253 جامع الأجوبة الفقهية ص 292
مجموعة ناصر الريسي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف الشيخ د. سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
بلوغ المرام
104 – وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا جلس بين شعبها الأربع, ثم جهدها, فقد وجب الغسل – متفق عليه. زاد مسلم: “وإن لم ينزل”.
——–
مسألة: هل يجب الغسل بالجماع بدون إنزال؟
لو أن رجلاً جامع أهله ولم ينزل فهل يجب عليه الغسل؟، اختلف العلماء في هذا على قولين:
القول الأول: لا يجب الغسل، وهو اختيار جمع من الصحابة والتابعين وقول داوود الظاهري
القول الثاني: أنه يجب الغسل، وهو مذهب الأئمة الأربعة من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة.
قال الترمذي في سننه (1/ 182): وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – منهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعائشة، والفقهاء من التابعين ومن بعدهم: مثل سفيان الثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، قالوا: إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل. اهـ
– انظر: بدائع الصنائع (1/ 36)، تبيين الحقائق (1/ 16)، المدونة (1/ 135)، المنتقى للباجي (1/ 96)، المجموع (2/ 148)، نهاية المحتاج (1/ 212)، المغني (1/ 131)، الإنصاف (1/ 232).
– أدلة القول الأول:
الدليل الأول: عن زيد بن خالد الجهني، سأل عثمان بن عفان فقال: أرأيت إذا جامع الرجل امرأته فلم يمن؟ قال: عثمان يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ويغسل ذكره، قال عثمان: سمعته من رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فسألت عن ذلك علي بن أبي طالب، والزبير ابن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وأبي بن كعب رضي الله عنهم، فأمروه بذلك. أخرجه البخاري (292)، ومسلم (347).
فهذا حديث مسند، عن عثمان، عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – صريح في عدم إيجاب الغسل على من جامع، ولم ينزل.
وأجيب عن هذا بجوابين:
الأول: انفراد يحيى بن أبي كثير بهذا الحديث.
قال ابن عبد البر: هو حديث انفرد به يحيى بن أبي كثير، وقد جاء عن عثمان وعلي وأبي بن كعب ما يدفعه من نقل الثقات الأثبات ويعارضه، وقد دفعه جماعة منهم: أحمد بن حنبل وغيره، وقال: علي وأبي بخلافه
قال يعقوب بن شيبة: سمعت علي بن المديني وذكر حديث يحيى بن أبي كثير هذا، فقال: إسناده جيد، ولكنه حديث شاذ، قال: وقد روي عن عثمان، وعلي، وأبي بن كعب، أنهم أفتوا بخلافه
ثم قال: وقال الأثرم: قلت لأحمد بن حنبل حديث حسين المعلم، عن يحيى ابن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عطاء بن يسار، عن زيد بن خالد، قال: سألت خمسة من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، وطلحة، والزبير، وأبي بن كعب، فقالوا: الماء من الماء، فيه علة تدفعه بها؟ قال: نعم؛ بما يروى عنهم من خلافه، قلت: عن عثمان، وعلي، وأبي بن كعب؟ قال: نعم.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (1/ 397): وقد حكى الأثرم، عن أحمد أن حديث زيد بن خالد المذكور في هذا الباب معلول؛ لأنه ثبت عن هؤلاء الخمسة الفتوى بخلاف ما في هذا الحديث، وقد حكى يعقوب بن شيبة، عن علي بن المديني أنه شاذ، والجواب عن ذلك أن الحديث ثابت من جهة اتصال إسناده، وحفظ رواته، وقد روى ابن عيينة أيضا، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار نحو رواية أبي سلمة، عن عطاء، أخرجه ابن أبي شيبة وغيره، فليس هو فرداً، وأما كونهم أفتوا بخلافه فلا يقدح ذلك في صحته؛ لاحتمال أنه ثبت عندهم ناسخه فذهبوا إليه، وكم من حديث منسوخ، وهو صحيح من حيث الصناعة الحديثية. انتهى
وفي حديث زيد بن خالد الجهني
قال الإمام البخاري: الغسل أحوط ذاك الآخر. وإنما بينا لخلافهم.
وقال يعقوب بن شيبة: هو حديث منسوخ.
وقال الدارقُطني: وهؤلاء الخلفاء الأربعة قد أجمعوا على ذلك. مع أن بعضهم روى عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه. ووافقهم كبار الصحابة ابن مسعود وابن عمر وأبو ذر وأبوهريرة ومعاذ وعائشة.
قال النووي: أجمع على وجوب الغسل وإنما الخلاف. لبعض الصحابة ولمن بعدهم ثم انعقد الإجماع.
الجواب الثاني:
أن هذا الحديث كان في أول الإسلام، ثم نسخ في إيجاب الغسل بالتقاء الختانين وإن لم ينزل.
الدليل الثاني: عن أبي بن كعب أنه قال: يا رسول الله إذا جامع الرجل المرأة فلم ينْزل؟ قال: يغسل ما مس المرأة منه، ثم يتوضأ ويصلي. أخرجه البخاري (293)، ومسلم (346).
الدليل الثالث: عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أرسل إلى رجل من الأنصار، فجاء، ورأسه يقطر، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: لعلنا أعجلناك؟ فقال: نعم، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: إذا أعجلت أو قحطت فعليك الوضوء. البخاري (180)، ومسلم (345).
وأجيب عنه بجوابين:
الأول: قال ابن عبد البر في التمهيد (23/ 108): هذا إسناد صحيح من جهة النقل ثابت، ولكنه يحتمل التأويل؛ لأن قوله (الماء من الماء) ليس فيه ما يدفع الماء من التقاء الختانين؛ لأن من أوجب الغسل من التقاء الختانين يقول: الماء من الماء ومن التقاء الختانين أيضا، فهي زيادة حكم.
الجواب الثاني:
قالوا: إن المراد ” الماء من الماء ” في الاحتلام لا في اليقظة، وهذا مجمع عليه، فيمن رأى أنه يجامع ولم ينزل أنه لا غسل عليه، وقد روي مثل ذلك عن ابن عباس.
– أدلة القول الثاني:
الدليل الأول: عن أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: إذا جلس بين شعبها الأربع، ثم جهدها فقد وجب الغسل. أخرجه البخاري (291) ومسلم (348).
الدليل الثاني: ما رواه مسلم من طريق هشام، عن حميد بن هلال، عن أبي بردة،
عن أبي موسى قال: اختلف في ذلك رهط من المهاجرين والأنصار، فقال الأنصاريون: لا يجب الغسل إلا من الدفق، أو من الماء. وقال المهاجرون: بل إذا خالط فقد وجب الغسل. قال: قال أبو موسى: فأنا أشفيكم من ذلك، فقمت فاستأذنت على عائشة، فأذن لي، فقلت لها: يا أماه أو يا أم المؤمنين إني أريد أن أسألك عن شيء، وإني أستحييك، فقالت: لا تستحيي أن تسألني عما كنت سائلا عنه أمك التي ولدتك، فإنما أنا أمك. قلت فما يوجب الغسل؟ قالت: على الخبير سقطت، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: إذا جلس بين شعبها الأربع، ومس الختان الختان فقد وجب الغسل. أخرجه مسلم (349).
ورواه مالك في الموطأ (1/ 46): عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، أنا أبا موسى أتى عائشة فذكر نحوه موقوفاً على عائشة، وقال أبو موسى في آخره: لا أسأل عن هذا أحداً بعدك أبداً. انتهى
قال ابن عبد البر في التمهيد (23/ 100): وهذا الحديث يدخل في المسند بالمعنى والنظر؛ لأنه محال أن ترى عائشة نفسها في رأيها حجة على غيرها من الصحابة حين اختلافهم في هذه المسألة النازلة بينهم، ومحال أن يسلم أبو موسى لعائشة قولها من رأيها في مسألة قد خالفها فيها من الصحابة غيرها برأيه؛ لأن كل واحد ليس بحجة على صاحبه عند التنازع؛ لأنهم أمروا إذا تنازعوا في شيء أن يردوه إلى كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم -، وهذا يدلك على أن تسليم أبي موسى لعائشة في هذه المسألة إنما كان من أجل أن علم ذلك كان عندها عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلذلك سلم لها؛ إذ هي أولى بعلم مثل ذلك من غيرها. انتهى
الدليل الثالث: عن أبي بن كعب أن الفتيا التي كانوا يفتون أن الماء من الماء كانت رخصة رخصها رسول الله في بدء الإسلام، ثم أمر بالاغتسال بعد.
اخرجه أبي داود في سننه (215). والدارمي (760)، وابن خزيمة (226)، وابن حبان (1179)، والطبراني (538)، والدارقطني (1/ 126) والبيهقي (1/ 166).
الدليل السادس:
أن بعض من كان يرى عدم وجوب الغسل إلا بالإنزال قد رجع إلى وجوب الغسل، وهذا يدل على أنه ثبت عنده ما يدل على نسخ حكم إنما الماء من الماء.
عن عبد الله بن كعب مولى عثمان بن عفان، أن محمود بن لبيد الأنصاري سأل زيد بن ثابت عن الرجل يصيب أهله ثم يكسل ولا ينزل؟ فقال زيد: يغتسل. فقال له محمود: إن أبي بن كعب كان لا يرى الغسل. فقال له زيد بن ثابت: إن أبي ابن كعب نزع عن ذلك قبل أن يموت. انظر: الموطأ (1/ 47)، ومن طريق مالك أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 166).
قال الشافعي: لا أحسبه تركه إلا أنه ثبت له أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال بعده ما نسخه. اهـ انظر: نصب الراية (1/ 84).
وقال البيهقي في سننه (1/ 166).: قول أبي بن كعب الماء من الماء، ثم نزوعه عنه، يدل على أنه ثبت له أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال بعدُ ما نسخه، وكذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه وعلي بن أبي طالب. انتهى
وعن سعيد بن المسيب، أن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعائشة زوج النبي – صلى الله عليه وسلم – كانوا يقولون إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل. ومن طريق مالك أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 57). وانظر إتحاف المهرة (13667).
قول الأثرم: قلت لأحمد بن حنبل: حديث حسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عطاء بن يسار، عن زيد بن خالد قال: سألت خمسة من أصحاب رسول الله: عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وطلحة، والزبير، وأبي بن كعب، فقالوا: الماء من الماء، فيه علة تدفعه بها؟ قال: نعم بما يروى عنهم من خلافه. قلت: عن عثمان وعلي وأبي بن كعب؟ قال: نعم. انظر: التمهيد (23/ 111).
– قال صاحب موسوعة أحكام الطهارة (11/ 48):
وسبب الخلاف في ذلك: ما جاء من النصوص الصحيحة الصريحة في عدم إيجاب الغسل من مجرد الإيلاج حتى يحصل إنزال، وقد قيل: إن هذا الحكم كان في أول الإسلام، ثم نسخ هذا الحكم بالأمر بالغسل بالتقاء الختانين، ولو لم يكن إنزال، فمن بلغه النسخ أخذ به، ومن لم يبلغه النسخ، لم يوجب الغسل حتى يحصل الإنزال. انتهى
– قال ابن قدامة في المغني (1/ 149):
تغييب الحشفة في الفرج، فإن هذا هو الموجب للغسل، سواء كانا مختتنين أو لا، وسواء أصاب موضع الختان منه موضع ختانها أو لم يصبه. ولو مس الختان الختان من غير إيلاج فلا غسل بالاتفاق واتفق الفقهاء على وجوب الغسل في هذه المسألة، إلا ما حكي عن داود أنه قال: لا يجب؛ لقوله – عليه السلام – «الماء من الماء» وكان جماعة من الصحابة – رضي الله عنهم -، يقولون: لا غسل على من جامع فأكسل. يعني: لم ينزل. انتهى
– قال النووي في المجموع شرح المهذب (2/ 136):
مذهبنا أن الإيلاج في فرج المرأة … يوجب الغسل وإن لم ينزل وبهذا قال جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وقال داود لا يجب ما لم ينزل وبه قال عثمان بن عفان وعلي وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وأبو سعيد الخدري رضي الله عنهم: ثم منهم من رجع عنه إلى موافقة الجمهور ومنهم من لم يرجع. انتهى
– قال الشوكاني في النيل:
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَازِمِيُّ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ آثَارًا تَدُلُّ عَلَى النَّسْخِ، وَلَوْ فُرِضَ عَدَمُ التَّأَخُّرِ لَمْ يَنْتَهِضْ حَدِيثُ ” الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ ” لِمُعَارَضَةِ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ؛ لِأَنَّهُ مَفْهُومٌ، وَهُمَا مَنْطُوقَانِ، وَالْمَنْطُوقُ أَرْجَحُ مِنْ الْمَفْهُومِ.
– قال الشيخ ابن عثيمين فقه العبادات (ص: 11):
وهذه المسألة أعني الجماع بدون إنزال يخفى حكمها على كثير من الناس، حتى إن بعض الناس تمضي عليه الأسابيع أو الشهور، وهو يجامع زوجته بدون إنزال ولا يغتسل جهلاً منه، وهذا أمر له خطورته، فالواجب على الإنسان أن يعلم حدود ما أنزل الله على رسوله، فإن الإنسان إذا جامع زوجته وإن لم ينزل، وجب الغسل عليه وعليها، للحديث الذي أشرنا إليه آنفاً.
وقال رحمه الله في فتاوى أركان الإسلام (ص: 31):
وهذه المسألة قد تخفى على كثير من النساء، تظن المرأة بل وربما يظن الرجل أن الجماع إذا لم يكن إنزال فلا غسل فيه، وهذا جهل عظيم، فالجماع يجب فيه الغسل على كل حال، وما عدا الجماع من الاستمتاع لا يجب فيه الغسل إلا إذا حصل الإنزال. انتهى
– قال الشيخ البسام في توضيح الأحكام عند شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه (1/ 371):
ما يؤخذ من الحديث:
1 – الشعب الأربع هنا: يدا المرأة ورجلاها، وجلوس الرجل بينها أثناء الجماع هي أليق صفة من صفات الجماع، مع جواز غيرها، ما دام الإيلاج في مكان الحرث، وهو القبل.
2 – أن نفس الإيلاج بتغييب الحشفة موجب للغسل، وإن لم يحصل إنزال.
3 – المراد بالجهد هنا الكد بحركته، الذي يكون مع الإيلاج، ويفسره رواية أبي داود (216): “وألزق الختان بالختان، ثم جهدها”.
4 – أن منطوق الحديث ناسخ لمفهوم حديث أبي سعيد السابق، ودليل النسخ ما رواه الإمام أحمد (5/ 116) عن أبي بن كعب قال: “كانوا يقولون: إن الماء من الماء، رخصة، كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رخص بها في أول الإسلام، ثم أمر بالاغتسال بعده”، صححه ابن خزيمة وابن حبان، وقال الإسماعيلي: إنه صحيح على شرط البخاري، وهو صريح بالنسخ، ويؤيد هذا الحديث الآية الكريمة: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} [المائدة: 6].
قال الشافعي: الجنابة تطلق بالحقيقة على الجماع ولو لم يحصل إنزال.
أما منطوق حديث أبي سعيد: فليس منسوخا بحديث أبي هريرة؛ فإن الإنزال يوجب الغسل.
5 – قوله: “فقد وجب الغسل” فيه دلالة على أنه ليس على الفور؛ وهو إجماع العلماء.
والله أعلم …