2621 فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
شارك محمد البلوشي وعبدالله المشجري وعبدالله البلوشي ابوعيسى، وعبدالله كديم وطارق أبي تيسير وعبدالحميد البلوشي وأحمد بن علي وعبدالملك وسلطان الحمادي وناصر الريسي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
قال الحافظ النووي رحمه الله:
((39)) – (بابُ النَّهْيِ عَنْ تَقْنِيطِ الإنْسانِ مِن رَحْمَةِ اللهِ تَعالى)
قال الإمام مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري (المتوفى: (261) هـ) رحمه الله:
[(6658)] ((2621)) – حَدَّثَنا سُويدُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمانَ،
عَنْ أبِيهِ، حَدَّثَنا أبُو عِمْرانَ الجَوْنِيُّ، عَنْ جُنْدَبٍ، أنَّ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – حَدَّثَ:
«أنَّ رَجُلًا قالَ: واللهِ لا يَغْفِرُ اللهُ لِفُلانٍ، وإنَّ اللهَ تَعالى قالَ: مَن ذا الَّذِي
يَتَألّى عَلَي أنْ لا أغْفِرَ لِفُلانٍ، فَإنِّي قَدْ كَفَرْتُ لِفُلانٍ، وأحْبَطْتُ عَمَلَكَ»، أوْ كَما قالَ.
==========
التمهيد:
“ثلاثة آداب إسلامية تشترك في النهي والتحذير من احتقار الناس وتنقيصهم ذكرت أحاديثنا صورا ثلاثا:
الأولى: صورة من يرى مذنبا، فيقول: أقسم بالله أن الله لن يغفر هذا الذنب لفلان.
ففي هذا القول تحقير للمسلم وحجر على رحمة الله، وإن سمعها صاحب الذنب ربما كان فيها تقنيطا له من عفو الله، مع أن واجب المسلم أن يجمع بين الخوف والرجاء؛ عملا بقوله تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم} [الزمر (53)]، فلله إذن أن يعفو عن المسيء المذنب، فيقع من حلف على عدم المغفرة له في إثم وعقوبة ما تلفظ به.
الثانية: صورة من يحتقر الناس لمظاهرهم، وهو لا يدري قد يكون هذا الضعيف المستضعف خيرا عند الله من هذا الذي يستضعفه.
الثالثة: صورة من يحتقر الناس، ويحكم عليهم بالهلاك لظاهر ما يقعون فيه من الذنوب، فهو يهلك نفسه بهذا الفعل وبهذا القول؛ لما فيه من عيب المسلمين، ولما فيه من بعث الحقد في نفس سامعه، والإعجاب والغرور في نفس قائله”. [فتح المنعم]
أحاديث في الباب:
قال الإمام البخاري
6010 حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةٍ، وَقُمْنَا مَعَهُ، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا، وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا. فَلَمَّا سَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ: ” لَقَدْ حَجَّرْتَ وَاسِعًا “. يُرِيدُ رَحْمَةَ اللَّهِ
وقال البخاري
(4918) – حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ الخُزَاعِيَّ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ” أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الجَنَّةِ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ: كُلُّ عُتُلٍّ، جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ ”
«صحيح البخاري» (6/ 159)
قال البخاري (3436) – حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ” لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي المَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ: عِيسَى، وَكَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ جُرَيْجٌ، كَانَ يُصَلِّي، جَاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ، فَقَالَ: أُجِيبُهَا أَوْ أُصَلِّي، فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ وُجُوهَ المُومِسَاتِ، وَكَانَ جُرَيْجٌ فِي صَوْمَعَتِهِ، فَتَعَرَّضَتْ لَهُ امْرَأَةٌ وَكَلَّمَتْهُ فَأَبَى، فَأَتَتْ رَاعِيًا فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا، فَوَلَدَتْ غُلَامًا، فَقَالَتْ: مِنْ جُرَيْجٍ فَأَتَوْهُ فَكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ وَأَنْزَلُوهُ وَسَبُّوهُ، فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى ثُمَّ أَتَى الغُلَامَ، فَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ يَا غُلَامُ؟ قَالَ: الرَّاعِي، قَالُوا: نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا مِنْ طِينٍ. وَكَانَتِ امْرَأَةٌ تُرْضِعُ ابْنًا لَهَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ رَاكِبٌ ذُو شَارَةٍ فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهُ، فَتَرَكَ ثَدْيَهَا وَأَقْبَلَ عَلَى الرَّاكِبِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهَا يَمَصُّهُ، – قَالَ: أَبُو هُرَيْرَةَ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمَصُّ إِصْبَعَهُ – ثُمَّ مُرَّ بِأَمَةٍ، فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذِهِ، فَتَرَكَ ثَدْيَهَا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا، فَقَالَتْ: لِمَ ذَاكَ؟ فَقَالَ: الرَّاكِبُ جَبَّارٌ مِنَ الجَبَابِرَةِ، وَهَذِهِ الأَمَةُ يَقُولُونَ: سَرَقْتِ، زَنَيْتِ، وَلَمْ تَفْعَلْ ”
«صحيح البخاري» (4/ 165)
قال البخاري 5091 حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَهْلٍ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: ” مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟ “. قَالُوا: حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْتَمَعَ. قَالَ: ثُمَّ سَكَتَ، فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: ” مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟ “. قَالُوا: حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لَا يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لَا يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لَا يُسْتَمَعَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا “.
صحيح البخاري
وفي مصنف عبد الرزاق (19701) – أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ وَبَرَةَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: «أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْيَاسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ»
«جامع معمر بن راشد» (10/ 459)
وهناك أحاديث ايضا في الباب ستجدها أثناء شرحنا للحديث
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
– (جُنْدَبُ) بن عبد الله بن سفيان البَجَليّ، ثم العَلِقيّ -بفتحتين، ثم قاف- أبو عبد الله، وربّما نُسِب إلى جدّه صحابيّ، مات – رضي الله عنه – بعد الستين، قال البخاريّ: كان بالكوفة، ثم خرج إلى البصرة، ثم خرج منها. [«التاريخ الكبير» (1) / (2) / (221)]، (ع).
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
مسلسلٌ بالبصريين، سوى شيخه،
فحَدثانيّ، وفيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ، وهو من رواية الأقران.
في الباب:
ورد عند أبي داود:
51 – باب فِى النَّهْىِ عَنِ الْبَغْىِ. (51)
4903 – حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ بْنِ سُفْيَانَ أَخْبَرَنَا عَلِىُّ بْنُ ثَابِتٍ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ قَالَ حَدَّثَنِى ضَمْضَمُ بْنُ جَوْسٍ قَالَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «كَانَ رَجُلاَنِ فِى بَنِى إِسْرَائِيلَ مُتَآخِيَيْنِ فَكَانَ أَحَدُهُمَا يُذْنِبُ وَالآخَرُ مُجْتَهِدٌ فِى الْعِبَادَةِ فَكَانَ لاَ يَزَالُ الْمُجْتَهِدُ يَرَى الآخَرَ عَلَى الذَّنْبِ فَيَقُولُ أَقْصِرْ. فَوَجَدَهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ فَقَالَ لَهُ أَقْصِرْ فَقَالَ خَلِّنِى وَرَبِّى أَبُعِثْتَ عَلَىَّ رَقِيبًا فَقَالَ وَاللَّهِ لاَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ أَوْ لاَ يُدْخِلُكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ. فَقُبِضَ أَرْوَاحُهُمَا فَاجْتَمَعَا عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَقَالَ لِهَذَا الْمُجْتَهِدِ أَكُنْتَ بِى عَالِمًا أَوْ كُنْتَ عَلَى مَا فِى يَدِى قَادِرًا وَقَالَ لِلْمُذْنِبِ اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِى وَقَالَ لِلآخَرِ اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ». قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ.
قال الألباني: صحيح.
الحديث ذكره الشيخ مقبل في الصحيح المسند 1302 وقلنا في تعليقنا عليه:
ورد في البخاري 6113، ومسلم2988 مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا؛ يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا؛ يَهْوِي بِهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ»، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ مَا فِيهَا يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ».
وبوب البخاري عليه: بَاب حِفْظِ اللِّسَانِ وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ وَقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}، وبوب عليه النووي: باب التكلم بالكلمة يهوى بها في النار
وورد عند مُسْلِمٌ 2621 مِنْ حَدِيثِ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الحديث
شرح الحديث:
(عَنْ جُنْدَب، أنَّ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – حَدَّثَ: ((أنَّ رَجُلًا) لا يُعرف. [«تنبيه المعلم» ص (434)]، ويحتَمِل أن يكون من هذه الأمة، أو من غيرهم.
(قالَ: واللهِ لا يَغْفِرُ اللهُ لِفُلانٍ) قاله استكثارًا لذنبه، أو استكبارًا، أو تعظيمًا لنفسه، حين جنى عليه، كما يصدر عن بعض الجهلة. [«مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح» (8) / (178)].
وقد بيّن في «شُعَب الإيمان» للبيهقيّ سبب قول الرجل هذا الكلام، ولفظه: «عن جندب قال: وطِئ رجلٌ على عُنُق رجل، وهو يصلي، فقال الرجل: والله لا يغفر الله لك هذا أبدًا … » الحديث. [«شعب الإيمان» للبيهقيّ (5) / (289)].
وإليك الإسناد كما في شعب البيهقي:
(6260) – أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُقْرِئُ، أَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، نا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الْقَاضِي، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، نا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ، عَنْ جُنْدُبٍ، قَالَ: وطِئَ رَجُلٌ عَلَى عُنُقِ رَجُلٍ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَاللهِ لَا يَغْفِرُ اللهُ لَكَ هَذَا أَبَدًا. فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ” مَنْ هَذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لَا أَغْفِرَ لَهُ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَهُ، وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ قَالَ الشَّيْخُ: ” هَكَذَا وَجَدْتُهُ مَوْقُوفًا وَقَدْ ”
«شعب الإيمان» (9/ 60)
وفي إتحاف الخيرة المهرة (2/ 210)
1356 – قال مسدد: وحدثنا يحيى، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، قال: وطئ رجل على عنق رجل وهو ساجد فقال: أوطئت على عنقي وأنا ساجد! والله لا يغفر الله لك فقال: تألى علي الله فغفر له.
هذا إسناد رجاله ثقات.
وقال القرطبيّ –رحمه الله-: قول المتألّي: «والله لا يغفر الله لفلان» ظاهر في أنه
قطع بأن الله تعالى لا يغفر لذلك الرجل، وكأنه حَكَم على الله تعالى، وحَجَر
عليه، وهذه نتيجة الجهل بالأحكام الإلهية، والادلال على الله تعالى بما اعتقد
أن له عنده من الكرامة، والحظ، والمكانة، وكذلك المذنب من الخسّة والإهانة، فإن كان هذا المتألي مستحلّ لهذه الأمور، فهو كافر، فيكون إحباط عمله لأجل الكفر، كما يُحبط عمل الكفار،
وأما إن لم يكن مستحلّ لذلك، وإنما غَلَب عليه الخوف، فحكم بإنفاذ الوعيد فليس بكافر، ولكنه مرتكب كبيرة، فإنّه قانط من رحمة الله، فيكون إحباط عمله بمعنى: أن ما أوجبتْ له هذه الكبيرة من الإثم يربو على أجر أعماله الصالحة، فكأنه لم يبق له عملٌ صالح. انتهى [«المفهم» (6) / (607)].
(وإنَّ اللهَ تَعالى) بفتح الهمزة، وهو معطوف على «أن رجلًا»؛ أي: وحَدّث أن الله تعالى قال، وبكسرها على أن الجملة حاليّة؛ أي: والحال أن الله تعالى قال.
(قالَ: مَن ذا الَّذِي يَتَألّى عَلَيَّ) -بفتح الهمزة، وتشديد اللام المفتوحة-:
أي: يتحكّم عليّ، ويحلف باسمي، من الألِيّة، وهي اليمين، يقال: آلى يُولي إيلاءً، وائتلى يأتلي ائتلاءً، وتَألّى يَتَألّى؛ أي: حَلَف، والاسم الأليّة. [» مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح «(8) / (73)].
وقال الطيبيّ –رحمه الله-: هذا ورد على الإنكار والتهديد … فلا يجوز لأحد الجزم بالجنة، أو النار، أو عدم المغفرة، إلا لمن ورد فيه النصّ.
وقال ابن الجوزيّ –رحمه الله-:
يتألى بمعنى يحلف، والأليّة: اليمين، والإحباط:
الإبطال، وهذا المتألي جَهِل سَعَة الكرم، فعوقب بإحباط العمل. انتهى [» كشف المشكل «(2) / (55)].
وقال القرطبيّ – رحمه الله -: قوله: «من ذا الذي يتألّى عليّ؟» استفهام على جهة
الإنكار، والوعيد، ويُستفاد منه تحريم الإدلال على الله تعالى، ووجوب التأدّب معه في الأقوال، والأحوال، وأن حقّ العبد أن يعامل نفسه بأحكام العبوديّة، ومولاه بما يجب له من أحكام الإلهية، والربوبيّة. انتهى [» المفهم” (6) / (657)].
(أنْ لا أغْفِرَ لِفُلانٍ، فَإنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلانٍ) ترغيمًا لأنفك، (وأحْبَطْتُ عَمَلَكَ)؛ أي: العمل الصالح بسبب جريمتك هذه، وقال المظهر: أي: أبطلت قَسَمك، وجعلت حَلِفك كاذبًا؛ لِما ورد في حديث آخر:» من يتألّى على الله يكذبه انتهى.
وقوله: (أوْ كَما قالَ) قال النوويّ –رحمه الله -: ينبغي للراوي، وقارئ الحديث إذا اشتبه عليه لفظة، فقرأها على الشكّ أن يقول عقبه: «أو كما قال»،
وكذا يستحب لمن رَوى بالمعنى أن يقول بعده: «أو كما قال»، أو «نحو هذا»،
كما فعله الصحابة – رضي الله عنهم -، فمن بعدَهم، والله تعالى أعلم. [«مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح» (8) / (73)].
منهم ابن مسعود فعن عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنِ ابْنِ مسعود؛ أنه قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فنكس فنظرت إليه، وهو قائم، محلول إزار قميصه، قد انتفخت أوداجه، واغرورقت عيناه، فقال: أو دون ذلك، أو فوق ذلك.
وحديث جندب بن عبد الله – رضي الله عنهما – هذا من أفراد المصنّف – رحمه الله -.
ثانيًا: فوائد الباب:
(1) – (منها): بيان تحريم الإقناط من رحمة الله – تعالى-، فلا يجوز لداع إلى الله تعالى أن يحمل الناس على أن يقنطوا من رحمة الله تعالى، فإن القنوط منها كبيرة من كبائر الذنوب، كما قال -تعالى-: {ومَن يَقْنَطُ مِن رَحْمَةِ رَبِّهِ إلّا الضّالُّونَ} [الحجر (56)].
(2) – (ومنها): تحريم رؤية النفس، واستعظام شأنها، واحتقار غيرها، فإنه من الكبائر أيضًا.
(3) – (ومنها): وجوب التواضع لله تعالى، وللمسلمين، ففي «صحيح مسلم» مرفوعًا: «وإن الله أوحى إليّ أن تواضعوا، حتى لا يَفْخَر أحدٌ على أحد، ولا يبغ أحدٌ على أحد».
(4) – (ومنها): تحريم القول بأن فلانًا من أهل النار، وكذا من أهل الجنّة، إلا لمن أخبر عنه النبيّ – صلى الله عليه وسلم – بذلك، كالعشرة المبشّرين بالجنّة، ولقد
أحسن من قال، وأجاد في المقال:
ولا تَقُلْ هَذا مِن أهْلِ النّارَ … كَلّا ولا هَذا مِنَ الأبْرارِ
إلّا لِمَن أخْبَرَ عَنْهُ المُصْطَفى … فالنّارُ والفَوْزُ لِمَن قَدْ وصَفا
(5) – (ومنها): وجوب خوف المؤمن من إحباط عمله بسوء الأدب مع الله،
ومع عباد الله تعالى، قال الإمام البخاريّ – رحمه الله – في «صحيحه»: «باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله، وهو لا يشعر»، وقال إبراهيم التيميّ: ما عَرَضت
قولي على عملي إلا خَشِيت أن أكون مكذِّبًا، وقال ابن أبي مليكة: أدركت
ثلاثين من أصحاب النبيّ – صلى الله عليه وسلم – كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحدٌ
يقول: إنه على إيمان جبريل، وميكائيل، ويُذكر عن الحسن: ما خافه إلا مؤمن، ولا أمِنه إلا منافقٌ.
وما يُحذَر من الإصرار على النفاق، والعصيان من غير توبة؛ لقول الله تعالى: {ولَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران (135)]. انتهى [«صحيح البخاريّ» (1) / (26)].
(6) – (ومنها): ما قاله النوويّ –رحمه الله-: في الحديث دلالةٌ لمذهب أهل السُّنَّة
في غفران الذنوب بلا توبة، إذا شاء الله تعالى غفرانها، واحتجت المعتزلة به
في إحباط الأعمال بالمعاصي الكبائر، ومذهب أهل السُّنَّة أنها لا تُحبط إلا بالكفر، ويُتأوّل حبوط عمل هذا على أنه سقطت حسناته في مقابلة سيئاته، فسُمِّي إحباطًا مجازًا، ويَحْتَمِل أنه جرى منه أمر آخر أوجب الكفر انتهى [«شرح النوويّ» (16) / (174)].
أو قام عنده اعتقاد الكبر على الله كما سبق بيانه
وقال القرطبي:
(الياس من رحمة الله، .. فيه تكذيب القرآن، إذ يقول وقوله الحق: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف: 156] وهو يقول: لا يغفر له، فقد حجَّر واسعًا. هذا إذا كان معتقدًا لذلك، ولذلك قال الله تعالى: إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف: 87]، وبعده القنوط، قال الله تعالى: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ} [الحجر: 56]) انظر: ((الجامع لأحكام القرآن)). بتصرف يسير (5/ 160).
(7) – (ومنها): ما قاله القرطبيّ – رحمه الله -: قوله: «قد غفرت لفلان» دليل على
صحَّة مذهب أهل السُّنَّة أنه لا يُكفَّر أحد من أهل القبلة بذنب … انتهى [«المفهم» (6) / (608)].
(8) – (ومنها): ما قاله في «اللمعات»: قوله: «من ذا الذي يتالى عليّ» في
هذه العبارة تخويف، وتهديد شديد، وفي صورة الغيبة دون أن يقول: أنت
الذي تتالى دلالة على التهديد لكل من يتألى من غير خصوصية بالمخاطب، ثم
خاطبه بأنك إذا حلفت عليّ، فاعلم أني قد غفرت له على رغم أنفك،
وأحبطت عملك جزاءً على ما قلت. انتهى [«مشكاة المصابيح مع شرحه مرعاة المفاتيح» (8) / (73)].
[البحر المحيط الثجاج، بتصرف يسير].
9 – بيان خطر اللسان، وذلك يفيد التحرز من الكلام، كما في حديث معاذ: “قلت: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم – أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم» قاله عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، تحت (باب: ما جاء في الإقسام على الله).
10 – (منها): احذر لسانك أن تقول فتبتلى إن البلاء موكل بالمنطق. قاله الشيخ ابن عثيمين عند تفسير قول الله تعالى {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}.
11 – (منها): أن الرجل قد يغفر له بسبب هو من أكره الأمور إليه. قاله الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مسائل باب ما جاء في الإقسام على الله، من كتاب التوحيد.
(12) – إذا حسن الظن بربه وأقسم على الله في أمر ليس فيه عدوان على الغير فليس من التألي فإن النبي صلى الله عليه وسلم لحديث رب اشعث أغفر مدفوع بالابواب لو أقسم على الله لابره. قاله ابن عثيمين
ثانيًا: ملحقات:
(المسألة الأولى): معالم الياس والقنوط
[1] معنى الياس والقنوط لغةً واصطلاحًا.
معنى الياس لغةً:
الياس: القنوط، وقيل: الياس نقيض الرجاء أو قطع الأمل …. [انظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (6/ 259 – 260)، ((القاموس المحيط)) للفيروزآبادي (1/ 582)، ((جمهرة اللغة)) لأبي بكر الأزدي (1/ 238)].
معنى الياس اصطلاحًا:
قال العسكري: “الياس: انقطاع الطمع من الشيء”. [((معجم الفرووق اللغوية)) للعسكري (1/ 436)].
وقال ابن الجوزي: “الياس: القطع على أنَّ المطلوب لا يتحصل لتحقيق فواته”. [((نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر)) لابن الجوزي (1/ 633)].
معنى القنوط لغةً:
أصل هذه المادة يدُلُّ عَلَى الْيَاسِ مِنَ الشَّيْءِ، فالقُنُوط: الياس، وقيل: أَشدُّ الياس من الشَّيْءِ.
مصدر قَنَط يَقنِطُ (من باب ضرب) ويَقنُطُ (من باب قعد)، وقَنِطَ يقنَط (من باب تعب)، وهو قانِطٌ وقَنُوط وقنِط.
[انظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/ 32)، ((لسان العرب)) لابن منظور (7/ 386)، ((المصباح المنير)) للفيومي (2/ 517)].
معنى القنوط اصطلاحًا:
قال الشوكاني: “القنوط: الإياس من الرَّحمة”.
[((فتح القدير)) (4/ 260)].
وقيل: “القنوط: شدَّة الياس من الخير”.
[((اللباب في علوم الكتاب)) لابن عادل (11/ 471)، ((الوسيط في تفسير القرآن المجيد))، للواحدي (3/ 47)].
[2] الفرق بين الياس والقنوط والخيبة
– الفرق بين الياس والقنوط:
أكثر العلماء على أنهما بمعنى واحد. [انظر: ((جامع البيان)) للطبري (20/ 102)، ((معاني القرآن وإعرابه))، للزجاج (3/ 181)].
ويرى بعض العلماء: أن بينهما اختلافًا، وأن القنوط: أتم اليأس وأشده. [((المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز)) لابن عطية (3/ 366)، ((معاني القرآن)) للنحاس (6/ 314)].
وقيل: إن اليأس من منعات القلب، والقنوط ظهور آثاره على ظاهر البدن. [انظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيى الدين درويش (9/ 5 – 6)، ((نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر)) لابن الجوزي (1/ 633)].
– الفرق بين الياس والخيبة:
1 – الخيبة لا تكون إلا بعد أمل؛ لأنها امتناع نيل ما أمل.
2 – الياس: قد يكون قبل الأمل، وقد يكون بعده. [انظر: ((الفروق اللغوية)) للعسكري (1/ 245)، ((النكت والعيون)) للماوردي (1/ 422)].
[3] ذم الياس والقنوط والنهي عنهما
أولًا: ذم الياس والقنوط والنهي عنهما في القرآن الكريم:
– قال تعالى: {قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ} [الحجر: 55 – 56].
قال الطبري: “قال ضيف إبراهيم له: بشرناك بحقِّ يقين، وعلم منَّا بأن الله قد وهب لك غلامًا عليمًا، فلا تكن من الذين يقنطون من فضل الله فييأسون منه، ولكن أبشر بما بشرناك به واقبل البُشرى، .. فقال إبراهيم للضيف: ومن ييأس من رحمة الله إلا القوم الذين قد أخطؤوا سبيل الصواب، وتركوا قصد السبيل في تركهم رجاء الله، ولا يخيب من رجاه، فضلوا بذلك عن دين الله”. ((جامع البيان)) (17/ 113).
قال الواحدي: ” …. قال ابن عباس: يريد ومن ييئس من رحمة ربه إلا المكذبون، وهذا يدلُّ على أنَّ إبراهيم لم يكن قانطًا، ولكنه استبعد ذلك، فظنت الملائكة به قنوطًا، فنفى ذلك عن نفسه، وأخبر أنَّ القانط من رحمة الله ضالٌّ”. ((الوسيط في تفسير القرآن المجيد)) (3/ 47).
– وقال تعالى: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36].
(يخبر تعالى عن طبيعة أكثر الناس في حالي الرَّخاء والشدة؛ أنهم إذا أذاقهم الله منه رحمة من صحة، وغنى، ونصر، ونحو ذلك فرحوا بذلك فرح بطر، لا فرح شكر وتبجح بنعمة الله. وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أي: حال تسوؤهم وذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من المعاصي، إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ ييأسون من زوال ذلك الفقر والمرض ونحوه. وهذا جهل منهم وعدم معرفة) ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (1/ 642).
قال الماوردي: “إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ فيه وجهان: أحدهما: أن القنوط الياس من الرحمة والفرج، قاله الجمهور، الثاني: أن القنوط ترك فرائض الله في اليسر، قاله الحسن”. ((النكت والعيون)) (4/ 315).
قال البغوي: (إذا هم يقنطون، ييأسون من رحمة الله، وهذا خلاف وصف المؤمن، فإنه يشكر الله عند النعمة ويرجو ربه عند الشدة) ((معالم التنزيل)) للبغوي (3/ 579)، ((المحرر الوجيز)) لابن عطية (4/ 338).
– وقال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].
“لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ أي: لا تيأسوا منها، فتلقوا بأيديكم إلى التهلكة، وتقولوا قد كثرت ذنوبنا، …. ولكن اعرفوا ربكم بأسمائه الدالة على كرمه وجوده، واعلموا أنه يغفر الذنوب جميعًا من الشرك، والقتل، والزنا، والربا، والظلم، وغير ذلك من الذنوب الكبار”. ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (1/ 727).
– وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى: 28].
قال ابن كثير: “وقوله: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا أي: من بعد إياس الناس من نزول المطر، ينزله عليهم في وقت حاجتهم وفقرهم إليه، كقوله: {وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} [الروم: 49].
وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ أي: هو المتصرف لخلقه بما ينفعهم في دنياهم وأخراهم، وهو المحمود العاقبة في جميع ما يقدره ويفعله”. ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (7/ 206 – 207).
– وقال تعالى: {لا يَسْأَمُ الإِنسَانُ مِن دُعَاء الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت: 49].
قال الطبري: (فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ يقول: فإنه ذو يأس من روح الله وفرجه، قنوط من رحمته، ومن أن يكشف ذلك الشر النازل به عنه) ((جامع البيان)) للطبري (21/ 490).
ثانيًا: ذم الياس والقنوط والنهي عنهما في السنة النبوية:
– عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنَّ الله خلق الرَّحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعًا وتسعين رحمة. وأرسل في خلقه كلِّهم رحمة واحدة، فلو يعلم الكافر بكلِّ الَّذي عند الله من الرَّحمة، لم ييأس من الجنَّة، ولو يعلم المسلم بكلِّ الذي عند الله من العذاب، لم يأمن من النَّار)) رواه البخاري (6469).
قال بدر الدين العيني: ( … ((لم ييأس من الجنة)) من الياس وهو القنوط .. وقوله: ((لم ييأس من الجنة)) قلت: قيل: المراد أن الكافر لو علم سعة الرحمة لغطى على ما يعلمه من عظيم العذاب فيحصل له الرجاء، وقيل: المراد أن متعلق علمه بسعة الرحمة مع عدم التفاته إلى مقابلها يطمعه في الرحمة) ((عمدة القاري شرح صحيح البخاري)) لبدر الدين العيني (23/ 67)، ((فتح الباري شرح صحيح البخاري)) لابن حجر (11/ 302).
– وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ صَلى اللهُ عليه وسلم: ((لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع في جنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة، ما قنط من رحمته أحد)) رواه مسلم (2755).
قال المباركفوري: ( … وورد الحديث في بيان كثرة رحمته وعقوبته كيلا يغتر مؤمن برحمته فيأمن من عذابه ولا ييأس كافر من رحمته ويترك بابه) ((مرعاة المفاتيح)) (8/ 80).
[4] أقوال السلف والعلماء في الياس والقنوط
– قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (الفقيه حقُّ الفقيه: من لم يُقنِّط النَّاس من رحمة الله، ولم يرخِّص لهم في معاصي الله، ولم يؤمِّنهم من عذاب الله) رواه الدارمي (1/ 338) (305)، وأبو داود في ((الزهد)) (ص115).
– وقال ابن مسعود: (الهلاك في اثنتين، القنوط، والعجب) ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) لابن حجر الهيتمي (1/ 121).
– وقال أيضًا: (الكبائر ثلاث: الياس من رَوْح الله، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله) ((جامع البيان)) للطبري (8/ 246).
– وقال محمد بن سيرين: (الإلقاء إلى التهلكة هو القنوط من رحمة الله تعالى) ((معالم التنزيل)) للبغوي (1/ 217).
– وقال أيضًا: (لا تيأس فتقنط فلا تعمل) ((العجاب في بيان الأسباب)) لابن حجر العسقلاني (1/ 479).
– وقال سفيان بن عيينة: (من ذهب يقنِّط الناس من رحمة الله، أو يقنِّط نفسه فقد أخطأ) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن أبي حاتم (7/ 2268) برقم (12406).
– وقال الطحاوي: (الأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام، وسبيل الحق بينهما لأهل القبلة) ((العقيدة الطحاوية)) (1/ 61).
– وقال البغوي: “القنوط من رحمة الله كبيرة، كالأمن من مكره” ((معالم التنزيل في تفسير القرآن)) البغوي (3/ 61)، ((اللباب في علوم الكتاب)) ابن عادل (11/ 471).
[5] ما هي آثار الياس والقنوط
1 – الياس والقنوط من صفات الكافر والضال:
قال الله تعالى: قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ [الحجر: 56].
وقال: إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف: 87].
قال السعدي: (يخبر تعالى عن طبيعة الإنسان، أنه جاهل ظالم بأنَّ الله إذا أذاقه منه رحمة كالصحة والرزق، والأولاد، ونحو ذلك، ثم نزعها منه، فإنه يستسلم لليأس، وينقاد للقنوط) ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (1/ 378).
قال ابن عطية: (الياس من رحمة الله وتفريجه، من صفة الكافرين) ((المحرر الوجيز)) لابن عطية (3/ 274).
2 – الياس والقنوط ليس من صفات المؤمنين:
قال القاسمي: (الجزع والياس من الفرج عند مسِّ شر قضى عليه.
وكل ذلك مما ينافي عقد الإيمان) ((محاسن التأويل)) (6/ 499).
3 – الياس والقنوط فيه تكذيب لله ولرسوله:
قال ابن عطية: (الياس من رحمة الله، وتفريجه من صفة الكافرين. إذ فيه إمَّا التكذيب بالربوبية، وإمَّا الجهل بصفات الله تعالى). ((المحرر الوجيز)) لابن عطية (3/ 274).
قال القرطبي: (الياس من رحمة الله، .. فيه تكذيب القرآن …. انظر: ((الجامع لأحكام القرآن)). وسبق
4 – الياس فيه سوء أدب مع الله سبحانه وتعالى:
فـ”الخوف الموقع في الإياس: إساءة أدب على رحمة الله، التي سبقت غضبه، وجهل بها”.
5 – الياس سبب في الوقوع في الكفر والهلاك والضلال:
قال القاسمي: وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوسًا [الإسراء: 83] إشارة إلى السبب في وقوع هؤلاء الضالين في أودية الضلال. وهو حب الدنيا وإيثارها على الأخرى، وكفران نعمه تعالى. بالإعراض عن شكرها، والجزع والياس من الفرج عند مسِّ شر قضى عليه) ((محاسن التأويل)) (6/ 499).
قال محمد بن سيرين وعبيدة السلماني في تفسير قوله تعالى: وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195]: “الإلقاء إلى التهلكة هو القنوط من رحمة الله تعالى”. ((معالم التنزيل)) للبغوي (1/ 217).
6 – الفتور والكسل عن فعل الطاعات والغفلة عن ذكر الله:
قال ابن حجر الهيتمي: (القانط آيس من نفع الأعمال، ومن لازم ذلك تركها) [((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) لابن حجر الهيتمي (1/ 122)].قال بعض المفسرين:
(وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوسًا أي: إذا مسه فقر أو مرض أو نازلة من النوازل كان يؤوسًا شديد الياس من رحمة الله … ، إن فاز بالنعمة والدولة اغتر بها فنسي ذكر الله، وإن بقي في الحرمان عن الدنيا استولى عليه الأسف والحزن ولم يتفرغ لذكر الله تعالى، فهذا المسكين محروم أبدًا عن ذكر الله).
7 – الاستمرار في الذنوب والمعاصي:
قال أبو قلابة: (الرجل يصيب الذنب فيقول: قد هلكت ليس لي توبة. فييأس من رحمة الله، وينهمك في المعاصي، فنهاهم الله تعالى عن ذلك، قال الله تعالى: إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف: 87]) ((معالم التنزيل)) للبغوي (1/ 217).
8 – سبب في الحرمان من رحمة الله ومغفرته:
قال المباركفوري: (إن اعتقد أو ظن الإنسان أن الله لا يقبلها- أعماله – وأنها لا تنفعه فهذا هو الياس من رحمة الله وهو من الكبائر، ومن مات على ذلك وُكِّل إلى ما ظنَّ، كما في بعض طرق حديث-: ((أنا عند ظن عبدي بي، فيظن بي عبدي ما شاء))) رواه الطبراني في ((الكبير)) (22/ 88).
ويتأكد هذا الأمر عند الموت، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن بالله الظن»
9 – سبب لفساد القلب:
قال ابن القيم وهو يعدد الكبائر: (الكبائر: .. القنوط من رحمة الله، والياس من روح الله .. ، وتوابع هذه الأمور التي هي أشد تحريمًا من الزنا، وشرب الخمر وغيرهما من الكبائر الظاهرة، ولا صلاح للقلب ولا للجسد إلا باجتنابها، والتوبة منها، وإلا فهو قلب فاسد، وإذا فسد القلب فسد البدن) ((مدارج السالكين)) لابن قيم الجوزية (1/ 133).
10 – ذهاب سكينة القلب والشعور الدائم بالحرمان والحزن والهم:
فـ (الياس من روح الله والقنوط من رحمته؛ يؤدي إلى ترك العمل، إذ لا فائدة منه بزعمه، وهذه طامة من الطوام، وكبيرة من كبائر الذنوب، تُخرج القلب عن سكينته وأنسه، إلى انزعاجه وقلقه وهمه) ((أثر الإيمان في تحصين الأمة الإسلامية ضد الأفكار الهدامة)) (2/ 480) بتصرف يسير.
قال الشوكاني: (إذا مسه- الإنسان – الشر من مرض، أو فقر، كان يؤوسًا شديد الياس من رحمة الله، وإن فاز بالمطلوب الدنيوي، وظفر بالمقصود نسي المعبود، وإن فاته شيء من ذلك استولى عليه الأسف، وغلب عليه القنوط، وكلتا الخصلتين قبيحة مذمومة) ((فتح القدير)) للشوكاني (3/ 301)، ((غرائب القرآن ورغائب الفرقان)) للنيسابوري (4/ 380).
[6] حُكم الياس والقنوط.
أجمع العلماء على تحريم الياس والقنوط، ومن الياس والقنوط ما يخرج من الملة، ومنه ما لا يخرج من الملة، وإنما هو من الكبائر، بل أشد تحريمًا من الكبائر الظاهرة كالزنا، وجعلهما القرطبي في الكبائر بعد الشرك من حيث الترتيب.
[انظر: ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (5/ 160)، وراجع ((إحسان الظن بالله والتحذير من الياس والقنوط)) (1/ 11 – 114)، ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) لابن حجر الهيتمي (1/ 149)، ((مدارج السالكين)) لابن قيم الجوزية (1/ 133)].
وقال العدوي: (الإياس من الكبائر) ((حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني)) (2/ 441).
((قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ((سُوءُ الظَّنِّ بِاللهِ -تَعَالَى- وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَتِهِ مِنَ الْكَبَائِرِ)).
وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِي الْقُنُوطِ: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحِجر: 56].
وَقَالَ: ((عَدُّ سُوءِ الظَّنِّ وَالْقُنُوطِ كَبِيرَتَيْنِ مُغَايِرَتَيْنِ لِلْيَاسِ هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجَلَالُ الْبُلْقِينِيُّ وَغَيْرُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقُنُوطَ أَبْلَغُ مِنَ الْيَاسِ، لِلتَّرَقِّي إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت: 49].
وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الشَّخْصَ الَّذِي يَئِسَ مِنْ وُقُوعِ شَيْءٍ مِنَ الرَّحْمَةِ لَهُ مَعَ إِسْلَامِهِ؛ فَالْيَاسُ فِي حَقِّهِ كَبِيرَةٌ اتِّفَاقًا، ثُمَّ هَذَا الْيَاسُ قَدْ يَنْضَمُّ إِلَيْهِ حَالَةٌ هِيَ أَشَدُّ مِنْهُ، وَهِيَ التَّصْمِيمُ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ الرَّحْمَةِ لَهُ وَهُوَ الْقُنُوطُ، ثُمَّ قَدْ يَنْضَمُّ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ اللهَ يُشَدِّدُ عِقَابَهُ لَهُ كَالْكُفَّارِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِسُوءِ الظَّنِّ هُنَا)))).
((عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنِ الْكَبَائِرِ؛ فَقَالَ: ((الشِّرْكُ بِاللهِ, وَالْيَاسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ, وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ)).
أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ شَبِيبِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ إِلَّا شَبِيبَ بْنَ بِشْرٍ؛ فَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: ((ثِقَةٌ))، وَلَيَّنَهُ أَبُو حَاتِمٍ, وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: ((فِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ، وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-)).
قَدْ رُوِيَ عَنْ ابْن مَسْعُودٍ نَحْوَ ذَلِكَ ورجح الدارقطني وقفه كما في العلل (937) قال: ووَقَفَهُ الثَّوْرِيُّ وجَرِيرٌ عَنْ عَبْدِ العَزِيزِ وهُوَ الصواب،
وقالَ ابْن جَرِيرٍ: حَدَّثَنا يَعْقُوبُ بْنُ إبْراهِيمَ حَدَّثَنا هُشَيْمٌ أخْبَرَنا مُطَرِّفٌ عَنْ وبَرَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أبِي الطُّفَيْلِ قالَ: قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: (أكْبَرُ الكَبائِرِ: الإشْراكُ بِاَللَّهِ واليَاسُ مِن رَوْحِ اللهِ والقُنُوطُ مِن رَحْمَةِ اللهِ والأمْنُ مِن مَكْرِ اللهِ). وكَذا رَواهُ مِن حَدِيثِ الأعْمَشِ وأبِي إسْحاقَ عَنْ وبَرَةَ عَنْ أبِي الطُّفَيْلِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بِهِ، ثُمَّ رَواهُ مِن طُرُقٍ عِدَّةٍ عَنْ أبِي الطُّفَيْلِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وهُوَ صَحِيحٌ إلَيْهِ بِلا شَكٍّ وأخرجه عبدالرزاق
قَوْلُهُ: ((الشِّرْكُ بِاللهِ)): هُوَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ.
قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الشِّرْكُ بِاللهِ هَضْمٌ لِلرُّبُوبِيَّةِ، وَتَنَقُّصٌ لِلْإِلَهِيَّةِ، وَسُوءُ ظَنٍّ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ)). وَلَقَدْ صَدَقَ وَنَصَحَ -رَحِمَهُ اللهُ-.
قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1].
وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
وَلِهَذَا لَا يَغْفِرُهُ اللهُ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ.
وَقَوْلُهُ: ((وَالْيَاسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ))؛ أَيْ: قَطْعُ الرَّجَاءِ وَالْأَمَلِ مِنَ اللهِ فِيمَا يَخَافُهُ وَيَرْجُوهُ، وَذَلِكَ إِسَاءَةُ ظَنٍّ بِاللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَجَهْلٌ بِهِ وَبِسَعَةِ رَحْمَتِهِ وَجُودِهِ وَمَغْفِرَتِهِ.
وَقَوْلُهُ: ((وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ))؛ أَيْ: مِنَ اسْتِدْرَاجِهِ لِلْعَبْدِ وَسَلْبِهِ مَا أَعْطَاهُ مِنَ الْإِيمَانِ -نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ ذَلِكَ-، وَذَلِكَ جَهْلٌ بِاللهِ وَبِقُدْرَتِهِ، وَثِقَةٌ بِالنَّفْسِ وَعُجْبٌ بِهَا.
وَهَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يُرِدْ بِهِ حَصْرَ الْكَبَائِرِ فِي الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ؛ بَلِ الْكَبَائِرُ كَثِيرَةٌ، وَهَذِهِ الثَّلَاثُ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَضَابِطُهَا مَا قَالَهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ: ((كُلُّ ذَنْبٍ خَتَمَهُ اللهُ بِنَارٍ أَوْ لَعْنَةٍ أَوْ غَضَبٍ أَوْ عَذَابٍ)).
وَزَادَ شَيْخُ الْإِسْلَامُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَوْ نَفْيِ الْإِيمَانِ، وَمَنْ بَرِئَ مِنْهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ قَالَ: ((لَيْسَ مِنَّا مَنْ فَعَلَ كَذَا))؛ فَهَذِهِ كُلُّهَا مِنَ الْكَبَائِرِ)).
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((هِيَ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ أَقْرَبُ إِلَى سَبْعٍ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا كَبِيرَةَ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ، وَلَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ)).
إِلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ يُؤَدِّيَ بِنَا الْخَوْفُ إِلَى الْقُنُوطِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-, مَعَ أَنَّ الْخَوْفَ مِنَ اللهِ مِنْ أَجَلِّ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ.
قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مَنْزِلَةُ الْخَوْفِ مِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، وَهِيَ مِنْ أَجَلِّ الْمَنَازِلِ وَأَنْفَعِهَا لِلْقَلْبِ, وَالْخَوْفُ مِنَ اللهِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ؛ قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة: 41].
وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 44].
وَمَدَحَ أَهْلَ الْخَوْفِ فِي كِتَابِهِ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ؛ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَائِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)} [المؤمنون: 57 – 61].
فِي ((الْمُسْنَدِ)) وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}؛ أَهُوَ الَّذِي يَزْنِي وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُ؟!!
قَالَ: ((لَا يَا ابْنَةَ الصِّدِّيقِ! وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَتَصَدَّقُ، وَيَخَافُ أَلَّا يُقْبَلُ مِنْهُ)). وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
لكنه في أحاديث معلة (482) قال الشيخ مُقبل:
هذا الحديث رجاله رجال الصحيح، وهو منقطع ففي «تهذيب التهذيب» في ترجمة عبد الرحمن بن سعيد: روى عن عائشة ولم يدركها. إنتهى
وذكر الدارقطني في العلل (3675) من رواه عن عبد الرحمن بن سعيد عن أبيه عن عائشة وبعضهم عن عبد الرحمن بن سعيد عن عائشة ولم يرجح لكن أكثر الروايات التي ذكرها بدون ذكر أبيه.
وَالْخَوْفُ لَيْسَ مَقْصُودًا لِذَاتِهِ؛ بَلْ هُوَ مَقْصُودٌ لِغَيْرِهِ قَصْدَ الْوَسَائِلِ، وَلِهَذَا يَزُولُ بِزَوَالِ الْمَخُوفِ؛ فَإِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.
الْخَوْفُ يَتَعَلَّقُ بِالْأَفْعَالِ، وَالْمَحَبَّةُ تَتَعَلَّقُ بِالذَّاتِ وَالصِّفَاتِ؛ وَلِهَذَا تَتَضَاعَفُ مَحَبَّةُ الْمُؤْمِنِينَ لِرَبِّهِمْ إِذَا دَخَلُوا دَارَ النَّعِيمِ، وَلَا يَلْحَقُهُمْ فِيهَا خَوْفٌ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ مَنْزِلَةُ الْمَحَبَّةِ وَمَقَامُهَا أَعْلَى وَأَرْفَعُ مِنْ مَنْزِلَةِ الْخَوْفِ وَمَقَامِهِ.
وَالْخَوْفُ الْمَحْمُودُ الصَّادِقُ مَا حَالَ بَيْنَ صَاحِبِهِ وَبَيْنَ مَحَارِمِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَإِذَا تَجَاوَزَ ذَلِكَ خِيفَ مِنْهُ الْيَاسُ وَالْقُنُوطُ. انتهى كلام ابن القيِّم
قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: سَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ -قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ- يَقُولُ: ((الْخَوْفُ الْمَحْمُودُ مَا حَجَزَكَ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ)).
[7] أقسام الياس من رحمة الله:
قال السعدي: “الإياس من رحمة الله من أعظم المحاذير، وهو نوعان:
إياس الكفار منها، وتركهم جميع سبب يقربهم منها.
وإياس العصاة: بسبب كثرة جناياتهم أوحشتهم، فملكت قلوبهم، فأحدث لها الإياس” [((تيسير الكريم الرحمن)) (1/ 629)]. ((فتح الباري)) لابن حجر (13/ 386)].
[8] ما يباح من الياس:
الياس ليس مذمومًا في كل الأحوال بل قد يحمد في بعض المواضع، ومنها:
– الياس مما في أيدي الناس:
(كان عمر رضي الله عنه يقول في خطبته على المنبر: إنَّ الطمع فقر، وإن الياس غنى، وإن الإنسان إذا أيس من الشيء استغنى عنه). [رواه ابن المبارك في ((الزهد)) (1/ 223)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (44/ 357)].
والياس مما في أيدي الناس شرط لتحقيق الإخلاص، قال ابن القيم: (لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس، إلا كما يجتمع الماء والنار، والضب والحوت، فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص، فأقبل على الطمع أولًا فاذبحه بسكين الياس، وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة، فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص). [((الفوائد)) (1/ 149)].
– ذكر نصوص الوعيد والعذاب لمن غلب رجاؤه وانهمك في المعاصي:
قال البخاري: (كان العلاء بن زياد يذكر النار، فقال رجل لِمَ تقنط الناس؟،
قال: وأنا أقدر أن أقنط الناس، والله عزَّ وجلَّ يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: 53] ويقول: {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر: 43] ولكنَّكم تحبون أن تبشروا بالجنة على مساوئ أعمالكم، وإنما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم مبشرًا بالجنة لمن أطاعه، ومنذرًا بالنار من عصاه). [((صحيح البخاري)) (6/ 226)].
[9] صور الياس والقنوط
صور الياس والقنوط كثيرة، ومنها:
1 – الياس والقنوط من مغفرة الله للذنوب.
2 – الياس والقنوط من زوال الشدائد وتفريج الكروب.
3 – الياس من التغيير للأفضل:
ويتمثل في يأس الإنسان من تحصيل ما يرجوه في أمر من أمور الدنيا كجاه، أو مال، أو زوجة، أو أولاد وغيرهم.
4 – الياس من نصر الإسلام، وارتفاع الذُّل والمهانة عن المسلمين.
5 – الياس والقنوط من توبة العصاة، والتخذيل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
ويكون التخذيل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بدعوى عدم وجود تغير ملموس وفائدة؛ كما قال تعالى حكاية عن بعض الناس {وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 164].
قال ابن كثير: “يخبر تعالى عن أهل هذه القرية أنهم صاروا إلى ثلاث فرق: فرقة ارتكبت المحذور، واحتالوا على اصطياد السمك يوم السبت، وفرقة نهت عن ذلك، وأنكرت واعتزلتهم.
وفرقة سكتت فلم تفعل ولم تنه، ولكنها قالت للمنكرة: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} [الأعراف: 164]، أي: لم تنهون هؤلاء، وقد علمتم أنهم هلكوا واستحقوا العقوبة من الله؟ فلا فائدة في نهيكم إيَّاهم.
قالت لهم المنكرة: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} أي: نفعل ذلك {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} أي: فيما أخذ علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} يقولون: ولعل بهذا الإنكار يتَّقون ما هم فيه ويتركونه، ويرجعون إلى الله تائبين، فإذا تابوا تاب الله عليهم ورحمهم” [((تفسير القرآن العظيم)) (3/ 494)].
[10] أسباب الياس والقنوط
1 – الجهل بالله سبحانه وتعالى:
قال ابن عادل: (القنوط من رحمة الله تعالى لا يحصل إلا عند الجهل بأمور:
أحدها: أن يجهل كونه تعالى قادرًا عليه.
وثانيها: أن يجهل كونه تعالى عالمًا باحتياج ذلك العبد إليه.
وثالثها: أن يجهل كونه تعالى، منزهًا عن البخل، والحاجة.
والجهل بكلِّ هذه الأمور سبب للضلال) [((اللباب في علوم الكتاب)) (11/ 471)].
وقال ابن القيم: (الكبائر: .. القنوط من رحمة الله، والياس من روح الله .. ، وتوابع هذه الأمور إنما تنشأ من الجهل بعبودية القلب، وترك القيام بها). [((مدارج السالكين)) لابن قيم الجوزية (1/ 133)].
2 – الغلو في الخوف من الله سبحانه وتعالي:
قال ابن القيم: (لا يدع الخوف يفضي به إلى حدٍّ يوقعه في القنوط، والياس من رحمة الله. فإنَّ هذا الخوف مذموم، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: حدُّ الخوف ما حجزك عن معاصي الله. فما زاد على ذلك: فهو غير محتاج إليه، وهذا الخوف الموقع في الإياس: إساءة أدب على رحمة الله تعالى، التي سبقت غضبه، وجهل بها) [((مدارج السالكين)) (2/ 371)].
ولغلبة هذا الخوف على قلب اليائس أسباب منها: (إدراك قلبه من معاني الأسماء والصفات ما يدل على عظمة الله وجبروته، وسرعة عقابه، وشدة انتقامه، وحجب قلبه عن الأسماء الدالة على الرحمة، واللطف، والتوبة، والمغفرة … إلخ، فيسيطر على القلب الخوف فيسلمه ذلك إلى الياس من روح الله، والقنوط من رحمته.
3 – مصاحبة اليائسين والقانطين والمقنطين:
فإنَّ مصاحبة هؤلاء تورث الياس والقنوط من رحمة الله إما مشابهةً، أو عقوبةً للاختلاط بهم.
4 – التعلُّق بالأسباب:
(الكافر يعتقد أن السبب في حصول تلك النعمة سبب اتفاقي، ثم إنه يستبعد حدوث ذلك الاتفاق مرة أخرى فلا جرم يستبعد عود تلك النعمة فيقع في اليأس. وأما المسلم الذي يعتقد أن تلك النعمة إنما حصلت من الله تعالى وفضله وإحسانه وطوله فإنه لا يحصل له اليأس، بل يقول لعله تعالى يردها إلي بعد ذلك أكمل وأحسن وأفضل مما كانت، وأما حال كون تلك النعمة حاصلة فإنه يكون كفورًا؛ لأنه لما اعتقد أن حصولها إنما كان على سبيل الاتفاق أو بسبب أن الإنسان حصلها بسبب جده وجهده، فحينئذ لا يشتغل بشكر الله تعالى على تلك النعمة).
5 – التشدد في الدين وترك الأخذ بالرخص المشروعة:
قال المناوي: (قال الغزالي رحمه الله: هذا قاله – يقصد حديث إن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته- تطييبًا لقلوب الضعفاء، حتى لا ينتهي بهم الضعف إلى الياس والقنوط، فيتركوا الميسور من الخير عليهم؛ لعجزهم عن منتهى الدرجات، فما أرسل إلا رحمةً للعالمين، كلهم على اختلاف درجاتهم وأصنافهم) ((فيض القدير شرح الجامع الصغير)) (2/ 296).
6 – قلة الصبر واستعجال النتائج:
إنَّ ضعف النفوس عن تحمل البلاء، والصبر عليه، واستعجال حصول الخير يؤدي إلى الإصابة بالياس والقنوط، لاسيما مع طول الزمن واشتداد البلاء على الإنسان، فعن أبي هريرة، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يزال يستجاب للعبد، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل، قيل: يا رسول الله ما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوت وقد دعوت، فلم أرَ يستجيب لي. فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء)) رواه مسلم (2735).
قال القرطبي: (والقائل: قد دعوت فلم أرَ يستجاب لي. ويترك قانطًا من رحمة الله، وفي صورة الممتن على ربه، ثم إنَّه جاهل بالإجابة، فإنَّه يظنها إسعافه في عين ما طلب، فقد يعلم الله تعالى أنَّ في عين ما طلب مفسدة) ((المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم)) (7/ 63).
وعن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسِّد بردة له في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال: ((قد كان من قبلكم يؤخذ لرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يُؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيُجعل نصفين، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصدُّه ذلك عن دينه، والله ليتمنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنَّكم تستعجلون)) رواه البخاري (6943).
وقال ابن القيم: (من استطال الطَّرِيق ضعف مَشْيه
وَمَا أَنْت بالمشتاق إِن قلت بَيْننَا طوال اللَّيالي أَو بعيد المفاوز) [((الفوائد)) (1/ 78)]
7 – تعلق القلب بالدنيا:
فمن أسباب الياس والقنوط الأساسية تعلق القلب بالدنيا، والفرح بأخذها، والحزن والتأسف على فواتها، بكل ما فيها من جاه، وسلطان، وزوجة، وأولاد، ومال، وعافية، قال تعالى: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36].
8 – دُنوُّ الهمة والاستسلام للواقع وضعف الرغبة في التغيير:
فإنَّ (الياس من الإصلاح يقع فيه كثير من الناس، فإذا عاين الشرور المتراكمة، والمصائب، والمحن، والفتن، ومن الفرقة والتناحر والاختلاف الذي يسري في صفوف المسلمين، يأس من الإصلاح، .. ومثل ذلك في شأن كثير من الناس ممن يسرف على نفسه بالمعاصي، ويتيه في أودية الرذيلة، فتجده ييأس من إصلاح حاله، والرقي بها إلى الأمثل، بل ربما ظنَّ أنَّ التغيير مستحيل .. وهذا كله مظهر من مظاهر دنو الهمة، وصغر النفس، والعجز عن مواجهة المتاعب، والمصاعب) [انظر: ((الهمة العالية)) (1/ 50)].
[11] الوسائل المعينة على التخلص من الياس والقنوط
1 – الإيمان بأسماء الله وصفاته:
إنَّ العلم والإيمان بأسماء الله وصفاته، وخاصة التي تدلُّ على الرحمة، والمغفرة، والكرم، والجود، تجعل المسلم لا ييأس من رحمة الله وفضله، فـ (إذا علم العبد، وآمن بصفات الله من الرحمة، والرأفة، والتَّوْب، واللطف، والعفو، والمغفرة، والستر، وإجابة الدعاء؛ فإنه كلما وقع في ذنب؛ دعا الله أن يرحمه ويغفر له ويتوب عليه، وطمع فيما عند الله من سترٍ ولطفٍ بعباده المؤمنين، فأكسبه هذا رجعة وأوبة إلى الله كلما أذنب، ولا يجد الياس إلى قلبه سبيلًا، كيف ييأس من يؤمن بصفات الصبر، والحلم؟!
كيف ييأس من رحمة الله من علم أنَّ الله يتصف بصفة الكرم، والجود، والعطاء؟!).
2 – حسن الظن بالله ورجاء رحمته:
قال السفاريني: (حال السلف رجاء بلا إهمال، وخوف بلا قنوط. ولابد من حسن الظن بالله تعالى) ((غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب)) (1/ 466).
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله عزَّ وجلَّ: أنا عند ظنِّ عبدي بي، وأنا معه حيث يذكرني، والله، لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة، ومن تقرَّب إلي شبرًا، تقربت إليه ذراعًا، ومن تقرَّب إلي ذراعًا، تقربت إليه باعًا، وإذا أقبل إليَّ يمشي، أقبلت إليه أهرول)) رواه البخاري (7405)، مسلم (2675) واللفظ له.
وعن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((قال الله تعالى: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني، غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا، لأتيتك بقرابها مغفرة)) رواه الترمذي (3540)، وأحمد (5/ 167) (21510). قال الترمذي: حسن غريب. وصحح إسناده الضياء في ((المختارة)) (4/ 399)، وصححه ابن القيم في ((أعلام الموقعين)) (1/ 204)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3540).
قال الشافعي:
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت رجائي دون عفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما
فما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل تجود وتعفو منة وتكرما
فإن تنتقم مني فلست بآيس ولو دخلت نفسي بجرمي جهنما
ولولاك لم يغو بإبليس عابد فكيف وقد أغوى صفيك آدما
وإني لآتي الذنب أعرف قدره وأعلم أن الله يعفو ترحما [((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (10/ 76)]
3 – تعلق القلب بالله والثقة به:
لا بد على المرء أن يعلق قلبه بالله، ويجعل الثقة به سبحانه وتعالى في كل أحواله و (لا يليق بالمسلم أن ييأس من روح الله ولا يقنط من رحمته، ولا يكون نظره مقصورًا على الأمور المادية والأسباب الظاهرة، بل يكون متلفتًا في قلبه في كل وقت إلى مسبب الأسباب، إلى الكريم الوهاب، متحريًا للفَرَج، واثقًا بأن الله سيجعل بعد العسر يسرًا، ومن هنا ينبعث للقيام بما يقدر عليه من النصح والإرشاد والدعوة، ويقنع باليسير إذا لم يمكن الكثير، وبزوال بعض الشر وتخفيفه إذا تعذر غير ذلك). [انظر: ((الهمة العالية)) لمحمد الحمد (1/ 50)].
4 – أن يكون العبد بين الخوف والرجاء:
قال تعالى في مدح عباده المؤمنين: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء: 90].
قال السفاريني: (نص الإمام أحمد رضي الله عنه: ينبغي للمؤمن أن يكون رجاؤه وخوفه واحدًا. فأيهما غلب صاحبه هلك. وهذا هو العدل، ولهذا من غلب عليه حال الخوف أوقعه في نوع من الياس والقنوط، إمًا في نفسه، وإما في أمور الناس، ومن غلب عليه حال الرجاء بلا خوف أوقعه في نوع من الأمن لمكر الله، إمَّا في نفسه، وإمَّا في الناس) ((غذاء الألباب)) (1/ 462).
5 – الإيمان بالقضاء والقدر:
إذا علم المرء وأيقن أنَّ كل ما حصل له هو بقضاء الله وقدره استراح قلبه، ولم ييأس لفوات شيء كان يرجوه، أو لوقوع أمر كان يحذر منه، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22].
وقال سبحانه: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن: 11].
قال ابن القيم: (إذا جرى على العبد مقدور يكرهه، فله فيه ستة مشاهد:
أحدها: مشهد التوحيد، وأن الله هو الذي قدره وشاءه وخلقه، وما شاء الله كان وما لم يشاء لم يكن،
الثاني: مشهد العدل، وأنه ماض فيه حكمه عدل فيه قضاؤه،
الثالث: مشهد الرحمة، وأن رحمته في هذا المقدور غالبه، لغضبه، وانتقامه ورحمته حشوه،
الرابع: مشهد الحكمة، وأن حكمته سبحانه اقتضت ذلك لم يقدره سدًى، ولا قضاه عبثًا،
الخامس: مشهد الحمد، وأنَّ له سبحانه الحمد التام على ذلك من جميع وجوهه،
السادس: مشهد العبودية، وأنه عبد محض من كل وجه تجري عليه أحكام سيده وأقضيته بحكم كونه ملكه وعبده فيصرفه تحت أحكامه القدرية كما يصرفه تحت أحكامه الدينية، فهو محل لجريان هذه الأحكام عليه) [((الفوائد)) (1/ 32)].
ذكر محقق الفوائد في طبعة دار اليقين ص (60) معلقاً على قول ابن القيم رحمه الله ” ورحمته حشوه “:
” أي: ظاهره البلاء وباطنه الرحمة ”
6 – الصبر عند حدوث البلاء:
وذلك أن الله سبحانه ذم اليائسين من رحمته عند حصول البلاء، واستثنى من الذم الصابرين على البلاء، وجعل لهم الثواب العظيم.
فقال تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [هود: 9 – 11].
ونهى النَّبي صلى الله عليه وسلم عن تمني الموت بسبب البلاء، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يتمنين أحدكم الموت لضرر أصابه، فإن كان لا بد فاعلًا، فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي)) رواه البخاري (5671)، ومسلم (5680). واللفظ للبخاري.
7 – الدعاء مع الإيقان بالإجابة:
قال تعالى عن نبيه يعقوب عليه السلام لما عوتب في تذكر يوسف عليه الصلاة والسلام بعد طول الزمان، وانقطاع الأمل، وحصول الياس في رجوعه، قال بلسان المؤمن الواثق في وعد الله برفع البلاء عن الصابرين وإجابة دعوة المضطرين، (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) [يوسف: 86].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يزال يستجاب للعبد، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل)) رواه مسلم (2735).
قال القرطبي: -ينبغي- (استدامة الدعاء وترك الياس من الإجابة، وداوم رجائهما، واستدامة الإلحاح في الدعاء، فإن الله يحب الملحِّين في الدعاء) ((المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم)) للقرطبي (7/ 63).
والمرء مع إلحاحه في الدعاء عليه أن يوقن بأن (النَّصر مع الصَّبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا)
[رواه أحمد (1/ 307) (2803)، والطبراني (11/ 123) (11243)، والبيهقي في ((الاعتقاد)) (147)، والضياء في ((الأحاديث المختارة)) (10/ 23) (13). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. … قال ابن رجب في ((جامع العلوم والحكم)) (1/ 459): حسن جيد، وحسنه ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/ 327)، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيق ((مسند أحمد)) (4/ 287)، وصححه الألباني في تخريجه لكتاب السنة لابن أبي عاصم (315)]. وهو في الصحيح المسند (685) وعزاه للترمذي. وصححه محققو المسند (2803)
8 – الأخذ بالأسباب:
يظهر لنا جليًّا في قصة يوسف عليه السلام أهمية الأخذ بالأسباب، وترك الاستسلام لليأس، فقد قال نبي الله يعقوب عليه السلام لأولاده لما أبلغوه فَقْد ابنه الثاني: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف: 87].
قال السعدي: (ورد النهي عن تمني الموت للضر الذي ينزل بالعبد، من مرض أو فقر أو خوف، أو وقوع في شدة ومهلكة، أو نحوها من الأشياء. فإن في تمني الموت لذلك مفاسد.
منها: أنه يضعف النفس، ويحدث الخور والكسل. ويوقع في الياس، والمطلوب من العبد مقاومة هذه الأمور والسعي في إضعافها وتخفيفها بحسب اقتداره، وأن يكون معه من قوة القلب وقوة الطمع في زوال ما نزل به. وذلك موجب لأمرين: اللطف الإلهي لمن أتى بالأسباب المأمور بها، والسعي النافع الذي يوجبه قوة القلب ورجاؤه .. فيجعل العبد الأمر مفوضًا إلى ربه الذي يعلم ما فيه الخير والصلاح له، الذي يعلم من مصالح عبده ما لا يعلم العبد، ويريد له من الخير ما لا يريده، ويلطف به في بلائه كما يلطف به في نعمائه) انظر: ((بهجة قلوب الأبرار)) للسعدي (1/ 175 – 176) بتصرف يسير.
9 – الزهد في الدنيا:
فمن أسباب الياس والقنوط الأساسية، تعلق القلب بالدنيا والفرح بأخذها، والحزن والتأسف على فواتها بكل ما فيها، من جاه، وسلطان، وزوجة، وأولاد، ومال، وعافية .. إلخ، فاعلم أنَّ الله سبحانه يعطي الدنيا لمن لا يحب ومن يحب، ولا يعطي الآخرة إلا لمن أحب، وقد منع أحب الخلق إليه، وأكرمهم عليه، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الدنيا وما فيها، فخرج وما ملأ بطنه من خبز البر ثلاث أيام متواليات، وأنَّ المرء لن يأخذ أكثر مما قدر له فلا ييأس ولا يقنط لفوات شيء.
[12] قصص في عدم الياس والقنوط
1 – قصة نبي الله يعقوب عليه السلام:
فقصة نبي الله يعقوب عند فقد ابنه يوسف عليهما الصلاة والسلام درس عظيم في ترك الياس، وحسن الظن بالله، والصبر على البلاء، ورجاء الفرج من الله، في عدة مواضع منها:
– عندما جاءه نعي أحب أولاده إليه يوسف عليه الصلاة والسلام – وهذا أعظم المصائب على قلب الأب-لم يفقد صوابه، وقابل قدر الله النازل، بالصبر والحلم، والاستعانة بالله سبحانه على رفعه. قَالَ (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) [يوسف: 18].
– ولما عظمت المصيبة بفقد ابنه الثاني ازداد صبره، وعظم رجاؤه في الفرج من الله سبحانه، فقال لأبنائه قَالَ (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَاتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [يوسف: 83].
– حين عوتب في تذكر يوسف عليه الصلاة والسلام بعد طول الزمان، وانقطاع الأمل، وحصول الياس في رجوعه، قال بلسان المؤمن الواثق في وعد الله برفع البلاء عن الصابرين، وإجابة دعوة المضطرين (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) [يوسف: 86].
– وأخذ بالأسباب في السعي والبحث عن يوسف وأخيه فقال لأبنائه: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف: 87].
– فكانت العاقبة لمن صبر وأمل ورضي ولم يتسخط قال تعالى: (فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ) من عند الحبيب مبشرًا باللقاء القريب أَلْقَاهُ قميص يوسف عَلَى وَجْهِهِ {فَارْتَدَّ بَصِيرًا} فرجع البصر، وبلغ الأمل، وزال الكرب، وحصل الثواب لمن صبر ورضي وأناب، قَالَ {أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [يوسف: 96].
2 – رجاء لا يخيب:
ذكر التنوخي بسنده عن: (عبيد الله بن سليمان، يقول في وزارته: قال: لي أبي: كنت يومًا في حبس محمد بن عبد الملك الزيات، في خلافة الواثق، آيس ما كنت من الفرج، وأشد محنةً وغمًّا، حتى وردت عليَّ رقعة أخي الحسن بن وهب، وفيها شعر له:
محن أبا أيوب أنت محلها فإذا جزعت من الخطوب فمن لها
إنَّ الذي عقد الذي انعقدت به عقد المكاره فيك يحسن حلها
فاصبر فإنَّ الله يعقب فرجة ولعلها أن تنجلي ولعلها
وعسى تكون قريبة من حيث لا ترجو وتمحو عن جديدك ذلها
قال: فتفاءلت بذلك، وقويت نفسي، فكتبت إليه:
صبرتني ووعظتني وأنا لها وستنجلي بل لا أقول لعلها
ويحلها من كان صاحب عقدها ثقة به إذ كان يملك حلها
قال: فلم أصلِّ العتمة ذلك اليوم، حتى أُطلقتُ، فصلَّيتها في داري، ولم يمضِ يومي ذاك، حتى فرَّج الله عني، وأُطلقت من حبسي، ورُوي أنَّ هاتين الرقعتين وقعتا بيد الواثق، الرسالة والجواب، فأمر بإطلاق سليمان، وقال: والله، لا تركت في حبسي من يرجو الفرج، ولا سيما من خدمني.
فأطلقه على كره من ابن الجراح الزيات لذلك) ((الفرج بعد الشدة)) للتنوخي (1/ 186 – 188).
3 – من يائس من تعلم علم النحو، إلى إمام فيه:
قال ابن عثيمين: (قد حدَّثني شيخنا المثابر عبد الرحمن السعدي رحمه الله أنَّه ذكر عن الكسائي إمام أهل الكوفة في النحو أنه طلب النحو فلم يتمكن، وفي يوم من الأيام وجد نملة تحمل طعامًا لها وتصعد به إلى الجدار، وكلما صعدت سقطت، ولكنها ثابرت حتى تخلصت من هذه العقبة، وصعدت الجدار، فقال الكسائي: هذه النملة ثابرت حتى وصلت الغاية، فثابر حتى صار إمامًا في النحو، فينبغي أن نثابر ولا نيأس؛ فإن الياس معناه سدُّ باب الخير، وينبغي لنا ألا نتشاءم، بل نتفاءل، وأن نعِد أنفسنا خيرًا) انظر: ((كتاب العلم)) (26/ 121_ 122) بتصرف يسير.
[13] ذم الياس والقنوط في واحة الشعر
قال ابن دريد: أنشدني أبو حاتم السجستاني:
إذا اشتملتْ على الياسِ القلوبُ وضاق لما به الصدرُ الرحيبُ
وأوطأتِ المكارهُ واطمأنتْ وأرستْ في أماكنِها الخطوبُ
ولم ترَ لانكشافِ الضرِّ وجهًا ولا أغنى بحيلتِه الأريبُ
أتاك على قنوطٍ منك غوثٌ يمنُّ به اللطيفُ المستجيبُ
وكلُّ الحادثاتِ إذا تناهتْ فموصولٌ بها الفرجُ القريبُ [((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (8/ 42 – 433)]
وقال آخر:
ولربَّ نازلةٍ يضيقُ بها الفتى ذرعًا وعندَ اللهِ منها المخرجُ
كملت فلما استحكمتْ حلقاتُها فُرِجتْ وكان يظنُّها لا تفرجُ [((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (8/ 42 – 433)]
وقال ابن القيِّم:
باللهِ أبلغُ ما أسعَى وأدركُه لا بي ولا بشفيعٍ لي مِن الناسِ
إذا أيستُ وكاد الياسُ يقطعُني جاء الرجا مسرعًا مِن جانبِ الياسِ [((الفوائد)) (1/ 32)]
وقال النابغة في اليأس الممدوح:
والياسُ مما فات يُعقِبُ راحةً ولربَّ مطمعةٍ تكون ذباحَا [((أساس البلاغة)) للزمخشري (1/ 309)]
وقال القحطاني:
ولأحسمنَّ عن الأنامِ مطامعي بحسامِ يأسٍ لم تشبْهُ بناني [((القصيدة النونية) (1/ 18)]
ولأحسمن: لأقطعن. ((لسان العرب)) (12/ 134)
[الياس والقنوط، الأَخلاق المذمومة، موسوعة الأخلاق، بتصرف يسير].
(المسألة الثانية): الفتاوى
[1] [معنى القنوط من رحمة الله]
السؤال: على بركة الله نبدأ هذا اللقاء بسؤال لأحد الإخوة (ع. أ. أ) يقول: ما معنى القنوط من رحمة الله وذلك من الكتاب والسنة؟ جزاكم الله خيرًا يا سماحة الشيخ.
قال الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله تعالى: …. قال تعالى: إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87]، فلا يجوز لأحد أن يقنط من رحمة الله، يعني: ييئس لكفره أو لمعاصيه بل عليه التوبة والرجوع إلى الله والإنابة إليه وله البشرى بأن الله يقبل توبته ويعظم أجره ويجازيه على ما فعل من الخير.
أما اليأس والقنوط لأجل سوء العمل فهذا من تزيين الشيطان، ولا يجوز، بل يجب على العبد الحذر من ذلك، وأن لا يقنط ولا ييئس، بل يرجو رحمة ربه، يرجو أن الله يتوب عليه، يرجو أن الله يتقبل عمله فلا ييئس. نعم”. انتهى. [الموقع الرسمي لفضيلته رحمه الله تعالى]
[2] [الشهادة على مسلم بأنه في النار]
السؤال: تقول السائلة: ما حكم من يجزم على مسلمٍ بأنه سيكون من أهل النار، مع العلم بأنه ملتزم بالتعاليم الإسلامية؟
قال الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله تعالى:
” لا يجوز الشهادة لأحد بالنار ولا بالجنة، إلا من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم، ما يقول فلان بالجنة ولا في النار، ولو كان من أهل التقوى ما يقال من أهل الجنة، ولو كان من أهل المعاصي ما يقال من أهل النار ولو كان مشرك، ما يقال هذا من أهل النار، قد يتوب، يقال إذا مات على الشرك صار من أهل النار، إذا مات على الإيمان فهو من أهل الجنة، أما أن يقال فلان بن فلان عبد الله بن فلان من أهل الجنة، أو عبد الله بن فلان من أهل الجنة لا، المؤمن والمسلم قد يرتد قد يتغير، والكافر قد يسلم.
ولهذا أجمع أهل السنة والجماعة على أنه لا يجوز أن ينسب أحدٌ بجنة ولا نار إلا من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم أو دل عليه القرآن مثل أبي لهب، دل عليه القرآن أنه من أهل النار، فيشهد له بالنار تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ (1) سورة المسد.
وهكذا من مات على الكفر وعرف أنه مات على الكفر يشهد له بالنار مثل أبي جهل, أبو طالب عتبة بن ربيعة, شيبة بن ربيعة هؤلاء قتلوا يوم بدر على الكفر, فالمعروف أنهم من أهل النار, أو شهد لهم الرسول بالجنة كالأربعة الخلفاء مشهود لهم بالجنة، بقية العشرة وهم عبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة بن الجراح، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، هؤلاء بقية العشرة من أهل الجنة، وهكذا ثابت بن قيس بن شماس, وعكاشة بن محصن شهد لهم النبي بالجنة، عبد الله بن سلام، المقصود من شهد له الرسول بالجنة فهو من أهل الجنة.
لكن نقول المؤمنون في الجنة، المؤمنون جميعاً في الجنة، أصحاب النبي كلهم في الجنة، لكن لا نشهد بعين فلان بن فلان أنه من أهل الجنة إلا إذا شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم ونقول الكفار إذا ماتوا على الكفر من أهل النار، لكن ما نقول فلان الحي أنه يموت على الكفر- ما ندري- لكن إن مات على الكفر فهو من أهل النار نسأل الله العافية”. انتهى. [الموقع الرسمي لفضيلته رحمه الله تعالى]
وفي فتوى لبعض لجان الفتوى:
ـ[ما المقصود بقول ابن القيم: (وطغيان المعاصي أسلم من طغيان الطاعات)؟]ـ
[الفَتْوى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد تكلم الإمام ابن القيم عن هذه العبارة كثيرا، وخلاصة القول فيها: أن الطاعة قد تكون سببا للطغيان والإعجاب بالنفس والرياء للخلق واحتقار الغير مما يكون سببا في سخط الله على ذلك الذي قام بالطاعة.
وقد تكون المعصية سببا للندم والخوف من الله واحتقار النفس والإخلاص في العمل والتواضع لله سبحانه، فيكون ذلك سببا لرضا الله تعالى عن العبد.
ويوضح هذا المعنى الذي ذكرناه ما في صحيح الإمام مسلم من حديث جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدث أن رجلا قال: والله لا يغفر الله لفلان، وأن الله تعالى قال: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان؟ فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك. وفي شعب الإيمان للبيهقي من حديث جندب قال: وطئ رجل على عنق رجل وهو يصلي، فقال الرجل: والله لا يغفر الله لك هذا أبدا، فقال الله عزوجل: من هذا الذي يتألى علي أن لا أغفر له؟ فقد غفرت له وأحبطت عملك.
فهذا الطائع الساجد قادته الطاعة إلى الاستكبار فحبط عمله، ولذا يقال: كم طاعة أورثت استكبارا، وكم معصية أورثت انكسارا.
ولذا، فعلى الطائعين أن يجمعوا بين الخوف والرجاء.
وليس معنى هذا التهوين من أمر المعصية، بل الواجب على العبد أن يحذر الوقوع في المعاصي لأنها سبب دماره وهلاكه في الدنيا والآخرة.
والله أعلم. إنتهى
وإليك كلام ابن القيِّم:
فَتَرَاهُ أَزْهَدُ مَا يَكُونُ، وَأَعْبَدُ مَا يَكُونُ، وَأَشَدُّ اجْتِهَادًا، وَهُوَ أَبْعَدُ مَا يَكُونُ عَنِ اللَّهِ، وَأَصْحَابُ الْكَبَائِرِ أَقْرَبُ قُلُوبًا إِلَى اللَّهِ مِنْهُ، وَأَدْنَى مِنْهُ إِلَى الْإِخْلَاصِ وَالْخَلَاصِ.
فَانْظُرْ إِلَى السَّجَّادِ الْعَبَّادِ الزَّاهِدِ الَّذِي بَيْنَ عَيْنَيْهِ أَثَرُ السُّجُودِ، كَيْفَ أَوْرَثَهُ طُغْيَانُ عَمَلِهِ أَنْ أَنْكَرَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَوْرَثَ أَصْحَابَهُ احْتِقَارَ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى سَلَّوْا عَلَيْهِمْ سُيُوفَهُمْ، وَاسْتَبَاحُوا دِمَاءَهُمْ.
وَانْظُرْ إِلَى الشِّرِّيبِ السِّكِّيرِ الَّذِي كَانَ كَثِيرًا مَا يُؤْتَى بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَحُدُّهُ عَلَى الشَّرَابِ، كَيْفَ قَامَتْ بِهِ قُوَّةُ إِيمَانِهِ وَيَقِينِهِ، وَمَحَبَّتِهِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتَوَاضُعِهِ وَانْكِسَارِهِ لِلَّهِ حَتَّى نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لَعْنِهِ.
فَظَهَرَ بِهَذَا: أَنَّ طُغْيَانَ الْمَعَاصِي أَسْلَمُ عَاقِبَةً مِنْ طُغْيَانِ الطَّاعَاتِ. مدارج السالكين 3/ 213