242 – فتح الاحد الصمد شرح الصحيح المسند
مجموعة: عبدالله الديني
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا).
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
الصحيح المسند:
242 – قال الامام أحمد رحمه الله (ج3 ص334): ثنا حجين بن المثنى أبو عمرو ثنا ليث عن أبي الزبير عن جابر قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه و سلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يُغْزى أو يُغْزَوْا فإذا حضر ذلك أقام حتى ينسلخ.
……………………..
قال محققو المسند:
وحديث (فإذا حضر ذاك أقام) فإذا
غُزِي قاتل ودافع عن الإسلام والمسلمين حتى يندحر الغزاة.
ولم يعزوا هذا المعنى لأحد
وذكر ابن رجب في لطائف المعارف أن معناه: أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر ولم يقاتل
وسيأتي نقل كلامه كاملا بإذن الله
قال ابن كثير في تفسيره:
وحَبَسَه المُشْرِكُونَ عَنِ الدُّخُولِ والوُصُولِ إلى البَيْتِ، وصَدُّوهُ بِمَن مَعَهُ مِنَ المُسْلِمِينَ فِي ذِي القعْدة، وهُوَ شَهْرٌ حَرامٌ، حَتّى قاضاهُمْ عَلى الدُّخُولِ مِن قابِلٍ، فَدَخَلَها فِي السَّنَةِ الآتِيَةِ، هُوَ ومَن كانَ [مَعَهُ] ((1)) مِنَ المُسْلِمِينَ، وأقَصه اللَّهُ مِنهُمْ، فَنَزَلَتْ فِي ذَلِكَ هَذِهِ الآيَةُ: {الشَّهْرُ الحَرامُ بِالشَّهْرِ الحَرامِ والحُرُماتُ قِصاصٌ}
وقالَ الإمامُ أحْمَدُ: حَدَّثَنا إسْحاقُ بْنُ عِيسى، حَدَّثَنا لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قالَ: لَمْ يَكُنْ رسولُ اللَّهِ ? يَغْزُو فِي الشَّهْرِ الحَرامِ إلّا أنْ يُغْزى ويُغْزَوا ((2)) فَإذا حَضَرَهُ أقامَ حَتّى يَنْسَلِخَ ((3)).
هَذا إسْنادٌ صَحِيحٌ؛ ولِهَذا لَمّا بَلَغَ النَّبِيَّ ? -وهُوَ مُخَيِّم بِالحُدَيْبِيَةِ -أنَّ عُثْمانَ قَدْ قُتِلَ -وكانَ قَدْ بَعَثَهُ فِي رِسالَةٍ إلى المُشْرِكِينَ -بايَعَ أصْحابَهُ، وكانُوا ألْفًا وأرْبَعَمِائَةٍ تحتَ الشَّجَرَةِ عَلى قِتالِ المُشْرِكِينَ، فَلَمّا بَلَغَهُ أنَّ عُثْمانَ لَمْ يقْتل كَفَّ عَنْ ذَلِكَ، وجَنَحَ إلى المُسالِمَةِ والمُصالِحٍةِ، فَكانَ ما كانَ.
وكَذَلِكَ لَمّا فَرَغَ مِن قِتالِ هَوازِن يَوْمَ حُنَيْنٍ وتَحَصَّن فَلُّهم بِالطّائِفِ، عَدَل إلَيْها، فحاصَرَها ودَخَلَ ذُو القَعْدة وهُوَ مُحاصِرُها بِالمَنجَنِيقِ، واسْتَمَرَّ عَلَيْها إلى كَمالِ أرْبَعِينَ يَوْمًا، كَما ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أنَسٍ ((4)). فَلَمّا كَثُرَ القَتْلُ فِي أصْحابِهِ انْصَرَفَ عَنْها ولَمْ تُفْتَحْ، ثُمَّ كَرَّ راجِعًا إلى مَكَّةَ واعْتَمَرَ مِنَ الجِعْرانَةِ، حَيْثُ قَسَّمَ غَنائِمَ حُنين
الآية (194) من سورة البقرة
وأكثر أهل العلم على نسخ تحريم القتال في الأشهر الحرم:
قال ابوعبيد في الناسخ والمنسوخ بعد أن ذكر حديث جابر:
– حَدَّثَنا أبُو عُبَيْدٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو الأسْوَدِ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ، أبِيهِ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأشَجِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ، أنَّهُ سُئِلَ: «هَلْ يَصْلُحُ لِلْمُسْلِمِينَ أنْ يُقاتِلُوا الكُفّارَ فِي الشَّهْرِ الحَرامِ؟ قالَ: نَعَمْ» قالَ: وقالَ ذَلِكَ سُلَيْمانُ بْنُ يَسارٍ -[(208)]- قالَ أبُو عُبَيْدٍ: «والنّاسُ اليَوْمَ بِالثُّغُورِ جَمِيعًا عَلى هَذا القَوْلِ يَرَوْنَ الغَزْوَ مُباحًا فِي الشُّهُورِ كُلِّها حَلالِها وحَرامِها، لا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ، ثُمَّ لَمْ أرْ أحَدًا مِن عُلَماءِ الشّامِ ولا العِراقِ يُنْكِرُهُ عَلَيْهِمْ، وكَذَلِكَ أحْسَبُ قَوْلَ أهْلِ الحِجازِ، والحُجَّةُ فِي إباحَتِهِ عِنْدَ عُلَماءِ الثُّغُورِ قَوْلُ اللَّهِ تَبارَكَ وتَعالى: فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وجَدْتُمُوهُمْ» قالَ أبُو عُبَيْدٍ: «فَهَذِهِ الآيَةُ هِيَ النّاسِخَةُ عِنْدَهُمْ لِتَحْرِيمِ القِتالِ فِي الشَّهْرِ الحَرامِ، فَهَذا ناسِخُ القِتالِ ومَنسُوخُهُ»
فقال النحاس في الناسخ والمنسوخ:
بابُ ذِكْرِ الآيَةِ السّادِسَةَ عَشْرَةَ قالَ جَلَّ وعَزَّ: {يَسْألُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة (217)] الآيَةَ العُلَماءُ عَلى أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَنسُوخَةٌ وأنَّ قِتالَ المُشْرِكِينَ فِي الأشْهُرِ الحُرُمِ مُباحٌ غَيْرَ عَطاءٍ فَإنَّهُ قالَ: «الآيَةُ مُحْكَمَةٌ ولا يَجُوزُ القِتالُ فِي الأشْهُرِ الحُرُمِ»
ويَحْتَجُّ لَهُ بِما حَدَّثَناهُ إبْراهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، قالَ: حَدَّثَنا أحْمَدُ يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ، قالَ: حَدَّثَنا لَيْثٌ، عَنْ أبِي -[(122)]- الزُّبَيْرِ، عَنْ جابِرٍ، قالَ: «كانَ رَسُولُ اللَّهِ ? لا يُقاتِلُ فِي الشَّهْرِ الحَرامِ إلّا أنْ يُغْزى أوْ يَغْزُوَ فَإذا حَضَرَ ذَلِكَ أقامَ حَتّى يَنْسَلِخَ» قالَ أبُو جَعْفَرٍ: وهَذا الحَدِيثُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ قَبْلَ نَسْخِ الآيَةِ، وابْنُ عَبّاسٍ، وسَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ، وسُلَيْمانُ بْنُ يَسارٍ، وقَتادَةُ، والأوْزاعِيُّ عَلى أنَّ الآيَةَ مَنسُوخَةٌ …. قالَ أبُو جَعْفَرٍ: وقَدْ قامَتِ الحُجَّةُ بِأنَّ قَوْلَهُ جَلَّ وعَزَّ {يَسْألُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرامِ قِتالٍ فِيهِ} [البقرة (217)] مَنسُوخٌ بِما ذَكَرْناهُ مِن نَصِّ القُرْآنِ وقَوْلِ العُلَماءِ وأيْضًا فَإنَّ النَّقْلَ يُبَيِّنُ ذَلِكَ؛ لِأنَّهُ نُقِلَ إلَيْنا أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي جُمادى الآخِرَةِ أوْ فِي رَجَبٍ فِي السَّنَةِ الثّانِيَةِ مِن هِجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ ? إلى المَدِينَةِ وقَدْ قاتَلَ رَسُولُ اللَّهِ ? هَوازِنَ بِحُنَيْنٍ وثَقِيفًا بِالطّائِفِ فِي شَوّالٍ -[(125)]- وذِي القِعْدَةِ وذُو القِعْدَةِ مِنَ الأشْهُرِ الحَرَمِ وذَلِكَ فِي سَنَةِ ثَمانٍ مِنَ الهِجْرَةِ انتهى
قال الطحاوي في مشكله: أحاديث تحريم القتال في الأشهر الحرم منسوخه بسورة براءة وأورد أثر عبدالله بن صالح عن معاوية عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: براءة من الله ….
وذكر نسخ العهود وأن القتال صار عام للمشركين حتى في الأشهر الحرم
وسيأتي عرض الأقوال واختيار ابن تيمية.
الأشهر الحرم
تعريفها:
هذه الأشهرالحرم الأربعة هي الثلاثة المتتابعة: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم،
ورجب الفرد؛ يسمونه الفرد لأنه منفرد عن هذه الثلاثة في تتابعها.
ونلاحظ من الآيات ما يلي:
أولا: هذه الأشهر حرم، ومعنى أنها أشهر (حرم) أي محرمة لا يقاتل فيها إلا من اعتدى.
ثانيا: الأمر بالعدل ودفع الظلم، والعدل مع النفس يعني عدم تركها في المعاصي، والعدل مع الغير يعني توصيل الحقوق لهم، ودفع ظلمهم.
ثالثا: الحث على التقوى، وهي تعني الخشية والخوف من الله تعالى والعمل بما أنزل، فكأن الإنسان في كل حركاته يتحرك بميزان الشرع فلا يحيد عنه ولا
ورد في الصحيحين من حديث أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي:= قال:
“إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم،
ورجب، شهر مُضر، الذي بين جمادى وشعبان”.
والمعنى أن الزمن عاد إلى أصل الحساب والوضع الذي اختاره الله ووضعه يوم خلق السماوات والأرض، وذلك أن العرب كانوا يؤخرون المحرم ليقاتلوا فيه،
وهكذا يؤخرونه كل سنة فينتقل من شهر إلى شهر حتى جعلوه في جميع شهور السنة، فلما كانت تلك السنة التي حج بها رسول الله:=
حجة الوداع كان قد عاد إلى زمنه المخصوص به.
وقوله: ورجب شهر مضر الذي بين جمادى وشعبان، لأن ربيعة كانوا يحرمون شهر رمضان ويسمونه رجباً،
وكانت مضر تحرم رجباً نفسه، ولهذا قال النبي:=: “الذي بين جمادى وشعبان” تأكيداً وبياناً لصحة ما سارت عليه مُضر.
فيها أيامٌ مباركة:
وقد جعلت هذه الأشهر حرماًَ، وكل الأشهر يحرم فيها ما حرمه الله ويعظم فيها ما عظمه الله،
ولكن كانت هذه عند الجاهلية معظمة لا يمسون فيها أعداءهم، ويمسكون فيها عن الاعتداء أو عن الحرب فيها ونحو ذلك،
فجعلها الإسلام كذلك أشهراً معظمة محرمة في جملتها وخص بعض أيامها بمزيد من الكرامة والتعظيم:
عشر ذو الحجة أفضل أيام الدنيا يستحب فيها الصيام وفعل الطاعات وفيها:
يوم عرفة يوم يباهي الله بعباده الملائكة, ويوم النحر عيدٌ وأضحية.
وأيام التشريق أيام أكل وشربٌ وذكرٌ لله تعالى.
ويوم عاشوراء يوم أنجى الله موسى ومن معه من المؤمنين، وأهلك فرعون ومن معه من الكافرين المتمردين.
الطاعات في شهر المحرم:
الأشهر الحرم يستحب فيها تزكية النفس ومراجعتها، والتقرب لله تعالى لتحقيق التقوى،
ومن هذه الطاعات ما ورد من الحث على صوم يوم عرفة واستحباب الصوم في شهر محرم
المعاصي في الأشهر الحرم:
وإذا كانت الطاعات مندوبة في كل العام فإن المعاصي في الأيام المباركة تدل على جفاء النفس وعدم تجاوبها مع مواسم الطاعة ودعوات الخير، وبالتالي فمضاعفة العذاب وارد.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) أي في هذه الأشهر المحرمة، لأنها آكد، وأبلغ في الإثم من غيرها، كما أن المعاصي في البلد الحرام تضاعف،
لقوله تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الحج:25].
وكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الآثام، ولهذا تغلظ فيه الدية في مذهب الشافعي وطائفة كثيرة من العلماء، وكذا في حق من قَتل في الحرم أو قتل ذا محرم، ثم نقل عن قتادة قوله: إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزراً من الظلم في سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً، ولكن الله يعظم في أمره ما يشاء. انتهى.
وقال القرطبي رحمه الله: لا تظلموا فيهن أنفسكم بارتكاب الذنوب، لأن الله سبحانه إذا عظم شيئاً من جهة واحدة صارت له حرمة واحدة، وإذا عظمه من جهتين أو جهات صارت حرمته متعددة فيضاعف فيه العقاب بالعمل السيء، كما يضاعف الثواب بالعمل الصالح، فإن من أطاع الله في الشهر الحرام في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام، ومن أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في شهر حلال في بلد حلال، وقد أشار الله إلى هذا بقوله: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَاتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً) [الأحزاب:30]. انتهى كلام القرطبي.
أحكام تتعلق بالأشهر الحرم:
ظن كثير من الناس أن القتال في الأشهر الحرم، وصيد البر فيها والزواج كذلك محظور،
والحقيقة أن الأمر مختلف، فقد أباحت الشريعة هذه الأمور.
القتال في الأشهر الحرم:
هل نسخ تحريم الأشهر الحرم؟
تحريم الأشهر الحرم في أول الأمر محل اتفاق، وقد دلت عليه النصوص والآيات، فمنها قوله تعالى: (منها أربعة حرم)، وقوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعآئر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي) الآية، والنهي عن تحليلها حكم صريح بحرمتها، وقوله: (إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطؤوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله) فأخبر الله أنه حرم الأشهر، وذكر أن الكفار استحلوها على جهة الإنكار عليهم، وجعل ذلك كفرا منهم.
كما دلت عليه الأحاديث، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: “ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا”، وذهب أحمد والشافعي ومالك وأبو حنيفة، وجماهير السلف والخلف إلى أن تحريم القتال في الأشهر الحرم منسوخ، واختلفوا في الناسخ:
فمنهم من قال: إن الناسخ قوله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة)، وهو قول الشافعي، وجهه أن الله عم الأزمان فقال: (حتى لا تكون فتنة)، فدل على أن ما قبل هذه الغاية مأمور فيه بالقتال.
ومنهم من قال: إن الناسخ قوله تعالى: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)، ووجهه أنه عموم مؤكد بقوله تعالى: (حيث وجدتموهم)، والأول أقوى دلالة على النسخ لأن الثاني نص على الأمكنة، والأول نص على الأزمنة، والأشهر الحرم من الأزمنة.
وجميع آيات السيف والقتال، يحتمل أن تكون ناسخة لتحريم الأشهر الحرم، ولكنها مجملة في النسخ غير مبينة، فلا يكتفى بها في ذلك بل لا بد من دليل مبين للنسخ، لما تقرر من أن العام لا ينسخ الخاص، إلا أن السنة جاءت مبينة لها، فقاتل النبي صلى الله عليه وسلم بعد آيات براءة أهل الطائف، وأرسل سرية إلى أوطاس، في الأشهر الحرم.
وأمثل ما ذكروا أنه الناسخ، قوله تعالى: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كآفة كما يقاتلونكم كآفة)، وهو قول الزهري وغيره.
وجهه أن الآية جمعت بين تحريم الأشهر الحرم وقتال المشركين، وقوله قاتلوا المشركين، متعلق به محذوف تقديره “فيهن”، كما تقول: فلا تأكل منه ولا تشرب، تعني: ولا تشرب منه، وعلى هذا التوجيه يكون نصا خاصا في القتال في الأشهر الحرم.
وإن نوزع في التقدير الذي يقتضي أن الآية نص في إباحة الأشهر الحرم، فقد يقال إن الآية عامة في القتال، ووردت في سياق الأشهر الحرم فهي داخلة فيها بدلالة السياق.
فتكون الآية قررت أحد حكمي الأشهر الحرم، وهو تغليظ المعاصي عموما، ونسخت الآخر، وهو تحريم القتال فيهن.
وذهب عطاء، ونصره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم: إلى بقاء حكم الأشهر الحرم، واستدلوا بحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم: “كان لا يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى، فإذا حضره أقام حتى ينسلخ”، ولا يخفى أن دلالته ضعيفة، لأمرين:
الأول: أن الترك لا يلزم منه التحريم، فقد يكون مجانبة لما يشنع عليه العرب به، كما ترك قتل بعض المنافقين الذين لم تقم عليهم بينة بكفر صريح، لئلا يقال إن محمدا يقتل أصحابه.
الثاني: أن كلام جابر يحتمل أنه حكاية منه لحال النبي صلى الله عليه وسلم قبل النسخ، والنزاع ليس في تحريم الأشهر الحرم أول الأمر، وإنما النزاع في صحة النسخ.
واستدلوا بعمومات النصوص المحرمة للأشهر الحرم، وأجاب شيخ الإسلام ثم من تبعه عن غزو النبي صلى الله عليه وسلم للطائف بأنه تبعا لقتال هم بدؤوه فيه، فهو تبع لقتال هوازن، لما انهزم ملكهم إلى الطائف فاحتمى بحصن ثقيف فيها، وعن سرية أوطاس بأنها من تمام الغزوة التي بدأ النبي صلى الله عليه وسلم الكفار فيها بالقتال.
والظاهر والله أعلم، أن الصواب ما رجحه أبو العباس ابن تيمية، لعموم النصوص المحرمة للأشهر الحرم وتوكيدها، فهي محرمة (يوم خلق السماوات والأرض)، ووصف الله القتال في الشهر الحرام بأنه كبير كما في قوله: (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير) فيبعد أن يكون حلالا بعد تغليظ تحريمه.
ونهى الله عن تحليل الشهر الحرام كما في قوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعآئر الله ولا الشهر الحرام)، وذلك في سورة المائدة وهي من آخر القرآن نزولا، وأظهر ما يتنزل عليه التحليل المنهي عنه هو القتال.
وفي الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم النحر عام حجة الوداع، فذكر في خطبته أنه قال: “أي شهر هذا؟ “، فسكت الصحابة حتى ظنوا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: “أليس بذي الحجة؟ “، ثم قال في آخر الحديث: “فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا”.
وهذا الحديث متأخر منه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، بعد سرية أوطاس، وبعد حصار الطائف، فلا يمكن أن تكون تلك الغزوات دليلا على النسخ مع ثبوت الحكم بعدها، وهذا من أقوى الوجوه.
وفيه أيضا: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الشهر الحرام دليلا على ثبوت الحرمة وتغليظها، ولا يمكن أن تؤكد حرمة الشهر الحرام بما هو أضعف منها، بل بما صار بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم حلالا مباحا لا شيء فيه، وأقل ما في تشبيه حرمة الدماء والأموال والأعراض بحرمة الشهر الحرام، استواء الحرمتين في الثبوت والديمومة، وفي التغليظ والقوة، وظاهر الحديث أن حرمة الشهر الحرام إذا اجتمعت مع حرمة البلد الحرام، وحرمة يوم النحر، أغلظ من حرمة الدم والمال، والظاهر أن هذا الظاهر غير مراد، وإنما أكد الحكم المجهول لدى أكثرهم بالحكم الذي يعرفونه ويقرون به، مع العلم بأن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان ليؤكد الحكم الغليظ ويبين استمراره، بحكم مؤقت يعلمون نسخة بعد هذا الكلام بمدة يسيرة.
وقال جل وعلا: (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد) فبين أنه جعلها قياما للناس يقوم بها أمرهم ويأمنون ويسعون في معايشهم، ومثل هذا لا غنى عنه للناس في أي زمان، وقد قرن الله سبحانه بين الكعبة والشهر الحرام في هذا المقصد وهذا الأمر، والكعبة حرام لا تحل إلى يوم الدين، فدلالة الاقتران تقتضي أن الشهر الحرام كذلك.
ودعوى النسخ لا تستقيم في شيء من النصوص التي استدلوا بها:
فأما العمومات؛ فلأن نصوص التحريم خاصة، فما جاء عاما بعدها حمل على ما عدا الأشهر الحرم، والعام لا ينسخ الخاص، وما ذكروا من السنة لا ينتهض على الدلالة على النسخ، لما ذكر أبو العباس ابن تيمية رحمه الله، من أنها كانت تبعا لا ابتداء، ولما ذكره ابن العربي من أنها نصوص ضعيفة، وهذا يحتاج إلى تحرير، والله أعلم.
وأما قوله تعالى: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كآفة كما يقاتلونكم كآفة)؛ فهو وإن كان أظهر من غيره في النسخ إلا أنه لا ينتهض به، فقوله (كما يقاتلونكم كآفة) يحمل على قتالهم معاملة بالمثل لا ابتداء، فيكون موافقا لقوله تعالى: (الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص)، وتكون الكاف فيه للتعليل.
وقد يقال أيضا: إن كان قوله: (قاتلوا المشركين كآفة)، داخلا فيه الأشهر الحرم، فإن قوله:) كما يقاتلونكم كآفة) كذلك لا محالة، فدل على أن المراد قوم من المشركين يقاتلوننا كافة في الشهر الحرام وغيره، وهؤلاء لا خلاف في مقاتلتهم في الشهر الحرام كما يأتي بإذن الله.
وقد يقال: إن لفظ (حرم) في الآية تضمن تحريم القتال، فيكون العموم في قوله (كآفة) متعلقا بمحذوف تقديره “بعدها” أو نحوه، فيكون كقولك: هذا الشهر حرام، وافعل ما بدا لك في كل وقت، فيفهم منه: ما عدا الشهر المحرم.
وتبقى النصوص المحكمة الظاهرة الصريحة، المؤكدة بأنواع المؤكدات، سالمة على ظاهرها، من غير معارض، وتجتمع النصوص عليه بلا إشكال.
والله أعلم. انتهى كلام الباحث
قال ابن كثير رحمه الله:
وَقَوْلُهُ: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} أَيْ: جَمِيعَكُمْ ((17)) {كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} أَيْ: جَمِيعَهُمْ، {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَحْرِيمِ ابْتِدَاءِ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ: هَلْ هُوَ مَنْسُوخٌ أَوْ مُحْكَمٌ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا -وَهُوَ الْأَشْهَرُ: أَنَّهُ مَنْسُوخٌ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ هَاهُنَا: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} وَأَمَرَ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ وَظَاهِرُ السِّيَاقِ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ أَمْرًا عَامًّا، فَلَوْ كان محرما ما فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ لَأَوْشَكَ أَنْ يُقَيِّدَهُ بِانْسِلَاخِهَا؛ وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ? حَاصَرَ أَهْلَ الطَّائِفِ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ -وَهُوَ ذُو الْقَعْدَةِ -كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى هَوَازِنَ فِي شَوَّالَ، فَلَمَّا كَسَرَهُمْ وَاسْتَفَاءَ أَمْوَالَهُمْ، وَرَجَعَ فَلُّهم، فَلَجَئُوا إِلَى الطَّائِفِ -عَمد إِلَى الطَّائِفِ فَحَاصَرَهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَانْصَرَفَ وَلَمْ يَفْتَتِحْهَا ((18)) فَثَبَتَ أَنَّهُ حَاصَرَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ.
وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: أَنَّ ابْتِدَاءَ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ حَرَامٌ، وَأَنَّهُ لَمْ يُنْسَخْ تَحْرِيمَ الْحَرَامِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} [الْآيَةَ] ((19)) [الْمَائِدَةِ: (2)] وَقَالَ: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: (194)] وَقَالَ: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [الْآيَةَ] [التَّوْبَةِ: (50)] ((20))
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا الْأَرْبَعَةُ الْمُقَرَّرَةُ فِي كُلِّ سَنَةٍ، لَا أَشْهَرُ التَّسْيِيرِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ عَمَّا قَبْلَهُ، وَأَنَّهُ حُكْمٌ مُسْتَانَفٌ، وَيَكُونُ مِنْ بَابِ التَّهْيِيجِ وَالتَّحْضِيضِ، أَيْ: كَمَا يَجْتَمِعُونَ لِحَرْبِكُمْ إِذَا حَارَبُوكُمْ فَاجْتَمِعُوا أَنْتُمْ أَيْضًا لَهُمْ إِذَا حَارَبْتُمُوهُمْ، وَقَاتِلُوهُمْ بِنَظِيرِ مَا يَفْعَلُونَ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَذِنَ للمؤمنين بقتال الْمُشْرِكِينَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ إِذَا كَانَتِ الْبُدَاءَةُ مِنْهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [الْبَقَرَةِ: (194)] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: (191)]، وَهَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ حِصَارِ رَسُولِ اللَّهِ ? أَهْلَ الطَّائِفِ، وَاسْتِصْحَابِهِ الْحِصَارَ إِلَى أَنْ دَخَلَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ، فَإِنَّهُ مِنْ ((21)) تَتِمَّةِ قِتَالِ هَوَازِنَ وَأَحْلَافِهَا مِنْ ثَقِيفٍ، فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ ابْتَدَءُوا الْقِتَالَ، وَجَمَعُوا الرِّجَالَ، وَدَعَوْا إِلَى الْحَرْبِ وَالنِّزَالِ، فَعِنْدَمَا قَصَدَهُمْ رَسُولِ اللَّهِ ? كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَمَّا تَحَصَّنُوا بِالطَّائِفِ ذَهَبَ إِلَيْهِمْ لِيُنْزِلَهُمْ مِنْ حُصُونِهِمْ، فَنَالُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَتَلُوا جَمَاعَةً، وَاسْتَمَرَّ الْحِصَارُ بِالْمَجَانِيقِ وَغَيْرِهَا قَرِيبًا مِنْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا.
وَكَانَ ابْتِدَاؤُهُ فِي شَهْرٍ حَلَالٍ، وَدَخَلَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ، فَاسْتَمَرَّ فِيهِ أَيَّامًا، ثُمَّ قَفَلَ عَنْهُمْ لِأَنَّهُ يُغْتَفَرُ فِي الدَّوَامِ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي الِابْتِدَاءِ، وَهَذَا هُوَ أَمْرٌ مُقَرَّرٌ، وَلَهُ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ، واللَّهُ أَعْلَمُ. وَلْنَذْكُرِ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ ((22)) وَقَدْ حررنا ذلك في السيرة، والله أعلم ((23))
قال الشنقيطي رحمه الله في (دفع إيهام الإضطراب عن آيات الكتاب):
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ بَراءَةٌ
قَوْلُهُ تَعالى: {فَإذا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وجَدْتُمُوهُمْ}.
اعْلَمْ أوَّلًا أنَّ المُرادَ بِهَذِهِ الأشْهُرِ الحُرُمِ أشْهَرُ المُهْلَةِ المَنصُوصِ عَلَيْها بِقَوْلِهِ: {فَسِيحُوا في الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ} [(9)]، لا الأشْهُرُ الحُرُمُ الَّتِي هي ذُو القَعْدَةِ وذُو الحِجَّةِ والمُحَرَّمُ ورَجَبٌ عَلى الصَّحِيحِ، وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ في رِوايَةِ العَوْفِيِّ عَنْهُ.
وَبِهِ قالَ مُجاهِدٌ وعَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ومُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ وقَتادَةُ والسُّدِّيُّ وعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ واسْتَظْهَرَ هَذا القَوْلَ ابْنُ كَثِيرٍ لِدَلالَةِ سِياقِ القُرْآنِ عَلَيْهِ، ولِأقْوالِ هَؤُلاءِ العُلَماءِ خِلافًا لِابْنِ جَرِيرٍ.
وَعَلَيْهِ فالآيَةُ تَدُلُّ بِعُمُومِها عَلى قِتالِ الكُفّارِ في الأشْهُرِ الحُرُمِ المَعْرُوفَةِ بَعْدَ انْقِضاءِ أشْهَرِ الإمْهالِ الأرْبَعَةِ وقَدْ جاءَتْ آيَةٌ أُخْرى تَدُلُّ عَلى عَدَمِ القِتالِ فِيها وهي قَوْلُهُ تَعالى {إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْرًا في كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ مِنها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أنْفُسَكُمْ} [التوبة: (36)].
*والجَوابُ أنَّ تَحْرِيمَ الأشْهُرِ الحُرُمِ مَنسُوخٌ بِعُمُومِ آياتِ السَّيْفِ ومَن يَقُولُ بِعَدَمِ النَّسْخِ يَقُولُ: هو مُخَصِّصٌ لَها، والظّاهِرُ أنَّ الصَّحِيحَ كَوْنُها مَنسُوخَةً، كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ فِعْلُ النَّبِيِّ ? في حِصارِ ثَقِيفٍ في الشَّهْرِ الحَرامِ، الَّذِي هو ذُو القَعْدَةِ، كَما ثَبَتَ في الصَّحِيحَيْنِ أنَّهُ خَرَجَ إلى هَوازِنَ في شَوّالٍ، فَلَمّا كَسَرَهم واسْتَفاءَ أمْوالَهم ورَجَعَ فَلُّهم لَجَأُوا إلى الطّائِفِ، فَعَمَدَ إلى الطّائِفِ فَحاصَرَهم أرْبَعِينَ يَوْمًا وانْصَرَفَ ولَمْ يَفْتَحْها، فَثَبَتَ أنَّهُ حاصَرَ في الشَّهْرِ الحَرامِ وهَذا القَوْلُ هو المَشْهُورُ عِنْدَ العُلَماءِ وعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ تَعالى: {فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وجَدْتُمُوهُمْ} ناسِخٌ لِقَوْلِهِ {مِنها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ} *
• وقَوْلِهِ: {لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ ولا الشَّهْرَ الحَرامَ} [(5)]،
• وقَوْلِهِ: {الشَّهْرُ الحَرامُ بِالشَّهْرِ الحَرامِ} الآيَةَ [البقرة: (194)].
والمَنسُوخُ مِن هَذِهِ ومِن قَوْلِهِ: {أرْبَعَةٌ حُرُمٌ}، هو تَحْرِيمُ الشَّهْرِ في الأُولى والأشْهُرِ في الثّانِيَةِ فَقَطْ دُونَ ما تَضَمَّنَتاهُ مِنَ الخَبَرِ، لِأنَّ الخَبَرَ لا يَجُوزُ نَسْخُهُ شَرْعًا.
قال ابن رجب في لطائف المعارف:
وقد اختلف العلماء في حكم القتال في الأشهر الحرم هل تحريمه باق أو نسخ فالجمهور: على أنه نسخ تحريمه ونص على نسخه الإمام أحمد وغيره من الأئمة وذهبت طائفة من السلف: منهم عطاء: إلى بقاء تحريمه ورجحه بعض المتأخرين واستدلوا بآية المائدة والمائدة من آخر ما نزل من القرآن وقد روي: «أحلوا حلالها وحرموا حرامها» وقيل ليس فيها منسوخ وفي المسند: أن عائشة ? قالت: هي آخر سورة نزلت فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه وما وجدتم فيها حرام فحرموه وروى الإمام أحمد في مسنده حدثنا اسحاق بن عيسى حدثنا ليث بن سعد عن أبي الزبير عن جابر قال: لم يكن رسول الله ? يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى ويغزو فإذا حضره أقام حتى ينسلخ وذكر بعضهم أن النبي ? حاصر الطائف في شوال فلما دخل ذو القعدة لم يقاتل بل صابرهم ثم رجع وكذلك في عمرة الحديبية لم يقاتل حتى بلغه أن عثمان قتل فبايع على القتال ثم لما بلغه أن ذلك لا حقيقة له كف واستدل الجمهور بأن الصحابة اشتغلوا بعد النبي ? بفتح البلاد ومواصلة القتال والجهاد
ولم ينقل عن أحد منهم أنه توقف عن القتال وهو طالب له في شيء من الأشهر الحرم وهذا يدل على إجماعهم على نسخ ذلك والله علم.
صيد البر في الأشهر الحرم:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} المائدة 95، وبما أن الحج يكون في الأشهر الحرم، فيحرم الصيد ما دام الإنسان حاجا، وما كان من غير الحاج خارج الحرم فلا يحرم.
وفي قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمً} يقول القرطبي: ” التحريم ليس صفة للأعيان, إنما يتعلق بالأفعال
فمعنى قوله: {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما} أي فعله, وهو المنع من الاصطياد حالة الإحرام”.
ومعنى هذا أن غير المحرم لا مانع من أن يصطاد الطير في الأشهر الحرم خارج الحرم.
الزواج في الأشهر الحرم:
ظن البعض أن الزواج بين العيدين (الفطر والأضحى) نذير شؤم، ومعلوم أن ذا القعدة، وبدايات ذي الحجة يدخل في ذلك،
وهذا بعيد عن الصحة فقد تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة في شوال وبنى بها في شوال، وقد نُهينا عن التطير والتشاؤم.