(2591) الفوائد المنتقاة على صحيح مسلم
مجموعة: إبراهيم البلوشي وأبي عيسى البلوشي وهشام السوري، وعبدالله المشجري، والكربي
ومجموعة: طارق أبي تيسير، ومحمد البلوشي، وعبدالحميد البلوشي، وكديم وخميس العميمي وموسى ونوح الصوماليين وآخرين.
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
صحيح مسلم، بابُ مُداراةِ مَن يُتَّقى فُحْشُهُ
[(6573)] ((2591)) – حَدَّثَنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وأبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ،
وعَمْرٌو النّاقِدُ، وزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وابْنُ نُمَيْرٍ، كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ -واللَّفْظُ لِزُهَيْرٍ –
قالَ: حَدَّثَنا سُفْيانُ -وهُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ- عَنِ ابْنِ المُنْكَدِرِ، سَمِعَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ
يَقُولُ: حَدَّثَتْنِي عائِشَةُ، أن رَجُلًا اسْتَاذَنَ عَلى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقالَ: ((ائْذَنُوا لَهُ، فَلَبِئْسَ ابْنُ العَشِيرَةِ، أوْ بِئْسَ رَجُلُ العَشِيرَةِ))، فَلَمّا دَخَلَ عَلَيْهِ ألآنَ لَهُ القَوْلَ، قالَتْ عائِشَةُ: فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ، قُلْتَ لَهُ الَّذِي قُلْتَ، ثُمَّ ألَنْتَ لَهُ القَوْلَ، قالَ: ((يا عائِشَةُ إنَّ شَرَّ النّاسِ مَنزِلَةً عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيامَةِ، مَن ودَعَهُ، أوْ تَرَكَهُ النّاسُ؛ اتِّقاءَ فُحْشِهِ)).
[(6574)] ( … ) – (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رافِعٍ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، كِلاهُما عَنْ عَبْدِ الرَّزّاقِ، أخْبَرَنا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ المُنْكَدِرِ، فِي هَذا الإسْنادِ، مِثْلَ مَعْناهُ، غَيْرَ أنَّهُ قالَ: ((بِئْسَ أخُو القَوْمِ، وابْنُ العَشِيرَةِ)).
==========
التمهيد: “إن مما لا يخفى أن الله تعالى خلق الخلق متفاوتون في الطبائع والرغبات، والعقول والقدرات.
ومن أدلة الباب العملية الموجبة الاتباع: ما صحّ من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتألف الناس عموما، والسادة المطاعين في أقوامهم وأهل الجاه كعيينة بن حصن والأقرع بن حابس وأمثالهم، لعظيم أثرهم. وفي هذا
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية– رحمه الله تعالى: “ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف قوماً ويهجر آخرين، كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيراً من أكثر المؤلفة قلوبهم لما كان أولئك كانوا سادة مطاعين في عشائرهم فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم … ، وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارة والمهادنة تارة وأخذ الجزية تارة، كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح وجواب الأئمة كأحمد وغيره في هذا الباب مبني على هذا الأصل ” “مجموع الفتاوى” (28/ 206) “.
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
قال الحافظ النووي رحمه الله: “بابُ مُداراةِ مَن يُتَّقى فُحْشُهُ”.
الحديث الأول:
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه خمسة من الشيوخ قَرَن بينهم؛
لاتحاد كيفيّة أخْذه عنهم، وهو السماع منهم، ولذا قال:» حدّثنا «، ثم فصل
بعدُ؛ لاختلافهم فيما ذُكر، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه عروة أحد الفقهاء
السبعة، وعائشة -رضي الله عنها- من المكثرين السبعة.
(أنَّ رَجُلًا) قال ابن بطال رحمه الله [(شرح البخاري) لابن بطال (9) / (230)]: هو عُيينة بن حِصْن بن حُذيفة بن بدر الفَزاريّ، وكان يقال له: الأحمق المطاع، ورجا النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بإقباله عليه تألّفه؛ لِيُسْلِم قومه؛ لأنه كان رئيسهم. وكذا فسَّره به عياض، ثم القرطبيّ، والنوويّ جازمين بذلك، ونقله ابن التين عن
الداوديّ، لكن احتمالًا لا جزمًا، وقد أخرجه عبد الغنيّ بن سعيد في (المبهمات)
من طريق عبد الله بن عبد الحكم، عن مالك، أنه بلغه عن عائشة -رضي الله عنها-: استأذن
عُيينة بن حِصن على النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فقال: ((بئس ابن العشيرة … )) الحديث، وأخرجه ابن بشكوال في (المبهمات) من طريق الأوزاعيّ، عن يحيى بن أبي كثير: أن
عيينة استأذن … ، فذكره مرسلًا، وأخرج عبد الغنيّ أيضًا من طريق أبي عامر
الخراز، عن أبي يزيد المدنيّ، عن عائشة: قالت: جاء مخرمة بن نوفل، يستأذن، فلما سمع النبيّ -صلى الله عليه وسلم- صوته قال: ((بئس أخو العشيرة … )) الحديث.
قال الحافظ: وهكذا وقع لنا في أواخر الجزء الأول من فوائد أبي إسحاق الهاشميّ، وأخرجه الخطيب، فيُحْمَل على التعدد.
وقد حكى المنذريّ في» مختصره «القولين، فقال: هو عيينة، وقيل: مخرمة، وأما ابن المُلَقِّن فاقتصر على أنه مخرمة، وذكر أنه نقله من حاشية بخطّ الدمياطيّ، فقصر، لكنه حَكى بعد ذلك عن ابن التين أنه جَوَّز أنه عيينة، قال: وصَرَّح به ابن بطال) الفتح «(13) / (579) – (580)، كتاب» الأدب «رقم ((6032))].
(اسْتَاذَنَ عَلى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-)؛ أي: بأن يدخل عليه، (فَقالَ) -صلى الله عليه وسلم-: (» ائْذَنُوا لَهُ) بالدخول، (فَلَبِئْسَ ابْنُ العَشِيرَةِ، أوْ بِئْسَ رَجُلُ العَشِيرَةِ «) وفي رواية معمر التالية: بئس أخو القوم، وابن العشيرة»، وفي رواية البخاريّ: «بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة»، والمعنى واحد، قال عياض: المراد بالعشيرة الجماعة، أو القبيلة، وقال غيره: العشيرة: الأدنى إلى الرجل من أهله، وهُمْ ولَد أبيه وجدّه. وقال في «العمدة»؛ أي: بئس هذا الرجل منها، وهو كقولك: يا أخا العرب لرجل منهم، وهذا الكلام من أعلام النبوة؛ لأنه ارتدّ بعده -صلى الله عليه وسلم-، وجيء به أسيرًا إلى أبي بكر -رضي الله عنه-[» عمدة القاري” (22) / (117)].
(فَلَمّا دَخَلَ) الرجل (عَلَيْهِ) -صلى الله عليه وسلم- (ألانَ لَهُ القَوْلَ) وفي رواية البخاريّ: «فلما
جلس تَطَلّق النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في وجهه، وانبسط إليه»، و «تطلّق» -بفتح الطاء المهملة، وتشديد اللام-؛ أي: أبدى له طَلاقة وجهه، يقال: وجْهُهُ طَلْق، وطَلِيق؛ أي: مسترسِل، منبسِط، غير عَبوس، ووقع في رواية ابن عامر: «بَشّ في وجهه»،
ولأحمد من وجه آخر، عن عائشة: «واستأذن آخر، فقال: نِعْم أخو العشيرة،
فلما دخل لم يهشّ له، ولم ينبسط كما فعل بالآخر، فسألته … »، فذكر الحديث.
(قالَتْ عائِشَةُ) -رضي الله عنها-: (فَقُلْتُ) بعدما خرج الرجل من المجلس: (يا رَسُولَ اللهِ، قُلْتَ لَهُ الَّذِي قُلْتَ)؛ تعني: قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ائذنوا له، فلبئس أخو العشيرة»، وفي رواية البخاريّ: «فلما انطلق الرجل قالت له عائشة: يا رسول الله، حين رأيت الرجل، قلت له كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه، وانبسطت إليه «، (ثُمَّ) لمّا دخل عليك (ألَنْتَ لَهُ القَوْلَ)؛ أي: كلّمته بكلام ليّن لطيف، (قالَ) -صلى الله عليه وسلم-: (يا عائِشَةُ) وفي رواية البخاريّ: «فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا عائشة، متى عهدتني فحّاشًا»، وفي رواية: «فاحشًا»، وقوله: (إنَّ شَرَّ النّاسِ) استئناف كلام؛ كالتعليل لِتَرْكه -صلى الله عليه وسلم- مواجهته بما ذَكَره في غيبته، قاله في «الفتح» [«الفتح» (13) / (609)]. (مَنزِلَةً) منصوب على التمييز، (عِنْدَ اللهِ) تعالى (يَوْمَ القِيامَةِ، مَن ودَعَهُ) بفتحات، قال المازريّ [«المعلم» (3) / (167)]: ذكر بعض النحاة أن العرب أماتوا مصدر يَدَعَ، وماضيه، والنبيّ -صلى الله عليه وسلم- أفصح العرب، وقد نَطَق بالمصدر في قوله: «لينتهينّ أقوام عن ودْعِهم الجُمعات»، وبماضيه في هذا الحديث، وأجاب عياض [«إكمال المعلم» (8) / (63)] بأن المراد بقولهم: أماتوه؛ أي: تركوا استعماله إلا نادرًا، قال: ولفظ «أماتوا» يدلّ عليه، ويؤيد ذلك أنه لم يُنقل في الحديث إلا في هذين الحديثين، مع شكّ الراوي في حديث الباب، مع كثرة استعمال «ترك»، ولم يقل أحد من النحاة: إنه لا يجوز. انتهى [«الفتح» (13) / (579) – (580)].
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: «من ودَعه، أو تركه الناس … إلخ» هذا شكٌّ من بعض الرواة في أيّ اللفظين قال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فإن كان الصحيح «ودَعَه»، فقد تكلّم النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بالأصل المرفوض، كما قد تكلّم به الشاعر الذي هو أنس بن زُنيم في قوله [من الرمل]:
سَلْ أمِيرِي ما الَّذِي غَيَّرَهُ … عَنْ وِصالِي اليَوْمَ حَتّى ودَعَهْ
وقد حُكي عن بعض السلف أنه قرأ: {ما ودَّعَكَ رَبُّكَ وما قَلى ((3))}
[الضحى (3)]، بتخفيف الدال، وقد صحّ عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أنه تكلّم بمصدر ذلك
المرفوض، حيث قال: «لينتهينّ أقوام عن ودْعهم الجمعات، أو ليختمنّ الله
على قلوبهم» [رواه مسلم]، وهذا كلّه يردّ على من قال من النحويين: إن العرب قد أماتت ماضي هذا الفعل، ومصدره، ولا يُتكلّم به استغناءً عن ذلك بتركه، فان أراد به هذا القائل أنه لا يوجد في كلامهم، فقد كذّبه النقل الصحيح، وإن أراد أن
ذلك يقع، ولكنه قليل، وشاذّ في الاستعمال، فهو صحيح. انتهى [«المفهم» (6) / (573) – (574)].
وقال الفيّوميّ رحمه الله: ودَعْتُهُ أدَعُهُ ودْعًا: تركته، …. فقد رُويت هذه الكلمة عن أفصح العرب، ونُقلت من طريق القرّاء،
فكيف يكون إماتةً، وقد جاء الماضي في بعض الأشعار، وما هذه سبيله فيجوز
القول بقلّة الاستعمال، ولا يجوز القول بالإماتة. انتهى [«المصباح المنير» (2) / (653)].
(أوْ) للشكّ من الراوي، كما تقدّم عن القرطبيّ، (تَرَكَهُ النّاسُ؛ اتِّقاءَ فُحْشِهِ)؛ أي: لأجل الاتّقاء عن فُحشه
وقال ابن الأثير رحمه الله: قد تكرر ذِكْر الفُحْش، والفاحِشة، والفواحش في الحديث، وهو: كلّ ما يَشْتدّ قُبْحه من الذنوب، والمعاصي، وكثيرًا ما تَرِدُ الفاحِشة بمعنى: الزّنا، وكل خَصْلة قبيحة فهي فاحِشة، من الأقوال، والأفعال.
ومنه الحديث: قال لعائشة: لا تقَولِي ذلك، فإن الله لا يُحِبّ الفُحْش، ولا التفاحُش، أراد بالفُحْش: التَّعَدّي في القَول والجواب، لا الفحشَ الذي هو من قَذَع الكلام، ورَدِيئه انتهى [«النهاية في غريب الأثر» (3) / (790)].
وفي رواية البخاريّ: «اتقاء شرّه»؛ أي: قُبح كلامه؛ لأن الرجل المذكور كان من جُفاة الأعراب.
قال الأثيوبي: ظاهر كلام الشرّاح أن المعنيّ بمن تركه الناس اتّقاء فحشه: هو الرجل الداخل الذي قال فيه النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: «بئس أخو العشيرة»،
وقال القاري بعد أن ذكر المعنى الأول: وقيل: المعنى إنما ألنت له القول؛ لأني لو قلت له في حضوره ما قلته في غيبته لتركني اتّقاء فُحْشي، فأكون أشرّ الناس. انتهى [«المرقاة» (8) / (574)].
قال الأثيوبي: وهذا المعنى الثاني عندي هو الأقرب، والأظهر، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.
وقال القرطبيّ: في هذا الحديث إشارة إلى أن عيينة المذكور خُتم له بسوء؛ لأن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- اتقى فُحشه، وشَرّه، وأخبر أن من يكون كذلك يكون شرّ الناس منزلة عند الله يوم القيامة.
وتعقّبه الحافظ – وأجاد في ذلك- فقال: ولا يخفى ضَعف هذا الاستدلال، فإن الحديث ورد بلفظ العموم، فمن اتصف بالصفة المذكورة فهو الذي يتوجه عليه الوعيد، وشَرْط ذلك أن يموت على ذلك، ومن أين له أن عيينة مات على ذلك واللفظ المذكور يَحْتَمِل لأن يقيد بتلك الحالة التي قيل فيها ذلك، وما المانع أن يكون تاب وأناب وقد كان عيينة ارتدّ في زمن أبي بكر -رضي الله عنه-، وحارب، ثم رجع، وأسلم، وحضر بعض الفتوح في عهد عمر -رضي الله عنه-، وله مع عمر قصة
وفيها ما يدلّ على جفائه.
والحديث الذي فيه أنه «أحمق مطاع» أخرجه سعيد بن منصور، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم النخعيّ قال: «جاء عيينة بن حصن إلى النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وعنده عائشة، فقال: من هذه قال: أم المؤمنين، قال: ألا أنزل لك عن أجمل منها فغضبت عائشة، وقالت: من هذا قال: هذا أحمق مطاع»
ووصله الطبرانيّ من حديث جرير، وزاد فيه: «اخرج، فاستأذن، قال: إنها يمين عليّ أن لا أستأذن على مضريّ»، وعلى تقدير أن يُسَلَّم له ذلك، وللقاضي قبله في عيينة، لا يُسَلَّم له ذلك في مخرمة بن نوفل. انتهى [«الفتح» (13) / (582)].
قلت سيف بن دوره: الموصول الذي فيه (هذا الأحمق المطاع) الراجح فيه أنه من مراسيل قيس: ففي علل الدارقطني
(3345) – وسئل عن حديث قيس، عن جرير: دخل عيينة بن حصن عَلى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، وعنده رجل، فاستسقى، فأتي بماء فشرب، فستره رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: ما هذا قال: الحياء أوتوها ومنعتموها.
فَقالَ: يَرْوِيهِ إسْماعِيلُ بْنُ أبِي خالِدٍ، واخْتُلِفَ عنه؛
فرواه يحيى بن محمد بن مطيع، عن ابن أبي خالد، عن قيس، عن جرير، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-.
والمَحْفُوظُ: عَنْ إسْماعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ مُرْسَلًا.
علل الدارقطني = العلل الواردة في الأحاديث النبوية (13) / (455)
فمحتمل يتقوى الحديث بمرسل قيس ومرسل إبراهيم النخعي.
تنبيه1: يقصد بقصته مع عمر:
ما أخرجه البخاريّ في «التفسير»، فقال:
((4366)) – حدّثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهريّ، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قَدِم عيينة بن حِصن بن حُذيفة، فنزل على ابن أخيه الحُرّ بن قيس، وكان من النفر الذين يُدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر، ومشاورته، كهولًا كانوا، أو شُبّانًا، فقال عيينة لابن أخيه:
يا ابن أخي لك وجه عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه، قال: سأستأذن لك عليه،
قال ابن عباس: فاستأذن الحرّ لعيينة، فأذِن له عمر، فلما دخل عليه، قال: هِي يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر، حتى
هَمّ به، فقال له الحرّ: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: {خُذِ العَفْوَ
وامُرْ بِالعُرْفِ وأعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ ((199))} [الأعراف (199)] وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقّافًا عند كتاب الله. انتهى”]،
تنبيه 2: رواية أخرى لقصة دخول عيينة بن حصن على النبي صلى الله عليه وسلم: “وقال أبو عمر بن عبد البرّ في «الاستيعاب» (3) / (1250): وفي غير هذه الرواية في هذا الخبر أنه دخل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بغير إذن، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «وأين
الإذن » فقال: ما استأذنت على أحد من مضر، وكانت عائشة مع النبيّ -صلى الله عليه وسلم-
جالسةً، فقال: من هذه الحميراء فقال: «أم المؤمنين» قال: أفلا أنزل لك عن
أجمل منها فقالت عائشة: من هذا يا رسول الله قال: «هذا أحمق مطاع، وهو
على ما تَرَيْن سيّد قومه». انتهى”].
الذهبي قال: قيل كل حديث فيه الحميراء لا يصح.
======
======
======
الحديث الثاني: قال الإمام مسلم: [(6574)] ( … ) – (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رافِعٍ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، كِلاهُما عَنْ عَبْدِ الرَّزّاقِ، أخْبَرَنا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ المُنْكَدِرِ، فِي هَذا الإسْنادِ، مِثْلَ مَعْناهُ، غَيْرَ أنَّهُ قالَ: ((بِئْسَ أخُو القَوْمِ، وابْنُ العَشِيرَةِ)).
[تنبيه]: رواية معمر عن ابن المنكدر هذه ساقها عبد بن حميد رحمه الله في
«مسنده»، فقال: ((1511)) – أنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن ابن المنكدر، عن عروة، عن عائشة، أتى رجل، فاستأذن على النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فقال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: «بئس أخو القوم، وابن العشيرة هذا»، فلما دخل أقبل عليه بوجهه، وحدّثه، فلما خرج، قالت عائشة: يا رسول الله، قلتَ فيه ما قلتَ، ثم أقبلت عليه بوجهك، وحديثك، فقال: «إن من شرّ الناس منزلة عند الله يوم القيامة رجل اتّقاه الناس لشرّه –أو قال-: لِفُحشه» [«مسند عبد بن حميد» (1) / (437)]، والله تعالى أعلم. [انظر: البحر المحيط الثجاج، بتصرف يسير].
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة -رضي الله عنها- هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في فوائد الحديث:
(1) – (منها): بيان جواز مداراة من يُتَّقى فحشه، قال البخاريّ رحمه الله في
» صحيحه «:» باب المداراة مع الناس «، قال في» الفتح «: المداراة بغير همز، وأصله الهمز؛ لأنه من الدرء، وهو المدافعة، والمراد به: الدفع برفق، وأشار البخاريّ بالترجمة إلى ما ورد فيه على غير شرطه، فقد ورد فيه حديث جابر -رضي الله عنه-، عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال:» مداراة الناس صدقة «، أخرجه ابن عديّ، والطبرانيّ في» الأوسط «، وفي سنده يوسف بن محمد بن المنكدر ضعفوه، وقال ابن عديّ: أرجو أنه لا بأس به، وأخرجه ابن أبي عاصم في» آداب الحكماء «بسند أحسن منه، وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه-:» رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس «، أخرجه البزار بسند ضعيف. انتهى [» الفتح «(13) / (702)، كتاب» الأدب” رقم ((6131))].
قال ابن بطال رحمه الله: المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس، ولِين الكلمة، وتَرْك الإغلاظ لهم في القول. وذلك من أقوى أسباب الأُلفة، وظَنّ بعضهم أن المداراة هي المداهنة، فغَلِط؛ لأن المداراة مندوب إليها، والمداهنة محرّمة، والفرق أن المداهنة من الدِّهان، وهو الذي يَظهر على الشيء، ويستر باطنه، وفسَّرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق، واظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه. والمداراة هي: الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله، وترك الإغلاظ عليه، حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، ولا سيما إذا احتيج إلى تألّفه، ونحو ذلك. انتهى [«شرح البخاريّ» لابن بطّال (9) / (305)].
(2) – (ومنها): بيان جواز غيبة الفاسق المعلن بفسقه، ومن يحتاج الناس إلى التحذير منه، قال البخاريّ رحمه الله في «صحيحه»: «باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد والرِّيَب»، ثم أورد حديث عائشة -رضي الله عنها- المذكور في الباب مستدلًا على الترجمة، قال في «الفتح»: وقد نوزع في كون ما وقع من ذلك غيبة، وانما هو نصيحةٌ؛ لِيَحْذَر السامع، وإنما لم يواجه المقول فيه بذلك؛ لِحُسْن خُلُقه -صلى الله عليه وسلم-، ولو واجه المقول فيه بذلك، لكان حسنًا، ولكن حصل القصد بدون مواجهة، والجواب أن المراد: أن صورة الغيبة موجودة فيه، وان لم يتناول الغيبة المذمومة شرعًا، وغايته أن تعريف الغيبة المذكور أوّلًا هو اللغويّ، وإذا استُثني منه ما ذُكر كان ذلك تعريفها الشرعيّ. انتهى [«الفتح» (13) / (609)].
وقال في «العمدة»: هذا الحديث أصل في المداراة، وفي جواز غيبة أهل الكفر، والفسق، والظلمة، وأهل الفساد. انتهى.
وقال في «الفتح»: ويُستنبط منه: أن المجاهر بالفسق والشرّ، لا يكون ما يُذكر عنه من ذلك من ورائه من الغيبة المذمومة، قال العلماء: تباح الغيبة في كل غَرَض صحيح شرعًا، حيث يتعيّن طريقًا إلى الوصول إليه بها؛ كالتظلم، والاستعانة على تغيير المنكر، والاستفتاء، والمحاكمة، والتحذير من الشرّ، ويدخل فيه تجريح الرواة والشهود، واعلام من له ولاية عامة بسيرة من هو تحت يده، وجواب الاستشارة في نكاح، أو عَقْد من العقود، وكذا من رأى متفقهًا يتردد إلى مبتدع، أو فاسق، ويخاف عليه الاقتداء به، وممن تجوز غِيبتهم من يتجاهر بالفسق، أو الظلم، أو البدعة. انتهى. [«الفتح» (13) / (610)].
(3) – (ومنها):.قال القرطبيّ رحمه الله: في الحديث جواز غيبة المعلن بالفسق، أو الفحش، ونحو ذلك من الجور في الحكم، والدعاء إلى البدعة، مع جواز مداراتهم اتقاء شرّهم، ما لم يؤدّ ذلك إلى المداهنة في دين الله تعالى، ثم قال تبعًا لعياض: والفرق بين المدارة والمداهنة: أن المداراة: بذل الدنيا لصلاح الدنيا، أو الدين، أو هما معًا، وهي مباحة، وربما استُحِبّت، والمداهنة: تَرْك الدِّين لصلاح الدنيا، والنبيّ -صلى الله عليه وسلم- إنما بذل له من دنياه حُسن عشرته، والرفق في مكالمته، ومع ذلك فلم يمدحه بقول، فلم يناقض قوله فيه فِعله، فمان قوله فيه قولٌ حقّ، وفِعله معه حسنُ عِشْرة، فيزول مع هذا التقرير الإشكال بحمد الله تعالى.
وقال عياض: لم يكن عُيينة -والله أعلم- حينئذ أسلم، فلم يكن القول فيه غيبةً، أو كان أسلم، ولم يكن إسلامه ناصحًا، فأراد النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أن يبيّن ذلك؛ لئلا يغترّ به من لم يعرف باطنه، وقد كانت منه في حياة النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وبعده أمور، تدلّ على ضَعف إيمانه، فيكون ما وصفه به النبيّ -صلى الله عليه وسلم- من جملة علامات النبوة، وأما إلانة القول له بعد أن دخل، فعلى سبيل التألّف له، ذكره في «الفتح» [«الفتح» (13) / (580) – (581)، كتاب «الأدب» رقم ((6032))]، والله تعالى أعلم. [البحر المحيط الثجاج]
(المسألة الثالثة): تبسيط معالم المدَاراة.
المعلم الأول: معنى المدَاراة. (وقد سبق شيء من ذلك) أ. معنى المدَاراة لغةً:
المداراة مصدر دارى، يقال: داريته مداراة: لاطفته ولاينته، ومداراة الناس: أي ملاينتهم وحسن صحبتهم واحتمالهم؛ لئلا ينفروا عنك. [((لسان العرب)) لابن منظور (14/ 254)، وانظر: مادة (درأ) (1/ 71)، ((المصباح المنير)) للفيومي (1/ 194)]
ب. معنى المدَاراة اصطلاحًا:
قال ابن بطال: (المدَاراة: خفض الجناح للناس، ولين الكلام وترك الإغلاظ لهم في القول) ((شرح صحيح البخاري)) (9/ 305).
وقال ابن حجر: (المراد به الدفع برفق) ((فتح الباري)) (10/ 528).
وقال المناوي: (المدَاراة: الملاينة والملاطفة) ((التوقيف على مهمات التعاريف)) (ص 301).
ومداراة الناس هي: حسن صحبتهم، واحتمال أذاهم، وعدم مجابهتهم بما يكرهون.
فرع: الفرق بين المدَاراة والمداهنة (وقد مر) – قال القرطبي في الفرق بينهما: (أنَّ المدَاراة: بذل الدنيا لصلاح الدنيا، أو الدين، أو هما معًا، وهي مباحة وربما استحبت. والمداهنة: ترك الدين لصلاح الدنيا”.
– قال ابن بطال: “المدَاراة مندوب إليها، والمداهنة محرمة، والفرق أنَّ المداهنة من الدهان وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسَّرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق، وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه. والمدَاراة هي: الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله، وترك الإغلاظ عليه حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك”.انتهى.
– وقال أبو بكر الطرطوشي: (المدَاراة: أن تداري الناس على وجه يسلم لك دينك). ((سراج الملوك)) لأبي بكر الطرطوشي
(11/ 36).
– قال ابن القيم رحمه الله:
” المداراة صفة مدح، والمداهنة صفة ذم.
والفرق بينهما أن المدارى يتلطف بصاحبه حتى يستخرج منه الحق، أو يرده عن الباطل. والمداهن يتلطف به ليُقِرّه على باطله، ويتركه على هواه.
فالمداراة لأهل الإيمان، والمداهنة لأهل النفاق.
وقد ضُرِب لذلك مثلٌ مطابق:
وهو حال رجل به قُرحة قد آلمته، فجاءه الطبيب المداوي الرفيق، فتعرف حالها ثم أخذ في تليينها، حتى إذا نضجت أخذ في بَطِّها برفق وسهولة حتى أخرج ما فيها، ثم وضع على مكانها من الدواء والمرهم ما يمنع فساده، ويقطع مادته، ثم تابع عليها بالمراهم التي تنبت اللحم، ثم يذُرُّ عليهاـ بعد نبات اللحم ـ ما ينشف رطوبتها، ثم يشد عليها الرباط، ولم يزل يتابع ذلك حتى صلحت.
والمداهن قال لصاحبها: لا بأس عليك منها، وهذه لا شيء، فاسترها عن العيوب بخرقة، ثم الهُ عنها. فلا تزال مِدتها تقوى وتستحكم، حتى عظم فسادها “. انتهى. [الروح، 232].
وقال ابن حجر: وضابط المدَاراة: ألَّا يكون فيها قدح في الدين، والمداهنة المذمومة: أن يكون فيها تزيين القبيح، وتصويب الباطل، ونحو ذلك [فتح الباري؛ لابن حجر: 13/ 52 – 53].
وقال ابن حِبَّان: “والمدَاراة التي تكون صدقة للمُداري هو تخلُّق الإنسان بالأشياء المستحسنة مع من يدفع إلى عشرته، ما لم يشُبْها معصية الله، والمداهنة هي: استعمال المرء الخصال التي تستحسن منه في العشرة، وقد يشوبه ما يكره الله تعالى” [الآداب الشرعية؛ لابن مفلح: 3/ 469].
وقال الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن: “وأما الفرق بين المداراة والمداهنة، فالمداهنة: ترك ما يجب لله من الغيرة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتغافُل عن ذلك لغرض دنيوي وهوى نفساني … ، فالاستئناس والمعاشرة مع القدرة على الإنكار، هي المداهنة، وأما المداراة، فهي درء الشر المفسد بالقول اللين، وترك الغلظة، أو الإعراض عنه إذا خيف شره، أو حصل منه أكبر مما هو ملابس”. [الدرر السنية، لعلماء نجد الأعلام: 8/ 71 – 72].
وأما الفرق بين المدَاراة والمداهنة بالغرض الباعث على الإغضاء؛ فإن أغضيت لسلامة دينك، ولما ترى من إصلاح أخيك بالإغضاء، فأنت مدار، وإن أغضيت لحظِّ نفسك، واجتلاب شهواتك، وسلامة جاهك فأنت مداهن. وسيأتي قول أبي حاتم عند ذكر الأقوال في المدَاراة.
” وعليه فيمكن تجلية الفروق بين المداراة والمداهنة بما يلي:
الفرق بين المداهنة والمدارة: ولتجلية الفرق نعرّف المداهنة قال المبرد: يقال أدهن في دينه، وداهن في أمره: أي خان فيه، وأظهر خلاف ما يضمر” “الجامع لأحكام القرآن” (9/ 18/202)
والإدهان الغش، ودهن الرجل إذا نافق، كما يقول ابن منظور في لسان العرب. قال أبو بكر ابن العربي رحمه الله تعالى: قال أهل اللغة: الإدهان هو التلبيس، لذا رجح القول بأن الادهان: الكذب، قال: وحقيقة الادهان: إظهار المقاربة مع الاعتقاد للعداوة … ” [أحكام القرآن، (4/ 305)].
وجاء في “التوقيف على مهمات التعاريف”: ” المداهنة أن ترى منكراً تقدر على دفعه فلم تدفعه، حفظا لجانب مرتكبه، أو لقلة مبالاة بالدين”.
إذا ً:
المداراة هي: التودد لنافر؛ لأجل الدين. فهي والحالة هذه من باب التصدق، خلافاً للمداهنة التي هي التودد له على حساب الدين وتحريم الأخيرة ظاهر.
قال العلامة أبو بكر ابن العربي رحمه الله تعالى: ” وحقيقة الإدهان؛ إظهار المقاربة مع الاعتقاد للعداوة، فإن كانت المقاربة باللين فهي مداهنة، وإن كانت مع سلامة الدين فهي مداراة، أي مدافعة” “أحكام القرآن” (4/ 305).
قال ابن زيد في قوله تعالى: ” وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ” قال: الركون: الإدهان. وقال عليه الصلاة والسلام: ” مثل الْمُدهِنِ في حدود الله والواقع فيها، مثل قوم استهموا سفينة فصار بعضهم في أسفلها، وصار بعضهم في أعلاها، فكان الذي في أسفلها يمرّون بالماء على الذين في أعلاها، فتأذّوا به، فأخذ فأسا فجعل ينقر أسفل السفينة فأتوه فقالوا ما لك قال تأذيتم بي ولا بد لي من الماء فإن أخذوا على يديه أنجوه ونجوا أنفسهم وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم” رواه الإمام البخاري.
والرواية الأخرى عند البخاري: “مثل القائم على حدود الله والواقع فيها … “.
فغايتهما: إرضاء الغير.
وثمرتهما: في المداهنة: مأزور متعاطيها، ومن شؤمها أن الله تعالى قد يعاقب بنقيض العزم. قال رسول الله – صلى الله تعالى عليه وإخوانه وآله وسلم: ” من أرضى الناس بسخط الله؛ وكله الله إلى الناس. ومن أسخط الناس برضا الله كفاه الله مؤنة الناس” “صحيح الجامع … ” برقم (6010)
وفي المدارة: يثاب فاعلها، وغالباً ما تثمر ثمارا يافعة يانعة تورث فرحة في القلب وببهجة في الوجه.
وعليه فالمحب يُجامل ويُداري محبوبه، والمُبغِض يُنافق مبغوضه! والكريم يُجامل ويُداري ويُصانِع، واللئيم يُداهن ويُنافق! “.
تنبيه: “من الناس من قد يظن أن مداراة الناس والرفق بهم ضعف في الدين وتمييع. بينما يظن فريق آخر أن من الرفق بالناس إقرارهم على الباطل، والسكوت عن الأخطاء. وكلا الفريقين مخطئ، تائه عن الحق، فليتنبه لهذا الأمر فإنه مزلق خطير لا يعصم منه إلا من وفقه الله وهداه.
إن للداعية في دعوة الناس مسلكان شرعيان دلت عليهما النصوص: مسلك التأليف والترغيب، ومسلك الهجر والترهيب. ويخطئ من يعمم أحد المسلكين مع كل أحد بل يسلك مع كل مخالف ما هو أرجى في قبوله للحق ورجوعه للصواب”.” بين المداراة التقية عند أهل السنة، والتقية عند الشيعة:
المداراة عند أهل السنة هي الرفق والتلطف لدفع شر الأعداء والصبر على هدايتهم وإرشادهم، عملاً بقوله – تعالى -: {إلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنهُم تُقَاةً}، بعد أن نهاهم عن موالاة الكافرين رخص لهم في مداراتهم إلى حين في حال الضعف والعجز.
أما التقية عند الرافضة فهي أن يظهروا سيما للسني ما لا يبطنون، فهي دينهم الذي يدينون به وعقيدتهم التي عليها يعتمدون، وبسبب ذلك استجازوا الكذب على أهل السنة وعلى أئمتهم من قبل، حيث زعم الكليني أن أبا عبد الله جعفر الصادق قال: تسعة أعشار الدين في التقية، ولا دين لمن لا تقية له، والتقية في كل شيء إلا في النبيذ والمسح على الخفين.
وينسب الشيعة لبعض آل البيت كذباً: من صلى وراء سني تقية فكأنما صلى وراء نبي.
لقد فسر الشيعة جل تصرفات أئمتهم على ضوء هذه الفرية، فسكوت علي بن ابي طالب مثلاً على أبي بكر وعمر وعثمان، ومبايعته لهم تقية، ومصالحة الحسن لمعاوية كان تقية.
فروق: بين المُدارَأةِ و المُداراةِ:
وشارَكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، ولَمّا قَدِمَ عَلَيْهِ شَرِيكُهُ، قالَ: أما تَعْرِفُنِي قالَ ««أما كُنْتَ شَرِيكِي فَنِعْمَ الشَّرِيكُ كُنْتَ لا تُدارِي ولا تُمارِي»».
وتُدارِئُ بِالهَمْزَةِ مِنَ المُدارَأةِ، وهِيَ مُدافَعَةُ الحَقِّ، فَإنْ تُرِكَ هَمْزُها، صارَتْ مِنَ المُداراةِ، وهِيَ المُدافَعَةُ بِالَّتِي هِيَ أحْسَنُ.
زاد المعاد 1/ 155
===
المعلم الثاني: المداراة في الكتاب والسنة:
أولًا: المداراة في القرآن الكريم.- قال تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَاتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) [مريم: 41 – 47].
قال السعدي: (وفي هذا من لطف الخطاب ولينه، ما لا يخفى، فإنه لم يقل: يا أبت أنا عالم، وأنت جاهل. أو: ليس عندك من العلم شيء. وإنما أتى بصيغة تقتضي أنَّ عندي وعندك علمًا، وأنَّ الذي وصل إليَّ لم يصل إليك ولم يأتك، فينبغي لك أن تتبع الحجة وتنقاد لها) ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص 494).
– وقوله تعالى: (وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [لقمان: 14 – 15].
قال القرطبي: قوله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} نعت لمصدر محذوف، أي مصاحبًا معروفًا، يقال: صاحبته مصاحبة ومصاحبًا. و {مَعْرُوفًا} أي: ما يحسن. والآية دليل على صلة الأبوين الكافرين بما أمكن من المال إن كانا فقيرين، وإلانة القول والدعاء إلى الإسلام برفق) ((الجامع لأحكام القرآن)) (14/ 66).
– وقال سبحانه: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى فَاتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه: 43 – 47].
قال ابن كثير: (هذه الآية فيها عبرة عظيمة، وهو أن فرعون في غاية العتو والاستكبار، وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك، ومع هذا أُمر ألا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين) ((تفسير القرآن العظيم)) (5/ 294).
ثانيًا: ثانيًا: المدَاراة في السُّنَّة النَّبويَّة
– عن عروة بن الزبير، أنَّ عائشة أخبرته أنَّه استأذن على النَّبي صلى الله عليه وسلم رجل، فقال صلى الله عليه وسلم: ((ائذنوا له، فبئس ابن العشيرة … )) رواه البخاري (6054)، ومسلم (2591). (أي لأجل قبح فعله وقوله، أو لأجل اتقاء فحشه، أي: مجاوزة الحدِّ الشرعي قولًا أو فعلًا، وهذا أصل في ندب المدَاراة إذا ترتب عليها دفع ضرٍّ، أو جلب نفع، بخلاف المداهنة فحرامٌ مطلقًا، إذ هي بذل الدين لصلاح الدنيا، والمدَاراة بذل الدنيا لصلاح دين أو دنيا، بنحو رفقٍ بجاهلٍ في تعليم، وبفاسقٍ في نهيٍ عن منكر، وترك إغلاظ وتألُّف، ونحوها مطلوبةٌ محبوبةٌ إن ترتب عليها نفع، فإن لم يترتب عليها نفع، بأن لم يتقِ شرَّه بها كما هو معروف في بعض الأنام فلا تشرع) ((فيض القدير)) للمناوي (2/ 454).
– وقال صلى الله عليه وسلم: ((استوصوا بالنساء خيرًا؛ فإنهنَّ خلقن من ضِلع، وإنَّ أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرًا)) رواه البخاري (5186)، ومسلم (1468).
قال ابن حجر: (وفي الحديث الندب إلى المدَاراة لاستمالة النفوس، وتألف القلوب، وفيه سياسة النساء بأخذ العفو منهنَّ، والصبر على عوجهنَّ، وأنَّ من رام تقويمهنَّ فاته الانتفاع بهن، مع أنه لا غنى للإنسان عن امرأة يسكن إليها، ويستعين بها على معاشه، فكأنَّه قال: الاستمتاع بها لا يتمُّ إلا بالصبر عليها) ((فتح الباري)) (9/ 253).
– وعن هاني بن يزيد عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ موجبات المغفرة: بذل السلام، وحسن الكلام)). [رواه الطبراني (22/ 180) (469). قال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (2/ 246): إسناده جيد، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 32): فيه أبو عبيدة بن عبد الله الأشجعي روى عنه أحمد بن حنبل وغيره ولم يضعفه أحد وبقية رجاله رجال الصحيح، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (2232)].
قال المناوي: (أي: إلانة القول للإخوان، واستعطافهم على منهج المدَاراة، لا على طريق المداهنة والبهتان) ((فيض القدير)) (2/ 454).
– وقال صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس اتقوا الله، وإنْ أُمِّر عليكم عبد حبشي مجدَّع، فاسمعوا له وأطيعوا، ما أقام لكم كتاب الله)) [رواه الترمذي (1706)، وابن ماجه (2328)، وأحمد (6/ 402) (27301)، والحاكم (4/ 206). من حديث أم الحصين الأسلمية رضي الله عنها. قال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح الإسناد].
قال المباركفوري: (فيه حثٌّ على المدَاراة، والموافقة مع الولاة، وعلى التحرز عما يثير الفتنة، ويؤدي إلى اختلاف الكلمة) ((تحفة الأحوذي)) (5/ 297).
=======
ثالثًا: أقوال السلف والعلماء في المدَاراة
– عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: (إنا لنكشر في وجوه أقوام ونضحك إليهم، وإنَّ قلوبنا لتلعنهم) رواه البخاري معلقًا بصيغة التضعيف قبل حديث (6131)، ووصله أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/ 222).
– وعنه أيضًا رضي الله عنه قال لزوجته: (إذا غضبت فَرَضيِّني، وإذا غضبت رضيتك، فإذا لم نكن هكذا ما أسرع ما نفترق). رواه ابن حبان في ((روضة العقلاء)) (ص72)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (70/ 151).
– وقال معاوية رضي الله عنه: (لو أنَّ بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، قيل: وكيف قال: لأنهم إن مدُّوها خلَّيتها، وإن خلَّوْا مددتها) رواه ابن حبان في ((روضة العقلاء)) (ص72).
– وعن عمر بن الخطاب قال: (خالطوا الناس بالأخلاق، وزايلوهم بالأعمال) ((مداراة الناس)) لابن أبي الدنيا (ص 37).
– وقال عبد الله بن مسعود: (خالط الناس وزايلهم، ودينك لا تُكْلِمنَّه) ((العزلة)) للخطابي (ص 99).
– وعن محمد بن الحنفية، قال: (ليس بحليم من لم يعاشر بالمعروف، من لا يجد من معاشرته بدًّا، حتى يجعل الله له فرجًا، أو قال: مخرجًا) ((مداراة الناس)) لابن أبي الدنيا (ص 36).
– وقال الحسن البصري: (كانوا يقولون: المدَاراة نصف العقل، وأنا أقول هي العقل كلُّه) ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (3/ 468).
– وعنه أيضًا: (المؤمن يداري ولا يماري، ينشر حكمة الله، فإن قبلت حمد الله، وإن ردت حمد الله) ((أخلاق العلماء)) للآجري (ص 58).
– وعن يحيى بن سعيد، قال: قال لي نصر بن يحيى بن أبي كثير: (من عاشر الناس داراهم، ومن داراهم راياهم) ((مداراة الناس)) لابن أبي الدنيا (ص 109).
– وعن يونس، قال: بلغني عن ابن عباس، أنه كان يقول: (النساء عورة، خُلِقن من ضعف، فاستروا عوراتهنَّ بالبيوت، وداروا ضعفهنَّ بالسكوت) ((مداراة الناس)) لابن أبي الدنيا (ص 140).
– وقال أبو يوسف: (خمسة تجب على الناس مداراتهم: الملك المسلط، والقاضي المتأول، والمريض، والمرأة، والعالم ليقتبس من علمه) ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (3/ 477).
– وعن وُهيب بن الورد قال: (قلت لوهب بن مُنبِّه: إني أريد أن أعتزل الناس. فقال لي: لا بدَّ لك من الناس وللناس منك؛ لك إليهم حوائج، ولهم إليك حوائج، ولكن كن فيهم أصم سميعًا، أعمى بصيرًا، سكوتًا نطوقًا). ((العزلة)) للخطابي (ص 98).
– (وقال أبو حاتم رضي الله عنه الواجب على العاقل أن يلزم المدَاراة مع من دفع إليه في العشرة، من غير مقارفة المداهنة، إذ المدَاراة من المداري صدقة له، والمداهنة من المداهن تكون خطيئة عليه، والفصل بين المدَاراة والمداهنة هو أن يجعل المرء وقته في الرياضة؛ لإصلاح الوقت الذي هو له مقيم، بلزوم المدَاراة من غير ثلم في الدين من جهة من الجهات، فمتى ما تخلَّق المرء بخلق، شابه بعض ما كره الله منه في تخلقه فهذا هو المداهنة؛ لأنَّ عاقبتها تصير إلى قلٍّ، ويلازم المدَاراة؛ لأنها تدعو إلى صلاح أحواله). ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 70).
– وقال محمد بن السماك: (من عرف الناس داراهم، ومن جهلهم ماراهم، ورأس المدَاراة ترك المماراة). ((شعب الإيمان)) للبيهقي (11/ 36).
– وقال أبو بكر الطرطوشي: (المدَاراة: أن تداري الناس على وجه يسلم لك دينك). ((سراج الملوك)) لأبي بكر الطرطوشي (11/ 36). [موسوعة الأخلاق]-
وقال الماوردي: (إن الإنسان إن كان مأموراً بتألف الأعداء، ومندوباً إلى مقاربتهم، فإنه لا ينبغي له أن يكون لهم راكناً، وبهم واثقاً، بل يكون منهم على حذر، ومن مكرهم على تحرز، فإن العداوة إذا استحكمت في الطباع صارت طبعاً لا يستحيل، وجبلة لا تزول، وإنما يستكفي ويستدفع بها أضرارها كالنار يستدفع بالماء إحراقها، ويستفيد به إنضاجها، وإن كانت محرقة متأججة في يابس الحطب لا يقربها إلا تالف، ولا يدنو منها إلا هالك). [أدب الدنيا والدين، 19].
قال الجاحظ في البيان والتبيين:
ولأن العرب تجعل الحديث والبسط، والتأنيس والتلقي بالبشر، من حقوق القرى ومن تمام الإكرام به. وقالوا: «من تمام الضيافة الطلاقة عند أول وهلة، وإطالة الحديث عند المواكلة» …
__________
يتعلق بدرس الخميس حول المداراة وموقف النبي صلى الله عليه وسلم مع عيينة
===
المعلم الثالث: في بيان حكم المدَاراة:
قال ابن بطال: “المدَاراة مندوب إليها، والمداهنة محرمة”. انتهى. وقال ابن القيم: “المداراة: صفة مدح، والمداهنة صفة ذم، والفرق بينهما أنَّ المداري يتلطَّف بصاحبه حتى يستخرج منه الحقَّ، أو يردَّه عن الباطل، والمداهن: يتلطَّف به؛ ليقره على باطله، ويتركه على هواه. فالمداراة لأهل الإيمان والمداهنة لأهل النفاق”. ((الروح)) لابن القيم (ص 231).
وسبق ذكر شيء من الأقوال.
===
المعلم الرابع: صور المداراة
صفة المدَاراة يحتاج إليها في التعامل مع بعض الأشخاص، في بعض الأوقات، ومن صور المداراة:
1 – صيانة النفس من أهل الفجور والشرور:
فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ شرَّ النَّاس منزلةً عند الله، من تركه أو ودعه الناس، اتقاء فحشه)). وهذا فيما لابدَّ من مخالطته.
2 – في تعامل الإمام مع الرعية:
فعن أُمِّ المؤمنين عائشة قالت: أنه استأذن على النَّبي صلى الله عليه وسلم رجل، فقال صلى الله عليه وسلم: ((ائذنوا له، فبئس ابن العشيرة … )).
فليس كل الرعية على نمط واحد، من حسن الخلق والمعشر، إنَّما الناس يختلفون، فيحتاج الإمام للمداراة، وهذا يكون من الإمام جمعًا للأمة، ورأفةً بها، وإرشادًا للضال، وتعليمًا للجاهل، لاسيما إن كان هؤلاء من أهل الرياسات والأتباع، فيداري الإمام مراعاة لمصلحة الأمة كلها. ((بدائع السلك في طبائع الملك)) لابن الأزرق (2/ 16).
3 – الخوف من الكفار والعجز عن مقاومتهم:
قال تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28].
قال الشنقيطي: (هذه الآية الكريمة فيها بيان لكل الآيات القاضية بمنع موالاة الكفار مطلقًا وإيضاح؛ لأنَّ محلَّ ذلك في حالة الاختيار، وأما عند الخوف والتقية، فيرخص في موالاتهم، بقدر المدَاراة التي يكتفي بها شرهم، ويشترط في ذلك سلامة الباطن من تلك الموالاة) ((أضواء البيان)) (1/ 413).
4 – في الدعوة، وخاصة مع جفوة المدعويين.
قال تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43 – 44].
(أمر الله جلَّ وعلا نبيه موسى وهارون عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام: أن يقولا لفرعون في حال تبليغ رسالة الله إليه قَوْلاً لَّيِّنًا أي: كلامًا لطيفًا سهلًا رقيقًا، ليس فيه ما يغضب وينفر. وقد بين جلَّ وعلا المراد بالقول اللين في هذه الآية بقوله: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات: 17 – 19] وهذا، والله غاية لين الكلام ولطافته ورقته، كما ترى. وما أمر به موسى وهارون في هذه الآية الكريمة أشار له تعالى في غير هذا الموضع، كقوله: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]) ((أضواء البيان)) (4/ 15).
5 – المدَاراة مع الوالدين:
قال تعالى: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان: 15].
6 – المدَاراة مع الزوجة محافظةً على الحياة الزوجية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المرأة كالضلع، إن أقمتها كسرتها، وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج)) رواه البخاري (5184)، ومسلم (1468). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
7 – المدارة مع القريب إذا كان كافرا:
فصلة ذي الرحم الكافر
وهو قسمان: الكافر المعادي والكافر المسالم وبينهما فرق والله فرق بين الكافرين في العذاب حيث جعل النار دركات فينغي مراعاة هذه الفروق.
أما صلة ذي الرحم الكافر المعادي للإسلام المحارب المقاتل للمسلمين فلا تجوز، وتجب مقاطعته، ولا يوصل إلا من باب المداراة و اتقاء شره.
فنوح عليه السلام دعا على قومه المحاربين للدين وفيهم أرحامه {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح:26].
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، وإنما وليي الله وصالح المؤمنين) متفق عليه.
فقد دلت النصوص على أن الأصل في القريب الكافر المعادي أن يقاطع ولا يوصل إلا في بعض الحالات، كاتقاء شره ومداراته درء لمفسدة أو جلب لمنفعة شرعية.
وأما صلة ذي الرحم الكافر المسالم، فلم يمنع الشارع الحكيم من صلته والإحسان إليه إذا كان لتأليف قلبه للإسلام.
قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8]،
قال ابن حجر رحمه الله: (أن صلة الرحم الكافر ينبغي تقييدها بما إذا آنس منه رجوعًا عن الكفر، أو رجا أن يخرج من صلبه مسلم) فتح الباري (10/ 421)
وراعي النبي صلى الله عليه وسلم صلة الرحم مع الكفار لأنه يرجو تأليف قلوبهم وأن يخرج الله من أصلابهم من يعبده فقال في قصة صلح الحديبية: لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا اعطيتهم إياها. تفسير ابن كثير وعزاه لأحمد
8 – المدَاراة مع النفس:
بحملها على الطاعة بذكر نعيم الجنة، وكفها عن المعصية بذكر عذاب النار.
قال ابن الجوزي: (ومن فهم هذا الأصل، علَّل النفس، وتلطف بها، ووعدها الجميل، لتصبر على ما قد حملت، كما كان بعض السلف يقول لنفسه: والله ما أريد بمنعك من هذا الذي تحبين إلا الإشفاق عليك … ، واعلم أن مداراة النفس والتلطف بها لازم). ((صيد الخاطر)) لابن الجوزي (ص 114). [موسوعة الأخلاق]
9 – مخاطبة كل حسب منصبه.
مخاطبتهم بالألقاب التي تتناسب مع مكانتهم؛ ومن ذلك مكاتبة النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل بقوله: ((إلى هرقل عظيم الروم)).
======
المعلم الخامس: فوائد المدَاراة
1 – المدَاراة تزرع الألفة والمودة.
2 – المدَاراة تجمع بين القلوب المتنافرة.
3 – المدَاراة تطفئ العداوة بين الناس.
4 – المدَاراة من صفات المؤمن، والمداهنة من صفات المنافق.
5 – علامة على حسن الخلق.
6 – من عوامل إنجاح الدعوة إلى الله، إما بهداية من يداريه الداعية، أو بكفاية شره، وفتح مجالات أوسع للدعوة.
7 – تحقيق السعادة الزوجية.
8 – تحقيق السلامة والأمن والطمأنينة للنفس.
9 – العصمة من شرِّ الأعداء.
قال ابن الجوزي: (من البله أن تبادر عدوًّا أو حسودًا بالمخاصمة؛ وإنَّما ينبغي إن عرفت حاله أن تظهر له ما يوجب السلامة بينكما، إن اعتذر قبلت، وإن أخذ في الخصومة صفحت، وأريته أن الأمر قريب، ثم تبطن الحذر منه، فلا تثق به في حال، وتتجافاه باطنًا، مع إظهار المخالطة في الظاهر). [((صيد الخاطر)) (ص 351)] [انظر: ((سراج الملوك)) لأبي بكر الطرطوشي (1/ 146)، ((الروح)) لابن القيم (ص 231)، ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (7/ 295)، ((أدب الدين والدنيا)) للماوردي (ص 182)].
=====
المعلم السادس: الوسائل المعينة على اكتساب صفة المدَاراة
1 – التحلِّي بخلق الصبر:
قال ابن تيمية: (المؤمن مشروع له مع القدرة أن يقيم دين الله بحسب الإمكان بالمحاربة وغيرها، ومع العجز يمسك عما عجز عنه من الانتصار، ويصبر على ما يصيبه من البلاء من غير منافقة، بل يشرع له من المدَاراة ومن التكلم بما يُكره عليه، ما جعل الله له فرجًا ومخرجًا ولِهَذا كانَ أهْلُ السُّنَّةِ مَعَ أهْلِ البِدْعَةِ بِالعَكْسِ إذا قَدَرُوا عَلَيْهِمْ لا يَعْتَدُونَ عَلَيْهِمْ بِالتَّكْفِيرِ والقَتْلِ وغَيْرِ ذَلِكَ، بَلْ يَسْتَعْمِلُونَ مَعَهُمْ العَدْلَ الَّذِي أمَرَ اللَّهُ بِهِ ورَسُولُهُ، كَما فَعَلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ بِالحَرُورِيَّةِ والقَدَرِيَّةِ، وإذا جاهَدُوهُمْ فَكَما جاهَدَ عَلِيٌّ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – الحَرُورِيَّةَ بَعْدَ الإعْذارِ إقامَةً لِلْحُجَّةِ وعامَّةُ ما كانُوا يَسْتَعْمِلُونَ مَعَهُمْ الهِجْرانَ والمَنعَ مِن الأُمُورِ الَّتِي تَظْهَرُ بِسَبَبِها بِدْعَتُهُمْ، مِثْلُ تَرْكُ مُخاطَبَتِهِمْ ومُجالَسَتِهِمْ لِأنَّ هَذا هُوَ الطَّرِيقُ إلى خُمُودِ بِدْعَتِهِمْ، وإذا عَجَزُوا عَنْهُمْ لَمْ يُنافِقُوهُمْ بَلْ يَصْبِرُونَ عَلى الحَقِّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ كَما كانَ سَلَفُ المُؤْمِنِينَ يَفْعَلُونَ وكَما أمَرَهُمْ اللَّهُ فِي كِتابِهِ حَيْثُ أمَرَهُمْ بِالصَّبْرِ عَلى الحَقِّ وأمَرَهُمْ أنْ لا يَحْمِلَهُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أنْ لا يَعْدِلُوا.). ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (6/ 528).
2 – النظر للمصالح المترتبة على المدَاراة. وسبق و انظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (10/ 453).
3 – التحلي بخلق الرفق والرحمة:
فإن المدَاراة قائمة على الرفق، لتحقيق المراد من صلاح معوج، أو كفاية شر عدو ونحوه. انظر: ((مرقاة المفاتيح))، للملا علي القاري (7/ 2941)
4 – فهم الواقع و معرفة طبائع الناس:
قال ابن الجوزي: (لينظر المالك في طبع المملوك، فمنهم: من لا يأتي إلا على الإكرام، فليكرمه، فإنه يربح محبته. ومنهم: من لا يأتي إلا على الإهانة، فليداره، وليعرض عن الذنوب؛ فإن لم يكن، عاتب بلطف، وليحذر العقوبة ما أمكن. وليجعل للمماليك زمن راحة. والعجب ممن يُعنى بدابته، وينسى مداراة جاريته) ((صيد الخاطر)) (ص 256).
5 – احتساب الأجر في دعوة الخلق:
من يتصدر لدعوة الناس، لابد أن يناله منهم أذى مما قد يدفع الداعية لترك دعوتهم، لذا فاحتساب الداعية للأجر عند الله في مداراته لأهل الكفر والفجور، والتحبب لهم من غير إقرار بمعصية أملًا في هدايتهم – مما يعين الداعية على تحمل الأذى.
6 – ترك الانتصار للنفس في حال القدرة، وحفظ النفس في حال العجز:
ففي ترك الانتصار للنفس استبقاء للودِّ، والمسير قدمًا في الإصلاح، وفي حفظ النفس العصمة ودفع الشرور.
====
المعلم السابع: موانع اكتساب صفة المدَاراة
1 – العجلة، والطيش، وسرعة الغضب، والانتصار للنفس.
2 – عدم تفهم الواقع وطبائع الناس.
3 – سوء الخلق، وغلظة القلب.
4 – الكبر، وضعف إرادة الخير للناس.
5 – قلة الصبر والحلم والرفق.
6 – العزلة عن الناس.
=====
المعلم الثامن: نماذج في المدَاراة
– عن المسور بن مخرمة، قال: ((قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبية، ولم يعط مخرمة شيئًا، فقال مخرمة: يا بني، انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فانطلقت معه، فقال: ادخل فادعه لي. قال: فدعوته له، فخرج إليه وعليه قباء منها، فقال: خبأت هذا لك. قال: فنظر إليه، فقال: رضي مخرمة)) رواه البخاري (5800)، ومسلم (1058).وأقبية جمع قباء: وهو الثَّوْب المفرج المضموم وسطه. ((تفسير غريب ما في الصحيحين)) لمحمد ابن فتوح الحَمِيدي (276).
– وشكا رجل إلى مخلد بن الحسين رجلًا من أهل الكوفة، فقال: (أين أنت عن المدَاراة فإني أداري حتى أدارى، هذه جارية حبشية تغربل شعير الفرس له، ثم قال: ما تكلمت بكلمة أُريد أن أعتذر منها منذ خمسين سنة) ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (8/ 266).
– وقال ابن الجوزي: (كنت قد رُزقت قلبًا طيِّبًا … فأحضرني بعض أرباب المناصب إلى طعامه، فما أمكن خلافه، فتناولت، وأكلت منه؛ فلقيت الشدائد، ورأيت العقوبة في الحال، واستمرت مدة، وغضبت على قلبي، وفقدت كلَّ ما كنت أجده، فقلت: واعجبًا! لقد كنت في هذا كالمكره فتفكَّرت، وإذا به قد يمكن مداراة الأمر بلقيمات يسيرة؛ وإنما التأويل جعل تناول هذا الطعام بشهوة أكثر مما يدفع بالمدَاراة، فقالت النفس: ومن أين لي أنَّ عين هذا الطعام حرام ! فقالت اليقظة: وأين الورع عن الشبهات ! فلما تناولت بالتأويل لقمة، واستجلبتها بالطبع، لقيت الأمرين بفقد القلب: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ) ((صيد الخاطر)) (410 – 411).
“فصل
فيه: بيان أن الأنبياء تعاملوا بالمداراة
أجل
تلطفوا مع أقوامهم في بادئ الأمر؛ استجلاباً للخير الكامن في نفوسهم، وتطيباً واستحلاباً لصفاء ونقاء نفوسهم، واستمطارا لديم الهداية في قلوبهم، فلما تبيّن إعراضهم اتخذوا جانب الزجر كسبيل آخر للإصلاح والاستصلاح، ذكر العلامة العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى في كتابه “شجرة المعارف والأحوال: ” فصل في إلانة القول والفعل في مظانهما” ذكر تحته قول الله تعالى: ” فقولا له قولاً لينا” سورة “طه” الآية (44) وقال عز وجل: ” فبما رحمة من الله لنت لهم” سورة “آل عمران” الآية (159) …
وقال عليه السلام: “المؤمن كالجمل الآنف، إن قيد انقاد، وإن أنيخ على صخرة استناخ ” صحيح الجامع” برقم (6669)
وبعد ذكر ما تقدم قال العلامة العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى: ” للين مواطن لا يليق بها غيره، وللغلظ مواطن لا يناسبها سواه، فمن استعمل أحد الأمرين في موضع الآخر فقد أخطأ.
وقد ألان موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام القول لفرعون في ابتداء رسالته بقوله:” هل لك إلا أن تزكى” سورة “النازعات” الآية (1 فلما أصر مع علمه بصدقه قال له موسى: ” إني لأظنك يا فرعون مثبورا” سورة “الإسراء” الآية (102) وفيه (إي الإصلاح باللين تارة وبالشدة أخرى) تأليف القلوب، وتطيب النفوس، موجب للاتفاق على مصالح الدارين” “شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال” للعز بن عبد السلام ص (214 – 215) “.