265 و 266 عبق الياسمين شرح رياض الصالحين
سلطان الحمادي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
33 – باب ملاطفة اليتيم والبنات وسائر الضَّعَفة والمساكين والمنكسرين والإِحسان إليهم والشفقة عليهم والتواضع معهم وخفض الجناح لهم.
الإسلام كما لا يخفى عليكم، دين رحمة وشفقة، قال تعالى:” وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ، وقد حث الإسلام على الرحمة والشفقة والتواضع، روى أبوداود والترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:” لا تنزع الرحمة إلا من شقي.” (صحيح المشكاة 4968)،
وروى الدولابي و ابن عساكر في تاريخ دمشق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خاب عبد وخسر لم يجعل الله تعالى في قلبه رحمة للبشر” (الصحيحة 456)
و روى الحافظ العراقي في ” المجلس 86 من الأمالي” أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: والذي نفسي بيده لا يضع الله رحمته إلا على رحيم، قالوا: كلنا يرحم، قال: ليس برحمة أحدكم صاحبه، يرحم الناس كافة ” (الصحيحة 167)
وروى أحمد وأبودواد والترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:” الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ” (الصحيحة 95)
و الإسلام رحم البهائم العجماوات، روى البخاري في الأدب المفرد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ” والشاة إن رحمتها رحمك الله” (الصحيحة 26)
وأيضا روى البخاري في الأدب المفرد أن رسول الله عليه وسلم قال:” من رحم ولو ذبيحة عصفور رحمه الله يوم القيامة” (الصحيحة 27)
قوله (باب ملاطفة اليتيم الخ) قال ابن علان في اليتيم:” هو صغير لا أب له. قال ابن السكيت: اليتيم في الناس من قبل الأب وفي البهائم من قبل الأم.” (دليل الفالحين 1/ 457)
روى أبوداود أن علي ابن أبي طالب قال حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:”لاَ يُتْمَ بَعْدَ احْتِلامٍ، وَلا صُمَاتَ يَوْمٍ إِلَى اللَّيْلِ ” (صحيح أبي دواد 2873) وسيأتي شرح هذا الحديث في باب النهي عن صمت يومٍ إلَى الليل.
و روى الطبراني عن أبي الدرداء أتى النبيَّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – رجلٌ يشكو قَسوةَ قلبِهِ. قال:”أتُحِبُّ أنْ يلينَ قلبُك، وتُدرِكَ حاجتَك؟ ارْحَمِ اليتيمَ، وامسَحْ راسه، وأطْعِمْهُ مِنْ طَعامِك؛ يَلِنْ قلبُكْ، وتُدرِكْ حاجتَك”. (حسنه لغيره الألباني في صحيح الترغيب 2544)
قال ابن عثيمين:” ذلك أن دين الإسلام دين الرحمة والعطف والإحسان، وقد حث الله عز وجل على الإحسان في عدة آيات من كتابه، وبين سبحانه وتعالى أنه يحب المحسنين، والذين هم في حاجة إلى الإحسان يكون الإحسان إليهم أفضل وأكمل؛ فمنهم اليتامى. … اليتيم هو الصغير الذي مات أبوه قبل بلوغه وإن كان له أم، وأما من ماتت أمه، وأبوه موجود فليس بيتيم، خلافاً لما يفهمه عوام الناس …. ويسمى يتيماً ليتمه، واليتم هو الانفراد؛ لأن هذا الصغير انفرد عن كاسب، وهو صغير لا يستطيع الكسب. ” (شرح رياض الصالحين 3/ 79)
وقال أيضا:” قد أوصى الله سبحانه وتعالى في عدة آيات باليتامى، وجعل لهم حقاً خاصاً؛ لأن اليتيم قد انكسر قلبه بموت أبيه، فهو محل للعطف والرحمة قال الله عز وجل: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) [النساء: 9]. (شرح رياض الصالحين 3/ 80)
وقوله (البنات) روى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر قال، قال رسول الله صلى عليه وسلم:” لا تكرهوا البنات؛ فإنَّهنَّ المؤنسات الغاليات” (الصحيحة 3206)
قال ابن علان:” (والبنات) أي بنات الإنسان نفسه ومثلهن فيما ذكر بنات غيره والتنصيص عليهن لأن بعض الناس يضجر منهن ويقسو عليهن.” (دليل الفالحين 1/ 458) قال ابن عثيمين:” وكذلك البنات والنساء محل العطف والشفقة والرحمة؛ لأنهن ضعيفات. ضعيفات في العقل، وفي العزيمة، وفي كل شيء فالرجال أقوى من النساء في الأبدان والعقول والأفكار والعزيمة وغير ذلك، ولهذا قال الله عز وجل: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) [النساء: 34].” (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 3/ 80)
(المساكين) قال ابن علان:” أي المحتاجين فالمراد منه ما يشمل الفقراء قال الشافعي رضي الله عنه: الفقير والمسكين إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا” (دليل الفالحين 1/ 458)
(والإحسان إليهم) ببذل الندى أو دفع الأذى أو كلمة طيبة: كأمر بمعروف أو نهي عن منكر أو دعاء لهم قال تعالى: {وأحسنوا إن الله يحب المحسنين}
قال ابن باز:” يجب على أهل الإيمان أن يكونوا متواضعين مع إخوانهم خافضين للجناح ولاسيما مع الفقير، والمسكين، واليتيم، والمريض، ومن به عاهة قد ينفرُ منه الناس أو ما أشبه ذلك، وهكذا من ليس له جماعة تحميه، كل هذا من شأن المؤمنين أن يرفقوا به ويرحموه، ويكونوا قوة له وسندا له ” (شرح رياض الصالحين لابن باز 1/ 530)
قال ابن عثيمين:” واعلم أن الرفق بالضعفاء واليتامى والصغار يجعل في القلب رحمة وليناً وعطفاً وإنابة إلى الله عز وجل، لا يدركها إلا من جرب ذلك، فالذي ينبغي لك أن ترحم الصغار وترحم الأيتام وترحم الفقراء، حتى يكون في قلبك العطف والحنان والرحمة و ((إنما يرحم الله من عباده الرحماء) ” (شرح رياض الصالحين 3/ 89)
أما آيات الباب: قَالَ الله تَعَالَى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر:88] الآية الأولى مرت معنا في الباب 27 – باب تعظيم حُرمات المسلمين وبيان حقوقهم والشفقة عليهم ورحمتهم.
وَقالَ تَعَالَى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:28] والآية الثانية مرت معنا في الباب السابق، لكن هنا زاد ” تريد زينة الحياة الدينا “.
وَقالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ. وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:10،9]
قوله تعالى: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) قال الطبري:” يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ) يا محمد (فَلا تَقْهَرْ) يقول: فلا تظلمه، فتذهب بحقه، استضعافًا منك له.” (جامع البيان 24/ 488)
قال البغوي:” كانت العرب تفعل في أمر اليتامى، تأخذ أموالهم وتظلمهم حقوقهم.” (معالم التنزيل في تفسير القرآن 5/ 269)
قال القرطبي:” وخص اليتيم ; لأنه لا ناصر له غير الله تعالى فغلّظ في أمره، بتغليظ العقوبة على ظالمه … ودلت الآية على اللطف باليتيم، وبره والإحسان إليه حتى قال قتادة: كن لليتيم كالأب الرحيم” (الجامع لأحكام القرآن 20/ 100)
قال ابن تيمية:” قوله {فأما اليتيم فلا تقهر} {وأما السائل فلا تنهر} {وأما بنعمة ربك فحدث} هذا متناول لجميع الأمة” (مجموع الفتاوى 16/ 327)
وهذه قاعدة في التفسير أن الخطاب إذا وجِّه للرسول صلى الله عليه وسلم فإنه موجه للأمة كلها إلا ما دل دليل على الخصوصية.
قال ابن كثير:” قال: (فأما اليتيم فلا تقهر) أي: كما كنت يتيما فآواك الله فلا تقهر اليتيم، أي: لا تذله وتنهره وتهنه، ولكن أحسن إليه، وتلطف به ” (تفسير القرآن العظيم 8/ 413) قال السعدي:” اصنع به كما تحب أن يصنع بولدك من بعدك” (تيسير الكريم الرحمن 1/ 928)
قوله تعالى (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) روى أبودواد والترمذي وغيرهم عن أم بُجيّد رضي الله عنها؛ أنَّها قالت: يا رسول الله! إن المسكينَ لَيَقومُ على بابي فما أجد له شيئاً أعطيه إياه. فقال لها رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إن لم تجدي إلا ظِلْفاً محرقاً، فادفعيه إليه في يده”. (صحيح أبودواد 1667) الظلف: ظفر الشاة، لا يساوي شي.
قال البغوي:” (وأما السائل فلا تنهر) قال المفسرون: يريد السائل على الباب، يقول: لا تنهره لا تزجره إذا سألك، فقد كنت فقيرا فإما أن تطعمه وإما أن ترده ردا لينا، يقال: نهره وانتهره إذا استقبله بكلام يزجره.
وقال قتادة: رد السائل برحمة ولين. قال إبراهيم بن أدهم: نعم القوم السُؤَّال يحملون زادنا إلى الآخرة. وقال إبراهيم: السائل يريد الآخرة يجيء إلى باب أحدكم فيقول: هل توجهون إلى أهليكم بشيء؟ وروي عن الحسن في قوله: ” أما السائل فلا تنهر “، قال: طالب العلم.” (معالم التنزيل في تفسير القرآن 5/ 270)
قال القرطبي:” قوله تعالى: وأما السائل فلا تنهر أي لا تزجره فهو نهي عن إغلاظ القول. ولكن رده ببذل يسير، أو رد جميل، واذكر فقرك … قيل: المراد بالسائل هنا، الذي يسأل عن الدين أي فلا تنهره بالغلظة والجفوة، وأجبه برفق ولين قاله سفيان. قال ابن العربي: وأما السائل عن الدين فجوابه فرض على العالم على الكفاية كإعطاء سائل البر سواء. وقد كان أبو الدرداء ينظر إلى أصحاب الحديث، ويبسط رداءه لهم، ويقول: مرحبا بأحبة رسول الله – صلى الله عليه وسلم –” (الجامع لأحكام القرآن 20/ 101)
قال السعدي:” هذا يدخل فيه السائل للمال، والسائل للعلم، ولهذا كان المعلم مأمورًا بحسن الخلق مع المتعلم، ومباشرته بالإكرام والتحنن عليه، فإن في ذلك معونة له على مقصده، وإكرامًا لمن كان يسعى في نفع العباد والبلاد.” (تيسير الكريم الرحمن 1/ 928)
قال ابن عثيمين:” الذي يتعنت انهره ولا حرج أن تغضب عليه” (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 3/ 86)
وَقالَ تَعَالَى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الما عون:1،3]
(أرأيت) الاستفهام للتعجب من المكذب بالجزاء والبعث. (تطريز ريا ض الصالحين ص194) قال ابن عثيمين:” يقول العلماء: إن معناها أخبرني، يعني أخبرني عن حال هذا الرجل” (شرح رياض الصالحين 3/ 88)
قال الطبري:” يعني تعالى ذكره بقوله: (أرأيت الذي يكذب بالدين) أرأيت يا محمد الذي يكذّب بثواب الله وعقابه, فلا يطيعه في أمره ونهيه”
قال البغوي:” ” يكذب بالدين ” أي بالجزاء والحساب.”، قال السعدي:” فلا يؤمن بما جاءت به الرسل”
قوله تعالى {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ}
قال الطبري:” وقوله: (فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) يقول: فهذا الذي يكذِّب بالدين, هو الذي يدفع اليتيم عن حقه, ويظلمه. يقال منه: دععت فلانًا عن حقه, فأنا أدعه دعًا.
قال البغوي:” الدع: الدفع بالعنف والجفوة” قال القرطبي:” كما قال: يدعون إلى نار جهنم دعا”
قال ابن جزي:” انظر الذي كذب بالدين، تجد فيه هذه الأخلاق القبيحة، والأعمال السيئة، وإنما ذلك لأن الدين يحمل صاحبه على فعل الحسنات. وترك السيئات” (التسهيل لعلوم التنزيل 2/ 516)
قال السعدي:” {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} أي: يدفعه بعنف وشدة، ولا يرحمه لقساوة قلبه، ولأنه لا يرجو ثوابًا، ولا يخشى عقابًا.”
وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ.
قال البغوي:” “ولا يحض على طعام المسكين”، لا يطعمه ولا يأمر بإطعامه، لأنه يكذب بالجزاء.” قال القرطبي:” وليس الذم عاما حتى يتناول من تركه عجزا، ولكنهم كانوا يبخلون ويعتذرون لأنفسهم، ويقولون: أنطعم من لو يشاء الله أطعمه، فنزلت هذه الآية فيهم، وتوجه الذم إليهم. فيكون معنى الكلام: لا يفعلونه إن قدروا، ولا يحثون عليه إن عسروا”
قال ابن علان:” في إضافة الإطعام إلى المسكين دليل على أنه مستحقه” (دليل الفالحين 1/ 459)
قال السعدي:” {وَلَا يَحُضُّ} غيره {عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} ومن باب أولى أنه بنفسه لا يطعم المسكين.”
قال ابن عثيمين:” فحال هذا والعياذ بالله أسوأ حال؛ لأنه لو كان يؤمن بيوم الدين حقيقة لرحم من أوصى الله برحمتهم، وحض على طعام المسكين.” (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 3/ 89)
وقال أيضا:” وفي سورة الفجر يقول الله تعالى: (كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) [الفجر: 17، 18]، وهذه أبلغ مما في سورة الماعون لأنه قال: (لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) وإكرامه أكثر من الوقوف بدون إكرام ولا إهانة، فاليتيم يجب أن يكرم.
وتأمل قوله: (بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) فالمسكين حظه الإطعام ودفع حاجته، أما اليتيم فالإكرام. فإن كان غنياً فإنه يكرمه ليتمه ولا يطعم لغناه، وإن كان فقيراً ـ أي اليتيم ـ فإنه يكرم ليتمه ويطعم لفقره، ولكن أكثر الناس لا يبالون بهذا الشيء. (المصدر السابق)
في هذه الآية أن عدم رحمة اليتيم ومنع إطعام المسكين من صفات الذين يكذبون بالدين.
265 – عن سعد بن أَبي وَقَّاص رضي اللَّه عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم سِتَّةَ نفَر، فَقَالَ المُشْرِكُونَ للنَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: اطْرُدْ هُؤُلاءِ لا يَجْتَرِئُون عليْنا، وكُنْتُ أَنا وابْنُ مسْعُودٍ ورجُل مِنْ هُذَيْلِ وبِلال ورجلانِ لَستُ أُسمِّيهِما، فَوقَعَ في نَفْسِ رَسُول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم مَا شاءَ اللَّه أَن يقعَ فَحَدَّثَ نفْسهُ، فأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُون رَبَّهُمْ بالْغَداةِ والعَشِيِّ يُريدُونَ وجْهَهُ} [الأنعام: 52] رواه مسلم.
(كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم سِتَّةَ نفَر) وهذا في أول الإسلام في مكة؛ لأن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه من السابقين إلى الإسلام؛ أسلم وأسلم معه جماعة. (شرح رياض الصالحين 3/ 90)
(قال المشركون) كان هؤلاء المشركون أشرافَ قومهم، وقيل: كان منهم: عُيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، أنِفُوا من مجالسة ضعفاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (المفهم 6/ 285)
(للنبي: اطرد هؤلاء) قال القرطبي:” استصغارًا لهم، وكِبرًا عليهم، واستقذارًا لهم، فإنهم قالوا: يُؤذوننا بريحهم” (6 المفهم /285) قال ابن علان:” أي الستة المذكورين وكان ذلك أنفة منهم من مجالستهم لاستصغارهم واستقذارهم لاحتقارهم لهم لفقرهم وخمولهم في الدنيا ونسب القول في الحديث للكل لرضاهم به. (دليل الفالحين 1/ 460) يعني تكلم بعض المشركين والبقية راضون.
(فَوقَعَ في نَفْسِ رَسُول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم مَا شاءَ اللَّه أَن يقعَ فَحَدَّثَ نفْسهُ) قال القرطبي:” إنما مال إلى ذلك طمعًا في إسلامهم، وإسلام قومهم، ورأى أن ذلك لا يفوِّتُ أصحابه شيئًا، ولا ينقصُ لهم قدرًا، فمال إليه” (المفهم 6/ 285)
(لا يجترءون) أي لئلا يحصل منهم الجرأة (دليل الفالحين 1/ 460)
وقوله (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) أي: لا تبعد هؤلاء المتصفين بهذه الصفة عنك، بل اجعلهم جلساءك وأخصاءك. (ابن كثير)
قال القرطبي:” وخص الغداة والعشي بالذكر؛ لأن الشغل غالب فيهما على الناس، ومن كان في وقت الشغل مقبلاً على العبادة كان في وقت الفراغ من الشغل أعمل.”
قال السعدي:” هؤلاء ليسوا مستحقين للطرد والإعراض عنهم، بل مستحقون لموالاتهم ومحبتهم، وإدنائهم، وتقريبهم، لأنهم الصفوة من الخلق وإن كانوا فقراء، والأعزاء في الحقيقة وإن كانوا عند الناس أذلاء” (تفسير السعدي)
قال ابن عثيمين:” نهاه الله عز وجل أن يطرد هؤلاء وإن كانوا فقراء، وإن لم يكن لهم قيمة في المجتمع، لكن لهم قيمة عند الله؛ لأنهم يدعون الله بالغداة والعشي، يعني صباحاً ومساءً” (شرح رياض الصالحين 3/ 91)
وفي قوله: (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) تنبيه على الإخلاص وأن الإخلاص له أثر كبير في قبول الأعمال ورفعة العمال عند الله عز وجل، فكلما كان الإنسان في عمله أخلص؛ كان أرضى لله وأكثر لثوابه. (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 3/ 91)
قال القرطبي:” من فوائد الآية والحديث: النهي عن أن يُعظم أحدٌ لجاهه، وأثوابه، وعن أن يحتقر أحد لخموله، ورثاثة أثوابه” (المفهم 6/ 286)
قال ابن عثيمين:” إنما يحمد على الجلوس مع من كان أتقى لله؛ من غني وفقير، وحقير وشريف. فالمدار كله على رضا الله عز وجل، وعلى محبة من أحب الله، وقد ذاق طعم الإيمان من والى من والاه الله، وعادى من عاداه الله، وأحب في الله، وأبغض في الله” (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 3/ 92)
قال الأتيوبي:” أول من يتبع الأنبياء هم الضعفاء، والفقراء، والمساكين، وهو موافق لما في حديث أبي سفيان لما قال له هرقل: “فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقال له: بل ضعفاؤهم، فقال هرقل: وهم أتباع الرسل”، فبين أن من سنة الله تعالى أن يكون أول من يتبعهم هم الضعفاء، وذلك لأنهم لا طمع لهم في الرئاسة، فينقادون للحق، وأما الأشراف، فإن طمعهم في الرئاسة والملك يمنعهم أن يخضعوا للحق؛ لظنهم أن رئاستهم تذهب عنهم، مع أنهم لو أسلموا وانقادوا للحق لزادهم الإسلام شرفا إلى شرفهم، ولكن النفس {لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم} [يوسف: 53]، والله تعالى أعلم. (البحر المحيط الثجاج 38/ 631)
فيه أن الغاية لا تبرر الوسيلة.
266 – وعن أَبي هُبيْرةَ عائِذِ بن عمْرو المزَنِيِّ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ بيْعةِ الرِّضوانِ رضي اللَّه عنه، أَنَّ أَبا سُفْيَانَ أَتَى عَلَى سلْمَانَ وصُهَيْب وبلالٍ في نفَرٍ فقالوا: مَا أَخَذَتْ سُيُوفُ اللَّه مِنْ عدُوِّ اللَّه مَاخَذَهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي اللَّه عنه: أَتَقُولُونَ هَذَا لِشَيْخِ قُريْشٍ وَسيِّدِهِمْ؟ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، فَأَخْبرهُ فَقَالَ: يَا أَبا بَكْر لَعلَّكَ أَغْضَبتَهُم؟ لَئِنْ كُنْتَ أَغْضَبْتَهُمْ لَقَدْ أَغْضَبتَ رَبَّكَ؟ فأَتَاهُمْ فَقَالَ: يَا إِخْوتَاهُ آغْضَبْتُكُمْ؟ قالوا: لاَ، يغْفِرُ اللَّه لَكَ يَا أُخَيَّ. رواه مسلم.
قولُهُ”مَاخَذَهَا”أَيْ: لَمْ تَسْتَوفِ حقَّهَا مِنْهُ. وقولُهُ:”يَا أُخيَّ”رُوِي بفتحِ الهمزةِ وكسرِ الخاءِ وتخفيفِ الياءِ، ورُوِي بضم الهمزة وفتحِ الخاءِ وتشديد الياءِ.
(أَهْلِ بيْعةِ الرِّضوانِ رضي اللَّه عنه) قال ابن علان:” أي من الذين بايعوا النبي بالحديبية تحت الشجرة على أن لا يفرّوا. وفي رواية على الموت وكانوا ألفاً وأربعمائة» وفي رواية «وخمسمائة». وجمع بينهما بأن المائة المزيدة لعلهم أتباع أولئك/ فأنزل الله تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} (الفتح: 18) فسميت بيعة الرضوان لأنها سبب ذلك” (دليل الفالحين لابن علان 1/ 461)
قوله: (أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر، فقالوا: ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها) ضبطوه بوجهين: أحدهما: بالقصر وفتح الخاء. والثاني: بالمد وكسرها، وكلاهما صحيح، وهذا الإتيان لأبي سفيان كان وهو كافر في الهدنة بعد صلح الحديبية (شرح مسلم للنووي)
قدم أبو سفيان المدينة لطلب تأكيد الصلح بينه وبين أهل مكة في الهدنة التي بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة التي تمت في الحديبية.
وهؤلاء الثلاثة صهيب الرومي و بلال الحبشي وسلمان الفارس كلهم من الموالاي أي عبيد.
(مَا أَخَذَتْ سُيُوفُ اللَّه مِنْ عدُوِّ اللَّه مَاخَذَهَا) مر معنا كلام النووي، أي لم يُشفِ صدورهم مما فُعل بهم من أسيادهم الذين كانوا يعذبونهم، قال ابن عثيمين:” ما فعلت أسيافنا بعدو الله ما فعلت يعني: يريدون أنهم لم يشفوا أنفسهم مما فعل بهم أسيادهم من قريش، الذين كانوا يعذبونهم ويؤذونهم في دين الله عز وجل” (شرح رياض الصالحين 3/ 94) فيه إغاضة للكفار و محاربة الأعداء بالحرب النفسية.
(أتقولون هذا) استفهام إنكاري (البحر المحيط الثجاج 39/ 681)
(فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي اللَّه عنه: أَتَقُولُونَ هَذَا لِشَيْخِ قُريْشٍ وَسيِّدِهِمْ؟) تألفاً لأبي سفيان وتعظيماً ليسكن الإيمان في قلبه ويميل إلى المؤمنين وتوادهم … فإنه كان عقيدهم في الحروب وإليه مرجعهم فيها لكونه كان أكبر بني عبد مناف حينئذٍ (دليل الفالحين لابن علان 1/ 461) قال ابن باز:” لأن أبا سفيان في ذاك الوقت كبير قريش، هو كبيرهم، هو الذي ترأس غزوة أحد والأحزاب.” (شرح رياض الصالحين لابن باز 1/ 531)
(لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك”)؛ قال القرطبي:” لئن كنتَ أغضبتهم لقد أغضبتَ ربَّك، يدلُّ على رفعة منازل هؤلاء المذكورين عند الله تعالى، ويُستفاد منه احترامُ الصالحين، واتِّقاءُ ما يغضبهم، أو يُؤذيهم.” (المفهم للقرطبي 6/ 466)
أي: لكونك أغضبت أولياءه، فمن أغضبهم فقد أغضب الله – عزوجل -، فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “إن الله قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب … ” الحديث. (البحر المحيط الثجاج 39/ 681)
(فَأَتَى النَّبِيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، فَأَخْبرهُ) فيه دلالة على أن الإنسان إذا أشكل عليه أمر ديني أن يرجع لأهل العلم.
قوله: (يا إخوتاه، أغضبتكم؟ قالوا: لا، يغفر الله لك يا أخي) أما قولهم: ” يا أخي ” فضبطوه بضم الهمزة على التصغير، وهو تصغير تحبيب وترقيق وملاطفة، وفي بعض النسخ بفتحها (شرح مسلم للنووي)
قال القاضي عياض – رحمه الله -: قولهم: “لا، يغفر الله لك”، كذا جاء في هذا الحديث، وقد روي عن أبي بكر – رضي الله عنه -؛ أنه نهى عن مثل هذه الصيغة، وقال: قل: عافاك الله، رحمك الله، لا تزد؛ أي: لا تقل قبل الدعاء: “لا”؛ لاقتضائها نفيه في الظاهر، ولأنه قد يكون هذا ذريعة للمجان وغيرهم من قصدهم هذا في صورة الدعاء، وقد قال بعضهم: قل: لا، ويغفر لك الله، فيزول الإبهام والاحتمال. (إكمال المعلم 7/ 549)
قال النووي:” وفي هذا فضيلة ظاهرة لسلمان ورفقته هؤلاء وفيه مراعاة قلوب الضعفاء وأهل الدين وإكرامهم وملاطفتهم. (شرح النووي)
قال ابن علان:” هذا الحديث فيه دلالة على عظم رتبة المذكورين فيه عند الله تعالى، وفيه احترام الصالحين واتقاء ما يؤذيهم أو يغضبهم” (دليل الفالحين 1/ 463)
قال ابن عثيمين:” في هذا دليل على ورع أبي بكر رضي الله عنه، وعلى حرصه على إبراء ذمته، وأن الإنسان ينبغي له ـ بل يجب عليه ـ إذا اعتدى على أحد بقول أو فعل أو بأخذه مال أو سب أو شتم أن يستحله في الدنيا؛ قبل أن يأخذ ذلك منه في الآخرة؛ لأن الإنسان إذا لم يأخذ حقه في الدنيا فإنه يأخذه يوم القيامة، ويأخذ من أشرف شيء وأعز شيء على الإنسان يأخذه من الحسنات؛ من الأعمال الصالحة التي هو في حاجة إليها في ذلك المكان.” (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 3/ 95)