253 و 254 عبق الياسمين شرح رياض الصالحين
سلطان الحمادي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
31 – باب الإصلاح بَيْنَ الناس
روى أبو داود والترمذي عن أبي الدَّرداء، قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: “ألا أخبِرُكُم بأفضَلَ من درجةِ الصِّيامِ والصَّلاةِ والصَّدَقَة؟ ” قالوا: بَلَى يا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم – قال: “إصلاحُ ذاتِ البَينِ، وفسادُ ذات البين الحالِقَة” (صححه الألباني في صحيح الترمذي)
روى الطبراني والبزار عن عبد الله بن عمروٍ رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “أفْضَلُ الصدقَةِ إصْلاحُ ذاتِ البَيْنِ” (صححه لغيره في صحيح الترغيب
روى البزار عن أنس رضي الله عنه: أنَّ النبي – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال لأبي أيوبَ: “ألا أدلُّك على تجارةٍ؟ “. قال: بلى. قال: “صِلْ بين الناسِ إذا تفاسدوا، وقرِّب بينهم إذا تباعدوا”. (حسنه لغيره الألباني في صحيح الترغيب)
قال ابن عثيمين:” قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ: باب الإصلاح بين الناس.
الإصلاح بين الناس: هو أن يكون بين شخصين معاداة وبغضاء، فيأتي رجل موفق فيصلح بينهما، ويزيل ما بينهما من العداوة والبغضاء، وكلما كان الرجلان أقرب صلة بعضهما من بعض؛ فإن الصلح بينهما أوكد، يعني أن الصلح بين الأب وابنه أفضل من الصلح بين الرجل وصاحبه، والصلح بين الأخ وأخيه أفضل من الصلح بين العم وابن أخيه، وهكذا كلما كانت القطيعة أعظم؛ كان الصلح بين المتابغضين وبين المتقاطعين أكمل وأفضل وأوكد، واعلم أن الصلح بين الناس من أفضل الأعمال الصالحة” (شرح رياض الصالحين 3/ 32)
قَالَ الله تَعَالَى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114]
قال السعدي:” أي: لا خير في كثير مما يتناجى به الناس ويتخاطبون، وإذا لم يكن فيه خير، فإما لا فائدة فيه كفضول الكلام المباح، وإما شر ومضرة محضة كالكلام المحرم بجميع أنواعه. ثم استثنى تعالى فقال (إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ ْ) من مال أو علم أو أي نفع كان، بل لعله يدخل فيه العبادات القاصرة كالتسبيح والتحميد ونحوه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة” الحديث. (أَوْ مَعْرُوفٍ ْ) وهو الإحسان والطاعة وكل ما عرف في الشرع والعقل حسنه، وإذا أطلق الأمر بالمعروف من غير أن يقرن بالنهي عن المنكر دخل فيه النهي عن المنكر، وذلك لأن ترك المنهيات من المعروف، وأيضا لا يتم فعل الخير إلا بترك الشر. وأما عند الاقتران فيفسر المعروف بفعل المأمور، والمنكر بترك المنهي. (أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ْ) والإصلاح لا يكون إلا بين متنازعين متخاصمين، والنزاع والخصام والتغاضب يوجب من الشر والفرقة ما لا يمكن حصره، فلذلك حث الشارع على الإصلاح بين الناس في الدماء والأموال والأعراض، بل وفي الأديان كما قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ْ) وقال تعالى (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ْ) الآية. وقال تعالى: (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ْ) والساعي في الإصلاح بين الناس أفضل من القانت بالصلاة والصيام والصدقة، والمصلح لا بد أن يصلح الله سعيه وعمله.
كما أن الساعي في الإفساد لا يصلح الله عمله ولا يتم له مقصوده كما قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ْ) فهذه الأشياء حيثما فعلت فهي خير، كما دل على ذلك الاستثناء. ولكن كمال الأجر وتمامه بحسب النية والإخلاص ولهذا قال (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) ” (تفسير السعدي)
قال ابن باز:” ينبغي للمؤمن وهكذا المؤمنة ينبغي للجميع أن تكون أوقاتهما محفوظة مصونة عما يضرهما وعما يضر غيرهما و لا سيما هذا اللسان خطرة عظيم” (شرح رياض الصالحين 1/ 505)
قال ابن عثيمين:” فأنت يا أخي المسلم إذا رأيت بين شخصين عداوة وبغضاء وكراهة، فاحرص على أن تسعى بينهما بالصلح حتى لو خسرت شيئاً من مالك فإنه مخلوف عليك، ثم اعلم أن الصلح يجوز فيه التورية أي أن تقول لشخص: إن فلاناً لم يتكلم فيك بشيء، إن فلاناً يحب أهل الخير وما أشبه ذلك، أو تقول: فلان يحبك إن كنت من أهل الخير، وتضمر في نفسك جملة ((إن كنت من أهل الخير)) لأجل أن تخرج من الكذب.” (شرح رياض الصالحين 3/ 33)
وَقالَ تَعَالَى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128]
قال ابن الحوزي:” والصُّلْحُ خَيْرٌ} قَوْلانِ. أحَدُهُما: خَيْرٌ مِنَ الفِرْقَةِ، قالَهُ مُقاتِلٌ، والزَّجّاجُ. والثّانِي: خَيْرٌ مِنَ النُّشُوزِ والإعْراضِ، ذَكَرَهُ الماوَرْدِيُّ” (زاد المسير)
قال ابن جزي:” {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} لفظ عام يدخل فيه صلح الزوجين وغيرهما، وقيل: معناه صلح الزوجين خير من فراقهما فخير على هذا للتفضيل، واللام في الصلح للعهد” (تفسير ابن جزي)
قال الشوكاني:” والصُّلْحُ خَيْرٌ} لَفْظٌ عامٌّ يَقْتَضِي أنَّ الصُّلْحَ الَّذِي تَسْكُنُ إلَيْهِ النُّفُوسُ ويَزُولُ بِهِ الخِلافُ خَيْرٌ عَلى الإطْلاقِ أوْ خَيْرٌ مِنَ الفُرْقَةِ أوْ مِنَ الخُصُومَةِ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ اعْتِراضِيَّةٌ،” (فتح القدير)
وَقالَ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1]
قال البغوي:” أي: اتقوا الله بطاعته وأصلحوا الحال بينكم بترك المنازعة والمخالفة.
قال ابن كثير:” أي: اتقوا الله في أموركم، وأصلحوا فيما بينكم ولا تظالموا ولا تخاصموا ولا تشاجروا؛ فما آتاكم الله من الهدى والعلم خير مما تختصمون بسببه … وقال ابن عباس: هذا تحريج من الله على المؤمنين أن يتقوا الله ويصلحوا ذات بينهم. وكذا قال مجاهد. ” (تفسير ابن كثير)
قال فيصل آل مبارك:” هذه الآية نزلت حين اختلف الصحابة في غنائم بدر. وهي عامة في كل ما يقع فيه النزاع والاختلاف الذي يورث الشحناء؛ لأنَّ فساد ذات البين مضرة بالدين والدنيا.” (تطريز رياض الصالحين)
وقال تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10].
قال الطبري:” يقول تعالى ذكره لأهل الإيمان به (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) في الدين (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) إذا اقتتلا بأن تحملوهما على حكم الله وحكم رسوله. ومعنى الأخوين في هذا الموضع: كل مقتتلين من أهل الإيمان ”
قال القرطبي:” إنما المؤمنون إخوة أي في الدين والحرمة لا في النسب، ولهذا قيل: أخوة الدين أثبت من أخوة النسب، فإن أخوة النسب تنقطع بمخالفة الدين، وأخوة الدين لا تنقطع بمخالفة النسب.” (تفسير القرطبي)
قال السعدي:” {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} هذا عقد، عقده الله بين المؤمنين، أنه إذا وجد من أي شخص كان، في مشرق الأرض ومغربها، الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، فإنه أخ للمؤمنين، أخوة توجب أن يحب له المؤمنون، ما يحبون لأنفسهم، ويكرهون له، ما يكرهون لأنفسهم … ولقد أمر الله ورسوله، بالقيام بحقوق المؤمنين، بعضهم لبعض، وبما به يحصل التآلف والتوادد، والتواصل بينهم، كل هذا، تأييد لحقوق بعضهم على بعض، فمن ذلك، إذا وقع الاقتتال بينهم، الموجب لتفرق القلوب وتباغضها وتدابرها، فليصلح المؤمنون بين إخوانهم، وليسعوا فيما به يزول شنآنهم. ” (تفسير السعدي)
وقال أيضا:” الإيمان، والأخوة الإيمانية، لا تزول مع وجود القتال كغيره من الذنوب الكبار، التي دون الشرك، وعلى ذلك مذهب أهل السنة والجماعة” (تفسير السعدي)
قال فيصل آل مبارك:” هذه الآية نزلت حين اقتتل بعضُ الصحابة بالسعف والنعال، ثم أخذوا السلاح، فأصلح بينهم النبي – صلى الله عليه وسلم -. وهي عامة في كل نزاع يقع بين المسلمين.” (تطريز)
قال ابن باز بعد ما ذكر آيات الباب:” كل هذا فيه الحث على الإصلاح بين الإخوان، والأسر وجماعة المسلمين؛ لأن الصلح يجمع القلوب ويحصل به التعاون على الخير، وتزول معه الوحشة والشحناء” (شرح رياض الصالحين لاباز 1/ 505)
253 – وعن أَبي هريرة رضي اللَّه عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: “كُلُّ سُلامى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ: تَعْدِلُ بيْن الاثْنَيْنِ صَدقَةٌ، وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ فَتحْمِلُهُ عَلَيْهَا، أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعهُ صَدقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيبةُ صدقَةٌ، وبكُلِّ خَطْوَةٍ تَمْشِيهَا إِلَى الصَّلاةِ صَدقَةٌ، وَتُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ” مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
“ومعنى تَعْدِلُ بَيْنَهُمَا”تُصْلحُ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ.
254 – وعن أُمِّ كُلْثُومٍ بنتِ عُقْبَةَ بن أَبي مُعَيْطٍ رضي اللَّه عنها قَالَتْ: سمِعْتُ رسولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يَقُولُ: “لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمي خَيْراً، أَوْ يَقُولُ خَيْراً “مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية مسلمٍ زيادة، قَالَتْ: وَلَمْ أَسْمَعْهُ يُرَخِّصُ في شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُهُ النَّاسُ إِلاَّ في ثَلاثٍ، تَعْنِي: الحَرْبَ، وَالإِصْلاَحَ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَدِيثَ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ، وَحَديثَ المَرْأَةِ زَوْجَها.
قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس ويقول خيرا، أو ينمي خيرا) روى أبوداود عن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيطٍ رضي الله عنها؛ أنَّ النبيَّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “لَمْ يَكْذِبْ مَنْ نَمَى بينَ اثْنَيْنِ لِيُصْلِحَ” (الصحيحة)
قال المناوي رحمه الله: “ليس الكذاب”؛ أي: ليس يأثم في كذبه، من قبيل ذكر الملزوم وإرادة اللازم”
قال ابن حجر:” (فينمي) بفتح أوله وكسر الميم أي يبلّغ، تقول نميت الحديث أنميه إذا بلغته على وجه الإصلاح وطلب الخير، فإذا بلغته على وجه الإفساد والنميمة قلت: نميته بالتشديد كذا قاله الجمهور … ووقع في رواية ” الموطأ ” ” ينمي ” بضم أوله ” (فتح الباري)
قوله: (أو يقول خيرا) هو شك من الراوي، قال العلماء: المراد هنا أنه يخبر بما علمه من الخير ويسكت عما علمه من الشر ولا يكون ذلك كذبا لأن الكذب الإخبار بالشيء على خلاف ما هو به، وهذا ساكت، ولا ينسب لساكت قول. ولا حجة فيه لمن قال: يشترط في الكذب القصد إليه لأن هذا ساكت (فتح الباري)
قال النووي:” ومعناه: ليس الكذاب المذموم الذي يصلح بين الناس، بل هذا محسن.
قوله: (قالت: ولم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها)
قال ابن علان:” (قالت) أي أم كلثوم كذا في طريق عند مسلم وفي طريق أخرى عنده قال ابن شهاب الزهري: «ولم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث» الحديث فجعل مسلم في تلك الطريق هذه الزيادة من قول الزهري. وفي الطريق التي أشار إليها المصنف قول أم كلثوم” (دليل الفالحين)
قال ابن حجر:” وهذه الزيادة مدرجة، بين ذلك مسلم في روايته من طريق يونس عن الزهري فذكر الحديث قال: وقال الزهري. وكذا أخرجها مفردة من رواية يونس وقال: يونس أثبت في الزهري من غيره، وجزم موسى بن هارون وغيره بإدراجها، ورويناه في ” فوائد ابن أبي ميسرة ” من طريق عبد الوهاب بن رفيع عن ابن شهاب فساقه بسنده مقتصرا على الزيادة وهو وهم شديد” (فتح الباري)
قال القاضي: لا خلاف في جواز الكذب في هذه الصور، واختلفوا في المراد بالكذب المباح فيها ما هو؟ فقالت طائفة: هو على إطلاقه، وأجازوا قول ما لم يكن في هذه المواضع للمصلحة، وقالوا: الكذب المذموم ما فيه مضرة، واحتجوا بقول إبراهيم صلى الله عليه وسلم: {بل فعله كبيرهم} و {إني سقيم} وقوله: ” إنها أختي “، وقول منادي يوسف صلى الله عليه وسلم: {أيتها العير إنكم لسارقون} قالوا: ولا خلاف أنه لو قصد ظالم قتل رجل هو عنده مختف وجب عليه الكذب في أنه لا يعلم أين هو، وقال آخرون منهم الطبري: لا يجوز الكذب في شيء أصلا. قالوا: وما جاء من الإباحة في هذا المراد به التورية، واستعمال المعاريض، لا صريح الكذب، مثل أن يعد زوجته أن يحسن إليها ويكسوها كذا، وينوي إن قدر الله ذلك، وحاصله أن يأتي بكلمات محتملة يفهم المخاطب منها ما يطيب قلبه، وإذا سعى في الإصلاح نقل عن هؤلاء إلى هؤلاء كلاما جميلا، ومن هؤلاء إلى هؤلاء كذلك وورى، وكذا في الحرب بأن يقول لعدوه: مات إمامكم الأعظم، وينوي إمامهم في الأزمان الماضية، أو: غدا يأتينا مدد أي: طعام ونحوه، هذا من المعاريض المباحة، فكل هذا جائز، وتأولوا قصة إبراهيم ويوسف وما جاء من هذا على المعاريض، والله أعلم. وأما كذبه لزوجته وكذبها له فالمراد به في إظهار الود والوعد بما لا يلزم ونحو ذلك، فأما المخادعة في منع ما عليه أو عليها، أو أخذ ما ليس له أو لها فهو حرام بإجماع المسلمين، والله أعلم. ” (شرح النووي)
قال القرطبي:” عني بذلك: أنه لم يرخص في شيء مما يكذب الناس فيه، إلا في هذه الثلاث، وقد جاء لفظ الكذب نصا في كتاب الترمذي، من حديث أسماء بنت يزيد، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يحل الكذب إلا في ثلاث: يحدث الرجل امرأته ليرضيها، والكذب في الحرب، والكذب ليصلح بين الناس. فهذه الأحاديث قد أفادت أن الكذب كله محرم لا يحل منه شيء إلا هذه الثلاثة، فإنَّه رخص فيها لما يحصل بذلك من المصالح، ويندفع به من المفاسد، والأولى ألا يكذب في هذه الثلاثة، إذا وجد عنه مندوحة؛ فإن لم توجد المندوحة أعملت الرخصة. وقد يجب ذلك بحسب الحاجة إلى تلك المصلحة، والضرورة إلى دفع تلك المفسدة، وما ذكرته هو – إن شاء الله – مذهب أكثر العلماء، وقد ذهب الطبري إلى أنه لا يجوز الكذب الصريح بشيء من الأشياء، لا في هذه الثلاثة، ولا في غيرها، متمسِّكًا بالقاعدة الكلية في تحريمه، وتأول هذه الأحاديث على التورية والتعريض، وهو تأويل لا يعضده دليل، ولا تعارض بين العموم والخصوص كما هو عن العلماء منصوص. وأما كذبة تنجي ميتا، أو وليا، أو أمما، أو مظلوما ممن يريد ظلمه، فذلك لا تختلف في وجوبه أمة من الأمم، لا العرب ولا العجم.” (المفهم)
قال ابن حجر:” اتفقوا على أن المراد بالكذب في حق المرأة والرجل إنما هو فيما لا يسقط حقا عليه أو عليها أو أخذ ما ليس له أو لها وكذا في الحرب في غير التأمين واتفقوا على جواز الكذب عند الاضطرار كما لو قصد ظالم قتل رجل وهو مختف عنده فله أن ينفي كونه عنده ويحلف على ذلك ولا يأثم والله أعلم” (فتح الباري)
قال ابن باز:” فكم من كذبة على الزوجة أو كذبة من الزوجة على الزوج أصلح الله به الحال دهرا طويلا” (شرح رياض الصالحين لابن باز 1/ 508)
قال ابن عثيمين بعد أن ذكر الخلاف:” على كل حال فالإنسان المصلح ينبغي له أن يتحرز من الكذب، وإذا كان ولابد فليتأول؛ ليكون بذلك مورياً، والإنسان إذا كان مورياً فلا إثم عليه فيما بينه وبين الله، والتورية جائزة عند المصلحة.” (شرح رياض الصالحين 3/ 40)
وقال أيضا:” لا ينبغي فيما بين الزوجين أن يكثر الإنسان من هذا الأمر؛ لأن المرأة إذا عثرت على شيء يخالف ما حدثها به، فإنه ربما تنعكس الحال وتكرهه أكثر مما كان يتوقع، وكذلك المرأة مع الرجل” (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 3/ 40)