2546 الفوائد المنتقاة على صحيح مسلم
مجموعة: إبراهيم البلوشي وأبي عيسى البلوشي وفيصل الشامسي وفيصل البلوشي وهشام السوري، وعبدالله المشجري، وسامي آل سالمين، وعلي آل رحمه، وكرم.
ومجموعة: طارق أبي تيسير، ومحمد البلوشي، وعبدالحميد البلوشي، وكديم، ونوح وعبدالخالق وموسى الصوماليين، وخميس العميمي.
وإسلام المصري
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا)
———-‘———–‘———-‘
=====”=====”=====”
صحيح مسلم
كتاب فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُم
6497 (2546) حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رافِعٍ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قالَ عَبْدٌ:
أخْبَرَنا، وقالَ ابْنُ رافِعٍ: حَدَّثَنا عَبْدُ الزَزّاقِ، أخْبَرَنا مَعْمَرٌ، عَنْ جَعْفَرٍ الجَزَرِيَّ،
عَنِ يَزِيدَ بْنِ الأصَمِّ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: «لَوْ كانَ الدِّينُ
عِنْدَ الثُّرَيّا، لَذَهَبَ بِهِ رَجُلٌ مِن فارِسَ – أوْ قالَ: مِن أبْناءِ فارِسَ – حَتّى يَتَناوَلَهُ»
==========
تمهيد:
تطلق فارس والفرس على ما يسمى في هذه الأيام إيران، قيل: إنهم من ولد هدرام بن أرفخشد بن سام بن نوح، وأنه ولد بضعة عشر رجلا، كلهم كان فارسا شجاعا، فسموا الفرس، للفروسية، وقيل في نسبهم أقوال أخرى، وفي الطبقات: كان أولهم على دين نوح، ثم دخلوا في دين الصابئة، في زمن طمهورث، فداموا على ذلك أكثر من ألف سنة، ثم تمجسوا على يد زرادشت.
واشتهر من مسلميهم سلمان الفارسي، وقد سبقت فضائله قبل ثلاثة عشر بابا، قال القرطبي: وقع ما قاله صلى الله عليه وسلم عيانا، فإنه وجد منهم من اشتهر ذكره من حفاظ الآثار، والعناية بها، ما لم يشاركهم فيه كثير من غيرهم. وسيأتي بيان ذلك – إن شاء الله تعالى-.
ولا فضْلَ لِعربيٍّ على عَجَميٍّ إلَّا بِالتَّقوى، فلا العربيُّ يَدخلُ الجنَّةَ بِنَسبِه ولا غيرُ العربيِّ يُحرَمُها بِنَسبِه، بلْ كلُّ مَن حقَّقَ أَسبابَ الدَّرجاتِ العلى نَالها، أيًّا كان جنسُه ولونُه.
تنويه: سبق وأن مر معنا في صحيح مسلم ذكر فضائل سلمان رضي الله عنه، وما يتعلق بأحاديث الباب مر ذكر ما يتعلق بفقهه في الصحيح المسند (1086).
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
(بابُ فَضْلِ فارِسَ)
قال في «الفتح»: اختَلَف أهل النسب في أصل فارس،
فقيل: إنهم ينتهي نسبهم إلى جيومرت، وهو آدم،
وقيل: إنه من ولد يافث بن نوح،
وقيل: من ذرية لاوي بن سام بن نوح،
وقيل: هو فارس بن ياسور بن سام،
وقيل: هو من ولد هدرام بن أرفخشد بن سام،
وقيل: إنهم من ولد يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم،
والأول أشهر الأقوال عندهم، والذي يليه أرجحها عند غيرهم. انتهى.
وقال في «الفتح» أيضًا: قيل: إنهم من ولد هدرام بن أرفخشد بن سام بن
نوح، وإنه ولَد بضعة عشر رجلًا كلهم كان فارسًا شجاعًا، فسُمُّوا الفرس
للفروسية،
وقيل في نسبهم أقوال أخرى، وقال صاعد في «الطبقات»: كان أولهم على دين نوح، ثم دخلوا في دين الصابئة في زمن طمهورث، فداموا على ذلك أكثر من ألفي سنة، ثم تمجّسوا على يد زرادشت. انتهى [«الفتح» (10) / (698) – (699)، كتاب «التفسير» رقم ((4897))].
شرح الحديث:
(عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ) – رضي الله عنه -؛ أنه (قالَ: كُنّا جُلُوسًا) بضمّ الجيم جَمْع جالس،
(عِنْدَ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم -، إذْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ) وفي رواية البخاريّ: «فنزلت عليه» («سُورَةُ
الجُمُعَةِ»، فَلَمّا قَرَأ: {وآخَرِينَ مِنهُمْ لَمّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} الآية [الجمعة (3)]) ولفظ
البخاريّ: (فأنزلت عليه سورة الجمعة: {وآخَرِينَ مِنهُمْ لَمّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} «، قال
في «الفتح»: كأنه يريد: أُنزلت عليه هذه الآية من «سورة الجمعة»، وإلا فقد
نزل منها قبل إسلام أبي هريرة – رضي الله عنه – الأمر بالسعي [انظر: «الفتح» (10) / (697)، كتاب» التفسير ” رقم ((4897))].
وقال القرطبيّ – رحمه الله -: قوله تعالى: {وآخَرِينَ مِنهُمْ لَمّا يَلْحَقُوا بِهِمْ}؛ هو
مخفوض معطوف على {الأمِينُ}، ويجوز أن يكون منصوبًا معطوفًا على
الضمير في {ويُعَلِّمُهُمُ}، و {لَمّا يَلْحَقُوا بِهِمْ}: أي: لم يدخلوا في الإسلام،
ولم يوجدوا، وسيوجدون.
وأحسن ما قيل فيهم: أنهم أبناء فارس بدليل نصّ هذا الحديث، وقد
كثرت أقوال المفسرين في ذلك، وقد ظهر ذلك للعيان، فإنهم ظهر فيهم
الدِّين، وكَثُرت فيهم العلماء، فكان وجودهم كذلك دليلًا من أدلة صدق
النبيّ – صلى الله عليه وسلم -. انتهى [» المفهم «(6) / (50)].
(قالَ رَجُلٌ) لم يُسمّ: (مَن هَؤُلاءِ يا رَسُولَ اللهِ؟) وفي رواية الترمذيّ:
» فقال رجل: يا رسول الله من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا؟ «(فَلَمْ يُراجِعْهُ
النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم -)؛ أي: لم يردّ – صلى الله عليه وسلم – على السائل جوابه، (حَتّى سَألَهُ مَرَّةً، أوْ مَرَّتَيْنِ، أوْ
ثَلاثًا) وفي رواية البخاريّ:» فلم يراجعه حتى سأل ثلاثًا «، فقال في» الفتح «:
أي: لم يراجع النبيّ – صلى الله عليه وسلم -؛ أي: لم يُعِد عليه جوابه حتى سأله ثلاث مرات،
ووقع ذلك صريحًا في رواية الدراوَرْديّ قال:» فلم يراجعه النبيّ – صلى الله عليه وسلم – حتى سأل
مرتين، أو ثلاثًا «، وفي رواية ابن وهب عن سليمان بن بلال:» حتى سأله
ثلاث مرات» بالجزم، وكذا في رواية عبد الله بن جعفر. انتهى [» الفتح «(10) / (698)، كتاب» التفسير” رقم ((4897))].
(قالَ) أبو هريرة: (وفِينا سَلْمانُ الفارِسِيُّ) أبو عبد الله، ويقال له: سلمان
الخير، الصحابيّ الشهير، أصله من أصبهان، وقيل: من رامَهُرْمُز، أول مشاهده
الخندق، مات سنة أربع وثلاثين، يقال: بلغ ثلاثمائة سنة.
(قالَ) أبو هريرة: (فَوَضَعَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – يَدَهُ عَلى سَلْمانَ) الفارسيّ، وفي رواية
العلاء عن أبيه، عن أبي هريرة: «يده على فخذ سلمان»، (ثمَّ قالَ: «لَوْ كانَ
الإيمانُ) وفي الرواية السابقة:» لَوْ كانَ الدِّينُ «(عِنْدَ الثُّرَيّا) بضمّ الثاء، تصغير
ثَرْوى، اسم لنجم معروف؛ سُمّي به لكثرة كواكبه، مع ضيق المحلّ [«القاموس المحيط» ص (173)]. والثريا مجموعة من النجوم البعيدة عن الأرض، وبها يضرب المثل في البعد، والكلام كناية عن وصول أهل فارس إلى الدين والعلم والإيمان مهما كلفهم هذا الوصول، زاد في بعض الروايات برقة قلوبهم.
(لَنالَهُ رِجالٌ مِن هَؤُلاءِ»)؛ أي: الفرس بقرينة سلمان الفارسيّ، وقال الكرمانيّ: أي: الفرس؛ يعني: العجم، وفيه نَظَر لا يخفى، ثم إنهم اختلفوا في: {وآخَرِينَ مِنهُمْ}، فقيل: هم التابعون، وقيل: هم العجم، وقيل: أبناؤهم، وقيل: كل
من كان بعد الصحابة، وقال أبو روق: جميع من أسلم إلى يوم القيامة، وقال
القرطبيّ: أحسن ما قيل فيهم: أنهم أبناء فارس، بدليل هذا الحديث: «لناله
رجال من هؤلاء»، وقد ظهر ذلك بالعيان، فإنهم ظهر فيهم الدين، وكثر فيهم
العلماء، وكان وجودهم كذلك دليلًا من أدلة صدقه – صلى الله عليه وسلم -، قاله في «العمدة» [«عمدة القاري» (19) / (235)].
جاء في (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم لابن تيمية): “ومصداق ذلك ما وجد في التابعين ومن بعدهم من أبناء فارس الأحرار، والموالي مثل الحسن وابن سيرين وعكرمة مولى ابن عباس وغيرهم إلى من وجد بعد ذلك فيهم من المبرزين في الإيمان والدين والعلم حتى صار هؤلاء المبرزون أفضل من أكثر العرب وكذلك في سائر أصناف العجم من الحبشة والروم والترك وغيرهم سابقون في الإيمان والدين لا يحصون كثرة على ما هو معروف عند العلماء إذ الفضل الحقيقي هو اتباع ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه و سلم من الإيمان والعلم باطنا وظاهرا فكل من كان فيه أمكن كان أفضل والفضل إنما هو بالأسماء المحمودة في الكتاب والسنة مثل الإسلام والإيمان والبر والتقوى والعلم والعمل الصالح والإحسان ونحو ذلك لا بمجرد كون الإنسان عربيا أو عجميا أو أسود أو أبيض ولا بكونه قرويا أو بدويا وإنما وجه النهي عن مشابهة الأعراب والأعاجم مع ما ذكرناه من الفضل فيهم وعدم العبرة بالنسب والمكان مبني على أصل وذلك أن الله سبحانه وتعالى جعل سكنى القرى يقتضي من كمال الإنسان في العلم والدين ورقة القلوب مالا يقتضيه سكنى البادية كما أن البادية توجب من صلابة البدن والخلق ومتانة الكلام مالا يكون في القرى هذا هو الأصل وإن جاز تخلف هذا المقتضى لمانع وكانت البادية أحيانا أنفع من القرى ولذلك جعل الله الرسل من أهل القرى … “.
وفي الرواية السابقة: (لَذَهَبَ بِهِ رَجُلٌ مِن فارِس) َ – أوْ قالَ: (مِن أبْناءِ
)
فارِسَ – حَتّى يَتَناوَلَهُ)، وفي رواية البخاريّ: (لناله رجال – أو رجل – من
هؤلاء). قال في الفتح: هذا الشك من سليمان بن بلال، بدليل الرواية التي
أوردها بعده من غير شك مقتصرًا على قوله: رجال من هؤلاء، وهي عند
مسلم، والنسائيّ كذلك، وقد أخرجه الإسماعيليّ من رواية ابن وهب عن
سليمان بلفظ: (لناله رجال من هؤلاء) أيضًا بغير شك. انتهى [«الفتح» (10) / (698)، كتاب «التفسير» رقم ((4897))].
وقد أطنب أبو نعيم في أول» تاريخ أصبهان «في تخريج طرق هذا
الحديث، أعني حديث:» لو كان الدين عند الثريا «، ووقع في بعض طرقه عند
أحمد بلفظ: لو كان (((العلم))) عند الثريا، وفي بعض طرقه عند أبي نعيم، عن
أبي هريرة أن ذلك كان عند نزول قوله تعالى: {وإنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [محمد (38)]، ويحْتَمِل أن يكون ذلك صدر عند نزول كل من الآيتين.
قلت سيف بن دورة: حديث أبي هريرة
قال الترمذي 3260 قال بعد أن أخرجه من طريق شيخ من أهل المدينة عن العلاء بن عبد الرحمن به: حديث غريب وفي إسناده مقال. وقد روي عبدالله بن جعفر أيضا هذا الحديث عن العلاء بن عبد الرحمن. ثم ساقه الترمذي برقم 3261
وقلنا في تحقيقنا لتفسير ابن كثير: … والزنجي كما في الاستدراك الذي ذكره الألباني في حديث الصحيحة 1017 متابع … . وأيضا هناك متابعات للعلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه كما في العلل للدارقطني 1995
ومرة قلنا في باب فضائل سلمان في شرحنا لمسلم: أما نزول الآية: (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم. .. ) وأنها سبب الثناء على فارس قال الذهبي في للسير 1/ 541: إسناده وسط. انتهى
لكن عندي أن ما في الصحيح أصح لأن العلاء بن عبد الرحمن وإن كان صدوقا فقد أنكر عليه بعض الأحاديث وهنا خالف ما في الصحيحين.
وإن صححناه فسيأتي توجيهه وأنه لا حجة فيه لمن يقول قصَّر الصحابة في نصرة نبيهم.
والمتابعة التي ذكرتها في علل الدارقطني فيها الحسن البصري لم يسمع من أبي هريرة.
والحسن مراسيله كالريح. وهنا في التدليس لا نعرف من أسقط.
وقد تقدَّم في مسلم الحديث مجردًا عن السبب من رواية يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة، رفعه: (لو كان الدين عند الثريا لذهب رجال من أبناء فارس، حتى يتناولوه)، وأخرجه أبو نعيم من طريق سليمان التيميّ، حدّثني شيخ من أهل الشام، عن أبي هريرة نحوه، وزاد في آخره:» (برِقّة قلوبهم)
فهذه اللفظه ضعيفة
وأخرجه أيضًا من وجه آخر عن التيميّ، عن أبي عثمان، عن سلمان الفارسيّ بالزيادة
قلت سيف بن دورة: فيه يزيد بن سفيان بن عبيد الله ابوخالد له ترجمه في التكميل لابن كثير ونقل أن ابن حبان قال: يروي عن سليمان التيمي يعني عن أبي عثمان عن سلمان نسخة مقلوبة لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد.
قال الذهبي: يزيد بن سفيان عن سليمان التيمي له نسخة منكرة ضعف بها. ديوان الضعفاء
وقال في الميزان تكلم فيه ابن حبان ثم ذكر بعض مناكيره
ومن طريق أخرى من هذا الوجه، فزاد فيه: (يتّبعون سنتي، وُيكثرون الصلاة عليّ)،
قال القرطبيّ: وقع ما قاله – صلى الله عليه وسلم – عيانًا، فإنه وُجد منهم من اشتهر ذِكره من حفاظ الآثار، والعناية بها ما لم يشاركهم فيه كثير من أحد غيرهم. [» الفتح «(10) / (698) – (699)، كتاب» التفسير «رقم ((4897))].
وقال في معجم البلدان: العرب إذا ذكرت المشرق كله قالوا: فارس، فمعنى الحديث: أهل خراسان؛ لأنك إن طلبت مصداق الحديث في فارس لم
تجده لا أولًا ولا آخرًا، وتجد هذه الصفات نفسها في أهل خراسان، دخلوا
في الإسلام رغبةً، ومنهم: العلماء، والنبلاء، والمحدِّثون، والمتعبِّدون، وإذا
حررت المحدِّثين من كل بلد وجدت نصفهم من خراسان، وجُلّ رواة الرجال
منها، وأما أهل فارس فَكَنارٍ خَمَدت لم يبق لهم بقية بذِكر، ولا شَرَف. انتهى [» فيض القدير شرح الجامع الصغير” للمناويّ (5) / (322)].
قال الجامع عفا الله عنه –أي: محمد آدم الأثيوبي-: الأولى حَمْل الحديث على أهل فارس، ولايتعارض مع ما وُجد من أهل خراسان، فإنهما قطران متقاربان، والله تعالى
أعلم. [البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج – محمد آدم الأثيوبي، وفتح المنعم، بتصرف يسير]
إشكال في رواية في رواية (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم):
قيل: إنَّ هذا الخِطَابَ والوعيدَ وإنْ كان للصَّحابةِ رضِيَ اللهُ عَنهم إلَّا أنَّه يُرادُ به غيرُهم ممَّن سيَخلُفُهم ويأتي بعدَهم ممَّن قد يَجوزُ تَولِّيه عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، فيَكونُ بتَولِّيه عنه مِن أهلِ ذلك الوعيدِ، ويكونُ حَرِيًّا بوُقوعِه به؛ لأنَّ الصَّحابةَ رضِيَ اللهُ عَنهم هم خِيرتُه لنَبيِّه صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، وقد أُعِدَّ لهم ما أُعِدَّ في الآخرةِ، مِن كَرامتِه ورِضْوانِه بما لا يكونُ مِنهم معَه في الدُّنيا التَّولِّي عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم.
فعلى هذا فإن هذا الحديث لا يدل على أن أهل فارس أفضل من الصحابة رضي الله عنهم، وذلك للوجوه التالية:
أ. الآية المذكورة فيه وهي قوله تعالى: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) المراد منها التخويف فقط، وإلا فلا يوجد من هو أفضل من الصحابة رضي الله عنهم، ولا مثلهم.
قال القرطبي رحمه الله:
“قوله تعالى: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) هو إخبار عن القدرة، وتخويف لهم، لا أن في الوجود من هو خير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم” انتهى. ” تفسير القرطبي ” (18/ 194).
ب. لم يتفق العلماء والمفسرون على تفسير الآية بهذا الحديث، وأن القوم الذين سيأتون هم من فارس.
قال الماوردي رحمه الله:
” (يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنهم أهل اليمن، وهم الأنصار، قاله شريح بن عبيد.
الثاني: أنهم الفرس – وذكر حديث أبي هريرة -.
الثالث: أنهم مَن شاء مِن سائر الناس، قاله مجاهد” انتهى.
” النكت والعيون ” (5/ 307، 308).
وذهب الواحدي والسمعاني إلى أنها نزلت في العرب.
وعلى فرض أن الآية في الردة، وأن المقصود بهم العرب، وأن القوم الذين سيحلون مكانهم هم “الفرس”، فإنها تحوي علماً غيبيّاً فيها بشارة للمسلمين من أهل الفرس أنه لا يحدث فيهم ردة عن الدِّين، وفيه إشارة لاحتمال وقوعها من غيرهم، وهو ما حصل بالفعل.
قال الطاهر بن عاشور رحمه الله:
“وأقول: هو يدل على أن ” فارس ” إذا آمنوا: لا يرتدون، وهو من دلائل نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن العرب ارتد منهم بعض القبائل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وارتدّ البربر بعد فتح بلادهم وإيمانهم ثنتي عشرة مرة، فيما حكاه الشيخ أبو محمد بن أبي زيد، ولم يرتد أهل فارس بعد إيمانهم” انتهى.
” التحرير والتنوير ” (26/ 139).
وعلى هذا الكلام عن الفرس المسلمين، والرافضة الفرس ليسوا منهم.
فإما أن يقال: لم يحصل تولي عموماً لا عن الطاعة، ولا عن النفقة، فلم يحصل استبدال، أو يقال: حصل التولي من بعض العرب فجاء الله تعالى بالبديل من مسلمي الفرس، فخدموا دين الله تعالى، وساهموا في نشره، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في ذلك.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
“قال القرطبي: وقع ما قاله صلى الله عليه وسلم عِياناً، فإنه وُجد منهم – أي: من الفرس – من اشتُهر ذِكرُه من حفَّاظ الآثار، والعناية بها، ما لم يشاركهم فيه كثيرٌ من أحدٍ غيرهم” انتهى.” فتح الباري ” (8/ 643).
وسبق نقل كلام القرطبي.
وقال الطحاوي في مشكل الآثار (ثم تأملنا معنى ما فيه فوجدناه وعيدا شديدا للمذكورين فيه إن تولوا , من استبدال غيرهم بهم ممن لا يكونون أمثالهم فيه , فوجدنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم المخاطبون بذلك إن تولوا , فلم يتولوا بحمد الله ونعمته فيستحقوا ذلك الوعيد رضوان الله عليهم. ووجدنا الوعيد قد يقصد به إلى من يراد به غيره , ومن ذلك قول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} [الزمر: 65] وذلك مما علم الله عز وجل أنه لا يكون منه ; لأنه قد تولاه وعصمه , وأعد له رضوانه وجنته , وكان المراد بذلك الوعيد غيره , بمعنى أي: لما كانت منزلته صلى الله عليه وسلم من الله عز وجل هذه المنزلة التي ليست لغيره , وكان إن أشرك لحقه الوعيد الذي في هذه الآية , والشرك لا يكون منه صلى الله عليه وسلم , كان من قد يكون الشرك إذا أشرك بذلك الوعيد أولى , وبوقوعه به أحرى.
ومثل قول الله عز وجل له صلى الله عليه وسلم: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين} [الحاقة: 45] قال أبو جعفر: الوتين: نياط القلب , ثم قد علم عز وجل أن ذلك لا يكون منه , فأعلمهم عز وجل أن ذلك لو كان منه حل له هذا الوعيد , ليعلموا أنه إذا كان ذلك منهم , وفيهم من هو موهم منه أنه قد يجوز أن يكون ذلك منه , إن لم يعصمه عنه ربه عز وجل , أنهم بحلول ذلك الوعيد بهم إذا كان منهم أولى , وبوقوعه بهم أحرى , فمثل ذلك قوله جل وعز لهم: {وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم} [محمد: 38] وهم خيرته لنبيه صلى الله عليه وسلم , وقد أعد لهم ما أعد لهم في الآخرة , من كرامته ورضوانه بما لا يكون منهم معه في الدنيا التولي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , كان ذلك الوعيد لسواهم ممن قد يجوز توليه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , فيكون بتوليه عنه من أهل ذلك الوعيد , ويكون حريا بوقوعه به , والله تعالى نسأله التوفيق انتهى كلامه رحمه الله
قال الحليمي 403 هـ في كتاب من لطائف وفوائد (المنهاج في شعب الإيمان) (مرتبا بالآيات والسور):
ومما يتصل بهذا الباب تعظيم العرب وإجلالهم لأنه – صلى الله عليه وسلّم – عربي.
وجاء عنه – صلى الله عليه وسلّم -: «إن الله خلق الخلق فاختار من الخلق بني آدم، واختار من بني آدم العرب، واختار من العرب مضر، واختار من مضر قريشاً، واختار من قريش بني هاشم، فأنا من خيار إلى خيار، فمن أحب العرب فيحبني أحبهم، ومن أبغض العرب فيبغضني أبغضهم».
ومنها ما قالوا: قد غير الله تعالى بالعجم، فقال: {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُم} قال أبو هريرة نزلت هذه الآية وسلمان إلى جنب رسول الله – صلى الله عليه وسلّم -، فقيل: يا رسول الله، من هؤلاء؟ فضرب رسول الله – صلى الله عليه وسلّم – فخذ سلمان فقال: «هذا وقومه والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من فارس». … ثم بين فضل العرب في الجملة وذكر من الصفات التي تجعلهم أفضل من غيرهم خاصة كون النبي صلى الله عليه وسلم منهم. وأجاب عن كل الاستدلالات وأهمها أنه لا يلزم في كون العجم تميزوا لفضيلة أن يكونوا أفضل مطلقا.
وسبق نقل كلام ابن تيمية في فضل العرب في الجملة في فضائل الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا التفضيل للعرب جملة لا يمنع أن يكون في العجم من هو أفضل من كثير من العرب.
تنبيه: الحديث له ألفاظ:
لفظ: ((لو كان العلم … )) ويأتي في ” الضعيفة ” (2054).
وله شاهد من حديث ابن عمر مرفوعا بلفظ: “رأيت غنما كثيرة سوداء، دخلت فيها غنم كثيرة بيض، قالوا فما أولته يا رسول الله؟ قال: ((العجم، يشركونكم في دينكم و أنسابكم)). قالوا: العجم يا رسول الله؟ قال: ((لو كان الإيمان معلقا بالثريا لناله رجال من العجم، و أسعدهم به الناس)). سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها … للألباني المجلد الثالث: رقم الحديث (1017).
1018 – ((رأيت غنما كثيرة سوداء، دخلت فيها غنم كثيرة بيض، قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: العجم، يشركونكم في دينكم و أنسابكم. قالوا: العجم يا رسول الله؟ قال: لو كان الإيمان معلقا بالثريا لناله رجال من العجم، و أسعدهم به الناس))
تنبيه: في الحاشية: كذا الأصل، و هو غير مفهوم، ولعل الصواب: ((و أسعد بهم الناس)). اهـ.
قلت سيف بن دورة:
بينا في شرحنا لمسلم كتاب الرؤيا عدم صحة حديث (رأيت غنما كثيرة سوداء) فقلنا:
عبدالرحمن بن عبدالله بن دينار لا يحتمل الإختلاف عليه في الوصل والإرسال أما عن شاهده من حديث عبدالرحمن بن أبي ليلى عن أبي بكر، رجح الدارقطني في العلل 80 فيه الإرسال.
أما عن حديث أبي هريرة فهو في فضائل الصحابة من زوائد عبدالله من طريق زائدة عن هشام عن الحسن قال بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رأيت كأني انزع على غنم سود فخالطها غنم عفر فأولت السود العرب والعفر من خالطهم من إخوانهم من العجم قال فبينما أنا كذلك إذ جاء أبوبكر فأخذ الدلو فنزع ذنوباً أو ذنوبين وهو ضعيف والله يغفر له ثم جاء عمر …. ) ومراسيل الحسن من أضعف المراسيل، وهذا المرسل يعلل الحديث المتصل عن أبي هريرة، ثم حديث أبي هريرة رضي الله عنه ورد في الصحيحين من طرق عن أبي هريرة رضي الله عنه بغير هذه الزيادة، وهو كذلك في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، ففي ثبوتها عندي نظر. انتهى من شرحنا لصحيح مسلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): ما قيل في تاريخ بلاد فارس:
تحوّل اسم بلاد فارس: ظلّت بلاد فارس تُعرف بهذا الاسم حتّى عام 1935م عندما قرر الشّاه رضا بهلوي تحويل اسمها ليصبح مملكة إيران.
1) خلاصة فتح بلاد فارس:
كانت إيران قبل الفتح الإسلامي تحت حكم الساسانيين، وكانت تعاني من كثرة الظلم والفساد والاضطهاد، وكانت المجوسية هي الدين الرسمي لإيران حتى الفتح الإسلامي.
بدأ الفتح الإسلامي لإيران في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، عندما استطاع المثنى بن حارثة سنة 13هـ فتح بعض الأراضي المجاورة لمنطقة السواد.
وفي عهد عمر رضي الله عنه، حاول أبو عبيد الثقفي رضي الله عنه غزو إيران من الجنوب الغربي، والتقى بالفرس في موقعة الجسر سنة 13هـ، فلقي جابان، فهزم الله المجوس، وأسر جابان، ثم سار أبو عبيد إلى كسكر فالتقى هو ونرسى فهزمه، ثم لقي جالينوس فهزمه. ثم دارت الدائرة على المسلمين، فقتل منهم وغرق خلق كثير، وقتل أبو عبيد رضي الله عنه.
” سير أعلام النبلاء” (2/ 421).
ثم أكمل المسلمون فتح إيران بقيادة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه سنة 14هـ، إذ ألحق جيش المسلمين بالفرس هزيمة نكراء في موقعة القادسية التي كانت إحدى معارك المسلمين الكبرى.
وذكر أهل التاريخ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا مَا بَيْنَ السَّبْعَةِ آلَافٍ إِلَى الثَّمَانِيَةِ آلَافٍ، وَأَنَّ رُسْتُمَ قائد الفرس كَانَ فِي سِتِّينَ أَلْفًا منهم.
ولما كان يَوْم الِاثْنَيْنِ مِنَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، هَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ فَرَفَعَتْ خِيَامَ الْفُرْسِ عَنْ أَمَاكِنِهَا، وَأَلْقَتْ سَرِيرَ رُسْتُمَ الَّذِي هُوَ مَنْصُوبٌ لَهُ، فَبَادَرَ فَرَكِبَ بِغَلَّتِهِ وَهَرَبَ، فَأَدْرَكَهُ الْمُسْلِمُونَ فَقَتَلُوهُ، وَقَتَلُوا الْجَالِنُوسَ مُقَدِّمَ الطَّلَائِعِ الْفَارِسِيَّةِ، وَانْهَزَمَتِ الْفُرْسُ – وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ – عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ، وَلَحِقَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فِي أَقْفَائِهِمْ، فَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ الْمُسَلْسَلُونَ بِكَمَالِهِمْ، وَكَانُوا ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَقُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ عَشَرَةُ آلَافٍ، وَقَتَلُوا قَبْلَ ذَلِكَ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَمَا قَبْلَهِ مِنَ الْأَيَّامِ أَلْفَانِ وَخَمْسُمِائَةٍ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَسَاقَ الْمُسْلِمُونَ خَلْفَهُمُ الْمُنْهَزِمِينَ حَتَّى دَخَلُوا وَرَاءَهُمْ مَدِينَةَ الْمَلِكِ، وَهِيَ الْمَدَائِنُ الَّتِي فِيهَا الْإِيوَانُ الْكِسْرَوِيُّ.
وَقَدْ غَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ وَقْعَةِ الْقَادِسِيَّةِ هَذِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالسِّلَاحِ مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوَصَفُ كَثْرَةً، فَحُصِّلَتِ الْغَنَائِمُ بَعْدَ صَرْفِ الْأَسْلَابِ، وَخُمِّسَتْ وَبُعِثَ بِالْخُمُسِ وَالْبِشَارَةِ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
” البداية والنهاية ” (9/ 630).
ثم واصل المسلمون تقدمهم في الأراضي الإيرانية، وتمكنوا من فتح الجزء الجنوبي من إيران، بينما تقهقر ملكهم يزدجرد الثالث إلى منطقة أصفهان في وسط إيران، وأخذ يجمع الجند في محاولة لاسترداد ما ضاع منه، وتقابل المسلمون وجند يزدجرد في معركة جلولاء سنة 18هـ انتهت باندحار يزدجرد وجيشه وتقهقره صوب أصفهان.
قال الطبري رحمه الله:
” قتل اللَّه منهم يومئذ مائة ألف، فجللت القتلى المجال وما بين يديه وما خلفه، فسميت جلولاء بما جللها من قتلاهم ” انتهى من ” تاريخ الطبري ” (4/ 26).
ثم التقى يزدجرد بالمسلمين في موقعة نهاوند الفاصلة سنة 21هـ، حيث انتصر المسلمون انتصاراً مبيناً، ولم تقم للساسانيين قائمة بعدها، وغنم المسلمون مغانم كثيرة مما جعلهم يسمون هذه الموقعة “فتح الفتوح”.
قال ابن كثير رحمه الله:
” هِيَ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا لَهَا شَانٌ رَفِيعٌ وَنَبَأٌ عَجِيبٌ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُسَمُّونَهَا فَتْحَ الْفُتُوحِ ” انتهى من ” البداية والنهاية ” (10/ 111).
واستغرقت سيطرة المسلمين على جميع الأراضي الإيرانية قرابة عشر سنوات؛ بسبب اتساع البلاد ووعورتها.
ومما ساهم في انتشار الإسلام في إيران: هجرة كثير من القبائل العربية إلى الأراضي الإيرانية والإقامة فيها، واختلاطهم بالإيرانيين.
وظلت إيران قرابة تسعة قرون تتبع مذهب أهل السنة والجماعة، حتى سيطرت الدولة الصفوية الشيعية عليها سنة 906 هـ.
2) نيسابور .. التاريخ والنشأة
ملخص المقال: تعتبر نيسابور مدينة التاريخ والحضارة، فهي أعظم مدن خراسان واشتهر بها علماء كبار، فماذا عن موقعها وتسمياتها ومكانتها وتاريخها وحضارتها؟
مدينة نيسابور واحدة من أشهر مدن العالم الإسلامي الواقعة في بلاد خراسان، وإحدى الحواضر الإسلامية العريقة في التاريخ والحضارة، والعلم والدراسة، والثقافة والفكر، وذلك على مدار ستة قرون كاملة، إذ كانت نيسابور عاصمة لمقاطعة خراسان قديما، وتعد من أشهر مراكز الثقافة والتجارة والعمران في العصر العباسي، قبل أن يدمرها زلزال ضربها عام 540هـ / 1145م، ثم أكمل خرابها غزو قبائل الغز ثم المغول لها سنة 618هـ / 1221م. وقد قال ياقوت الحموي في حقها: “وكثيرا ما سمعت أن بلاد الدنيا العظام ثلاثة: نيسابور لأنها باب الشرق، ودمشق لأنها باب الغرب، والموصل لأن القاصد إلى الجهتين قلّ ما لا يمر بها”.
الموقع الجغرافي
يقول ياقوت الحموي: “نَيْسَابُور: بفتح أوله، والعامة يسمونه نشاوور: وهي مدينة عظيمة ذات فضائل جسيمة معدن الفضلاء ومنبع العلماء لم أر فيما طوّفت من البلاد مدينة ومنبع العلماء لم أر فيما طوّفت من البلاد مدينة كانت مثلها .. ، وعهدي بها كثيرة الفواكه والخيرات، وبها ريباس ليس في الدنيا مثله”.
تقع نيسابور في إقليم خراسان، الذي يشغل الزاوية الشمالية الغربية من إيران على حدود روسيا وأفغانستان. وإن كانت منطقة نيسابور تقع بين الأراضي الأفغانية والباكستانية. كانت مدينة نيسابور أكثر مدن خراسان أهمية، وهي التي تمثل الربع الغربي من خراسان، وهي من أعمال مدينة مشهد الآن، وتبعد عنها بنحو 90 كيلو مترا.
تسمياتها:
ترجع تسمية “نيسابور” نسبة إلى سابور الذي قام ببنائها في المائة الثالثة للميلاد، وسابور هو ثاني ملوك الساسانيين الفرس، كما أطلق على المدينة أيضًا اسم “أبر شهر”، وهناك من البلدانيين من يسميها “إيرانشهر”، والصحيح أن إيرانشهر هي ما بين جيحون إلى القادسية.
فقد رأى الملك الفارسي سابور موقعًا أعجبه، فطلب أن يتم بناء مدينة فيه، ولما كان فيه قصب كثير أمر بقطعه، وبدأ تأسيس المدينة التي أخذت اسمها من اسم الملك ومن كلمة “قصب” التي تعني بالفارسية القديمة “ني”، وبالتالي أصبح اسم المدينة “نيسابور” أي قصب سابور، إلا أن ياقوت الحموي يقول في “معجم البلدان” إن اسمها مشتق من التعبير الفارسي القديم “نيوشاه بور” والذي يعني بالعربية “موضع سابور الطيب”،إلا أن الاسمين بصفةٍ عامة يربطان بين المدينة وبين الملك الفارسي سابور.
وتدل تلك الملابسات على أن المدينة تم تأسيسها في القرن الثالث الميلادي؛ حيث حكم سابور بلاد فارس في الفترة بين 241م إلى 271م أي: أن عمرها الآن يقارب الـ19 قرنًا ميلاديًّا؛ مما يجعلها واحدةً من المدن التي شهدت على بعض أهم وأبرز المراحل في التاريخ الإنساني، وبخاصة التاريخ الإسلامي لما كان شهده التاريخ الإسلامي في تلك المناطق من تحولات فكرية وسياسية.
أشهر مدن وقرى نيسابور
ومن أبرز المناطق التي كانت في نيسابور من المدن والقرى: طوس، وبيهق، وباخرز، وأبيورد، وأسفرايين، وأرغيان، واشبنذ، وايلاق، واستوا، وبشت، وجاجرم، وخواف، وخابران، وبشتنفروش، وشاذياخ، وسمنقان، ورخ، والشامات، وزوزن، وزام، وجوين، ونسا، وكلات، ونوقان وذلك حسبما ذكر في كتب الجغرافيا والطبقات، وقد شهدت تلك القرى معالم النهضة الإسلامية بخاصة في القرن الثالث الهجري وما بعده.
الفتح الإسلامي لنيسابور:
فتحن نيسابور في أيام الخليفة الراشدي عثمان بن عفان رضي الله عنه، على يد عبد الله بن عامر بن كريز، في سنة 31هـ، صلحا، وبنى بها جامعا، وقيل إنها فتحت في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، على يد الأحنف بن قيس، وإنما انتقضت في أيام عثمان فأرسل إليها عبد الله بن عامر ففتحها ثانية.
من تاريخ نيسابور:
ومنذ تم الفتح الإسلامي لمدينة نيسابور، شهدت نهضة علمية وعمرانية كبرى، وظلت قصبة حضارية خلال عهد الدولة الأموية، أما في العصر العباسي فقد كانت نيسسابور مركزا تجاريا وعلميا وثقافيا كبيرا، وعندما برز الضعف في الخلافة العباسية ظهر في المشرق الإسلامي وبلاد خراسان وما وراء النهر العديد من الدول المستقلة عن الخلافة وإن كانت تتبع الخلافة اسميا، وكانت نيسابور حاضرة كبرى وعاصمة سياسية لأكثرها، ومنها:
1 – الدولة الطاهرية في خراسان (205 – 259هـ/820 – 872 م).
2 – الدولة صفارية في إيران وهرات وما وراء النهر، (254 – 298هـ/868 – 910م).
3 – الدولة السامانية في بلاد ما وراء النهر وغيرها (261 – 390هـ/874 – 1000 م).
4 – الدولة الغزنوية في غزنة ومعظم إيران وما وراء النهر وبعض الهند (349 – 579هـ/960 – 1183م).
5 – الدولة السلجوقية الكبرى (432 – 583هـ/1037 – 1187م).
وقد كان لنيسابور على مدار تاريخها منزلة كبيرة وقدرا رفيعا، واهتمام جليلا ممن تعاقب عليها من حكام المسلمين، ولم تبلغ ما بلغته من المكانة مثلما كان في أيام الدولة الطاهرية والدولة الصفارية، يشهد بذلك ما قاله ابن حوقل: ” وكانت دار الإمارة بخراسان فى قديم الأيام بمرو وبلخ إلى أيام الطاهريّة، فإنهم نقلوها إلى نيسابور، فعمرت وكبرت وغزرت وعظمت أموالها عند توطّنهم إياها، وقطونهم بها حتى انتابها الكتّاب والأدباء بمقامهم بها، وطرأ إليها العلماء والفقهاء عند إيثارهم لها”.
غزو عشائر الغز لنيسابور:
وفي العهد السلجوقي تعرضت نيسابور لغزوات عشائر الغز، وهم تجمع قبائل تركية، كانوا من أتباع السلاجقة، انتقلوا من نواحي الثغر من أقاصي الترك إلى ما وراء النهر في أيام المهدي العباسي، وقد تعرضت نيسابور لهجماتهم سنة 548هـ فأصبت بمصيبة عظيمة، قال ابن الأثير: “فركب الغز ودخلوا نيسابور ونهبوها مجحفا، وجعلوها قاعا صفصفا، وقتلوا الكبار والصغار وأحرقوها، وقتلوا القضاة والعلماء في البلاد كلها، فممن قتل الحسين بن محمد الأرسابندي، والقاضي علي بن مسعود، والشيخ محمد بن يحيى”.
وبلغ من وحشية تلك العشائر المتوحشة أنهم أسروا الملك سنجر السلجوقي وقتلوا كل من وجدوه فيها، واستصفوا أموالها حتى لم يبق فيها من يعرف، وخربوها وأحرقوها ثم اختلفوا فهلكوا، واستولى عليها المؤيد أحد مماليك سنجر سنة 550هـ، “وأزاح الغز عن الجميع، وقتل منهم خلقا كثيرا، وأحسن السيرة، وعدل في الرعية، واستمال الناس، ووفر الخراج على أهله، وبالغ في مراعاة أرباب البيوت، فاستقرت البلاد له، ودانت له الرعية لحسن سيرته، وعظم شأنه، وكثرت جموعه”، ثم إن المؤيد نقل الناس إلى محلة منها يقال لها شاذياخ وعمرها وسورها، وتقلبت بها أحوال حتى عادت أعمر بلاد الله وأحسنها وأكثرها خيرًا وأهلًا وأموالًا؛ لأنها -كما يقول ياقوت- دهليز المشرق ولابد للقفول من ورودها.
الغزو المغولي التتري لنيسابور:
يقول ياقوت: “وبقيت على ذلك إلى سنة 618هـ حيث خرج من وراء النهر التتار، فعاثوا في الأرض فسادا حتى وصلوا إلى أسوار نيسابور. واستولوا على بلاد خراسان وهرب منهم محمد بن تكش بن ألب أرسلان خوارزم شاه -وكان سلطان المشرق كله إلى باب همذان، وتبعوه حتى أفضى به الأمر إلى أن مات طريدا بطبرستان في قصة طويلة، واجتمع أكثر أهل خراسان والغرباء بنيسابور وحصنوها بجهدهم فنزل عليها قوم من هؤلاء الكفار فامتنعت عليهم ثم خرج مقدّم الكفار يوما ودنا من السور فرشقه رجل من نيسابور بسهم فقتله، فجرّى الأتراك خيولهم وانصرفوا إلى ملكهم الأعظم الذي يقال له جنكيز خان فجاء بنفسه حتى نزل عليها -وكان المقتول زوج ابنته- فنازلها وجدّ في قتال من بها، فزعم قوم أن علويّا كان متقدّما على أحد أبوابها راسل الكفار يستلزم منهم على تسليم البلد ويشرط عليهم أنهم إذا فتحوه جعلوه متقدّما فيه، فأجابوه إلى ذلك ففتح لهم الباب وأدخلهم فأول من قتلوا العلويّ ومن معه، وقيل: بل نصبوا عليها المناجيق وغيرها حتى أخذوها عنوة ودخلوا إليها دخول حنق يطلب النفس والمال، فقتلوا كل من كان فيها من كبير وصغير وامرأة وصبيّ ثم خرّبوها حتى ألحقوها بالأرض وجمعوا عليها جموع الرستاق حتى حفروها لاستخراج الدفائن، فبلغني: أنه لم يبق بها حائط قائم، وتركوها ومضوا، فجاء قوم من قبل خوارزم شاه فأقاموا بها يسبرون الدفائن فأذهبوها مرّة، فإنا لله وإنّا إليه راجعون، من مصيبة ما دهى الإسلام قط مثلها”.
كما قام جنكيزخان اللعين بسبي كل نساء المسلمين في مدينة نيسابور، وأقام المغول في المدينة خمسة عشر يوما يفتشون الديار عن الأموال والنفائس، ثم تركوا نيسابور بعد ذلك أثرًا بعد عين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
كتب تاريخ نيسابور:
تجري العادة على أن يكون للمدينة تاريخٌ واحدٌ مسلسلٌ إلا أن مدينةَ نيسابور لها أكثر من تاريخ، ويرجع ذلك إلى كثرة ما تدفق عليها من الحضارات والحكام والمدارس الفكرية، فكانت في فترةٍ من الفترات درة الحكم الفارسي ثم أصبحت بعد ذلك دارًا من دور الإسلام العظيمة.
تاريخ نيسابور للحاكم النيسابوري:
ومن أشهر الكتب التي ألفت في تاريخ نيسابور، ما كتبه الإمام الحافظ الحاكم النيسابوري (321 – 405هـ / 933 – 1015م). صاحب كتاب المستدرك على الصحيحين، وهو كتاب “تاريخ نيسابور”، وهو -كما يقول الإمام السبكي: سيد التواريخ. صنفه الحاكم لأنه وجد نيسابور مع كثرة العلماء بها والحفاظ لم يصنفوا في تاريخها شيئًا. ذكر البيهقي في (تاريخ بيهق) أنه يتألّف من (12) جزءا ومرتبا على حروف المعجم، ويضم تراجمَ لصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، وللشخصيات البارزة في نيسابور إلى سنة 380هـ. ولهذا الكتاب تكملة بها ذكر للشيوخ والأصدقاء الذين ماتوا بعد سنة 388هـ، ويبدو أن النسخة الأصلية لهذا الكتاب قد فقدت.
وتاريخ نيسابور للإمام الحاكم هو أعود التواريخ عل الفقهاء بفائدة. وقد بدأ الحاكم بذكر مفاخر خراسان بإشارة آيات وأحاديث وأخبار. وما ورد في تفسيرها ثم ذكر أحاديث في فضل فارس. ثم ذكر ما ورد في فضائل نيسابور ثم قسم كتابه إلى سبع طبقات.
ذكر في الأولى الصحابة وهم ثمان وعشرون صحابيا. وذكر علماء نيسابور وإشراقها والتابعين في الطبقة الثانية. ثم ذكر أتباع التابعين من النيسابوريين ومن وردها أو سكنها أو حدّث بها من علماء الإسلام في الطبقة الثالثة.
أما الطبقة الرابعة، فذكر فيها أتباع الأتباع بعد الصحابة وهو القرن الرابع بعد النبوة والثالث بعد الصحابة. ثم ذكر في الطبقة الخامسة علماء نيسابور ومن دخلها ونشر علمه فيها. وذكر في الطبقة السادسة، من العلماء النيسابوريين ومن سكنها وحدّث فيها من علماء المسلمين. وأما الطبقة السابعة فذكر فيها أسامي المشايخ الذين رزق السماع منهم من الطبقة السابقة (أي السادسة)، وبعد ذلك أضاف الحاكم لاحقة، ترجم فيها لمن توفي من شيوخه وإخوانه بعد انتهائه من تاريخ نيسابور، وقد فقد (تاريخ نيسابور) إذ لم يعثر على مخطوطته.
مختصر تاريخ نيسابوري:
ولم يوجد من تاريخ نيسابور للإمام الحاكم إلا ترجمة فارسية مختصرة. تشمل الطبقة السابعة من تاريخ نيسابور، وهي طبقة شيوخ الحاكم، وقد اختصره أحمد بن محمد بن الحسن بن أحمد المعروف بالخليفة النيسابوري، الذي عاش في زمن لا يبعد عن القرن الخامس أو السادس الهجريين. ويوجد في بروسه بتركيا بمكتبة حسين جلبي 778 (74 ورقة) وطبع في فارس 1961. وهذا الكتاب مختصر مترجم عن الفارسية، وهو نشرة كتابخانة ابن سينا – طهران، وعرّبه عن الفرسية: د/ بهمن كريمي – طهران.
السياق لتاريخ نيسابور:
وهناك تكملة لمختصر الخليفة النيسابوري بعنوان “السياق لتاريخ نيسابور”، للإمام الحافظ أبي الحسن عبد الغافر بنِ إسماعيل الفارسيِّ النيسابوري (451 – 529هـ / 1059 – 1135م)، وتوجد هذه التكملة في: صائب بأنقرة 1544 (جـ 2) من حسن إلى النهاية، 98 ورقة، في القرن السادس الهجري.
المنتخب من كتاب السياق لتاريخ نيسابور:
وهناك كتاب “المنتخب من كتاب السياق لتاريخ نيسابور”، وهو مختصر للكتاب الآنف الذكر “السياق لتاريخ نيسابور”، للإمام الحافظ تقي الدين أبي إسحاق إبراهيم بن محمد الصريفيني الحنبلي (581 – 641هـ) وله نسحة وحيدة، وهي مصورة عن كوبرلي 1152، 146 ورقة، تاريخها 622هـ. ونشرت بتحقيق: خالد حيدر، الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر التوزيع، 1414هـ.
(المسألة الثانية): قصة سلمان رضي الله عنه
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج5 ص441): حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ حَدَّثَنَا أَبِي عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ حَدَّثَنِي سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ حَدِيثَهُ مِنْ فِيهِ قَالَ:
كُنْتُ رَجُلًا فَارِسِيًّا مِنْ أَهْلِ أَصْبَهَانَ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ مِنْهَا يُقَالُ لَهَا جَيٌّ وَكَانَ أَبِي دِهْقَانَ قَرْيَتِهِ وَكُنْتُ أَحَبَّ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْهِ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حُبُّهُ إِيَّايَ حَتَّى حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ أَيْ مُلَازِمَ النَّارِ كَمَا تُحْبَسُ الْجَارِيَةُ وَأَجْهَدْتُ فِي الْمَجُوسِيَّةِ حَتَّى كُنْتُ قَطَنَ النَّارِ الَّذِي يُوقِدُهَا لَا يَتْرُكُهَا تَخْبُو سَاعَةً …….. ثم ذكر قصة إسلامه. الصحيح المسند (440). وقد سبق ترجمته رضي الله عنه.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(1) – (منها): بيان فضل فارس، وأن لهم اليد الطولى في نشر الدين، والعلم، وذلك في زمن الصحابة، ومن تبعهم بإحسان، ولا عبرة بما حصل في الأزمان المتأخّرة من انحرافهم، وتشيّعهم.
وقال صاحب «التكملة»: فيه فضيلة ظاهرة لأهل فارس، وأن رجالًا منهم
يجدّون في طلب العلم والدين، وقد ذكر بعض العلماء أن مِصداق هذا الحديث
أن مصداقه الإمام البخاريّ، والظاهر أن هناك
جماعة كبيرة من الفقهاء والمحدّثين أصلهم من فارس، وكلّهم يجوز أن يكون
مصداقًا لهذه البشارة النبويّة
– رحمهما الله تعالى – انتهى. [تكملة فتح الملهم، (5) / (323)].
(2) – (ومنها): بيان معجزة للنبيّ – صلى الله عليه وسلم – حيث أخبر بما سيقع، فوقع طِبْق ماأخبر به – صلى الله عليه وسلم -. [سبق في الصحيح المسند بيان شيء مما أطلعه الله عليه مما سيقع في المستقبل] وساق الشيخ مقبل في الجامع الصحيح من دلائل النبوة أحاديث كثيرة في إخباره صلى الله عليه وسلم عن أمور المستقبل.
(3) – (ومنها): بيان قوّة هذا الدين، وأنه مستغنٍ عن العرب، فإن الله سبحانه وتعالى لَمّا ضَعُف قيامهم به قيّض له العجم، فقاموا به حقّ القيام، وهذا مصداق
قوله عزوجل: {ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَاتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونَهُ أذِلَّةٍ عَلى المُؤْمِنِينَ أعِزَّةٍ عَلى الكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة (54)]، وقوله تعالى: {فَإنْ يَكْفُرْ بِها هَؤُلاءِ فَقَدْ وكَّلْنا بِها قَوْمًا لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ ((89))} [الأنعام (89)]، وقوله تعالى: {وإنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أمْثالَكُمْ ((38))} [محمد (38)].
بل مما امتاز به على غيره من الأديان أن الله يؤيّده بمن ليس من أهله؛ كما قال – صلى الله عليه وسلم -: ((وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر))، رواه البخاريّ، وأخرج النسائيّ في «الكبرى» بإسناد صحيح، عن أنس – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «إن الله ليؤيد هذا الدين بأقوام لا خَلاق لهم».
فما أعظم هذا الدين، أعزّ الله أركانه، وثبّت قواعده، وأرسى بنيانه، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ واللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة (54)]، والله تعالى أعلم. [البحر الثجاج]
4 – (ومنها): جواز استعمال المجاز والكناية والمبالغة إذا كانت في مواضعها.
5 – فيها بيان سبب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لو كان الإيمان … )) الحديث.
6 – وفي الحديثِ: فضلُ سَلْمانَ الفارسيِّ رضِيَ اللهُ عَنه وأصحابِه المُؤمنِينَ مِن قَومِه.
7 – وفي الحديث: إشارة إلى حِرصِهم وشدَّةِ ما يَبذُلونه لخِدْمةِ هذا الدِّينِ.
8 – أن العلم والإيمان مما يرفع قيمت العبد.
9 – فيه ” الفضل الحقيقي: هو اتباع ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من الإيمان والعلم باطنا وظاهرا، فكل من كان فيه أمكن: كان أفضل.
والفضل إنما هو بالأسماء المحمودة في الكتاب والسنة مثل: الإسلام، والإيمان، والبر، والتقوى، والعلم، والعمل الصالح، والإحسان، ونحو ذلك، لا بمجرد كون الإنسان عربيا، أو عجميا، أو أسود، أو أبيض، ولا بكونه قرويا، أو بدويا”. [اقتضاء الصراط المستقيم]
و”لا فضْلَ لِعربيٍّ على عَجَميٍّ إلَّا بِالتَّقوى، فلا العربيُّ يَدخلُ الجنَّةَ بِنَسبِه ولا غيرُ العربيِّ يُحرَمُها بِنَسبِه، بلْ كلُّ مَن حقَّقَ أَسبابَ الدَّرجاتِ العلى نَالها، أيًّا كان جنسُه ولونُه”.
10 – فيه التخويف من ترك الدين
هذا على فرض صحة الحديث الذي فيه: ” إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: {وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} .. الحديث.
11 – وعلى فرض أن الآية {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} الآية في الردة، وأن المقصود بهم العرب، وأن القوم الذين سيحلون مكانهم هم “الفرس”: فإنها تحوي علماً غيبيّاً فيها بشارة للمسلمين من أهل الفرس أنه لا يحدث فيهم ردة عن الدِّين، وفيه إشارة لاحتمال وقوعها من غيرهم، وهو ما حصل بالفعل في بعض من ارتد من العرب.
وكذلك البربر ارتدوا عدة مرات.
وسبق نقل معنى هذا التوجيه عن الطاهر بن عاشور رحمه الله:
7 – فيه دلالة من دلالات النبوة، وهو وقع ما قاله صلى الله عليه وسلم عيانا.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
“قال القرطبي: وقع ما قاله صلى الله عليه وسلم عِياناً، فإنه وُجد منهم – أي: من الفرس – من اشتُهر ذِكرُه من حفَّاظ الآثار، والعناية بها، ما لم يشاركهم فيه كثيرٌ من أحدٍ غيرهم” انتهى. ” فتح الباري ” (8/ 643).
وقال أبو العباس رحمه الله:
” ومصداق ذلك ما وجد في التابعين ومن بعدهم، من أبناء فارس الأحرار والموالي، مثل الحسن، وابن سيرين وعكرمة مولى ابن عباس، وغيرهم، إلى من وجد بعد ذلك فيهم من المبرزين في الإيمان والدين والعلم، حتى صار هؤلاء المبرزون أفضل من أكثر العرب”. [اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم].
والله أعلم
[انظر: المنهاج، البحر الثجاج، فتح المنعم].