الشمس، والقمر في المنازل، والبروج السماوية، فقبل السموات لا يوجد ذلك، وإنما يرجع ذلك إلى مدّة في علم الله تعالى، لو كانت السموات موجودة فيها لعُدِّدت بذلك العدد، وهذا نحو مما
قاله المفسرون في قوله تعالى: ﴿خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ فِي سِتَّةِ أيّامٍ﴾ [الأعراف ٥٤]؛ أي: في مقدار ستة أيام، ثم هذه الأيام كل يوم منها مقدار ألف سنة من سِنِي الدنيا، كما قال تعالى: ﴿وإنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَألْفِ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ﴾ [الحج ٤٧]، وكقوله: ﴿فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ ألْفَ سَنَةٍ﴾ [السجدة ٥]، هذا قول ابن عباس وغيره من سلف المفسرين على ما رواه الطبريّ في »تاريخه«عنهم.
ويَحْتَمِل أن يكون ذِكر الخمسين ألفًا جاء مجيء الإغياء في التكثير، ولم يُرِدْ عين ذلك العدد، فكأنه قال: كتب الله مقادير الخلائق قبل خلق هذا العالم
بآماد كثيرة، وأزمان عديدة، وهذا نحو مما قلناه في قوله تعالى: ﴿إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾ [التوبة ٨٠]، والأول أظهر، وأولى. انتهى
كلام القرطبيّ -رحمه الله- [ «المفهم» ٦/ ٦٦٨ – ٦٦٩]، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
(قالَ) – ﷺ -: (وعَرْشُهُ عَلى الماءِ») المعنى: كان عرشه قبل أن يخلق السموات والأرض على وجه الماء، وفيه إشارة إلى أن الماء والعرش كانا مبدأ هذا العالم؛ لكونهما خُلقا قبل خلق السماوات والأرض، وقد روى أحمد،
والترمذيّ، وصححه من حديث أبي رَزِين العُقيليّ مرفوعًا: أن الماء خُلق قبل
العرش. وروى السّدّيّ في «تفسيره» بأسانيد متعددة: أن الله لم يخلق شيئًا مما
خلق قبل الماء، وأما حديث: «أول ما خلق الله القلم»، فيُجمع بينه وبين ما
قبله بأن أولية القلم بالنسبة إلى ما عدا الماء والعرش، أو بالنسبة إلى ما منه
صدر من الكتابة؛ أي: أنه قيل له: اكتب أول ما خلق، وأما حديث: «أول ما
خلق الله العقل» فليس له طريق ثابت، وعلى تقدير ثبوته، فهذا التقدير الأخير
هو تأويله، واختُلف في أيهما خُلق أولًا، العرش، أو القلم؟ والأكثر على سَبْق
خلق العرش، واختار ابن جرير، ومن تبعه الثان. انتهى، أفاده في «الفتح» [«مرعاة المفاتيح» ١/ ٤٥٠]،
والله تعالى أعلم.
فوائد الباب:
١ – (منها): بيان إثبات القدر، ووجوب الإيمان به.
قال الراجحي في ذكره لفوائد الحديث :
فيه: أن الله سبحانه وتعالى علم الأشياء في الأزل قبل كونها، وأنه تعالى كتب مقادير الخلائق كلها، كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: ((كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ)).
فالمقادير عَلِمَها الله في الأزل قبل أن تكون، ثم كتبها في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فلا بد من الإيمان بهذا، وأن الله كتب أرزاق العباد وآجالهم وأعمالهم وسعادتهم وشقاوتهم، وكتب الله ما يكون من أفعال العباد، وصفاتهم، وذواتهم، وحركاتهم، وسكناتهم، كما قال الله تعالى: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها}، وقال سبحانه: {وكل شيء أحصيناه في إمام مبين}، وهو اللوح المحفوظ، وقال سبحانه: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين}.
ومن لم يؤمن بأن الله تعالى عَلِم الأشياء وكتبها في اللوح المحفوظ فليس بمؤمن؛ لهذا كفَّر العلماءُ القدريةَ الأولى الذين يقولون: إن الأمر أُنُف، أي: مستأنف جديد، لم يسبق به علم الله تعالى.
والقدرية: ظهروا في أواخر عهد الصحابة، فتبرأ منهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما- كما تقدم في أول حديث في صحيح مسلم بعد المقدمة- لما جاءه حميد الطويل وصاحبه، واكتنفاه، وسألاه وهو ذاهب إلى الحج، وقالا له: ((يا أبا عبد الرحمن، إنه ظهر قِبَلَنا أناس- يعني: في البصرة- يتقفَّرون العلم- يعني: يطلبون العلم- ويزعمون أن الأمر أُنف- …..
٢ – وفيه: إثبات الكتابة لله، وأنها صفة من صفاته، كما يليق بجلاله؛ لهذا قال: ((كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ))، وجاء في الحديث: ((أَنْتَ مُوسَى اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلَامِهِ، وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ))
٣- وفيه أيضا: إثبات صفة اليد لله كما يليق بجلاله، وقد جانب النووي الصواب بتأويل صفة اليد.
٤ – وفيه: إثبات فضائل آدم عليه السلام التي بيَّنها موسى عليه السلام، فقال: ((أَنْتَ آدَمُ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، وَأَسْكَنَكَ فِي جَنَّتِهِ)).
٥ – وفيه: فضائل موسى عليه السلام التي بيَّنها آدم عليه السلام، فقال: ((أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلَامِهِ))
٦- وفيه: إثبات صفة الكلام لله سبحانه، ((وَأَعْطَاكَ الْأَلْوَاحَ فِيهَا تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ))، يعني: تبيانًا لكل شيء يُحتاج له من أحكام التوراة؛ وإلا فإن موسى عليه السلام خفي عليه بعض العلم، ورحل إلى الخضر يتعلم منه، وقال له: {هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدًا}، وأما قول الله تعالى- عن القرآن الكريم-: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء}: فالمراد: أنه تبيان لكل شيء بالإجمال، وما أُجمل في القرآن فُصِّل في السنة، وما لم يُذكر في القرآن ذُكر في السنة، والقرآن أمر بالأخذ بالسنة، قال تعالى: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول} وقال: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}.
هذه الفوائد الستة من كتاب
«توفيق الرب المنعم بشرح صحيح الإمام مسلم» (7/ 439)للراجحي
٧ – (ومنها): ما قاله القاضي عياض – رحمه الله -: ففيه حجة لأهل السُّنَّة في أن الجَنَّة التي أُخرج منها آدم هي جنة الخلد التي وُعد المتقون، ويدخلونها في الآخرة، خلافًا لمن قال من المعتزلة وغيرهم: إنها جنة أخري، ومنهم من زاد على ذلك، فزعم: أنّها كانت في الأرض.
٨ – (ومنها): أنّ فيه إطلاقَ العموم، وارادة الخصوص في قوله: «أعطاك علم كلّ شيء»، والمراد به: كتابه المنزَل عليه، وكل شيء يتعلق به، وليس المراد عمومه؛ لأنه قد أقر الخضرَ على قوله: «وإني على عِلم من عِلم الله لا تعلمه أنت».
٩ – (ومنها): أن فيه مشروعية الحُجَج في المناظرة؛ لإظهار طلب الحق، وإباحة التوبيخ والتعريض في أثناء الحِجاج؛ ليتوصل إلى ظهور الحجة.
١٠ – (ومنها): أنه فيه دلالةً على أنّ اللوم على من أيقن، وعَلِم أشدُّ من اللوم على من لَمْ يحصل له ذلك.
١١ – (ومنها): أن فيه مناظرةَ العالم من هو أكبر منه، والابن أباه، ومحل مشروعية ذلك إذا كان لإظهار الحق، أو الازدياد من العلم، والوقوف على حقائق الأمور.
١٢ – (ومنها): أن فيه حجةً لأهل السُّنَّة في إثبات القدر، وخلق أفعال العباد.
١٤ – (ومنها): أن فيه استعمالَ التعريض بصيغة المدح، يؤخذ ذلك من
قول آدم لموسى: «أنت الذي اصطفاك الله برسالته …» إلى آخر ما خاطبه به،
وذلك أنه أشار بذلك إلى أنه اظلع على عُذره، وعرفه بالوحي، فلو استحضر
ذلك ما لامه، مع وضوح عذره، وأيضًأ ففيه إشارة إلى شيء آخر أعم من
ذلك، وإن كان لموسى فيه اختصاص، فكأنه قال: لو لَمْ يقع إخراجي الذي
رُتِّب على أكلي من الشجرة ما حصلت لك هذه المناقب؛ لأني لو بقِيتُ في
الجَنَّة، واستمرّ نسلي فيها ما وُجِد مَن تجاهَرَ بالكفر الشنيع بما جاهر به
فرعون، حتى أُرسلت أنت إليه، وأُعطيتَ ما أُعطيتَ، فماذا كنتُ أنا السبب في
حصول هذه الفضائل لك، فكيف يسوغ لك أن تلومني؟
١٥ – (ومنها): ما قاله الطيبي – رحمه الله-: (اعلم): أن هذه القصّة تشتمل على معاني محرّرة لدعوى آدم – عليه الصلاةوالسلام -، مقرّرةً لحجّته:
منها: أن هذه المحاجّة لَمْ تكن في عالم الأسباب الذي لَمْ يجوز فيه قَطْع النظر عن الوسائط والاكتساب، وإنما كانت في العالم العلويّ عند مُلتقى الأرواح.
ومنها: أن اللائمة كانت بعد سقوط الذَّنْب، ووجوب المغفرة.
قوله: «فحجّ آدم موسى» بعد
افتتاحه، وبيانه بقوله: «قال موسى: أنت آدم» إلى آخر الحديث مجملًا أوّلًا،
ومفصّلًا ثانيًا، ومُعيدًا له ثالثًا؛ تنبيهًا على أنّ بعض أمته، من المعزلة يُنْكر حديث القدر، فاهتم لذلك، وبالغ في الإرشاد [«الكاشف عن حقائق السنن» ٢/ ٥٣٢ – ٥٣٣]. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله تعالى، والله تعالى أعلم.
[البحر المحيط الثجاج، بتصرف يسير، مع بعض الإضافة].
قال الراجحي : حجة آدم على موسى كان لأمرين : أن موسى لامه على المصيبه
التي لحقته، وهي الإخراج من الجنة والإهباط إلى الأرض، فاحتج آدمُ بالقدر، وقال: إن هذا مكتوب عليَّ؛ فلذلك غلبه بالحجة، والاحتجاج على المصائب بالقدر لا بأس به، وإنما الممنوع الاحتجاج بالذنب على القدر، وهذا معنى قول أهل العلم: الاحتجاج بالقدر على المصائب، لا على المعائب.
الأمر الثاني: أن موسى عليه السلام لامَ آدم عليه السلام على الذنب، فاحتج آدم عليه السلام بأنه قد تاب من الذنب، ومن تاب من الذنب لا يُلام، قال تعالى: {وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى} وموسى عليه الصلاة والسلام صدرت منه خطيئة القتل قبل النبوة، وعيَّره فرعون، وقال: {وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين قال فعلتها إذا وأنا من الضالين}، وهذا قبل النبوة، والأنبياء معصومون من الشرك ومن الكبائر، ومن الخطأ في تبليغ رسالات ربهم، لكن الصغائر قد تقع، ومنه: قوله تعالى: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات}، وقوله تعالى: {إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} وقال- في آدم عليه السلام-: {وعصى آدم ربه فغوى}، وقال- في موسى-: {قال ربي إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم}.
وقوله: ((وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ))، أي: لما كتبت المقادير كان العرش على الماء؛ إذ العرش والماء مخلوقان قبل المقادير، ثم بعد المقادير بخمسين ألف سنة خلق الله السماوات والأرض، ثم بعد ذلك خلق الله تبارك وتعالى الجن، ثم خلق بني آدم. انتهى من شرحه على مسلم
ثانيًا: ملحقات:
(المسألة الأولى): فيما قاله أهل العلم في هذا الحديث من المباحث المفيدة المكمّلة لِما سبق من الفوائد:
قال الإمام أبو عمر بن عبد البر – رحمه الله -: هذا الحديث أصل جسيم لأهل الحق في إثبات القدر، وأن الله قضى أعمال العباد، فكل أحد يصير لِما قُدِّر له بما سبق في علم الله، قال: وليس فيه حجة للجبرية، وإن كان في بادئ الرأي يساعدهم.
قال الأتيوبي:
مذهب الجبرية إثبات التقدير لله تعالي،
ونفي القدرة عن العبد أصلًا، ومذهب المعتزلة بخلافه، وكلا الفريقين من الإفراط والتفريط على شفا جُرُف هابي، والطريق المستقيم القصد بين الأمرين، كما هو مذهب أهل السُّنَّة .انتهى
وقال القرطبي –رحمه الله-: إنما غلبه بالحجة؛ لأنه عَلِم من التوراة أن الله تاب عليه .
(المسألة الثانية): قد أنكر القدرية هذا الحديث؛ لأنه صريح في إثبات القدر السابق
الجواب على شبهتهم من أوجه :
أحدها]: أن آدم إنما احتج بالقدر على المعصية، لا المخالفة، فإن محصّل لوم موسى إنما هو على الإخراج، فكأنه قال: أنا لم أخرجكم، وإنما أخرجكم الذي رَتَّبَ الإخراج على الأكل من الشجرة، والذي رتَّب ذلك قَدَّرَه قبل أن أُخلق، فكيف تلومني على أمر ليس لي فيه نسبة إلا الأكل من الشجرة؟
والإخراج المرتب عليها ليس من فعلي.
وهذا الجواب لا يدفع شبهة الجبرية.
[ثانيها]: إنما حكم النبي – ﷺ – لآدم بالحجة في معنى خاص، وذلك لأنه لو كانت في المعنى العام لَما تقدم من الله تعالى لومه بقوله: ﴿ألَمْ أنْهَكُما عَنْ تِلْكُما الشَّجَرَةِ﴾ [الأعراف ٢٢]، ولا واخذه بذلك، حتى أخرجه من الجنة، وأهبطه إلى الأرض
[ثالثها]: قال ابن عبد البر: هذا عندي مخصوص بآدم؛ لأن المناظرة بينهما وقعت بعد أن تاب الله على آدم قطعًا، كما قال تعالى: ﴿فَتَلَقّى آدَمُ مِن رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة ٣٧]، فحسُن منه أن ينكر على موسى لومه على الأكل من الشجرة»؛ لأنه كان قد تيب عليه من ذلك، وإلا فلا يجوز لأحد أن يقول لمن
لامه على ارتكاب معصية، كما لو قتل، أو زنى، أو سرق: هذا سَبَق في علم الله
وقدّره عليّ قبل أن يخلقني، فليس لك أن تلومني عليه، فإن الأمة أجمعت على
جواز لوم من وقع منه ذلك، بل على استحباب ذلك، كما أجمعوا على استحباب محمدة من واظب على الطاعة، قال: وقد حَكى ابنُ وهب في «كتاب القدر» عن مالك، عن يحيى بن سعيد: أن ذلك كان من آدم بعد أن تيب عليه.
[رابعها]: إنما توجهت الحجة لآدم؛ لأن موسى لامه بعد أن مات، واللوم إنما يتوجه على المكلف ما دام في دار التكليف، فإن الأحكام حينئذ جارية عليهم، فيلام العاصي، ويقام عليه الحد والقصاص، وغير ذلك، وأما بعد أن يموت، فقد ثبت النهي عن سَبّ الأموات، «ولا تذكروا موتاكم إلا بخير»؛ لأن مرجع أمرهم إلى الله، وقد ثبت أنه لا يُثني العقوبة على من أقيم عليه الحد، بل ورد النهي عن التثريب على الأمَة إذا زنت، وأقيم عليها الحد، وإذا كان كذلك، فلوم موسى لآدم إنما وقع بعد انتقاله عن دار التكليف، وثبت أن الله تاب عليه، فسقط عنه اللوم، فلذلك عَدَل إلى الاحتجاج بالقدر السابق، وأخبر النبي – ﷺ – بأنه غلب موسى بالحجة.
قال المازريّ: لَمّا تاب الله على آدم، صار ذِكر ما صَدَرَ منه إنما هو كالبحث عن السبب الذي دعاه إلى ذلك، فأخبر هو أن الأصل في ذلك القضاء السابق، فلذلك غلب بالحجة.
قال الداودي فيما نقله ابن التين: إنما قامت حجة آدم – عليه السلام -؛ لأن الله خلقه ليجعله في الأرض خليفة، فلم يَحتَجّ آدم في أكله من الشجرة بسابق العلم؛ لأنه كان عن اختيار منه، وإنما احتج بالقدر لخروجه؛ لأنه لم يكن بُدٌّ من ذلك.؟
وفي الجملة فأصحّ الأجوبة الثاني والثالث، ولا تنافي بينهما، فيمكن أن
يمتزج منهما جواب واحد، وهو أن التائب لا يُلام على ما تِيب عليه منه، ولا
سيما إذا انتقل عن دار التكليف، وقد سلك النووي هذا المسلك،
و الفرق أن هذا العاصي باق في دار التكليف، جارية عليه الأحكام، من العقوبة واللوم، وفي ذلك له ولغيره زجرٌ وعظةٌ، فأما آدم فميت [راجع: «الفتح» ١١/ ٦٢٢ – ٦٣٤].
وذهب شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله تعالى إلى ان احتجاج آدم على موسى – عليه السلام – كان في المصائب، لا في الذنوب، قال: وقد ظنّ قوم أن آدم
احتجّ بالقدر السابق على نفي الملام على الذنب، ثم صاروا لأجل هذا الظنّ
ثلاثة أحزاب:
(فريق): كذّبوا بهذا الحديث، كأبي عليّ الجبّائيّ وغيره؛ لأنه يحب تنزيه الأنبياء أن يَجعلوا القدر حجة لمن عصى الله تعالى ورسوله – ﷺ -.
(وفريق): تأوّلوه بتأويلات معلومة الفساد، كقول بعضهم: إنما حَجَّه لأنه
كان أباه، والابن لا يلوم أباه. وقول بعضهم: لأن الذنب كان في شريعة،
واللوم في أخرى. وقول بعضهم: لأن الملام كان بعد التوبة. وقول بعضهم:
لأن هذا تختلف فيه دار الدنيا ودار الآخرة.
(وفريق ثالث) جعلوه عمدة في سقوط الملام عن المخالف لأمر الله -عزوجل –
ورسوله – ﷺ -، ثم لم يمكنهم طَرْد ذلك، فلا بدّ في نفس معاشهم في الدنيا أن
يلام من فعل ما يضرّ نفسه وغيره، لكن منهم من صار يحتجّ بهذا عند أهوائه
وأغراضه، لا عند عند أهواء غيره، كما قيل في مثل هذا: أنت عند الطاعة
قدريّ، وعند المعصية جبريّ؛ أي: أيّ مذهب وافق هواك تمذهبت به،
فالواحد من هؤلاء إذا أذنب أخذ يحتجّ بالقدر، ولو أذنب غيره، أو ظلمه لم
يعذُره، وهؤلاء ظالمون مُعْتَدُون.
ومنهم من يقول: هذا في حقّ أهل الحقيقة الذين شهدوا توحيد الربوبيّة،
ونفوا عما سوى الله، فيرون أن لا فاعل إلا الله، فهؤلاء لا يستحسنون حسنةً، ولا يستقبحون سيّئةً، فمنهم لا يرون لمخلوق فعلًا، بل لا يرون فاعلًا إلا الله،
بخلاف من شهد لنفسه فعلًا، فإنه يُذَمُّ ويُعاقَب، وهذا قول كثير من متأخري
الصوفيّة المدّعين للحقيقة، وقد يجعلون هذا نهاية التحقيق، وغاية العرفان
والتوحيد، وهذا قول طائفة من أهل العلم.
قال: وممن يُشبه هؤلاء كثير من الفلاسفة، كقول ابن سينا بأن يشهد سرّ
القدر، والرازيّ يقرّر ذلك؛ لأنه كان جبريًّا محضًا.
وفي الجملة فهذا المعنى دائر في نفوس كثير من أهل العلم والعبادة،
فضلًا عن العامّة، وهو مناقض لدين الإسلام.
قال: إذا عرفت هذا، فنقول: الصواب في قصّة آدم وموسى -عليهما الصلاة والسلام- أن
موسى لم يَلُم آدم إلا من جهة المصيبة التي أصابته وذريّته بما فعل، لا لأجل
أن تارك الأمر مذنبٌ عاص، ولهذا قال: «لما أخرجتنا ونفسك من الجنّة؟»،
ولم يقل: لماذا خالفت الأمر، ولماذا عصيت؟ إلى آخر كلامه -رحمه الله- [راجع: «مجموع الفتاوى» ٨/ ٣٠٣ – ٣٣٦].
قال الأتيوبي عفا الله تعالى عنه: هذا الذي صوّبه شيخ الإسلام -رحمه – من أن لوم موسى لآدم -عليهما الصلاة والسلام- على المصيبة، لا على الذنب هو الذي يترجّح عندي؛ لوضوح حجته، كما فصّله -رحمه – تفصيلًا حسنًا، وحققه تحقيقًا بليغًا، فراجعه تستفد.
ثم رأيت ابن أبي العزّ شارح «العقيدة الطحاويّة» -رحمه الله- ذكر نحو ما سبق عن ابن تيميّة -رحمه الله – فقال:احتجّ آدم – عليه الصلاةوالسلام بالقدر على المصيبة، لا على
الخطيئة، فإن القدر يُحتجّ به عند المصائب، لا عند المعايب. انتهى كلام ابن أبي العزّ -رحمه الله – [«شرح العقيدة الطحاويّة» ١/ ١٣٦، نشر مؤسّسة الرسالة]، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم. [البحر المحيط]
(المسألة الثانية): الفتاوى
قال ابن باز :
الإنسان مسير ومخير جميعا، له الوصفان فهو مخير؛ لأن الله أعطاه عقلا وأعطاه مشيئة، وأعطاه إرادة يتصرف بها، فيختار النافع ويدعو الله، يختار الخير ويدع الشر، يختار ما ينفعه، ويدع ما يضره، كما قال تعالى: ﴿لِمَن شاءَ مِنكُمْ أنْ يَسْتَقِيمَ﴾، ﴿وما تَشاءُونَ إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ العالَمِينَ﴾ ، … وقال سبحانه: ﴿ما أصابَ مِن مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ ولا فِي أنْفُسِكُمْ إلّا فِي كِتابٍ مِن قَبْلِ أنْ نَبْرَأها﴾ وذكر أحاديث الباب .[فتاوى نور على الدرب لابن باز بعناية الشويعر ].
[كيف دخل إبليس الجنة وأخرج آدم وحواء منها؟
هذه المسألة للناس فيها كلام والجواب عنها أن يقال الله أعلم، المقصود أنه وسوس بالطريقة التي يعلمها الله…. الموقع الرسمي: للإمام ابن باز رحمه الله].
قال ابن باز :
– تفسير قوله تعالى: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أيْدِيهِمْ﴾
نعتقد في إثبات صفة اليد لله تبارك وتعالى وغيرها في الصفات التي وصف الله بها نفسه في كتابه العزيز، أو وصفه بها رسوله محمد – ﷺ – في سنته المطهرة هو: إثباتها لله تبارك وتعالى إثباتا حقيقيا على ما يليق بجلال الله سبحانه من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل. ونؤمن بأن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فلا ننفي عنه ما وصف به نفسه ولا نحرف الكلم عن مواضعه، ولا نكيف ولا نمثل صفاته بصفات خلقه؛ لأنه سبحانه لا سمي له ولا كفؤ له ولا ند له ولا يقاس بخلقه . فكما أن له سبحانه ذاتا حقيقية لا تشبه ذوات خلقه فكذلك له صفات حقيقية لا تشبه صفات خلقه، ولا يلزم من إثبات الصفة للخالق سبحانه. مشابهتها لصفة المخلوق، وهذا هو مذهب سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومن سار على نهجهم في القرون الثلاثة المفضلة، ومن سلك سبيلهم من الخلف إلى يومنا هذا. قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه -: حكى غير واحد إجماع السلف أن صفات الباري جل وعلا تجري على ظاهرها مع نفي الكيفية والتشبيه عنه، وذلك أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات يحتذى حذوه ويتبع فيه مثاله، فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية، فنقول: إن لله سبحانه يدا وعينا، ولا نقول: إن معنى اليد القدرة، ومعنى السمع العلم، ثم استدل رحمه الله على إثبات صفة اليد لله سبحانه من القرآن بقول الله سبحانه: ﴿وقالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أيْدِيهِمْ ولُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ﴾، وقال تعالى لإبليس: ﴿ما مَنَعَكَ أنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ وقال سبحانه: ﴿وما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ والأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيامَةِ والسَّماواتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ وقال تعالى: ﴿تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ﴾ وقال تعالى: ﴿بِيَدِكَ الخَيْرُ إنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ثم قال رحمه الله تعالى: فالمفهوم من هذا الكلام أن لله تعالى يدين مختصتين به ذاتيتين له كما يليق بجلاله، وأنه سبحانه خلق آدم بيده دون الملائكة وإبليس، وأنه سبحانه يقبض الأرض ويطوي السماوات بيده اليمنى وأن يديه مبسوطتان، ومعنى بسطهما: بذل الجود وسعة العطاء؛ لأن الإعطاء والجود في الغالب يكون ببسط اليد ومدها، وتركه يكون ضما لليد إلى العنق، كما قال تعالى: ﴿ولا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ ولا تَبْسُطْها كُلَّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا﴾ وصار من الحقائق العرفية أنه إذا قيل: هو مبسوط اليد
فهم منه يد حقيقية، وقال رحمه الله تعالى: “إن لفظ اليدين بصيغة التثنية لم يستعمل في النعمة ولا في القدرة؛ لأن استعمال لفظ الواحد في الاثنين أو الاثنين في الواحد لا أصل له في لغة العرب التي نزل بها القرآن، فقوله: ﴿لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ لا يجوز أن يراد به القدرة؛ لأن القدرة صفة واحدة، ولا يجوز أن يعبر بالاثنين عن الواحد، ولا يجوز أن يراد به النعمة؛ لأن نعم الله لا تحصى؛ فلا يجوز أن يعبر عن النعم التي لا تحصى بصيغة التثنية. ثم استدل رحمه الله تعالى على إثبات صفة اليد لله سبحانه من السنة بقوله – ﷺ -: «المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا ». رواه مسلم، وقوله – ﷺ -: «يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه، والقسط بيده الأخرى يرفع ويخفض إلى يوم القيامة ».
رواه مسلم، وفي الصحيح أيضا عن أبي سعيد الخدري – ﵁ – عن رسول الله – ﷺ – قال: «تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفؤ أحدكم بيده خبزته في السفر ».
وفي الصحيح أيضا عن ابن عمر – رضي الله عنهما – يحكي رسول الله – ﷺ – قال: «يأخذ الرب عزوجل سماواته وأرضه بيديه، وجعل يقبض يديه ويبسطها، ويقول: أنا الرحمن ». حتى نظرت إلى المنبر يتحرك أسفل منه حتى إني أقول: أساقط هو برسول الله – ﷺ.
وفي رواية أنه «قرأ هذه الآية على المنبر: قال يقول الله: “أنا الله أنا الجبار » وذكره، وفي الصحيح أيضا عن أبي هريرة – رضي الله عنه- قال: قال رسول الله – ﷺ -: «يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض »، وفي حديث صحيح: «أن الله لما خلق آدم قال له: ويداه مقبوضتان اختر أيهما شئت، قال: اخترت يمين ربي وكلتا يدي ربي يمين مباركة، ثم بسطها فإذا فيها آدم وذريته »، وفي الصحيح: «أن الله كتب بيده على نفسه لما خلق الخلق إن رحمتي تغلب غضبي »، وفي الصحيح «أنه لما تحاج آدم وموسى قال آدم: يا موسى، اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده وقد قال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه »، وفي حديث آخر أنه قال سبحانه: «وعزتي وجلالي لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن هريرة – رضي الله عنه- قال: قال رسول الله – ﷺ -: «يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض »، وفي حديث صحيح: «أن الله لما خلق آدم قال له: ويداه مقبوضتان اختر أيهما شئت، قال: اخترت يمين ربي وكلتا يدي ربي يمين مباركة، ثم بسطها فإذا فيها آدم وذريته »، وفي الصحيح: «أن الله كتب بيده على نفسه لما خلق الخلق إن رحمتي تغلب غضبي »، وفي الصحيح «أنه لما تحاج آدم وموسى قال آدم: يا موسى، اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده وقد قال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه »، وفي حديث آخر أنه قال سبحانه: «وعزتي وجلالي لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان ». وفي حديث آخر في السنن: «لما خلق الله آدم ومسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته، فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره بيده الأخرى فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون ». قال شيخ الإسلام – رحمه الله: فهذه الأحاديث وغيرها نصوص قاطعة لا تقبل التأويل، وقد تلقتها الأمة بالقبول والتصديق. ثم قال – رحمه الله تعالى -: فهل يجوز أن يملأ الكتاب والسنة من ذكر اليد، وأن الله تعالى خلق بيده، وأن يديه مبسوطتان، وأن الملك بيده، وفي الحديث ما لا يحصى، ثم إن رسول الله – ﷺ – وأولي الأمر لا يبينون للناس إن هذا الكلام لا يراد به حقيقته ولا ظاهره، حتى ينشأ جهم بن صفوان بعد انقراض عهد الصحابة فيبين للناس ما نزل إليهم على نبيهم، ويتبعه عليه بشر بن غياث ومن سلكوا سبيلهم من كل مغموص عليه بالنفاق، وكيف يجوز أن يعلمنا نبينا – ﷺ – كل شيء حتى (الخرأة) ويقول: «ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا وقد حدثتكم به، تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ». ثم يترك الكتاب المنزل عليه وسنته الغراء مملوءة، مما يزعم الخصم أن ظاهره تشبيه وتجسيم، وأن اعتقاد ظاهره ضلال، وهو لا يبين ذلك ولا يوضحه، وكيف يجوز للسلف أن يقولوا: أمروها كما جاءت. مع أن معناها المجازي هو المراد وهو شيء لا يفهمه العرب حتى يكون أبناء الفرس والروم أعلم بلغة العرب من أبناء المهاجرين والأنصار. اهـ. باختصار من مجموع الفتاوى ج٦ ص٣٥١ إلى ٣٧٣، وبما ذكرنا يتضح للجميع أن ما ذكره الشاب هو الصواب. ونسأل الله أن يهدي الجميع لإصابة الحق في القول والعمل إنه سميع مجيب. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.[ مجموع فتاوى ابن باز- تراث]
فائدة:
وقوله تعالى: (مِن قَبْلِ أنْ نَبْرَأها) أي: من قبل أن نبرأ هذه الخليقة، وذلك كما ثبت عن رسول الله – ﷺ – «أن الله تعالى كتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة» [رواه مسلم/كتاب القدر/باب حجاج آدم موسى برقم (٤٧٩٧)].
إذا علمنا أن هذه المصيبة بتقدير الله فإنه يترتب على هذا العلم شيئان:
الشيء الأول: أن نرضى بهذه المصيبة؛ لأنها بتقدير الله، وكل ما قدره الله فإن الواجب على المؤمن أن يرضى به.
ولا يتم الرضاء بالله ربًا إلا بالرضاء بقضائه وقدره، فحينئذٍ نرضى بهذه المصيبة، ونسلم ونطمئن؛ لأنها من قضاء الله تعالى وقدره، قال علقمة- رحمه الله تعالى- وهو من أكابر أصحاب عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه في قوله تعالى: ( ما أصابَ مِن مُصِيبَةٍ إلّا بِإذْنِ اللَّهِ ومَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ)، قال: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلّم.
الشيء الثاني مما يترتب على هذا: أن نعلم أن الله تعالى لم يقدر هذه المصيبة إلا لحكمة؛ لأنه ما من شيء قدره الله إلا وله حكمة بالغة، قد نعلمها وقد لا نعلمها، ولكننا قد علمنا شيئًا من الحكمة فيما قدره الله عزوجل من هذه المصيبة والكارثة تتبين فيما نذكره فيما بعد.
والدليل على أن كل شيء قضاه الله فإنه لحكمة قوله تعالى: (وما تَشاءُونَ إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيمًا حَكِيمًا)، فلما قال: (إنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) علمنا بأنه لا يشاء شيئًا إلا لحكمة؛ لأنه ﷾ من أسمائه: الحكيم، وهذا الاسم العظيم يقتضى أن كل ما صدر من الله من أمور كونية، أو أمور شرعية، فإنه لحكمة.
والحكمة هي: وضع الشيء في موضعه؛ لأنها مأخوذة من الإحكام وهو: الإتقان، والإتقان لا يكون إلا إذا كان الشيء في موضعه، وكل شيء قدره الله فإنه في موضعه ولا يمكن أن يصلح في
هذا الموضع إلا ما قضاه الله.
وكل شيء شرعه الله من واجب، أو محرم، أو مكروه، أو مستحب، أو مباح فهو في موضعه، فلا يمكن أن يكون غير الواجب في محل الواجب أنسب من الواجب في محله، وهكذا بقية الأحكام.
وكذلك القضاء الكوني لا يمكن أن يحل محله ما هو أوفق منه، وأنفع للعباد في معاشهم ومعادهم.
أما الحكمة من هذه الكارثة:
فنقول أولًا: من الحكمة أن كثيرًا من الناس عادوا إلى الله عزوجل؛ لأنهم علموا أن ما أصابهم فإنه بذنوبهم، فكل ما وقع من المصائب فإنه بسبب الذنوب، والدليل على هذا: قوله تعالى: (وما أصابَكُمْ مِن مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ ويَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)، وقوله تعالى: (ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرِّ والبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أيْدِي النّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا).
وكلمة: الفساد في قوله تعالى: (ظَهَرَ الفَسادُ) كلمة عامة تشمل كل ما يتصور من فساد.
فمثلًا: جدب الأرض، وعدم نباتها، هذا من الفساد.
وفساد البحر بموت الحيتان، وخروجها على الأرض اليابسة وكذلك الأمواج العظيمة التي قد تدمر السفن، وتتلف الأموال، وتهلك النفوس، هذا أيضًا من الفساد.
وإغراق المزارع هذا أيضًا وما أشبهه من الفساد.
أما سبب الفساد فجوابه: في قوله تعالى: (بِما كَسَبَتْ أيْدِى النّاسِ)…. [ مجموع فتاوى ورسائل العثيمين-