2595 الفوائد المنتقاة على صحيح مسلم
مجموعة: إبراهيم البلوشي وأبي عيسى البلوشي ، وعبدالله المشجري، و أبي علي راشد الحوسني وأبي عبدالله علي الكربي
ومجموعة : طارق أبي تيسير، ومحمد البلوشي، وعبدالحميد البلوشي، وكديم وخميس العميمي وآخرين.
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى ، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا )
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–
صحيح مسلم، ٢٤ – بابُ النَّهْيِ عَنْ لَعْنِ الدَّوابِّ وغَيْرِها
٨٠ – (٢٥٩٥) حَدَّثَنا أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، وزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، قالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنا إسْماعِيلُ بْنُ إبْراهِيمَ، حَدَّثَنا أيُّوبُ، عَنْ أبِي قِلابَةَ، عَنْ أبِي المُهَلَّبِ، عَنْ عِمْرانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قالَ: بَيْنَما رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي بَعْضِ أسْفارِهِ، وامْرَأةٌ مِنَ الأنْصارِ عَلى ناقَةٍ، فَضَجِرَتْ فَلَعَنَتْها، فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَقالَ: «خُذُوا ما عَلَيْها ودَعُوها، فَإنَّها مَلْعُونَةٌ» قالَ عِمْرانُ: فَكَأنِّي أراها الآنَ تَمْشِي فِي النّاسِ، ما يَعْرِضُ لَها أحَدٌ.
٨١ – (٢٥٩٥) حَدَّثَنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وأبُو الرَّبِيعِ، قالا: حَدَّثَنا حَمّادٌ وهُوَ ابْنُ زَيْدٍ، ح وحَدَّثَنا ابْنُ أبِي عُمَرَ، حَدَّثَنا الثَّقَفِيُّ، كِلاهُما عَنْ أيُّوبَ، بِإسْنادِ إسْماعِيلَ، نَحْوَ حَدِيثِهِ، إلّا أنَّ فِي حَدِيثِ حَمّادٍ: قالَ عِمْرانُ: فَكَأنِّي أنْظُرُ إلَيْها، ناقَةً ورْقاءَ، وفِي حَدِيثِ الثَّقَفِيِّ: فَقالَ: «خُذُوا ما عَلَيْها وأعْرُوها، فَإنَّها مَلْعُونَةٌ».
٨٢ – (٢٥٩٦) حَدَّثَنا أبُو كامِلٍ الجَحْدَرِيُّ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ، حَدَّثَنا يَزِيدُ يَعْنِي ابْنَ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنا التَّيْمِيُّ، عَنْ أبِي عُثْمانَ، عَنْ أبِي بَرْزَةَ الأسْلَمِيِّ، قالَ: بَيْنَما جارِيَةٌ عَلى ناقَةٍ، عَلَيْها بَعْضُ مَتاعِ القَوْمِ، إذْ بَصُرَتْ بِالنَّبِيِّ ﷺ، وتَضايَقَ بِهِمِ الجَبَلُ، فَقالَتْ: حَلْ، اللهُمَّ العَنْها، قالَ: فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لا تُصاحِبْنا ناقَةٌ عَلَيْها لَعْنَةٌ».
٨٣ – (٢٥٩٦) حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأعْلى، حَدَّثَنا المُعْتَمِرُ، ح وحَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنا يَحْيى يَعْنِي ابْنَ سَعِيدٍ، جَمِيعًا عَنْ سُلَيْمانَ التَّيْمِيِّ، بِهَذا الإسْنادِ، وزادَ فِي حَدِيثِ المُعْتَمِرِ «لا أيْمُ اللهِ لا تُصاحِبْنا راحِلَةٌ عَلَيْها لَعْنَةٌ مِنَ اللهِ» أوْ كَما قالَ.
٨٤ – (٢٥٩٧) حَدَّثَنا هارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأيْلِيُّ، حَدَّثَنا ابْنُ وهْبٍ، أخْبَرَنِي سُلَيْمانُ وهُوَ ابْنُ بِلالٍ، عَنِ العَلاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَهُ عَنْ أبِيهِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ، قالَ: «لا يَنْبَغِي لِصِدِّيقٍ أنْ يَكُونَ لَعّانًا».
٨٤ – حَدَّثَنِيهِ أبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنا خالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنِ العَلاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، بِهَذا الإسْنادِ مِثْلَهُ.
٨٥ – (٢٥٩٨) حَدَّثَنِي سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنِي حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ، أنَّ عَبْدَ المَلِكِ بْنَ مَرْوانَ، بَعَثَ إلى أُمِّ الدَّرْداءِ بِأنْجادٍ مِن عِنْدِهِ، فَلَمّا أنْ كانَ ذاتَ لَيْلَةٍ، قامَ عَبْدُ المَلِكِ مِنَ اللَّيْلِ، فَدَعا خادِمَهُ، فَكَأنَّهُ أبْطَأ عَلَيْهِ، فَلَعَنَهُ، فَلَمّا أصْبَحَ قالَتْ لَهُ أُمُّ الدَّرْداءِ: سَمِعْتُكَ اللَّيْلَةَ، لَعَنْتَ خادِمَكَ حِينَ دَعَوْتَهُ، فَقالَتْ: سَمِعْتُ أبا الدَّرْداءِ يَقُولُ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لا يَكُونُ اللَّعّانُونَ شُفَعاءَ ولا شُهَداءَ، يَوْمَ القِيامَةِ».
٨٥ – حَدَّثَنا أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، وأبُو غَسّانَ المِسْمَعِيُّ، وعاصِمُ بْنُ النَّضْرِ التَّيْمِيُّ، قالُوا: حَدَّثَنا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمانَ، ح وحَدَّثَنا إسْحاقُ بْنُ إبْراهِيمَ، أخْبَرَنا عَبْدُ الرَّزّاقِ، كِلاهُما عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ فِي هَذا الإسْنادِ، بِمِثْلِ مَعْنى حَدِيثِ حَفْصِ بْنِ مَيْسَرَةَ.
٨٦ – (٢٥٩٨) حَدَّثَنا أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنا مُعاوِيَةُ بْنُ هِشامٍ، عَنْ هِشامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ، وأبِي حازِمٍ، عَنْ أُمِّ الدَّرْداءِ، عَنْ أبِي الدَّرْداءِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، يَقُولُ: «إنَّ اللَّعّانِينَ لا يَكُونُونَ شُهَداءَ، ولا شُفَعاءَ يَوْمَ القِيامَةِ».
٨٧ – (٢٥٩٩) حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبّادٍ، وابْنُ أبِي عُمَرَ، قالا: حَدَّثَنا مَرْوانُ يَعْنِيانِ الفَزارِيَّ، عَنْ يَزِيدَ وهُوَ ابْنُ كَيْسانَ، عَنْ أبِي حازِمٍ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، قالَ: قِيلَ: يا رَسُولَ اللهِ ادْعُ عَلى المُشْرِكِينَ، قالَ: «إنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعّانًا، وإنَّما بُعِثْتُ رَحْمَةً».
==========
التمهيد: ” طهارة لسان المؤمن هدف إسلامي، فالمؤمن من سلم المسلمون من لسانه، وقد تناولنا في أحاديث سابقة الحث على طهارة اللسان من السب والفحش، واللعن نوع من الفحش، أفرد بالذكر في هذا الباب لمزيد عناية به؛ لكثرة جريانه على الألسنة وتساهل الناس فيه.
والدواب خلقة الله وصنعته، ولعن المصنوع إساءة للصنعة وإساءة للصانع، وهذا وإن لم يقصد من اللاعن ينبغي البعد عنه.
وإكثار اللعن كان سببا من أسباب كثرة دخول النساء جهنم، وكثرة اللعن في أحاديث الباب؛ سبب للحرمان من الشفاعة والشهادة فلا يكون اللاعنون شفعاء يوم يكثر الشفعاء ولا شهداء يوم يتقدم الشهداء “.
[فتح المنعم]
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
(٢٤) – (بابُ النَّهْيِ عَنْ لَعْنِ الدَّوابِّ، وغَيْرِها)
الحديث الأول:
[٦٥٨١] (٢٥٩٥) – حَدَّثَنا أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، وزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ،
جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، قالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنا إسْماعِيلُ بْنُ إبْراهِيمَ، حَدَّثَنا أيُّوبُ، عَنْ
أبِي قِلابَةَ، عَنْ أبِي المُهَلَّبِ، عَنْ عِمْرانَ ئنِ حُصَيْنٍ، قالَ: بَيْنَما رَسُولُ اللهِ – ﷺ –
فِي بَعْضِ أسْفارِهِ، وامْرَأةٌ مِنَ الأنْصارِ عَلى ناقَةٍ، فَضَجِرَتْ، فَلَعَنَتْها، فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ – ﷺ -، فَقالَ: «خذُوا ما عَلَيْها، ودَعُوها، فَإنّها مَلْعُونَةٌ»، قالَ عِمْرانُ: فَكَأنِّي أراها الآنَ تَمْشِي فِي النّاسِ، ما يَعْرِضُ لَها أحَدٌ.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف – رحمه الله -، وله فيه شيخان قرن بينهما، ثم فصّل؛
لِما أسلفناه غير مرّة، وأنه مسلسلٌ بالبصريين، غير شيخيه، فالأول كوفيّ،
والثاني بغداديّ، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: أيوب، عن
أبي قِلابة، عن أبي المُهلّب، ورواية الأولين من رواية الأقران.
شرح الحديث:
(عَنْ عِمْرانَ بْنِ حُصَيْنٍ) – رضي الله عنهما -؛ أنه (قالَ: بَيْنَما رَسُولُ اللهِ – ﷺ – فِي بَعْضِ أسْفارِه) قال صاحب التنبيه : لا أعرف السَّفرة، ولا المرأة. انتهى [»تنبيه المعلم«ص ٤٣١].
(وامْرَأةٌ مِنَ الأنْصارِ عَلى ناقَةٍ) هي الأنثى من الإبل، قال أبو عبيدة: ولا تُسمى ناقةً حتى تُجذِعَ، والجمع: أينُقٌ بالقلب المكانيّ، ونوقٌ، ونِياق. [راجع:»المصباح المنير«٢/ ٦٣١].
(فَضَجِرَتْ) بفتح الضاد المعجمة، وكسر الجيم، يقال: ضَجِر منه، وبه؛ كفَرِحَ، وتضجّر: تبرّم، فهو ضَجِرٌ، قاله المجد – رحمه الله -. [»القاموس المحيط«ص ٧٧٠].
(فَلَعَنَتْها) وفي حديث أبي بَرْزة الأسلميّ الآتي: قال: بينما جارية على ناقة، عليها بعض متاع القومِ، إذ بَصُرت بالنبيّ – ﷺ -، وتضايق بهم الجبل، فقالت: حَلْ، اللَّهُمَّ العنها، (فسَمِعَ ذَلِكَ)؛ أي: لَعْن المرأة للناقة، (رَسُولُ اللهِ – ﷺ -، فَقالَ) – ﷺ – (خُذُوا ما عَلَيْها) من المتاع، والمرأة، (ودَعُوها)؛ أي: اتركوها تمشي بلا حَمْل شيء عليها، وفي الرواية التالية: «فقال: خذوا ما عليها، وأعْرُوها»، وفي رواية أبي داود: «ضعوا عنها»؛ أي: ضَعُوا رحالها، وأعروها؛ لئلا تُركَب، وزعم بعض أهل العلم: أن النبيّ – ﷺ – إنما أمَرَهم بذلك فيها؛ لأنه قد استُجيب لها الدعاء عليها باللعن، واستَدَلّ على ذلك بقوله: «فإنها ملعونة»، وقد يَحْتَمِل أن يكون إنما فَعَل عقوبة لصاحبتها؛ لئلا تعود إلى مثل قولها. انتهى [»عون المعبود«٧/ ١٦٥].
قال الأثيوبي عفا الله عنه: هذا الاحتمال الأخير هو الصواب؛ والأول لا
دليل عليه، فتأمل بالإمعان، والله تعالى أعلم.
قال ابن الأثير – رحمه الله -: قيل: إنما فَعَل – ﷺ – ذلك؛ لأنه استجيب دعاؤها فيها، وقيل: فَعَله عقوبةً لصاحبتها؛ لئلا تعود إلى مثلها، وليَعْتَبِر بها غيرها، وأصل اللعن: الطردُ والإبعاد من الله، ومن الخَلْق: السبّ والدعاء. انتهى [»النهاية في غريب الأثر” ٤/ ٢٥٥].
(فَإنَّها مَلْعُونَةٌ)؛ أي: لكونها ملعونةً، فلا ينبغي الحمل، ولا الركوب عليه، وهذا معاقبة لصاحبتها. (قالَ عِمْرانُ) بن حُصين – رضي الله عنهما – (فَكَأنِّي أراها الآنَ)؛ أي: أستحضر في الوقت الحاضر ما وقع في تلك الساعة من أنّها أُخذ ما عليها، فكانت (تَمْشِي فِي النّاسِ)؛ أي: بينهم، (ما) نافية، (يَعْرِضُ) بفتح
أوله، وكَسْر ثالثه، من باب ضرب؛ أي: ما يتعرّض (لَها أحَدٌ) بالحمل، ولا
بالركوب؛ لِعِلْمهم بأنه – ﷺ – نهى عن ذلك، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عمران بن حُصين – رضي الله عنهما – هذا من أفراد
المصنّف – رحمه الله -.
(المسألة الثانية): في فوائده:
١ – (منها): بيان الزجر عن لعن شيء من الدوابّ وغيرها، وقد بيّن النبيّ – ﷺ – علة المنع بأنه مخافة أن يوافق ساعة الإجابة، فيستجاب الدعاء، فيتضرّر بذلك صاحبه، فقد أخرج مسلم من حديث جابر – رضي الله عنه – الطويل الآتي آواخر الكتاب، قال: سرنا مع رسول الله – ﷺ – في غزوة بطن بُواط، وهو يطلب المَجْديّ بن عمرو الجُهنيّ، وكان الناضح يعقبه منا الخمسة، والستة، والسبعة، فدارت عقبة رجل من الأنصار على ناضح له، فأناخه، فركبه، ثم بعثه، فتَلَدّن عليه بعض التلَدُّن، فقال له: شَأْ لَعَنَك الله، فقال رسول الله – ﷺ -: «من هذا اللاعن بعيره؟» قال: أنا يا رسول الله، قال: «انزِلْ عنه، فلا تصحبنا بملعون، لا تدعوا على أنّفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعةً يُسأل فيها عطاءٌ، فيستجيبَ لكم».
٢ – (ومنها): أنه يُستفاد من الحديث جواز العقوبة في المال لمن جنى فيه بما يناسب ذلك، قاله القرطبيّ – رحمه الله – [«المفهم» ٦/ ٥٨١].
٣ – (ومنها): ما قاله النوويّ – رحمه الله -: إنما قال – ﷺ – هذا لهذه المرأة زجرًا لها، ولغيرها، وكان قد سَبَق نهيها، ونهيُ غيرها عن اللعن، فعوقبت بإرسال الناقة، والمراد: النهي عن مصاحبته لتلك الناقة في الطريق، وأما بيعها، وذَبْحها، وركوبها في غير مصاحبته – ﷺ -، وغير ذلك من التصرفات التي كانت جائزة قبل هذا، فهي باقية على الجواز؛ لأنّ الشرع إنما ورد بالنهي عن المصاحبة، فبقي الباقي كما كان. انتهى [«شرح النوويّ» ١٦/ ١٤٧ – ١٤٨].
وقال القرطبيّ – رحمه الله -: حَمَل بعض الناس قوله – ﷺ -: ((فإنها ملعونة)) على ظاهره، فقال: أطلع الله تعالى نبيّه – ﷺ – على أنّ هذه الناقة قد لَعَنها الله تعالي، وقد استُجيب لصاحبتها فيها، فإن أراد هذا القائل أن الله تعالى لعن هذه الناقة كما يلعن من استحقّ اللعنة من المكلّفين كان ذلك باطلًا؛ إذ الناقة ليست بمكلّفة، وأيضًا فإنّ الناقة لَمْ يصدُر منها ما يوجب لَعْنها، وإن أراد أن هذه اللعنة إنما هي عبارة عن إبعاد هذه الناقة عن مالكتها، وعن استخدامها إياها، فتلك اللعنة إنما ترجع لصاحبتها؛ إذ قد حيل بينها وبين مالها، ومُنعت الانتفاع بها، لا للناقة؛ لأنَّها قد استراحت من ثِقَل الحَمْل، وكَدّ السير.
فإنْ قيل: فلعلَّ معنى لعنة الله الناقة: أن تُترك، وأن لا يتعرّض لها أحد.
فالجواب: أن معنى تَرْك الناس لها إنما هو أنهم لَمْ يؤووها إلى رحالهم، ولا استعملوها في حَمْل أثقالهم، فأمّا أن يتركوها في غير مَرْعَي، ومن غير عَلَف حتى تَهْلِك، فليس في الحديث ما يدلّ عليه.
ثم هو مخالف لقاعدة الشرع في الأمر بالرفق بالبهائم، والنهي عن تعذيبها، وإنما كان هذا منه – ﷺ – تأديبًا لصاحبتها، وعقوبةً لها فيما دَعَت عليها بما دَعَت به. انتهى كلام القرطبيّ – رحمه الله -. [«المفهم» ٦/ ٥٨٠ – ٥٨١].
قال الأثيوبي عفا الله عنه: وممن ذهب إلى أن سبب قوله – ﷺ -: ((ودَعُوها، فإنها ملعونة)) استجابة دعاء المرأة على تلك الناقة ابن حبّان في «صحيحه»، فإنه
قال: أمْر المصطفى – ﷺ – بتسييب الراحلة التي لُعنت أمْر أُضمر فيه سببه، وهو
حقيقة استجابة الدعاء للّاعن، فمتى علم استجابة الدعاء من لاعنٍ ما راحلةً
له، أمرناه بتسييبها، ولا سبيل إلى علم هذا؛ لانقطاع الوحي، فلا يجوز استعمال هذا الفعل لأحد أبدًا، ثم استدلّ على ذلك بحديث أبي برزة الأسلميّ – رضي الله عنه – المذكور هنا بعد هذا. [ «صحيح ابن حبان» ١٣/ ٥٣].
قال الأتيوبي عفا الله عنه: الذي يظهر لي أن سبب أمْره – ﷺ – بتسييب تلك
الناقة هو تأديب صاحبتها، ومعاقبتها عليها، كما ذهب إليه النوويّ، والقرطبيّ،
وغيرهما، وليس حديث أبي برزة – رضي الله عنه – نصًّا فيما قاله ابن حبّان، فما قالوه أولى، وأقرب مما قاله، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.
الحديث الثاني: [٦٥٨٢] (…) – حَدَّثَنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وأبُو الرَّبِيعِ، قالا: حَدَّثَنا حَمّادٌ،
وهُوَ ابْنُ زيدٍ (ح) وحَدَّثَنا ابْنُ أبِي عُمَرَ، حَدَّثَنا الثَّقَفِيُّ، كِلاهُما عَنْ أيُّوبَ، بِإسْنادِ
إسْماعِيلَ، نَحْوَ حَدِيثِهِ، إلَّا أنَّ فِي حَدِيثِ حَمّادٍ: قالَ عِمْرانُ: فَكَأنِّي أنْظُرُ إلَيْها
ناقَةً ورْقاءَ، وفِي حَدِيثِ الثَّقَفِيِّ: فَقالَ: «خُذوا ما عَلَيْها، وأعْرُوها، فَإنَّها مَلْعُونَةٌ».
وقوله: (فَكَأنِّي أنْظُرُ إلَيْها)؛ أي: إلى تلك الناقة، (ناقَةً) منصوب على
الحاليّة، (ورْقاءَ) قال النوويّ: بالمدّ؛ أي: في يخالط بياضها سواد، والذَّكر
أورق، وقيل: هي التي لونها كلون الرماد. انتهى [«شرح النوويّ» ١٦/ ١٤٨].
وقوله: (وأعْرُوهَما) – بقطع الهمزة، وبضمّ الراء – يقال: أعريته، وعَرَّيته إعراءً، وتعريةً، فتعرّي، والمراد هنا: خُذوا ما عليها من المتاع، ورَحْلها، وآلتها. [«شرح النوويّ» ١٦/ ١٤٨].
[تنبيه]: رواية حماد بن زيد عن أيوب السختيانيّ ساقها أبو داود – رحمه الله – في »سننه«، فقال:
(٢٥٦١) – حَدَّثَنا سليمان بن حرب، ثنا حماد، عن أيوب، عن أبي
قلابة، عن أبي المُهَلَّب، عن عمران بن حُصين، أن النبيّ – ﷺ – كان في سفر،
فسمع لعنةً، فقال:ما هذه؟ قالوا: هذه فلانة لعنت راحلتها، فقال النبيّ – ﷺ -: ((ضَعُوا عنها، فإنها ملعونة))، فوضعوا عنها، قال عمران: فكأني انظر إليها ناقةً ورقاء. انتهى [«سنن أبي داود» ٣/ ٢٦].
وأما رواية عبد الوهّاب الثقفيّ عن أيوب، فقد ساقها البيهقيّ في »الكبرى«، فقال:
(١٠١١٢) – أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب،
أنا الربيع بن سليمان، أنا الشافعيّ، أنا عبد الوهاب الثقفيّ (ح) وأخبرنا أبو
عبد الله، أنا أبو الفضل بن إبراهيم، ثنا أحمد بن سلمة، ثنا إسحاق بن
إبراهيم، أنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفيّ، ثنا أيوب، عن أبي قلابة،
عن أبي المُهَلَّب، عن عمران بن حُصين، قال: بينما رسول الله – ﷺ – في سفر،
وامرأة من الأنصار على ناقة لها، فضَجِرت، فَلَعَنَتْها، فقال رسول الله – ﷺ -:
((خُذوا عنها، وعَرُّوها، فإنها ملعونة)). قال: فكان لا يأويها أحدٌ.
قال: ورواه حماد بن زيد، عن أيوب، قال في الحديث: ((ضَعُوا عنها، فإنها ملعونة))، فوضعوا عنها، قال عمران: كأني انظر إليها ناقةً ورقاء. انتهى [»سنن البيهقي الكبرى” ٥/ ٢٥٤].
الحديث الثالث:
[٦٥٨٣] (٢٥٩٦) – حَدَّثَنا أبُو كامِلٍ الجَحْدَرِيُّ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ، حَدَّثَنا
يَزِيدُ – يَعْنى: ابْنَ زُريعٍ – حَدَّثَنا التَّيْمِيُّ، عَنْ أبِي عُثْمانَ، عَنْ أبِي بَرْزَةَ الأسْلَمِيِّ،
قالَ: بَيْنَما جارِيةٌ عَلى ناقَةٍ، عَلَيْها بَعْضُ مَتاعِ القَوْمِ، إذْ بَصُرَتْ بِالنَّبِيِّ – ﷺ -،
وتَضايَقَ بِهِمُ الجَبَلُ، فَقالَتْ: حَلْ، اللَّهُمَّ العَنْها، قالَ: فَقالَ النَّبِيُّ – ﷺ -: ((لا
تُصاحِبُنا ناقَةٌ، عَلَيْها لَعْنَةٌ)).
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خُماسيّات المصنّف – رحمه الله -، وأنه مسلسل بالبصريين من أوله إلى
آخره، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ مخضرم.
(عَنْ أبِي بَرْزَةَ) نَضْلَة بن عُبيد (الأسْلَمِيِّ) بفتح الهمزة: نسبة إلى أسلم بن
أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن
مازن بن الأزد، قاله في»اللباب«[»اللباب في تهذيب الأنساب«١/ ٥٨]. (قالَ: بَيْنَما جارِيةٌ) تقدّم غير مرّة أن »بينما« هي » بين « الظرفيّة زيدت عليها »ما«، (عَلى ناقَةٍ)؛ أي: راكبة عليها.
(عَلَيْها)؛ أي: على تلك الناقة (بَعْضُ مَتاعِ القَوْمِ)؛ أي: محمول عليها، (إذْ)
بكسر الهمزة، وسكون الذال المعجمة هي الفجائيّة يُتلقّى بها جواب»بينما«،
وهو قوله: (بَصُرَتْ بِالنَبِيِّ – ﷺ -) بضمّ الصاد المهملة، وتُكسر، قال الفيّوميّ – رحمه الله -: بصُرت بالشيء بالضمّ، والكسر لغةٌ بَصَرًا، بفتحتين: علمتُ،
فأنا بصير به، يتعدّى بالباء، في اللغة الفصحي، وقد يتعدّى بنفسه. انتهى [»المصباح المنير«١/ ٥٠].
وقال المجد – رحمه الله -: وبَصُرَ به، ككَرُمَ، وفَرِحَ بَصَرًا، وبَصارَة، ويُكْسَرُ؛
ككِتابةٍ: صار مُبْصِرًا. انتهى [»القاموس المحيط«ص ١١٠].
(وتَضايَقَ بِهِمُ الجَبَلُ)؛ أي: ضاق بهم الطريق في الجبل، (فَقالَتْ: حَلْ) بفتح الحاء المهملة، وسكون اللام، كلمة تُزجر بها الإبل، يقال: حَلْ حَلْ بسكون اللام، ويقال أيضًا: حَلٍ حَلٍ، بكسر اللام فيهما منوّنةً، وغير منوّنة، قاله القرطبيّ – رحمه الله – [»المفهم«٦/ ٥٨١]. وقرر ذلك أيضا النووي كما في شرحه على مسلم .
(اللَّهُمَّ العَنْها)؛ أي: أبْعِدها من رحمتك. (قالَ) أبو برزة – رضي الله عنه -: (فَقالَ النَّبِيُّ – ﷺ -:»لا تُصاحِبُنا) الظاهر أن «لا» نافية، والفعل مرفوع، على الإخبار،
والمراد به النهي، ويحْتَمِل أن تكون «لا» ناهية، والفعل مجزوم بها. (ناقَةٌ،
عَلَيْها لَعْنَةٌ)؛ أي: عليها الدعاء باللعنة، وتقدّم أن الأظهر: أن يكون هذا من النبيّ – ﷺ – على سبيل الزجر، والعقوبة للمرأة حيث اعتدت على ناقة تنتفع بها بالركوب والحمل، فدَعَتْ عليها باللعنة، فعاقبها بعدم ركوبها، والحَمْل عليها، والله تعالى أعلم.
وحديث أبي برزة الأسلميّ – رضي الله عنه – هذا من أفراد المصنّف – رحمه الله -.
الحديث الرابع:
[٦٥٨٤] (…) – حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأعْلى، حَدَّثَنا المُعْتَمِرُ (ح)
وحَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنا يَحْيى – يَعْنِي: ابْنَ سَعِيدٍ – جَمِيعًا عَنْ
سُلَيْمانَ التَّيْمِيِّ، بِهَذا الإسْنادِ، وزادَ فِي حَدِيثِ المُعْتَمِرِ: لا ايْمُ اللهِ لا تُصاحِبُنا
راحِلَة عَلَيْها لَعْنَةٌ مِنَ اللهِ ، أوْ كَما قالَ.
وقوله: (لا ايْمُ اللهِ) »لا« نافية مؤكّدة بـ»لا« الثانية، و»ايم الله” قَسَم معترِض بينهما، وهو مبتدأ وخبره محذوف؛ أي: ايم الله قَسَمي، وهمزته همزة وصل لا يجوز فيها القطع عند الأكثرين، والأصل فيه: يمين الله، ثم جُمع اليمين على أيمُن، ولمّا كثر استعماله في كلامهم خفّفوه بحذف النون، فقالوا: ايم الله، وفيه لغات، قاله في «العمدة» [«عمدة القاري» ٥/ ١٠٠].
وقال في «الفتح»: «وايم الله» بكسر الهمزة، وبفتحها، والميم مضمومة، وحَكى الأخفش كسرها، مع كسر الهمزة، وهو اسم عند الجمهور، وحرف
عند الزجاج، وهمزته همزة وصْل عند الأكثر، وهمزة قَطْع عند الكوفيين، ومَن
وافقهم؛ لأنه عندهم جَمْع يمين، وعند سيبويه ومن وافقه أنه اسم مفرد،
واحتجوا بجواز كسر همزته، وفتح ميمه، قال ابن مالك: فلو كان جمعًا لَمْ
تُحذف همزته، واحتج بقول عروة بن الزبير، لمّا أُصيب بولده ورجله: ليمنك،
لئن ابتَلَيتَ، لقد عافيت، قال: فلو كان جمعًا لَمْ يُتصرف فيه بحذف بعضه،
قال: وفيه اثنتا عشرة لغة جمعتها في بيتين، وهما [من البسيط]:
هَمْزَ ايْمُ أيْمُنُ فافْتَحِ اكْسِرْ أوْ أمُ قُلْ … أوْ قُلْ مُ أوْ مَنُ بِالتَّثْلِيثِ قَدْ شُكِّلا
وأيْمُنُ اخْتِمْ بِهِ واللَّهِ كُلًّا أضِفْ … إلَيْهِ فِي قَسَمٍ تَسْتَوْفِ ما نُقِلا
ثم ذكر من زاد على ذلك وقال : وعلى هذا
تبلغ لغاتها عشرين.
وقال الجوهريّ: قالوا: ايم الله، وربما حذفوا الياء، فقالوا: أم الله، وربما أبقوا الميم وحدها مضمومةً، فقالوا: م الله، وربما كسروها؛ لأنَّها صارت حرفًا واحدًا، فشبّهوها بالباء، قالوا: وألِفها ألِف وصْل عند أكثر النحويين، ولم يجئ ألِف وصل مفتوحة غيرها، وقد تدخل اللام للتأكيد، فيقال: لَيْمُن الله، قال الشاعر [من الطويل]:
فَقالَ فَرِيقُ القَوْمِ لَمّا نَشَدتُهُمْ نَعَمْ … وفَرِيقٌ لَيْمُنُ اللَّهِ ما نَدْرِي
وذهب ابن كيسان وابن درستويه إلى أن ألِفها ألِف قطع، وإنما خُفّفت
همزتها، وطُرحت في الوصل؛ لكثرة الاستعمال.
وحكى ابن التين عن الداوديّ قال: ايم الله معناه: اسم الله، أُبدل السين ياءً، وهو غلط فاحش؛ لأنّ السين لا تُبْدل ياء.
وذهب المبرّد إلى أنّها عِوَض من واو القَسَم، وأن معنى قوله:
»وايم الله«: والله لأفعلنّ، ونُقل عن ابن عباس أن يمين الله من أسماء الله،
ومنه قول امرئ القيس:
فَقُلْتُ يَمِينُ اللَّهِ أبْرَحُ قاعِدًا … ولَوْ قَطعُوا رَأْسِي لَدَيْكِ وأوْصالِي [»الفتح«١٥/ ٢٥٨ – ٢٥٩]
[تنبيه]: رواية يحيى بن سعيد القطّان عن سليمان التيميّ ساقها الإمام
أحمد – رحمه الله – في»مسنده«، مقرونًا بيزيد بن هارون، فقال:
(١٩٨٠٥) – حَدَّثَنا يحيى بن سعيد عن التيميّ ويزيد، قال: أنا التيميّ،
عن أبي عثمان، عن أبي برزة – قال يزيد -: الأسلميّ، قال: كانت راحلةٌ، أو
ناقة، أو بعيرٌ، عليها متاع لقوم، فأخذوا بين جبلين، وعليها جارية، فتضايق
بهم الطريق، فأبصرت النبيّ – ﷺ -، فجعلت تقول: حَلْ حَلْ اللَّهُمَّ العنها، أو
العنه، فقال النبيّ – ﷺ -:»لا تصحبني ناقة، أو راحلة، أو بعير، عليها، أو عليه
لعنةٌ من الله تبارك وتعالى«. انتهى [»مسند الإمام أحمد بن حنبل” ٤/ ٤٢٣].
وأما رواية المعتمر عن أبيه سليمان التيميّ، فلم أجد من ساقها، فلْيُنظَر،
والله تعالى أعلم.
الحديث الخامس:
[٦٥٨٥] (٢٥٩٧) – حَدَّثَنا هارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأيْلِيُّ، حَدَّثَنا ابْنُ وهْبٍ،
أخْبَرَنِي سُلَيْمانُ – وهُوَ ابْنُ بِلالٍ – عَنِ العَلاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَهُ عَنْ أبِيهِ،
عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أنَّ رَسُولَ اللهِ – ﷺ – قالَ: ((لا يَنْبَغِي لِصِدِّيقٍ أنْ يَكُونَ لَعّانًا)).
(عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ)؛ – رضي الله عنه – أنَّ رَسُولَ اللهِ – ﷺ – قالَ: ((لا يَنْبَغِي لِصِدِّيقٍ) – بفتح الصاد المهملة، وتشديد الدال المهملة – فَعِيل، من صيغ المبالغة، والتكثير،
وهو الكثير الصدق، والتصديق، كما قد تقرّر في صفة أبي بكر – رضي الله عنه -. (أنْ
يَكُونَ لَعّانًا) – بفح اللام، وتشديد العين المهملة – فَعّال من صيغ المبالغة
و قال – ﷺ -: «لعن المؤمن كقتله»، متّفقٌ عليه.
ومعنى هذا الحديث: أن من كان صادقًا في أقواله، وأفعاله، مصدِّقًا بمعنى اللعنة الشرعية، لَمْ تكن كثرة اللعن من خُلُقه؛ لأنه إذا لَعَن من لا يستحق اللعنة الشرعية، فقد دعا عليه بأن يُبْعَد من رحمة الله، وجنّته، ويدخل في ناره، وسَخَطه، والإكثار من هذا يناقض أوصاف الصّدّيقين، فإنّ من أعظم صفاتهم الشفقة…. فمن كَثُر منه اللعن، فقد سُلِب منصب الصدّيقيّة، ومن سُلِبه فقد سُلب منصب الشفاعة، والشهادة الأخرويّة، كما قال – ﷺ -: «لا يكون اللعّانون شفعاء، ولا شُهداء يوم القيامة».
وإنما خصّ اللعّان بالذكر، ولم يقل: اللاعن؛ لأنّ الصدّيق قد يلعن من أمر الشرع بلَعْنه، وقد يقع منه اللعن فَلْتَةً، ونُدْرةً، ثم يتراجع، وذلك لا يخرجه عن الصدّيقيّة.
ولا يفهم مِن نِسبتنا الصدّيقيّة لغير أبي بكر الصدّيق – رضي الله عنه – مساواة غيره له في
صدّيقيّته [راجع:»المفهم«٦/ ٥٧٩ – ٥٨٠]، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – هذا من أفراد المصنّف – رحمه الله -.
(المسألة الثانية): في فوائدة:
١ – (منها): بيان التحذير عن كثرة اللعن، وأنه ينافي صفة الإيمان، ولذا جاء في حديث الترمذي من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – بلفظ:»لا ينبغي للمؤمن أن يكون لَعّانًا«، وفي لفظ:»لا يكون المؤمن لَعّانًا«، قال الترمذيّ: حديث حسن، وفي حديث ابن مسعود – رضي الله عنه – مرفوعًا عند الترمذيّ أيضًا، وصححه ابن حبّان: ((ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا البذيء ولا الفاحش)).
٢ – (ومنها): بيان أن مرتبة الصدّيقين أرفع مراتب المؤمنين، حيث إنهم متّصفون بالرحمة، والشفقة على عباد الله، فلا يكونون لعّانين، ولا طعّانين، أخرج البخاريّ في»الأدب المفرد«[»الأدب المفرد«١/ ١١٨]، والبيهقيّ في»شُعب الإيمان«[»شعب الإيمان” ٤/ ٢٩٤] عن عائشة – رضي الله عنها -، أن أبا بكر لعن بعض رقيقه، فقال النبيّ – ﷺ -: «يا أبا بكر اللعّانون، والصدّيقون، كلّا ورب الكعبة»، مرتين، أو ثلاثًا، فأعتق أبو بكر يومئذ بعض رقيقه، ثم جاء النبيّ – ﷺ -، فقال: لا أعود.
٣ – (ومنها): ما قاله النوويّ – رحمه الله -: فيه الزجر عن اللعن، وأن من تخلَّق
به لا يكون فيه هذه الصفات الجميلة ، وأن المؤمن يُحِب لاخيه ما يحبّ لنفسه، فمن
دعا على أخيه المسلم باللعنة، وهي الإبعاد من رحمة الله تعالي، فهو من نهاية
المقاطعة والتدابر، وهذا غاية ما يَوَدّه المسلم للكافر، ويدعو عليه، ولهذا جاء
في الحديث الصحيح «لعنُ المؤمن كقتله»؛ لأنّ القاتل يقطعه عن منافع الدنيا، وهذا يقطعه عن نعيم الآخرة، ورحمةِ الله تعالي، وقيل: معنى لعن المؤمن كقتله في الإثم، وهذا أظهر. انتهى باختصار [«شرح النوويّ» ١٦/ ١٤٨ – ١٤٩].
٤ – (ومنها): ما قاله النوويّ – رحمه الله – أيضًا: إنما قال النبيّ – ﷺ -: «لا ينبغي لصدّيق أن يكون لعّانًا»، و«لا يكون اللعانون شفعاء» بصيغة التكثير، ولم يقل: لاعنًا، ولا اللاعنون؛ لأنّ هذا الذمّ في الحديث إنما هو لمن كَثُر منه اللعن،
لا لمرّة ونحوها، ولأنه يخرج منه أيضًا اللعن المباح، وهو الذي ورد الشرع
به، وهو: لعنة الله على الظالمين، لَعَن الله اليهود والنصاري، لعن الله الواصلة، والواشمة، وشارب الخمر، وآكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، والمصوِّرين، ومن انتمى إلى غير أبيه، وتولّى غير مواليه، وغَيَّر منار الأرض، وغيرهم مما هو مشهور في الأحاديث الصحيحة. انتهي، والله تعالى أعلم. [ «شرح النوويّ» ١٦/ ١٤٨ – ١٤٩].
الحديث السادس: [٦٥٨٦] (…) – حَدَّثَنِيهِ أبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنا خالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
جَعْفَرٍ، عَنِ العَلاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، بِهَذا الإسْنادِ مِثْلَهُ .
[تنبيه]: رواية محمد بن جعفر عن العلاء بن عبد الرَّحمن هذه لَمْ أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
الحديث السابع: [٦٥٨٧] (٢٥٩٨) – حَدَّثَنِي سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنِي حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ،
عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ، أنَّ عَبْدَ المَلِكِ بْنَ مَرْوانَ، بَعَثَ إلى أُمِّ الدَّرْداءِ بِأنْجادٍ مِن
عِنْدِهِ، فَلَمّا أنْ كانَ ذاتَ لَيْلَةٍ، قامَ عَبْدُ المَلِكِ مِنَ اللَّيْلِ، فَدَعا خادِمَهُ، فَكَأنَّهُ أبْطَأ
عَلَيْهِ، فَلَعَنَهُ، فَلَمّا أصْبَحَ قالَتْ لَهُ أُمُّ الدَّرْداءِ: سَمِعْتُكَ اللَّيْلَةَ لَعَنْتَ خادِمَكَ حِينَ
دَعَوْتَهُ، فَقالَتْ: سَمِعْتُ أبا الدَّرْداءِ يَقُولُ: قالَ رَسُولُ اللهِ – ﷺ -: ((لا يكُونُ
اللَّعّانُونَ شُفَعاءَ، ولا شُهَداءَ يَوْمَ القِيامَةِ)).
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خُماسيّات المصنّف – رحمه الله -، وفيه رواية تابعيّ عن تابعية، والمرأة
عن زوجها، وأن صحابيّه من مشاهير الصحابة – رضي الله عنهم -، وهو ممن اشتهر هو
وزوجته بالكنية.
(عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ) العدويّ المدنيّ؛ (أنَّ عَبْدَ المَلِكِ بْنَ مَرْوانَ) بن
الحكم بن أبي العاص الأُمويّ، أبو الوليد المدنيّ، ثم الدمشقيّ، كان طالب
عِلم قبل الخلافة، ثم اشتغل بها، فتغيّر حاله، مُلِّك ثلاث عشرة سنةً استقلالًا،
وقبلها منازِعًا لابن الزبير، تسع سنين، ومات سنة ست وثمانين في شوال، وقد
جاوز الستين، وليست له رواية في الكتب الستة، وأخرج له البخاريّ في
»الأدب المفرد«. (بَعَثَ)؛ أي: أرسل (إلى أُمِّ الدَّرْداءِ)، هجيمة، أو جهيمة
الوصّابيّة، زوج أبي الدرداء، (بِأنْجادٍ مِن عِنْدِهِ) – بفتح الهمزة، وبعدها نون،
ثم جيم – وهو جمع نَجَد – بفتح النون، والجيم – وهو متاع البيت الذي يُزَيِّنه،
من فُرُش ونَمارق، وسُتور، وقاله الجوهريّ بإسكان الجيم، قال: وجَمْعه
نُجُود، حكاه عن أبي عبيد، فهما لغتان، ووقع في رواية ابن ماهان:»بخادم«
بالخاء المعجمة، والمشهور الأول، قاله النوويّ [»شرح النوويّ” ١٦/ ١٤٩ – ١٥٠].
(فَلَمّا أنْ) زائدة، (كانَ ذاتَ لَيْلَةٍ)؛ أي: ليلة من الليالي، فـ»ذات«
مقحمة، (قامَ عَبْدُ المَلِكِ) بن مروان (مِنَ اللَّيْلِ)»من«بمعنى»في«، أو هي
تبعيضيّة، (فَدَعا خادِمَهُ) لَمْ يُعرف الخادم، (فَكَأنَّهُ أبْطَأ)؛ أي: تأخّر مجيئه (عَلَيْهِ، فَلَعَنَهُ)؛ أي: دعا عليه بأن يكون ملعونًا؛ أي: مطرودًا من رحمة الله تعالي، (فَلَمّا أصْبَحَ)؛ أي: دخل عبد الملك في الصباح، (قالَتْ لَهُ أُمُّ الدَّرْداءِ: سَمِعْتُكَ اللَّيْلَةَ) منصوب على الظرفيّة، (لَعَنْتَ خادِمَكَ حِينَ دَعَوْتَهُ)؛
أي؛ وقت دعائك إياه، (فَقالَتْ: سَمِعْتُ أبا الدَّرْداءِ) عويمر بن زيد بن قيس – رضي الله عنه – (يَقُولُ: قالَ رَسُولُ اللهِ – ﷺ -: «لا) نافية، (يَكُونُ اللَّعّانُونَ)؛ أي:
المكثرون من اللعن (شُفَعاءَ) معناه: لا يشفعون يوم القيامة حين يشفع المؤمنون
في إخوانهم الذين استوجبوا النار، (ولا شُهَداءَ يَوْمَ القِيامَةِ») فيه ثلاثة أقوال:
أصحّها وأشهرها: لا يكونون شهداء يوم القيامة على الأمم بتبليغ رُسُلهم
إليهم الرسالات.
والثاني: لا يكونون شهداء في الدنيا؛ أي: لا تُقبل شهادتهم بفسقهم.
والثالث: لا يُرزقون الشهادة، وهي القتل في سبيل الله تعالي، كذا قال
النوويّ. [«شرح النوويّ» ١٦/ ١٤٩].
وقال البغويّ في «شرح السُّنَّة»: معناه: لا يكونون في الجملة التي تُستشهد يوم القيامة على الأمم التي كذّبت أنبياءها – عليهم السلام -؛ لأنّ من فضيلة هذه الأمة أنهم يشهدون للأنبياء – عليهم السلام – بالتبليغ إذا كذّبهم قومهم. انتهى [«شرح السُّنَّة» ١٣/ ١٣٥]، والله تعالى أعلم.
وحديث أبي الدرداء – رضي الله عنه – هذا من أفراد المصنّف – رحمه الله -.
الحديث الثامن: [٦٥٨٨] (…) – حَدَّثَنا أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، وأبُو غَسّانَ المِسْمَعِيُّ،
وعاصِمُ بْنُ النَّضْرِ التَّيْمِيُّ، قالُوا: حَدَّثَنا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمانَ (ح) وحَدَّثَنا إسْحاقُ بْنُ
إبْراهِيمَ، أخْبَرَنا عَبْدُ الرَّزّاقِ، كِلاهُما عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ زيدِ بْنِ أسْلَمَ، فِي هَذا
الإسْنادِ، بِمِثْلِ مَعْنى حَدِيثِ حَفْصِ بْنِ مَيْسَرَةَ.
وقوله: (كِلاهُما عَنْ مَعْمَرٍ) الضمير لمعتمر بن سليمان، وعبد الرزّاق.
[تنبيه]: رواية معمر عن زيد بن أسلم ساقها الإمام أحمد – رحمه الله – في
«مسنده»، فقال:
(٢٧٥٦٩) – حَدَّثَنا عبد الرزاق، ثنا معمر، عن زيد بن أسلم، قال: كان
عبد الملك بن مروان يُرسل إلى أم الدرداء، فتبيت عند نسائه، ويسألها عن
النبيّ – ﷺ -، قال: فقام ليلة، فدعا خادمةً، فأبطأت عليه، فلَعَنها، فقالت:
لا تلعن؛ فإن أبا الدرداء حدّثني أنه سمع رسول الله – ﷺ – يقول: “إن اللعانين لا يكونون يوم القيامة شهداء، ولا شفعاء». انتهى [ «مسند الإمام أحمد بن حنبل» ٦/ ٤٤٨].
الحديث التاسع: [٦٥٨٩] (…) – حَدَّثَنا أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنا مُعاوِيةُ بْنُ هِشامٍ،
عَنْ هِشامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ زيدِ بْنِ أسْلَمَ، وأبِي حازِمٍ، عَنْ أُمِّ الدَّرْداءِ، عَنْ أبِي
الدَّرْداءِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ – ﷺ – يَقُولُ: ((إنَّ اللَّغانِينَ لا يَكُونُونَ شُهَداءَ، ولا
شُفَعاءَ يَوْمَ القِيامَةِ)).
والحديث من أفراد المصنّف – رحمه الله -، وقد مضى شرحه، ومسائله قبل
حديث، ولله الحمد والمنّة.
الحديث العاشر: [٦٥٩٠] (٢٥٩٩) – حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبّادٍ، وابْنُ أبِي عُمَرَ، قالا: حَدَّثَنا
مَرْوانُ – يَعْنِيانِ الفَزارِيَّ – عَنْ يَزِيدَ – وهُوَ ابْنُ كَيْسانَ – عَنْ أبِي حازِمٍ، عَنْ أبِي
هُرَيْرَةَ، قالَ: قِيلَ: يا رَسُولَ اللهِ ادْعُ عَلى المُشْرِكِينَ، قالَ: ((إنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعّانًا،
وإنَّما بُعِثْتُ رَحْمَةً)).
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:أنه من خُماسيّات المصنّف – رحمه الله -، وفيه أبو هريرة – رضي الله عنه – رأس المكثرين
السبعة، روى (٥٣٧٤) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ) – رضي الله عنه -؛ أنه (قالَ: قِيلَ) لَمْ يُعرف القائل، (يا رَسُولَ اللهِ
ادْعُ) بالهلاك (عَلى المُشْرِكِينَ) المراد بهم بنو عامر، فقد أخرج الطبرانيّ في
»المعجم الكبير«[الحاشية: قال الهيثميّ – رحمه الله -: وفي سنده من لَمْ أعرفهم] عن كريز بن سامة، وقد كان وفَد إلى النبي – ﷺ -، قال:
قيل: يا رسول الله ادع على بني عامر، فقال: ((إني لَمْ أُبعث لعّانًا)). [»المعجم الكبير” ١٩/ ١٨٩]،
وأخرجه ابن أبي عاصم في»الآحاد والمثاني«، ولفظه: عن كرز بن سامة،
قال: وكان وفد إلى رسول الله – ﷺ – أن رسول الله – ﷺ – قال: ((اللَّهُمَّ اهد بني عامر، اللَّهُمَّ اهد بني عامر)) ثلاثًا، وقيل للنبيّ – ﷺ -: ادع على بني عامر، فقال:
((إني لَمْ أُبعث لعّانًا))، وأن النبيّ – ﷺ – عقد راية بني سليم حمراء. انتهى [»الآحاد والمثاني«٣/ ١٢٥].
(قالَ) – ﷺ -: (»إنِّي لَمْ أُبْعَثْ) بالبناء للمفعول، حال كوني (لَعّانًا) قال
القرطبيّ – رحمه الله -: كان هذا منه – ﷺ – بعد دعائه على رعل، وذكوان، وعصيّة الذين قَتَلوا أصحابه ببئر معونة، فأقام النبيّ – ﷺ – شهرًا يدعو عليهم، ويلعنهم في آخر كلِّ صلاة من الصلوات الخمس، يقنت بذلك، حتى نزل عليه جبريل؛ فقال: «إن الله تعالى لَمْ يبعثك لعّانًا، ولا سبّابًا، وإنما بعثك رحمةً، ولم يبعثك
عذابًا»، ثم أنزل الله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أوْ يُعَذِّبَهُمْ
فَإنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨)﴾ [آل عمران ١٢٨]، على ما أخرجه أبو داود في «مراسيله» [رواه أبو داود في»مراسيل«برقم (٨٩)، والبيهقيّ ٢/ ٢١٠]
من حديث خالد بن أبي عمران، وفي «الصحيحين» ما يؤيّد ذلك، ويشهد
بصحته. انتهى [»المفهم«٦/ ٥٨٢].
(وإنَّما بُعِثْتُ رَحْمَةً) قال القرطبيّ – رحمه الله -: هذا كقوله تعالى: ﴿وما
أرْسَلْناكَ إلّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧)﴾ [الأنبياء ١٠٧]؛ أي: بالرسالة العامة،
والإرشاد للهداية، والاجتهاد في التبليغ، والمبالغة في النصح، والحرص على
إيمان الجميع، وبالصبر على جفائهم، وتَرْك الدعاء عليهم؛ إذ لو دعا عليهم
لهلكوا، وهذه الرحمة يشترك فيها المؤمن والكافر، أما رحمته الخاصّة، فلمن
هداه الله تعالي، ونوّر قلبه بالإيمان، وزيَّن جوارحه بالطاعة، كما قال تعالى:
﴿بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة ١٢٨]، فهذا هو المغمور برحمة الله تعالي،
المعدود في زمرة الكائنين معه – ﷺ – في مُستَقَرّ كرامته، جعلنا الله تعالى منهم،
ولا حال بيننا وبينهم. انتهى [»المفهم” ٦/ ٥٨٢ – ٥٨٣].
وقال في»المرقاة«: قوله:»بُعثت رحمةً«؛ أي: للناس عامّة، وللمؤمنين خاصّة متخلقًا بوصف الرحمة، كما قال تعالى: ﴿وما أرْسَلْناكَ إلّا
رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧)﴾ [الأنبياء ١٠٧]، قال ابن الملك: أما للمؤمنين فظاهر، وأما للكافرين فلأن العذاب رُفع عنهم في الدنيا بسببه – ﷺ -، كما قال تعالى: ﴿ وما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وأنْتَ فِيهِمْ﴾ الآية [الأنفال ٣٣]، وتعقّبه القاري، فقال: بل عذاب الاستئصال مرتفع عنهم ببركته – ﷺ – إلى يوم القيامة. انتهى [«مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح» ١٦/ ٤٨٣].
وقال الطيبيّ – رحمه الله -؛ أي: إنما بُعثت لأقرّب الناس إلى الله تعالي، وإلى
رحمته، ولم أُبعث لِأُبعدهم عنه، فاللعن منافٍ لحالي، فكيف ألعن؟ انتهى [«الكاشف عن حقائق السنن» ١٢/ ٣٧٠٥].
ورَوى البخاري في «تاريخه» عن أبي هريرة – رضي الله عنه – بلفظ: «إنما بُعثت
رحمةً، ولم أُبعث عذابًا».
وقال المناويّ – رحمه الله -: قوله: «إني لَمْ أُبعث لعّانًا»؛ أي: مبالغًا في اللعن؛
أي: الإبعاد عن الرحمة، والمراد: نفي أصل الفعل على وزان: ﴿وما رَبُّكَ
بِظَلّامٍ﴾ [فصلت ٤٦]؛ كما يعني: لو كنت أدعو عليهم لبَعُدوا عن رحمة الله،
ولَصرت قاطعًا عن الخير.
وقوله: «وإنما بُعثت رحمةً» لمن أراد الله إخراجه من الكفر إلى الإيمان،
أو لأُقَرِّب الناس إلى الله تعالي، وإلى رحمته، لا لأُبعدهم عنها، فاللعن مناف
لحالي، فكيف ألعن؟ قال المظهري: وفي هذا الحديث مباحث، منها: أن
معنى قوله: «رحمة» بهدايته للمسلم، وتأخير العذاب عن نوع من الكفار، وهم
أهل الذِّمة، ومن عداهم أُمر بقتلهم، وغَنْم ما لهم، وذا من أشدّ عذاب الدنيا،
وهَبْ أن امتناعه هذا من الدعاء عليهم من جهة العموم، فما المانع من جهة
الخصوص؟ ومنها: أن طلب الدعاء عليهم لا ينحصر في اللعن، فما موقع
الجواب بقوله: «لَمْ أُبعث لعّانًا»؟ ومنها: أن لعن الكفار جائز، وقد لَعَن الله الكافرين، والظالمين، وفى «الصحيحين» أنه دعا على قريش. انتهى [«فيض القدير» ٣/ ١٣]، والله
تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – هذا من أفراد المصنّف – رحمه الله -.
(المسألة الثانية): في فوائده:
١ – (منها): بيان أن النبيُّ – ﷺ – لَمْ يبعثه الله تعالى لعّانًا لعباده، وإنما بعثه
رحمة لهم، فهو – ﷺ – رحيم بعباده كلّهم، فهو كما قال الله – عَزَّوَجَلَّ – في تحقيق وصفه: ﴿لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِن أنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ماعَنِتُّمْ حَرِيصٌ
عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (١٢٨)﴾ [التوبة ١٢٨]، ولقد أجاد من قال،
وأحسن في المقال:
رَحْمَة كُلُّهُ وحَزْمٌ وعَزْمٌ … وعِصْمَةٌ ووَقارٌ وحَياءُ
٢ – (ومنها): ما قاله بعضهم: «وإنما أنا رحمة»؛ أي: ذو رحمة، أو
مبالغ في الرحمة حتى كأني عَيْنها؛ لأنّ الرحمة ما يترتب عليه النفع ونحوه،
وذاته كذلك، وإذا كانت ذاته رحمة، فصفاته التابعة لذاته كذلك، «مهداة» بضم
الميم؛ أي: ما أنا إلّا ذو رحمة للعالمين أهداها الله تعالى إليهم، فمن قَبِل
هديته أفلح، ونجا، ومن أبى خاب، وخسر، وذلك لأنه – ﷺ – هو الواسطة لكل
خير دنيويّ، أو أخروي، فمن خالف فعذابه من نفسه؛ كعين انفجرت، فانتفع
قوم، وأهمل قوم، فهي رحمة لهم كلّهم.
ولا يشكل على الحصر وقوع الغضب منه – ﷺ – ؛ لأنّ الغضب لَمْ
يُقْصَد مِن بَعْثه – ﷺ -، بل القصد بالذات الرحمة، والغضب بالتبعية…. انتهى [«فيض القدير» ٢/ ٥٧٢].
٣ – (ومنها): أن هذا الحديث بمعنى قوله تعالى: ﴿وما أرْسَلْناكَ إلّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧)﴾ [الأنبياء ١٠٧]
قال الإمام ابن كثير – رحمه الله -: يُخبر تعالى أن الله
جعل محمدًا – ﷺ – رحمةً للعالمين؛ أي: أرسله رحمة لهم كلهم، فمَن قَبِل هذه
الرحمة، وشكر هذه النعمة سَعِد في الدنيا والآخرة، ومن ردّها، وجحدها خسر الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وأحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ البَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وبِئْسَ القَرارُ (٢٩)﴾ [إبراهيم ٢٨، ٢٩]،
وقال تعالى في صفة القرآن: ﴿ولَوْ جَعَلْناهُ قُرْآنًا أعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ أأعْجَمِيٌّ وعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وشِفاءٌ والَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وقْرٌ وهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنادَوْنَ مِن مَكانٍ بَعِيدٍ﴾
[فصلت ٤٤] ثم أورد حديث مسلم هذا، ثم قال: وفي الحديث الآخر: «إنما
أنا رحمة مهداةٌ».
[فإن قيل]: فأيّ رحمة حصلت لمن كفر به – ﷺ -؟
[فالجواب]: ما رواه أبو جعفر بن جرير، عن ابن عباس – رضي الله عنهما – في قوله:
﴿وما أرْسَلْناكَ إلّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧)﴾ قال: من آمن بالله واليوم الآخر كُتب له
الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لَمْ يؤمن بالله ورسوله عوفي مما أصاب الأمم
من الخسف، والقذف. انتهى كلام ابن كثير باختصار. [«تفسير ابن كثير» ٣/ ٢٠٢ – ٢٠٣].[البحر المحيط الثجاج، بتصرف يسير]
مسائل ملحقة:
(المسألة الأولى): لَعْنٌ
التَّعْرِيفُ:
1 – اللَّعْنُ فِي اللُّغَةِ: الإْبْعَادُ وَالطَّرْدُ مِنَ الْخَيْرِ، وَقِيل الطَّرْدُ وَالإِْبْعَادُ مِنَ اللَّهِ، وَمِنَ الْخَلْقِ: السَّبُّ وَالدُّعَاءُ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تُحَيِّي مُلُوكَهَا: ” أَبَيْتَ اللَّعْنَ ” وَمَعْنَاهُ: أَبَيْتَ أَيُّهَا الْمَلِكُ أَنْ تَأْتِيَ مَا تُلْعَنُ عَلَيْهِ [لسان العرب].
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.وقد سبق في الشرح ذكر التعريف.وأصلُ اللعنِ: إِنْ كان مِنَ الخالق، فهو الطردُ والإبعاد مِنْ رحمته، وإِنْ كان مِنَ المخلوق فهو السبُّ بتقبيحِ الفعل وذمِّ فاعِلِه والدعاءِ عليه .[انظر: «النهاية» لابن الأثير (٤/ ٢٥٥)]، فيقال: «لَعَنَ فلانًا» إذا سبَّه وأخزاه. [انظر: «المعجم الوسيط» (٢/ ٨٢٩)]، قال الراغب الأصفهانيُّ ـ رحمه الله ـ: «اللعن: الطردُ والإبعادُ على سبيل السخط، وذلك مِنَ اللهِ تعالى في الآخرةِ عقوبةٌ، وفي الدنيا انقطاعٌ مِنْ قَبولِ رحمته وتوفيقِه، ومِنَ الإنسانِ دعاءٌ على غيره». [انظر: «مفردات ألفاظ القرآن» للراغب الأصفهاني (٤٧١)].
الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
السَّبُّ:
2 – السَّبُّ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا هُوَ: الشَّتْمُ، وَهُوَ مُشَافَهَةُ الْغَيْرِ بِمَا يَكْرَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَدٌّ [تاج العروس، وإعانة الطالبين 2 / 250، ومنح الجليل 4 / 476].
قَال الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: اللَّعْنُ أَبْلَغُ فِي الْقُبْحُ مِنَ السَّبِّ الْمُطْلَقِ [قواعد الأحكام 1 / 20].[الموسوعة الفقهية الكويتية].
(المسألة الثانية) أقسام وأحكام الغيبة:
أولاً: في بيان حكم الغيبة: مَنْ يَجُوزُ لَعْنُهُ وَمَنْ لاَ يَجُوزُ
1) لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الدُّعَاءَ عَلَى (الْمُسْلِمِ الْمَصُونِ) بِاللَّعْنِ حَرَامٌ. أَمَّا (الْمُسْلِمُ الْفَاسِقُ الْمُعَيَّنُ) فَقَدِ اخْتَلَفَتْ فِيهِ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ: – فَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَعْنُهُ؛ لِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَتَى بِشَارِبِ خَمْرٍ مِرَارًا، فَقَال بَعْضُ مَنْ حَضَرَهُ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَوَ اللَّهِ مَا عَلِمْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ”[ أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 75)].
– وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يَجُوزُ لَعْنُ الْفَاسِقِ الْمُعَيَّنِ [حاشية ابن عابدين 2 / 541، والقرطبي 2 / 189، والقليوبي 3 / 204، وكشاف القناع 6 / 126، والآداب الشرعية 1 / 303 – 308، وفتح الباري 12 / 75 وما بعدها، والأذكار ص548 ط. دار ابن كثير بيروت]؛
لأِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى أَحَدٍ أَوْ لأِحَدٍ قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ، كَانَ يَقُول فِي بَعْضِ صَلاَةِ الْفَجْرِ: اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلاَنًا وَفُلاَنًا لأِحْيَاءٍ مِنَ الْعَرَبِ “. [أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 226) من حديث أبي هريرة].
وَقَال الْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ حَجَرٍ: إِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَعْنُ مَنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لأِنَّ الْحَدَّ قَدْ كَفَّرَ عَنْهُ الذَّنْبَ، وَمَنْ لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَيَجُوزُ لَعْنُهُ سَوَاءٌ سُمِّيَ أَوْ عُيِّنَ أَمْ لاَ؛ لأِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَلْعَنُ إِلاَّ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ مَا دَامَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ الْمُوجِبَةِ لِلَّعْنِ، فَإِذَا تَابَ مِنْهَا وَأَقْلَعَ وَطَهَّرَهُ الْحَدُّ فَلاَ لَعْنَةَ تَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ [القرطبي 2 / 189، وفتح الباري 12 / 76].
2) وَيَجُوزُ لَعْنُ غَيْرِ الْمُعَيَّنِينَ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُسْلِمِينَ الْعُصَاةِ لِمَا وَرَدَ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: – لَعَنَ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ [حديث: ” أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الواصلة والمستوصلة “. أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 374) ومسلم (3 / 1676) من حديث أسماء بنت أبي بكر]، – وَلَعَنَ آكِل الرِّبَا [حديث: ” أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا “. أخرجه مسلم (3 / 1219) من حديث عبد الله بن مسعود]، – وَلَعَنَ الْمُصَوِّرَ [حديث: ” أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن المصور “. أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 426) من حديث أبي جحيفة]، – وَقَال: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الأْرْضِ [حديث: ” لعن الله من غير منار الأرض “. أخرجه مسلم (3 / 1567) من حديث علي بن أبي طالب]، – وَلَعَنَ رَعْلاً وَذَكْوَانًا وَعَصِيَّةَ [حديث: ” أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن رعلا. . . “. أخرجه مسلم (1 / 467) من حديث أبي هريرة]، وَهَذِهِ الثَّلاَثَةُ قَبَائِل مِنَ الْعَرَبِ، – وَلَعَنَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى،
لأِنَّ الْمُرَادَ: الْجِنْسُ لاَ الأْفْرَادُ وَفِيهِمْ مَنْ يَمُوتُ كَافِرًا.
وَيَكُونُ اللَّعْنُ لِبَيَانِ أَنَّ تِلْكَ الأْوْصَافِ: لِلتَّنْفِيرِ عَنْهُ، وَالتَّحْذِيرِ مِنْهُ، لاَ لِقَصْدِ اللَّعْنِ عَلَى كُل فَرْدٍ مِنْ هَذِهِ الأْجْنَاسِ، لأِنَّ لَعْنَ الْوَاحِدِ الْمُعَيَّنِ كَهَذَا الظَّالِمِ لاَ يَجُوزُ، فَكَيْفَ كُل فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ هَذِهِ الأْجْنَاسِ،
وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ الْجِنْسَ لَمَا قُلْنَا مِنَ التَّنْفِيرِ وَالتَّحْذِيرِ، لاَ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْمَعَاصِي مِنَ الْكَبَائِرِ خِلاَفًا لِمَنْ نَاطَ اللَّعْنَ بِالْكَبَائِرِ؛ لأِنَّهُ وَرَدَ اللَّعْنُ فِي غَيْرِهَا.[ابن عابدين 2 / 541، وحاشية القليوبي 3 / 204، وإحياء علوم الدين 3 / 123، والأذكار ص373، وفتح الباري 12 / 76، والقرطبي 2 / 189، وما بعدها، والآداب الشرعية 1 / 303، وكشاف القناع 6 / 126].
قلت سيف بن دوره : لكن عدَّ بعض أهل العلم من طرق معرفة الكبائر تصديره باللعن
قال ابن باز :
الكبائر وهي المعاصي التي جاء في النصوص الوعيد عليها باللعنة أو بالنار أو بغضب الله عز وجل أو بنفي الإيمان عن صاحبها أو براءة الله منه أو براءة رسوله ﷺ ونحو ذلك مما يدل على عظمها وخطرها، مثل قوله ﷺ: «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده (٣)» الحديث، ولعنه ﷺ شارب الخمر
وقالَ اِبْن الصَّلاح: لَها أمارات مِنها إيجاب الحَدّ، ومِنها الإيعاد عَلَيْها بِالعَذابِ بِالنّارِ ونَحْوها فِي الكِتاب أوْ السُّنَّة، ومِنها وصْف صاحِبها بِالفِسْقِ، ومِنها اللَّعْن.
وقَدْ أخْرَجَ إسْماعِيل القاضِي بِسَنَدٍ صَحِيح عَنْ الحَسَن البَصْرِيّ قالَ» كُلّ ذَنْب نَسَبَهُ اللَّه تَعالى إلى النّار فَهُوَ كَبِيرَة «
ومِن أحْسَنِ التَّعارِيفِ قَوْلُ القُرْطُبِيّ فِي المُفْهِم» كُلّ ذَنْب أُطْلِقَ عَلَيْهِ بِنَصِّ كِتاب أوْ سُنَّة أوْ إجْماع أنَّهُ كَبِيرَة أوْ عَظِيم أوْ أُخْبِرَ فِيهِ بِشِدَّةِ العِقاب أوْ عُلِّقَ عَلَيْهِ الحَدّ أوْ شُدِّدَ النَّكِير عَلَيْهِ فَهُوَ كَبِيرَة «.
«أمْثَلُ الأقْوالِ فِي هَذِهِ المَسْألَةِ القَوْلُ المَأْثُورُ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ وذَكَرَهُ أبُو عُبَيْدٍ وأحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وغَيْرُهُما وهُوَ: أنَّ الصَّغِيرَةَ ما دُونُ الحَدَّيْنِ: حَدُّ الدُّنْيا وحَدُّ الآخِرَةِ. وهُوَ مَعْنى قَوْلِ مَن قالَ: ما لَيْسَ فِيها حَدٌّ فِي الدُّنْيا، وهُوَ مَعْنى قَوْلِ القائِلِ: كُلُّ ذَنْبٍ خُتِمَ بِلَعْنَةِ أوْ غَضَبٍ أوْ نارٍ فَهُوَ مِن الكَبائِرِ. ومَعْنى قَوْلِ القائِلِ: ولَيْسَ فِيها حَدٌّ فِي الدُّنْيا ولا وعِيدٌ فِي الآخِرَةِ أيْ» وعِيدٌ خاصٌّ «كالوَعِيدِ بِالنّارِ والغَضَبِ واللَّعْنَةِ.
وكَذَلِكَ كُلُّ ذَنْبٍ تُوُعِّدَ صاحِبُهُ بِأنَّهُ لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ ولا يَشُمُّ رائِحَةَ الجَنَّةِ وقِيلَ فِيهِ: مَن فَعَلَهُ فَلَيْسَ مِنّا وأنَّ صاحِبَهُ آثِمٌ. فَهَذِهِ كُلُّها مِن الكَبائِرِ» انتهى باختصار.
«مجموع الفتاوى» (١١/٦٥٠- ٦٥٢)
وينظر: «مجموع الفتاوى» (١١/٦٥٨-٦٥٩)، «مدارج السالكين» لابن القيم (١/٣١٥-٣٢٧) في بحث له نفيس.
3) أَمَّا الْكَافِرُ الْمُعَيَّنُ فَإِنْ كَانَ حَيًّا – فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَعْنُهُ؛ لأِنَّ حَالَهُ عِنْدَ الْوَفَاةِ لاَ تُعْلَمُ وَقَدْ شَرَطَ اللَّهُ تَعَالَى فِي إِطْلاَقِ اللَّعْنَةِ الْوَفَاةَ عَلَى الْكُفْرِ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [سورة البقرة / 161]، وَلأِنَّا لاَ نَدْرِي مَا يُخْتَمُ بِهِ لِهَذَا الْكَافِرِ. – وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لَعْنُ الْكَافِرِ الْمُعَيَّنِ، قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لِظَاهِرِ حَالِهِ وَلِجَوَازِ قَتْلِهِ وَقِتَالِهِ.
أَمَّا لَعْنُ الْكُفَّارِ جُمْلَةً مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ وَكَذَلِكَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَلَى الْكُفْرِ فَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ لَعْنُهُمْ، لِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّهُ سَمِعَ الأْعْرَجَ يَقُول: مَا أَدْرَكْتُ النَّاسَ إِلاَّ وَهُمْ يَلْعَنُونَ الْكَفَرَةَ فِي رَمَضَانَ، قَال الْقُرْطُبِيُّ قَال عُلَمَاؤُنَا: وَسَوَاءٌ كَانَتْ لَهُمْ ذِمَّةٌ أَمْ لَمْ تَكُنْ. [حاشية ابن عابدين 2 / 542، والقليوبي 3 / 204، والقرطبي 2 / 188، وكشاف القناع 6 / 125، والآداب الشرعية 1 / 303، والأذكار ص548].
فإذا اللعن يقع على وجهين :الأول : أن يلعن الكفار وأصحاب المعاصي على سبيل العموم ، كما لو قال : لعن الله اليهود والنصارى . أو : لعنة الله على الكافرين والفاسقين والظالمين . أو : لعن الله شارب الخمر والسارق . فهذا اللعن جائز ولا بأس به . قال ابن مفلح في الآداب الشرعية (1/203) : ويجوز لعن الكفار عامة اهـ .
الثاني : أن يكون اللعن على سبيل تعيين الشخص الملعون سواء كان كافراً أو فاسقاً، كما لو قال : لعنة الله على فلان ويذكره بعينه ، فهذا على حالين:
1- أن يكون النص قد ورد بلعنه مثل إبليس ، أو يكون النص قد ورد بموته على الكفر كفرعون وأبي لهب ، وأبي جهل، فلعن هذا جائز.
قال ابن مفلح في الآداب الشرعية (1/214) : ويجوز لعن من ورد النص بلعنه ، ولا إثم عليه في تركه اهـ .
2- لعن الكافر أو الفاسق على سبيل التعيين ممن لم يرد النص بلعنه بعينه، مثل : بائع الخمر – من ذبح لغير الله – من لعن والديه – من آوى محدثا – من غير منار الأرض – وغير ذلك .” فهذا قد اختلف العلماء في جواز لعنه على ثلاثة أقوال :أحدها : أنه لا يجوز بحال .الثاني : يجوز في الكافر دون الفاسق .الثالث : يجوز مطلقا ” اهـ [الآداب الشرعية لابن مفلح (1/303)].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في “مجموع الفتاوى” (6/511) :” واللعنة تجوز مطلقا لمن لعنه الله ورسوله ، وأما لعنة المعين فإن علم أنه مات كافرا جازت لعنته ، وأما الفاسق المعين فلا تنبغي لعنته؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يلعن عبد الله بن حمار الذي كان يشرب الخمر ، مع أنه قد لعن شارب الخمر عموما ، مع أن في لعنة المعين إذا كان فاسقا أو داعيا إلى بدعة نزاعاً ” اهـ ” انتهى .
وقال الشيخ ابن عثيمين في “القول المفيد” (1/226) :” الفرق بين لعن المعين ولعن أهل المعاصي على سبيل العموم ؛ فالأول (لعن المعين) ممنوع ، والثاني (لعن أهل المعاصي على سبيل العموم) جائز ، فإذا رأيت محدثا ، فلا تقل لعنك الله ، بل قل : لعنة الله على من آوى محدثا ، على سبيل العموم ، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صار يلعن أناسا من المشركين من أهل الجاهلية بقوله : (اللهم ! العن فلانا وفلانا وفلانا ) نهي عن ذلك بقوله تعالى : ( ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ) رواه البخاري” اهـ .
وقال الشيخ عبد العزيز ابن باز في معرض إجابته عن حكم لعن المُعَيَّن:
المشروع عدم اللعن إلا إذا كان فيه مصلحة، مثل: داعٍ إلى فجور، مقاتل المسلمين، حارب المسلمين، يُدعى عليه. أما إذا كان مسالمًا يُدعى له بالهداية، مثل ما قال النبي ﷺ في كفار دوس: ((اللهم اهد دوسًا وائت بهم))، ومثل ما دعا على كفار قريش: ((اللهم العن فلانًا وفلانًا)) -الذين هم رؤوس في الكفر- ((اللهم العن فلان بن فلان، اللهم العن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبي جهل بن هشام))؛ لأنهم رؤوس الكفر، دعاة إلى الكفر، عذّبوا المسلمين.
أما المُعْرِض المسالم لا، يُدعى له بالهداية، أما العموم: لعن الله الكافرين، لعن الله الفاسقين، لعن الله السُّراق، لا بأس، العموم لا بأس، ولما لعن رجل إنسانًا يشرب خمرًا عند النبي ﷺ قال: ((لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله، لا تعينوا عليه الشيطان)).
والضابط : سب الإسلام أو محاربة المسلمين.
وإذا كان المسلم داعية إلى الفجور هل يُدعى عليه أو يُلعن؟
الشيخ: يُدعى له بالهداية وأن الله يكفيهم شره، إن كان مسلمًا يُدعى له بالهداية وأن الله يكفي المسلمين شره.[الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ عبد العزيز ابن باز رحمه الله تعالى، فتاوى الدروس حكم لعن المُعَيَّن].
الشيخ الجامي، قال :” لا يجوز، لعن المعين ولو كان كافرا لأن هذا المعين “زيد” من الناس إذا قلتَ:”لعنه الله” وسميته فاللعن معناه الإبعاد من رحمة الله، ولا تدري بما يختم لهذا المعين من إيمان بالحسنى – لا تدري- فلذلك الْمَشْرُوع أنْ تلعنَ الكافرين و الظالمين والفاسقين بالجملة، “لعنة الله على الظالمين وعلى الكافرين”، وأما لعن الْمُعَيَّن فلا، ثم إن الإكثار من اللعن ليس من صفات المؤمنين…” [“28″ سؤالاً في الدعوة السلفية].
وقال الشيخ صالح آل الشيخ : في شرحه للعقيدة الطحاوية قال : ” ولعْن المسلم اختلف فيه أهل العلم؛ هل يجوز لعْن المسلم الذي ارتكب شيئا يستحق به اللعن أم لا؟ على أقوال.
والصحيح منها أنّ اللعن يجوز أن يتوجه للجنس لا للمعيّن من المسلمين، فلا يجوز أن يَلعن مسلم مسلما معيّنا، ولو كان قد فعل كبيرة أو كان فعل أو كان كاذبا أو كان ظالما ونحو ذلك، فلا يجوز أن يُلعن المسلم، واستدلّوا على ذلك بقول الصحابة برجل كان يشرب الخمر وجُلد مرة ومرتين، ثم لما أوتي به بعد ذلك قال أحدهم: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به. فقال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «لا تقولوا هذا فإنه يحب الله ورسوله» استدل هذا على أن المسلم المعين الذي يشرب الخمر لا يُلعن مع أن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ لعن الجنس فلعن في الخمر عشرة؛ لعن شاربها وساقيها إلى آخره، فدل على التفريق ما بين الجنس وما بين المعين، وهذا من مثل الآيات التي في هذا الباب ?أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ?[هود:18]، ?لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ(7كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ?[المائدة:78-79]، فالذي لا يتناهى عن المنكر من المسلمين لا يُلعن بعينيه وإنما قد يُلعن بوصفه، وكذلك أشباه هذه لعنة الظالم ولعنة الكاذب إلى آخره.
فإذن هذا النوع هو لعن مسلم مسلما فإنه لا يجوز لعن المعين؛ لكن قد يُلعن الصفة يُلعن الجنس كما لَعن الله جل وعلا ولعن رسوله ).
ومن ذلك لعن الكاسيات العاريات وقول النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ في حقهن «أينما لقيتموهن فالعنوهن فإنهن ملعونات»، هذا لعنٌ للجنس، والقاعدة منطبقة عليه لأن المرء لا يجوز أن يلعن معينة مسلمة لكونها كاسية عارية، فقوله «أينما لقيتموهن فالعنوهن» يعني لعن الجنس لا لعن المعينة، من مثل لعن شارب الخمر ولعن المرابي وأشباه ذلك.
أما المسألة الثانية وهي لعن مسلم كافرا فالعلماء اختلفوا فيها على قولين:
( منهم من أجاز أن يُلعن الكافر المعين؛ لأن الكافر المعين ليس له حق وعِرضه غير مصان؛ ولأن معنى اللعن طلب الطرد والإبعاد من رحمة الله وهو متحقق في الكافر، فجاز عند هؤلاء أن يلعن المسلم الكافر المعين كما يلعن جنس الكفرة، واستدلوا لذلك أيضا بأنّ النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ لعن أقواما بعينهم من كفار قريش.
( والقول الثاني: وهو الصحيح وهو أن الكافر أيضا لا يلعن بعينه؛ لأن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ لما لعن أقواما نزل قول الله جل وعلا في حقهم ?لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ?[آل عمران:128]؛ ولأنه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ كان لا يلعن؛ ولأن اللعَّانين لا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة، يعني من جرى اللعن على ألسنتهم.
وكذلك يدل عليه أيضا -يعني على امتناع لعن الكافر المعين- أن السنة لم تأتِ به، فإن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ لم يلعن كافرا بعينه إلا هؤلاء ونزل فيهم قول الله جل وعلا ?لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ?، لهذا قال طائفة من العلماء: إنّ لعن الكافر المعين منسوخ بهذه الآية.
ويلحق بلعن الكافر لعن الشيطان أو لعن إبليس، وهذا أيضا اختلف فيه أهل العلم على قولين:
( منهم من أجاز لعنه بعينه لقول الله جل وعلا ?إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ [إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ](79) إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا(117)لَعَنَهُ اللَّهُ?[النساء:117-118]، وما جاء في الآيات في لعن إبليس وطرده عن رحمة الله جل وعلا.
( القول الثاني: أنه لا يلعن إبليس ولا الشيطان لما صحّ في الحديث أن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ نهى عن لعن الشيطان أو عن لعن إبليس وقال «لا تلعنوه فإنه يتعاظم» رواه تمَّام في فوائده وغيره بإسناد جيد، قالوا: فهذا يدل على النهي عن اللّعن، وهذا متّجه في أنَّ اللعن عموما في القاعدة الشرعية أن المسلم لا يلعن؛ لأنّ اللعن منهي عنه المؤمن بعامة، ومن أعظم ما يكون أثرا للعن أن اللّعان لا يكون شفيعا ولا شهيدا يوم القيامة.
والمسألة فيها أيضا مزيد بحث فيما جرى من لعن يزيد، ولعن بعض المعينين؛ لكن الإمام أحمد لما سئل عن حال يزيد قال: أليس هو الذي فعل بأهل المدينة يوم الحرة ما فعل، أليس هو كذا؟ فقال له: لم لا تلعنه؟ فقال: وهل رأيت أباك يلعن أحدا.
وهذا يدل على أن ترك اللعن من صفات الأتقياء، وأن اللعن من صفات من دونهم إذا كان في حقّ من يجوز لعنه عند بعض العلماء، أما لعن من لا يستحق اللعن فهذا يعود على صاحبه؛ يعني من لعن من لا يستحق اللعن عادت اللعنة؛ يعني الدعاء بالطرد والإبعاد من رحمة الله على اللاعن والعياذ بالله.
… لا، الجنس، «أينما لقيتموهن» للجنس، «لقيتموهن» بالجمع، الجمع للجنس ما هو للمعين المفرد، يعني أدركتموهن، اللُّقي هنا بمعنى الإدراك.”.
فأهلُ” السُّنَّة يفرِّقون ـ في النوع ـ بين اللعن المطلق واللعن للمعيَّن، واللعنُ المطلقُ ـ سواءٌ كان بالوصف الأعمِّ كقول القائل: «لَعَنَ اللهُ المبتدِعَ أو الكافر أو الفاسق»، أو كان بوصفٍ أخصَّ كلعنِ اليهود والنصارى والمجوس، وكلعنِ فِرَقِ أهل البِدَعِ كقولك: «لَعَنَ اللهُ الجهميةَ أو القدرية أو الرافضة وغيرَها مِنَ الفِرَق المُنْتَسِبة للإسلام» ـ فجائزٌ بالوصفين الأعمِّ والأخصِّ بلا خلافٍ بين أهل السنَّة، قال القاضي عياضٌ ـ رحمه الله ـ: «ولعنُ الجنسِ جائزٌ؛ لأنَّ الله تعالى قد أَوْعَدَهم، ويُنْفِذُ الوعيدَ على مَنْ شاء منهم». [«إكمال المُعْلِم» للقاضي عياض (٥/ ٥٠٠)].
[فصل:]
* ومُوجِباتُ اللعنِ ثلاثةٌ، وهي: الكفرُ والفسقُ والبدعةُ.
وقد دلَّتِ النصوصُ الشرعية على “جوازِ اللعن المطلق” منها:
1) قولُه تعالى في اللعن بالكفر: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَعَنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمۡ سَعِيرًا ٦٤﴾ [الأحزاب]، ومنها قولُه تعالى: ﴿وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلۡفُۢۚ بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفۡرِهِمۡ فَقَلِيلٗا مَّا يُؤۡمِنُونَ ٨٨﴾ [البقرة].
2)ـ أمَّا اللَّعن بالفسق فمثلُ قولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَعَنَ اللهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ غَيَّرَ المَنَارَ». [أخرجه مسلمٌ في «الأضاحي» (١٩٧٨) مِنْ حديثِ عليٍّ رضي الله عنه]، وحديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: «لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ وَالمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ». [أخرجه البخاريُّ في «اللباس» باب: المتشبِّهون بالنساء والمتشبِّهات بالرجال (٥٨٨٥) مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما].
3) أمَّا اللعن بالبدعة فبقوله صلَّى الله عليه وسلَّم ـ في مَعْرِض ذِكْرِ فضلِ المدينة ـ: «… مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا»، قَالَ: فَقَالَ ابْنُ أَنَسٍ: «أَوْ آوَى مُحْدِثًا».[أخرجه البخاريُّ في «الاعتصام بالكتاب والسنَّة» بابُ إثمِ مَنْ آوى مُحْدِثًا (٧٣٠٦)، ومسلمٌ ـ واللفظُ له بتمامه ـ في «الحجِّ» (١٣٦٦)، مِنْ حديثِ أنسٍ رضي الله عنه]، وضِمْنَ هذا المعنى يقول ابنُ حجرٍ ـ رحمه الله ـ في تعليلِ إيرادِ البخاريِّ للحديث في «الاعتصام»: «والغرضُ بإيرادِ الحديثِ هنا: لَعْنُ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا؛ فإنه ـ وإِنْ قُيِّد في الخبر بالمدينة ـ فالحكمُ عامٌّ فيها وفي غيرها إذا كان مِنْ متعلِّقات الدين». [«فتح الباري» لابن حجر (١٣/ ٢٧٩)]، ويُؤكِّده قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «وَلَعَنَ اللهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا». [تقدَّم قريبًا طَرَفٌ آخَرُ منه مِنْ حديثِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضي الله عنه، انظر تخريجه: (الهامش ٦)]، وقال النوويُّ ـ رحمه الله ـ في شرحِ حديثِ أنسٍ رضي الله عنه: «ومعناه: أنَّ الله تعالى يلعنه وكذا يلعنه الملائكةُ والناسُ أجمعون، وهذا مبالغةً في إبعاده عن رحمة الله تعالى؛ فإنَّ اللعن في اللغةِ هو الطردُ والإبعاد، قالوا: والمرادُ باللعن هنا: العذابُ الذي يستحقُّه على ذَنْبِه ((((والطردُ عن الجنَّةِ أوَّلَ الأمر، وليسَتْ هي كلعنةِ الكُفَّار ))))) الذين يُبْعَدون مِنْ رحمة الله تعالى كُلَّ الإبعاد». [«شرح النووي على مسلم» (٩/ ١٤٠)].
4) ـ أمَّا لَعْنُ اليهودِ فنصوصٌ كثيرةٌ تدلُّ عليه منها: قولُه تعالى: ﴿لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۢ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُۥدَ وَعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَ ﴾ [المائدة: ٧٨]، وقولُه تعالى: ﴿وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغۡلُولَةٌۚ غُلَّتۡ أَيۡدِيهِمۡ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْۘ بَلۡ يَدَاهُ مَبۡسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيۡفَ يَشَآءُ ﴾ [المائدة: ٦٤]، وفي السُّنَّةِ قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَعْنَةُ اللهِ عَلَى اليَهُودِ والنَّصَارَى؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ». [أخرجه البخاريُّ في «الصلاة» باب الصلاة في البِيعة (٤٣٥)، ومسلمٌ في «المساجد ومواضع الصلاة» (٥٣١)، مِنْ حديثِ عائشة وابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهم].
5) وثَبَتَ عن السلف أنهم كانوا يلعنون كِبارَ الطوائفِ والفِرَقِ مِنْ أهلِ الضلال والبِدَعِ المُخالِفين للسنَّةِ المُعانِدين لأهلها، كالجهمية والقَدَرية والخوارج وغيرهم: فقَدْ لَعَنَ ابنُ عمر رضي الله عنهما القَدَريةَ وتبرَّأ منهم. [انظر: «شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة والجماعة» للَّالَكائي (٢/ ٧٠٦).])، ولَعَنَ عبدُ الله بنُ أبي أوفى رضي الله عنهما الأزارقةَ والخوارجَ كُلَّها. [انظر: المصدر السابق (٤/ ١٢٣٣).]،
كما سبَّ التابعون مَنْ تَكلَّم في القَدَرِ وكذَّب به ولَعَنوهم ونَهَوْا عن مُجالَستهم، وكذلك أئمَّةُ المسلمين على نهجهم سائرون وبمَقالَتهم قائلون، قال ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ: «ولهذا اهتمَّ كثيرٌ مِنَ الملوك والعلماء بأَمْرِ الإسلام وجهادِ أعدائه، حتَّى صاروا يلعنون الرافضةَ والجهميةَ وغيرَهم على المنابر، حتَّى لعنوا كُلَّ طائفةٍ رأَوْا فيها بدعةً». [«مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٤/ ١٥).].
هذا، وحريٌّ بالتنبيه: أنَّ اللعن المطلق لا يستلزم لَعْنَ المعيَّن، أي: أنَّ لَعْنَ جنسِ السارق أو الخمَّار لا يقتضي جوازَ لعنِ خصوص السارق أو الخمَّار أو ما إلى ذلك مِنَ العُصاة؛ لأنَّ المعلوم أنَّ الحكم الذي يترتَّب على العموم مِنْ حيث عمومُه لا يترتَّب على الخاصِّ مِنْ حيث خصوصُه؛ وقد أَفْصَحَ ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ عن هذا المعنى مقرِّرًا له بقوله: «ولكنَّ لَعْنَ المطلقِ لا يستلزم لَعْنَ المعيَّن الذي قام به ما يمنع لحوقَ اللعنةِ له، وكذلك «التكفير المطلق» و«الوعيد المطلق»؛ ولهذا كان الوعيدُ المطلق في الكتاب والسنَّةِ مشروطًا بثبوتِ شروطٍ وانتفاءِ موانعَ؛ فلا يلحق التائبَ مِنَ الذنب باتِّفاق المسلمين، ولا يلحق مَنْ له حسناتٌ تمحو سيِّئاته، ولا يلحق المشفوعَ له والمغفور له؛ فإنَّ الذنوب تزول عقوبتُها التي هي جهنَّمُ بأسباب التوبة والحسناتِ الماحية والمصائبِ المكفِّرة». [«مجموع الفتاوى» لابن تيمية (١٠/ ٣٢٩ ـ ٣٣٠).].
قال ابن القيم : ” الثانى: جوازُ لعنِ أصحابِ الكَبائِر بأنواعهم دونَ أعيانهم، كما لَعَنَ السارِقَ، ولعن آكِل الرّبا وموكلَه، ولعن شاربَ الخمر وعاصِرها، ولعن من عمل عمل قومِ لوط، ونهى عن لعن عبد الله حِمار وقد شرب الخمر، ولا تعارضُ بين الأمرين، فإن الوصف الذى علق اللعن مقتض. وأما المعين، فقد يقوم به ما يمنعُ لحوقَ اللعن به مِن حسنات ماحية، أو توبة، أو مصائب مكفرة، أو عفوٍ من الله عنه، فتُلعن الأنواعُ دون الأعيان.” (زاد المعاد/ج5)”.
أمَّا حكمُ لعنِ المعيَّن فهو مَحَلُّ اختلافٍ بين السلف، وسببُ اختلافِهم: تعارُضُ النصوصِ الشرعية بين مُبيحةٍ للَّعن بالكفر والفسق والابتداع، وأخرى محرِّمةٍ للَّعن: كقوله صلَّى الله عليه وسلَّم فيما رواه مسلمٌ: «إِنَّ اللَّعَّانِينَ لَا يَكُونُونَ شُهَدَاءَ وَلَا شُفَعَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ» [أخرجه مسلمٌ في «البرِّ والصِّلَة والآداب» (٢٥٩٨) مِنْ حديثِ أبي الدرداء رضي الله عنه.] ، وفي حديثٍ آخَرَ صحيحٍ: «لَا يَنْبَغِي لِصِدِّيقٍ أَنْ يَكُونَ لَعَّانًا» [أخرجه مسلمٌ في «البرِّ والصِّلَة والآداب» (٢٥٩٧) مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه]، وفي حديثٍ آخَرَ: «لَعْنُ المُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ» [أخرجه البخاريُّ في «الأدب» باب: مَنْ كفَّر أخاه بغيرِ تأويلٍ فهو كما قال (٦١٠٥)، ومسلمٌ في «الإيمان» (١١٠)، مِنْ حديثِ ثابت بنِ الضحَّاك رضي الله عنه] ، وغيرها مِنَ الأحاديث الثابتة، وفي الجمع بين هذه النصوصِ الشرعية تظهر وجوهُه على الصور التالية:
١ ـ فمَنْ حَمَلَ نصوصَ التحريمِ وما فيها مِنْ وعيدٍ في حقِّ المعيَّن، ونصوصَ الإباحةِ في حقِّ غيرِ المعيَّن؛ قال: لا يجوز ـ بحالٍ ـ لعنُ المعيَّن، سواءٌ كان كافرًا أو فاسقًا، وذَهَبَ إلى هذا القولِ القاضي عياضٌ وابنُ المُنَيِّر والغزَّاليُّ والنوويُّ وغيرُهم.[انظر: «فتح الباري» لابن حجر (١٢/ ٧٦).])، قال القاضي عياضٌ ـ رحمه الله ـ: «ولعنُ الجنسِ جائزٌ؛ لأنَّ الله تعالى قد أَوْعَدَهم، ويُنْفِذُ الوعيدَ على مَنْ شاء منهم، وإنما يُكْرَه ويُنهى عن لعنِ المعيَّن والدعاءِ عليه في الإبعاد مِنْ رحمة الله تعالى، وهو معنى اللعن».[«إكمال المُعْلِم» لعياض (٥/ ٥٠٠).]، وقال النوويُّ ـ رحمه الله ـ في مَعْرِض شرحِ حديثِ: «لَعَنَ اللهُ السَّارِقَ..».: «هذا دليلٌ لجوازِ لعنِ غيرِ المعيَّن مِنَ العُصاة؛ لأنه لعنٌ للجنس لا لمعيَّنٍ، ولعنُ الجنسِ جائزٌ؛ كما قال اللهُ تعالى: ﴿أَلَا لَعۡنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّٰلِمِينَ ١٨﴾ [هود]، وأمَّا المعيَّن فلا يجوز لعنُه». [«شرح صحيح مسلم» للنووي (١١/ ١٨٥).].
٢ ـ ومَنْ نَظَرَ إلى معنى اللعنِ الذي هو الطردُ والإبعاد مِنْ رحمة الله فرَّق بين لعنِ الكافر ولعنِ المسلم الفاسق، ورأى أنَّ الكافر يستحقُّ اللعنَ والطرد مِنَ الرحمة فيجوز لعنُ المعيَّن منه، وحَمَلَ النصوصَ المبيحة على جوازِ لعنِ الكافر، وأمَّا المسلم الفاسق فلا يستحقُّ اللعنَ إذ تُرجى له الرحمةُ والمغفرة؛ قال: لا يجوز لعنُ المسلم الفاسق، وحَمَلَ نصوصَ التحريمِ على هذا المعنى، وبهذا قال بعضُ الحنابلة كالقاضي أبي يعلى.[انظر: «الآداب الشرعية» لابن مُفْلِح (١/ ٣٦٩).].
٣ ـ ومَنْ فرَّق بين المُسْتحِقِّ للَّعنِ وغيرِ المُسْتحِقِّ له حَمَلَ النصوصَ المُبيحة للَّعن على مُسْتَحِقِّه مطلقًا، سواءٌ كان معيَّنًا أو غيرَ معيَّنٍ، كافرًا كان أو مسلمًا فاسقًا، وحَمَلَ نصوصَ التحريمِ في حقِّ مَنْ لا يستحقُّ اللعنَ، وقال يجوز لعنُ المُسْتحِقِّين مطلقًا دون غيرِ المُسْتحِقِّين مطلقًا، وعلى هذا القولِ جمهورُ علماءِ السلف كمالكِ بنِ أنسٍ ويزيدَ بنِ هارون وغيرِهم على ما نُقِل عنهم مِنْ لعنِ بعضِ المعيَّنين مِنْ أهل البِدَعِ والضلال كبشرٍ المرِّيسيِّ وعمرو بنِ عُبَيْدٍ وجهمِ بنِ صفوانَ وجَعْدِ بنِ درهمٍ وغيرِهم، وذلك إذا تحقَّقَتْ فيه شروطُ اللعنِ وانتفَتْ عنه الموانعُ، ويؤيِّد هذا القولَ قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَتَّخِذُ عِنْدَكَ عَهْدًا لَنْ تُخْلِفَنِيهِ؛ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ؛ فَأَيُّ المُؤْمِنِينَ آذَيْتُهُ، شَتَمْتُهُ، لَعَنْتُهُ، جَلَدْتُهُ؛ فَاجْعَلْهَا لَهُ صَلَاةً وَزَكَاةً وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا إِلَيْكَ يَوْمَ القِيَامَةِ». [أخرجه البخاريُّ في «الدعوات» بابُ قولِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ آذَيْتُهُ فَاجْعَلْهُ لَهُ زَكَاةً وَرَحْمَةً» (٦٣٦١)، ومسلمٌ في «البرِّ والصِّلَة والآداب» (٢٦٠١)، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه.] ، وفي حديثِ أنسٍ رضي الله عنه: «…فَأَيُّمَا أَحَدٍ دَعَوْتُ عَلَيْهِ مِنْ أُمَّتِي بِدَعْوَةٍ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ أَنْ يَجْعَلَهَا لَهُ طَهُورًا وَزَكَاةً وَقُرْبَةً يُقَرِّبُهُ بِهَا مِنْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ». [أخرجه مسلمٌ في «البرِّ والصِّلَة والآداب» (٢٦٠٣) مِنْ حديثِ أنس بنِ مالكٍ رضي الله عنه.]،
وما دلَّتْ عليه هذه الأحاديثُ مِنْ أمورِ الأذيَّة والشتمِ واللعن والجَلْدِ لبعضِ المعيَّنين مِنَ المسلمين إنما وقعَتْ باجتهاده صلَّى الله عليه وسلَّم لقوله: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ»، وقولُه في الروايةِ الأخرى: «لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ» يُفْهَم منها أنَّ اللعنة لا تكون إلَّا بنصٍّ أو بوحيٍ مِنْ جهةٍ، ومِنْ جهةٍ أخرى أنه يُفْهَم مِنَ الحديثِ جوازُ اللعنةِ للمُسْتَحِقِّين لها؛ بدليلِ قوله: «لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ»، فيبقى الحكمُ فيها غيرَ منسوخٍ؛ وبذلك يظهر جوازُ لعنِ مَنْ دلَّتِ النصوصُ على لَعْنِه بفعله مِنْ معيَّنٍ مسلمٍ فاسقٍ أو كافرٍ إذا ما تحقَّقَتِ الشروطُ المُوجِبةُ للَّعن، وانتفَتْ فيه الموانعُ مِنْ لَعْنِه، وبخاصَّةٍ إذا كان قصدُ اللاعنِ مِنْ وراءِ لعنِ المبتدِعِ المعيَّن تحذيرَ العامَّةِ مِنْ خَطَرِه وضَرَرِه وتنفيرَهم منه بتقبيحِ فعلِه والدعاءِ عليه بما يحدُّ مِنِ انتشارِ شُبُهاته وضلالاته على غيرِ المتبصِّرين بأمورِ دينهم؛ فاستحقاقُ المُبتدِعِ المُلازِم لبدعته الداعي إليها للَّعن إنما يدخل في ضِمْنِ مبدإِ إنكارِ المنكر وجهادِ المُفْسِدين للدين مِنَ الغُلاة والمُبْطِلين وأضرابهم.
هذا، وإِنْ كان القولُ الأخير هو الأقوى حجَّةً والأصحَّ نظرًا إلَّا أنَّ الأحبَّ إليَّ الإمساكُ عن لعنِ المعيَّن؛ لتوقُّفِ بعضِ السلف عن لعنِ بعضِ المعيَّنين ـ مِنْ جهةٍ ـ وإِنْ كان توقُّفُهم لا يدلُّ على اعتقادهم بحُرْمَته، وخشيةَ أَنْ يُسْتعمَل اللعنُ ـ مِنْ جهةٍ أخرى ـ في غيرِ وجهه الصحيح، أو يُباشِرَه مَنْ لا يُعْرَف له قَدْرٌ مِنَ العلم والفقه والتقوى والورع، وبالنظر لغيابِ السلطة الشرعية الزاجرة فالأليقُ ـ عندي ـ الإمساكُ عن لعنِ المعيَّن لئلَّا يتذرَّع المبتدِعُ لاستخدامه على أهل الهدى؛ انتقامًا لنَفْسِه، وجهلًا بشَرَفِ السنَّة ومَقامِها، وطعنًا في أهلها، وحقدًا على رُوَّادها.[ انظر اللعن في الميزان الشرعي، بتصرف].
تنبيه: أن الذين أجازوا لعن المعين من المسلمين لا يرون منابذة هذا المعين منابذة الكافرين بحيث تترك الصلاة عليه ويترك الترحم عليه وتحبط حسناته، ويخلد في النار.. بل يرون أن اللعن نوع من الوعيد وسبب للعقاب، ومظهر للتعزير، فيجتمع فيه ذلك مع ما يكون من أسباب الرحمة والمغفرة من الحسنات والأعمال الصالحة …
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “إن اللعنة لمن يعمل المعاصي مما يسوغ فيها الاجتهاد، وكذلك محبة من يعمل حسنات وسيئات، بل لا يتنافا عندنا أن يجتمع في الرجل الحمد والذم والثواب والعقاب، كذلك لا يتنافا أن يصلى عليه ويدعى لـه، وأن يلعن ويشتم أيضاً باعتبار وجهين، فإن أهل السنة متفقون على أن فساق أهل الملة – وإن دخلوا النار، أو استحقوا دخولها فإنهم – لا بد أن يدخلوا الجنة فيجتمع فيهم الثواب والعقاب، ولكن الخوارج والمعتزلة تنكر ذلك، وترى أن من استحق الثواب لا يستحق العقاب، ومن استحق العقاب لا يستحق الثواب.. “.
وقال في موطن آخر:”ومن جوز من أهل السنة والجماعة لعنة الفاسق المعين فإنه يقول يجوز أن أصلي عليه وأن ألعنه، فإنه مستحق للثواب مستحق للعقاب، فالصلاة عليه لاستحقاق الثواب، واللعنة له لاستحقاق العقاب، واللعنة البعد عن الرحمة، والصلاة عليه سبب للرحمة، فيرحم من وجه، ويبعد عنها من وجه.
وهذا كله على مذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أهل السنة والجماعة، ومن يدخل فيهم من الكرامية والمرجئة والشيعة، ومذهب كثير من الشيعة الإمامية وغيرهم الذين يقولون إن الفاسق لا يخلد في النار.
وأما من يقول بتخليده في النار كالخوارج والمعتزلة وبعض الشيعة فهؤلاء عندهم لا يجتمع في حق الشخص الواحد ثواب وعقاب “.
4) وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَعْنُ الْحَيَوَانِ وَالْجَمَادِ. [إحياء علوم الدين 3 / 119، والأذكار ص545 – 546، والقليوبي 3 / 204]؛ لِمَا وَرَدَ عَنْ عِمْرَانِ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: بَيْنَمَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَامْرَأَةٌ مِنَ الأْنْصَارِ عَلَى نَاقَةٍ فَضَجِرَتْ فَلَعَنَتْهَا فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: خُذُوا مَا عَلَيْهَا وَدَعُوهَا فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ قَال عِمْرَانُ: فَكَأَنِّي أَرَاهَا الآْنَ تَمْشِي فِي النَّاسِ مَا يَعْرِضُ لَهَا أَحَدٌ؟ [حديث: ” بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره. . . “. أخرجه مسلم (4 / 2004)]. [الموسعة الفقهية الكويتية بتصرف].
ثانيًا: ما ورد في المناهي اللفظية1) حكم لعن الشيطان:
79- سئل فضيلة الشيخ ابن عثيمين: عن حكم لعن الشيطان؟.
فأجاب بقوله: الإنسان لم يؤمر بلعن الشيطان، وإنما أمر بالاستعاذة منه؛ كما قال الله تعالى: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله أنه سميع عليم}.
فأجاب بقوله: الإنسان لم يؤمن بلعن الشيطان، وإنما أمر الاستعاذة منه؛ كما قال الله تعالى: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم}.
2) قول الإنسان متسخطا: (لو إني فعلت كذا لكان كذا)، أو يقول (لعنه الله على المرض الذي أعاقني):
80- وسئل فضيلة الشيخ ابن عثيمين: عن قول الإنسان متسخطا: (لو إني فعلت كذا لكان كذا)، أو يقول (لعنه الله على المرض الذي أعاقني)؟.
فأجاب بقوله: إذا قال: (لو فعلت كذا لكان كذا) ندما وسخطا على القدر، فإن هذا محرم ولا يجوز للإنسان أن يقوله، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا، فإن لو تفتح عمل الشيطان، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل». وهذا هو الواجب على الإنسان أن يفعل المأمور وأن يستسلم للمقدور، فإنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
وأما من يلعن المرض وما أصابه من فعل الله عز وجل فهذا من أعظم القبائح- والعياذ بالله-؛ لأن لعنه للمرض الذي هو من تقدير الله تعالى بمنزلة سب الله- سبحانه وتعالى-، فعلى من قال مثل هذه الكلمة أن يتوب إلى الله، وأن يرجع إلى دينه، وأن يعلم أن المرض بتقدير الله، وأن ما أصابه من مصيبة فهو بما كسبت يده، وما ظلمه الله، ولكن كان هو الظالم لنفسه. [انظر: المناهي اللفظية للشيخ ابن عثيمين]