257 و 258 و 259 عبق الياسمين شرح رياض الصالحين
سلطان الحمادي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
32 – باب فضل ضعفة المسلمين والفقراء و الخاملين
قال ابن علان:” بفتحات جمع ضعيف … أي فضل ضعفاء (المسلمين و) فضل (الفقراء) من الدنيا (والخاملين) الذكر فيها وإن لم يكونوا فقراء.” (دليل الفالحين 1/ 442)
ورد في صحيح مسلم:” أن رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ، الْغَنِيَّ، الْخَفِيَّ»
قال ابن عثيمين:” المراد بهذا الباب: تسلية من قدّر الله عليه أن يكون ضعيفاً في بدنه، أو ضعيفاً في عقله، أو ضعيفاً في ماله، أو ضعيفاً في جاهه أو غير ذلك مما يعدّه الناس ضعفاً؛ فإن الله سبحانه وتعالى قد يجعل الإنسان ضعيفاً من وجه لكنه قوي عند الله عز وجل، يحبه الله ويكرمه، وينزله المنازل العالية، وهذا هو المهم. المهم أن تكون قوياً عند الله عز وجل، وجيهاً عنده، ذا شرف يكرمك الله به.” (شرح رياض الصالحين3/ 43)
قَالَ الله تَعَالَى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [الكهف:28].
روى مسلم عن سعد ابن أبي وقاص قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا!. قال: وكنت أنا وابن مسعود، ورجل من هذيل، وبلال ورجلان نسيت اسميهما فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه، فأنزل الله عز وجل: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه)
قال ابن كثير:” وقوله: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ يُرِيدُونَ) أي: اجلس مع الذين يذكرون الله ويهللونه، ويحمدونه ويسبحونه ويكبرونه، ويسألونه بكرة وعشيا من عباد الله، سواء كانوا فقراء أو أغنياء أو أقوياء أو ضعفاء. يقال: إنها نزلت في أشراف قريش، حين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلس معهم وحده ولا يجالسهم بضعفاء أصحابه كبلال وعمار وصهيب وخباب وابن مسعود، وليفرد أولئك بمجلس على حدة. فنهاه الله عن ذلك” (تفسير ابن كثير)
قوله:” يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ” فيه اثبات الوجه لله عزوجل، قال تعالى: (وَمَا تُنفِقُونَ إلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ) و قوله (: وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ)
روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قسَّم النبي صلى الله عليه وسلم قسماً، فقال رجل: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله.
وكذلك روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما في الثلاثة الذين حُبِسُوا في الغار، فقال كل واحد منهم اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك؛ ففرج عنا ما نحن فيه.
قال الإمام الشافعي: (لله تبارك وتعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه وأخبر بها نبيه صلى الله عليه وسلم أمته … وأن له وجهاً بقوله: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ، وقوله: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجلاَلِ وَالإِكْرَام) (طبقات الحنابلة) لابن أبي يعلى (1/ 282)
وقال الإمام ابن خزيمة بعد أن أورد جملة من الآيات تثبت صفة الوَجْه لله تعالى: (فنحن وجميع علمائنا من أهل الحجاز وتهامة واليمن والعراق والشام ومصر؛ مذهبنا: أنا نثبت لله ما أثبته الله لنفسه، نقر بذلك بألسنتنا، ونصدق ذلك بقلوبنا؛ من غير أن نشبه وَجْه خالقنا بوَجْه أحد من المخلوقين، عز ربنا أن يشبه المخلوقين، وجل ربنا عن مقالة المعطلين) كتاب التوحيد لابن خزيمة (1/ 25)
قال ابن علان:” (ولا تعد عيناك عنهم) ولا يجاوزهم نظرك إلى غيرهم، وتعديته بعن لتضمينه معنى نبا، وقراء: «ولا تعد عينيك» ولا تعد من أعداه وعداه، والمراد نهى الرسول عليه الصلاة والسلام أن يزدرى بفقراء المؤمنين ويغلق عينيه عن رثاثة زيهم طموحاً إلى طراوة زي الأغنياء” (دليل الفالحين 1/ 443) عدا: فعل متعدٍ يقال: عداه إذا جاوزه ومنه قولهم: عدا طوره. وتعدّى بـ عن لتضمنه معنى نبا وعلا. (التضمين النحوي في القرآن الكريم 2/ 97)
قال السعدي:” (وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ) أي: لا تجاوزهم بصرك، وترفع عنهم نظرك. (تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) فإن هذا ضار غير نافع، وقاطع عن المصالح الدينية، فإن ذلك يوجب تعلق القلب بالدنيا، فتصير الأفكار والهواجس فيها، وتزول من القلب الرغبة في الآخرة، فإن زينة الدنيا تروق للناظر، وتسحر العقل، فيغفل القلب عن ذكر الله، ويقبل على اللذات والشهوات، فيضيع وقته، وينفرط أمره، فيخسر الخسارة الأبدية، والندامة السرمدية. (تفسير السعدي)
قال السعدي:” ففيها الأمر بصحبة الأخيار، ومجاهدة النفس على صحبتهم، ومخالطتهم وإن كانوا فقراء فإن في صحبتهم من الفوائد، ما لا يحصى … وفي الآية، استحباب الذكر والدعاء والعبادة طرفي النهار، لأن الله مدحهم بفعله، وكل فعل مدح الله فاعله، دل ذلك على أن الله يحبه، وإذا كان يحبه فإنه يأمر به، ويرغب فيه. (تفسير السعدي)
قال ابن باز:” هذه الآية الكريمة مع ما في معناها من الآيات والأحاديث في فضل الفقراء والمساكين الذين حرموا هذه الدنيا وزهرتها، ولكنهم وفقوا بالإيمان والعمل الصالح والاستقامة، ولم يُرزقوا الأموال التي بها يكونون من جملة الأغنياء وأن لهم فضلا عظيما وأنه لا ينبغي احتقارهم ولا ازدراؤهم ولا البعد عن مجالستهم إذا استقاموا على دين الله” (شرح رياض الصالحين لاباز)
قال ابن عثيمين:” قوله: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ) [الكهف: 28]. اصبر نفسك أي: احبسها مع هؤلاء القوم الذين يدعون الله بالغداة: أول النهار والعشي: آخر النهار، والمراد بالدعاء هنا: دعاء المسألة ودعاء العبادة.
فإن دعاء المسألة يعتبر دعاء؛ كقوله تعالى في الحديث القدسي: ((من يدعوني فأستجيب له)).وقال تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر: 60].ودعاء عبادة، وهو أن يتعبد الإنسان لربه بما شرعه؛ لأن العابد يدعو بلسان الحال، ولسان المقال. فالصلاة مثلاً عبادة تشتمل على قراءة القرآن، وذكر الله، وتسبيحه، ودعائه أيضاً، والصوم عبادة وإن كان في جوهره ليس فيه دعاء، لكن الإنسان لم يصم إلا رجاء ثواب الله، وخوف عقاب الله، فهو دعاء بلسان الحال. ” (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 3/ 46)
وقال أيضا:” أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصبر نفسه مع هؤلاء الذين يدعون الله بالغداة والعشي يريدون وجهه، والآية ليس فيها أمر بالضعفاء خاصة، وإن كان سبب النزول هكذا، لكن العبرة بالعموم. الذين يدعون الله ويعبدونه سواء أكانوا ضعفاء أم أقوياء، فقراء أم أغنياء كن معهم دائماً. لكن الغالب أن الملأ والأشراف يكونون أبعد عن الدين من الضعفاء، والمستضعفين، ولهذا فالذين يكذبون الرسل هم الملأ، قال الملأ من قوم صالح: (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ) (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين3/ 47)
257 – عن حَارِثَة بْنِ وهْب رضي اللَّه عنه قَالَ: سمعتُ رسولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يقولُ: “أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الجنَّةِ؟ كُلُّ ضَعيفٍ مُتَضَعّفٍ لَوْ أَقْسَم عَلَى اللَّه لأبرَّه، أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بَأَهْلِ النَّارِ؟ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ”. متفقٌ عَلَيهِ.
“الْعُتُلُّ”: الْغَلِيظُ الجافِي.”والجوَّاظُ”بفتح الجيم وتشدِيدِ الواو وبِالظاءِ المعجمة وَهُو الجمُوعُ المنُوعُ، وَقِيلَ: الضَّخْمُ المُخْتَالُ فِي مِشْيَتِهِ، وقيلَ: الْقَصِيرُ الْبَطِينُ.
قوله (عن حارثة بن وهب) الخزاعي الصحابي – رضي الله عنه -. [تنبيه]: لا يوجد في “الصحيحين” من اسمه حارثة إلا حارثة بن وهب هذا، فتنبه” (البحر المحيط الثجاج)
قوله: (ألا أدلكم على أهل الجنة.) قال الداودي: المراد: أن كلا من الصنفين في محله المذكور لا أن كلا من الدارين لا يدخلها إلا من كان من الصنفين، فكأنه قيل: كل ضعيف في الجنة، وكل جواظ في النار، ولا يلزم أن لا يدخلها غيرهما. (فتح الباري)
قوله صلى الله عليه وسلم: في أهل الجنة: (كل ضعيف متضعف) قال ابن الجوزي:” المتضعف بفتح العين – ويغلط من يقرؤها من المحدثين بالكسر؛ لأن المراد أن الناس يستضعفونه ويقهرونه.” (كشف المشكل 1/ 349)
ضبطوا قوله: ” متضعف ” بفتح العين وكسرها، المشهور الفتح، ولم يذكر الأكثرون غيره، ومعناه: يستضعفه الناس ويحتقرونه، ويتجبرون عليه لضعف حاله في الدنيا، يقال: تضعفه واستضعفه، وأما رواية الكسر فمعناها: متواضع متذلل خامل واضع من نفسه، قال القاضي: وقد يكون الضعف هنا رقة القلوب ولينها وإخباتها للإيمان، والمراد أن أغلب أهل الجنة هؤلاء، كما أن معظم أهل النار القسم الآخر، وليس المراد الاستيعاب في الطرفين.
(شرح النووي) قال ابن حجر:” والمراد بالضعيف: الفقير، والمستضعف – بفتح العين المهملة – وغلط من كسرها؛ لأن المراد أن الناس يستضعفونه ويقهرونه ويحقرونه، وذكر الحاكم في ” علوم الحديث ” أن ابن خزيمة سئل: من المراد بالضعيف هنا؟ فقال: هو الذي يبرئ نفسه من الحول والقوة في اليوم عشرين مرة إلى خمسين مرة. وقال الكرماني: يجوز الكسر، ويراد به المتواضع المتذلل” (فتح الباري)
قال القاري:” فائدة التاء الموضوعة للطلب أن الضعف الحاصل فيه، كأنه مطلوب منه التذلل والتواضع، مع إخوانه، وإن كان قويا مترجلا مع أعدائه، قال تعالى: {أشداء على الكفار رحماء بينهم} [الفتح: 29]، وقال: {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} [المائدة: 54]، ففيه إشارة إلى أن كل من كثر تواضعه مع المؤمنين يكون في أعلى مراتب المقربين، كما أن من يكون أكثر تكبرا وتجبرا يكون في أسفل السافلين.”
قال ابن عثيمين:” يعني هذه من علامات أهل الجنة؛ أن الإنسان يكون ضعيفاً متضعفاً، أي: لا يهتم بمنصبه أو جاهه، أو يسعى إلى علو المنازل في الدنيا، ولكنه ضعيف في نفسه متضعف، يميل إلى الخمول وإلى عدم الظهور؛ لأنه يرى أن المهم أن يكون له جاه عند الله عز وجل، لا أن يكون شريفاً في قومه أو ذا عظمة فيهم، ولكن يرى أن الأهم كله أن يكون عند الله سبحانه وتعالى ذا منزلة كبيرة عالية.
ولذلك تجد أهل الآخرة لا يهتمون بما يفوتهم من الدنيا؛ إن جاءهم من الدنيا شيء قبلوه، وإن فاتهم شيء لم يهتموا به؛ لأنهم يرون أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأن الأمور بيد الله، وإن تغيير الحال من المحال، وأنه لا يمكن رفع ما وقع ولا دفع ما قدر إلا بالأسباب الشرعية التي جعلها الله تعالى سبباً.” (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 3/ 48)
قوله صلى الله عليه وسلم: (لو أقسم على الله لأبره) معناه: لو حلف يمينا طمعا في كرم الله تعالى بإبراره لأبره، وقيل: لو دعاه لأجابه، يقال: أبررت قسمه وبررته، والأول هو المشهور. (شرح النووي) قال ابن عثيمين:” يعني لو حلف على شيء ليسره الله له أمره، حتى يحقق له ما حلف عليه، وهذا كثيراً ما يقع؛ أن يحلف الإنسان على شيء ثقة بالله عز وجل، ورجاء لثوابه فيبر الله قسمه، وأما الحالف على الله تعالياً وتحجراً لرحمته، فإن هذا يخذل، والعياذ بالله وهاهنا مثلان:
المثل الأول: أن الربيع بنت النضر رضي الله عنهما وهي من الأنصار، كسرت ثنية جارية من الأنصار، فرفعوا الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تكسر ثنية الربيع، لقول الله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْس) إلى قوله: (وَالسِّنَّ بِالسِّنّ) [المائدة: 45] فقال أخوها أنس بن النضر: والله يا رسول الله لا تكسر ثنية الربيع، فقال ((يا أنس كتاب الله القصاص)) فقال: والله لا تكسر ثنية الربيع. أقسم بهذا ليس ذلك رداً لحكم الله ورسوله، ولكنه يحاول بقدر مايستطيع أن يتكلم مع أهلها حتى يعفوا ويأخذوا الدية، أو يعفوا مجاناً، كأنه واثق من موافقتهم، لا رداً لحكم الله ورسوله، فيسر الله سبحانه وتعالى؛ فعفى أهل الجارية عن القصاص، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره)). وهنا لا شك أن الحامل لأنس بن النضر هو قوة رجائه بالله عز وجل، وأن الله سييسر من الأسباب ما يمنع كسر ثنية أخته الربيع.
أما المثل الثاني: الذي أقسم على الله تألياً وتعارضاً وترفعاً فإن الله يخيب آماله، ومثال ذلك الرجل الذي كان مطيعاً لله عز وجل عابداً، يمر على رجل عاص، كلما مر عليه وجده على المعصية، فقال: والله لا يغفر الله لفلان، حمله على ذلك الإعجاب بنفسه، والتحجر بفضل الله ورحمته، واستبعاد رحمة الله عز وجل من عباده. فقال الله تعالى ((من ذا الذي يتألى علي ـ أي يحلف على ـ ألا أغفر لفلان. قد غفرت له، وأحبطت عملك))، فانظر الفرق بين هذا وهذا. .” (شرح رياض الصالحين 3/ 48)
قوله صلى الله عليه وسلم في أهل النار: (كل عتل جواظ مستكبر) أما ” العتل ” – بضم العين والتاء – فهو الجافي الشديد الخصومة بالباطل، وقيل: الجافي الفظ الغليظ (شرح النووي)
قوله صلى الله عليه وسلم: (كل جواظ مستكبر) أما ” الجواظ ” – بفتح الجيم وتشديد الواو وبالظاء المعجمة – فهو: الجموع المنوع، وقيل: كثير اللحم المختال في مشيته، وقيل: القصير البطين، وقيل: الفاخر – بالخاء – (شرح النووي) نقل ابن التين عن الداودي أن الجواظ هو الكثير اللحم، الغليظ الرقبة”. (فتح الباري) ووردت معاني كثير في الجواظ، قال ابن عثيمين:” الجواظ فيه تفاسير متعددة، قيل إنه الجموع المنوع، يعني الذي يجمع المال ويمنع ما يجب فيه.
والظاهر أن الجواظ هو الرجل الذي لا يصبر، فجواظ يعني جزوع لا يصبرعلى شيء، ويرى أنه في قمة أعلى من أن يمسه شيء.
ومن ذلك قصة الرجل الذي كان مع الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة، وكان شجاعاً لا يدع شاذة ولا فاذة للعدو إلا قضى عليها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن هذا من أهل النار))، فعظم ذلك على الصحابة، وقالوا: كيف يكون هذا من أهل النار وهو بهذه المثابة؟ ثم قال رجل: والله لألزمنه يعني لأ لازمه حتى أنظر ماذا يكون حاله، فلزمه فأصاب هذا الرجل الشجاع سهم من العدو. فعجز عن الصبر وجزع ثم أخذ بذبابة سيفه فوضعه في صدره ثم اتكأ عليه حتى خرج السيف من ظهره والعياذ بالله، فقتل نفسه. فجاء الرجل للرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أشهد أنك لرسول الله، قال (وبما؟) قال: لأن الرجل الذي قلت إنه من أهل النار، فعل كذا وكذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار)). فانظر إلى هذا الرجل جزع وعجز أن يتحمل فقتل نفسه.
فالجواظ هو الجزوع الذي لا يصبر، دائماً في أنين وحزن وهمّ وغمّ، معترضاً على القضاء والقدر، لا يخضع له، ولا يرضى بالله رباً.” (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 3/ 51)
قوله (مستكبر) جاء في رواية (زنيم متكبر) وأما ” الزنيم ” فهو: الدعي في النسب الملصق بالقوم، وليس منهم، شبه بزنمة الشاة، وأما ” المتكبر والمستكبر ” فهو صاحب الكبر، وهو بطر الحق وغمط الناس. (شرح النووي)
والأحاديث في معنى الحديث كثيرة منها ما جاء في الصحيحن:” عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «اطَّلَعْتُ فِي الجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الفُقَرَاءَ، وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ»
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله عنهما عن رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال:”هَلْ تَدْرونَ أوَّلَ مَنْ يَدْخل الجنَّةَ مِنْ خَلْقِ الله عزَّ وجلَّ؟ “. قالوا: الله ورسولُه أعْلَمُ. قال: “الفقَراءُ المُهاجِرونَ الَّذين تُسَدُّ بِهمُ الثُّغورُ، وتُتَّقى بِهمُ المَكارِهُ، ويموتُ أحَدُهم وحاجَتُه في صَدْرِه؛ لا يَسْتَطيعُ لَها قَضاءً … ” (صحيح الترغيب)
وأيضا روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمروٍ رضي الله عنهما قال: سمعتُ النبيَّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يقول: “أهلُ النارِ كلُّ جَعْظرِيٍّ جَوَّاظٍ مسْتَكْبِرٍ جَمَّاعٍ مَنَّاعٍ، وأهلُ الجنَّةِ الضُّعَفاءُ المَغْلُوبونَ”. (صحيح الترغيب)
(الجَعْظَريّ) بفتح الجيم وإسكان العين المهملة وفتح الظاء المعجمة. قال ابن فارس: “هو المنتفخ بما ليس عنده”.
وأيضا روى الإمام أحمد عن حذيفة رضي الله عنه قال: كنَّا مع النبي – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في جنازةٍ قال: “ألا أخبركم بشَرِّ عبادِ اللهِ؟ الفظُّ المستكبرُ. ألا أخبرُكم بخيرِ عبادِ اللهِ؟ الضعيفُ المستضعفُ، ذو الطمرين، لا يؤبه له، لو أقسمَ على اللهِ لأبرّه”. (صحح لغيره الألباني في صحيح الترغيب) الطمرين: تثنية (الطمر): وهو الثوب الخَلَق.
258 – وعن أَبي العباسِ سهلِ بنِ سعدٍ الساعِدِيِّ رضي اللَّه عنه قَالَ: مرَّ رجُلٌ عَلَى النَبيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم فقالَ لرجُلٍ عِنْدهُ جالسٍ: “مَا رَأَيُكَ فِي هَذَا؟ “فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ أَشْرافِ النَّاسِ هَذَا وَاللَّهِ حَريٌّ إِنْ خَطَب أَنْ يُنْكَحَ وَإِنْ شَفَع أَنْ يُشَفَّعَ. فَسَكَتَ رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخرُ، فَقَالَ لَهُ رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم:”مَا رأُيُكَ فِي هَذَا؟ “فَقَالَ: يَا رسولَ اللَّه هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، هذَا حريٌّ إِنْ خطَب أَنْ لا يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَع أَنْ لا يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لاَ يُسْمع لِقَوْلِهِ. فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم:”هَذَا خَيْرٌ منْ مِلءِ الأَرْضِ مِثْلَ هذَا “متفقٌ عَلَيهِ.
قوله:”حَرِيُّ”هُوَ بفتحِ الحاءِ وكسر الراءِ وتشديد الياءِ: أَيْ حقِيقٌ. وقوله:”شَفَعَ”بفتح الفاءِ.
قال الألباني في صحيح الترغيب:” لم يعزه المزي في “التحفة” (4/ 114/ 4720)، ولا الحافظ في “الفتح”، ومن قبلهما البيهقي في “الشعب” (7/ 330 – 331) إلا للبخاري، فعزوه لمسلم من أوهام المؤلف، تبعه عليه الخطيب التبريزي في “المشكاة” (5236)، وهو مما فات الشيخ الناجي التنبيه عليه” (صحيح الترغيب 3202)
قوله: (حري) بفتح المهملة وكسر الراء وتشديد التحتانية أي: حقيق وجدير. (فتح الباري 9/ 136)
قوله: (يشفع) بضم أوله وتشديد الفاء المفتوحة أي: تقبل شفاعته. (فتح الباري 9/ 136)
قوله (مَا رَأَيُكَ فِي هَذَا؟) هذا سؤال استخبار من باب تعليم الناس.
قال الكرماني: إن كان الأول كافرا فوجهه ظاهر، وإلا فيكون ذلك معلوما لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالوحي. (فتح الباري9/ 136)
قال ابن حجر:” أطلق تفضيل الفقير المذكور على الغني المذكور، ولا يلزم من ذلك تفضيل كل غني على كل فقير”. (فتح الباري 9/ 136)
قال الطيبي: وقع التفضيل بينهما باعتبار مميزه وهو قوله بعد هذا؛ لأن البيان والمبين شيء واحد، زاد أحمد وابن حبان: ” عند الله يوم القيامة “، وفي رواية ابن حبان الأخرى: ” خير من طلاع الأرض من الآخر ” وطلاع بكسر المهملة وتخفيف اللام وآخره مهملة أي ما طلعت عليه الشمس من الأرض كذا قال عياض … (فتح الباري 11/ 277)
قال ابن حجر:” ففيه فضيلة للفقر، لكن لا حجة فيه لتفضيل الفقير على الغني، كما قال ابن بطال: لأنه إن كان فضل عليه لفقره، فكان ينبغي أن يقول: خير من ملء الأرض مثله لا فقير فيهم، وإن كان لفضله فلا حجة فيه، قلت: يمكنهم أن يلتزموا الأول، والحيثية مرعية، لكن تبين من سياق طرق القصة أن جهة تفضيله إنما هي لفضله بالتقوى، وليست المسألة مفروضة في فقير متق وغني غير متق، بل لا بد من استوائهما أولا في التقوى، وأيضا فما في الترجمة – أي ترجمة البخاري- تصريح بتفضيل الفقر على الغنى، إذ لا يلزم من ثبوت فضيلة الفقر أفضليته، وكذلك لا يلزم من ثبوت أفضلية فقير على غني أفضلية كل فقير على كل غني.” (فتح الباري 11/ 278)
قوله (:”هَذَا خَيْرٌ منْ مِلءِ الأَرْضِ مِثْلَ هذَا) قال ابن باز:” “خير من ملء الأض مثل هذا ” من ذاك الأول الذي عند الناس شريف؛ لأن الأول قد انحرف عن طاعة الله ولم يستقم وغرَّه ماله أو شرفه أو نحو ذلك، والثاني فقير لكن مستقيم استقام على أمر الله فلم يضره فقره، إذا استقام على أمر ربه جل و علا فالمال والأنساب والوجاهة عند الناس والوظائف ليست تقدم عند الله ولا تقرب لديه إلا من استعملها في طاعته” (شرح رياض الصالحين لابن باز 1/ 519)
قال ابن عثيمين:” فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا خير من ملء الأرض مثل هذا) أي: خير عند الله عز وجل من ملء الأرض من مثل هذا الرجل الذي له شرف وجاه في قومه؛ لأن الله سبحانه وتعالى ليس ينظر إلى الشرف، والجاه، والنسب، والمال، والصورة، واللباس، والمركوب، والمسكون، وإنما ينظر إلى القلب والعمل، فإذا صلح القلب فيما بينه وبين الله عز وجل، وأناب إلى الله، وصار ذاكراً لله تعالى خائفاً منه، مخبتاً إليه، عاملاً بما يرضي الله عز وجل، فهذا هو الكريم عند الله، وهذا هو الوجيه عنده، وهذا هو الذي لو أقسم على الله لأبره.
فيؤخذ من هذا فائدة عظيمة وهي أن الرجل قد يكون ذا منزلة عالية في الدنيا، ولكنه ليس له قدر عند الله، وقد يكون في الدنيا ذا مرتبة منحطة وليس له قيمة عند الناس وهو عند الله خير من كثير ممن سواه” (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 3/ 53)
جاء تفصيل مسألة أيهما أفضل الفقير الصابر أم الغني شاكر في كتاب عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين لابن القيم.