24 التعليق على الصحيح المسند
مجموعة ابراهيم البلوشي وأبي عيسى البلوشي وفيصل الشامسي وفيصل البلوشي
وهشام السوري وعبدالله المشجري وخميس العميمي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–
الصحيح المسند
روى الإمام أحمد رحمه الله في “مسنده” (16301) عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أَرْبَعَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَصَمُّ لَا يَسْمَعُ شَيْئًا، وَرَجُلٌ أَحْمَقُ، وَرَجُلٌ هَرَمٌ، وَرَجُلٌ مَاتَ فِي فَتْرَةٍ، فَأَمَّا الْأَصَمُّ فَيَقُولُ: رَبِّ، لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَا أَسْمَعُ شَيْئًا، وَأَمَّا الْأَحْمَقُ فَيَقُولُ: رَبِّ، لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَالصِّبْيَانُ يَحْذِفُونِي بِالْبَعْرِ، وَأَمَّا الْهَرَمُ فَيَقُولُ: رَبِّ، لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَا أَعْقِلُ شَيْئًا، وَأَمَّا الَّذِي مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ فَيَقُولُ: رَبِّ، مَا أَتَانِي لَكَ رَسُولٌ، فَيَاخُذُ مَوَاثِيقَهُمْ لَيُطِيعُنَّهُ، فَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ أَنْ ادْخُلُوا النَّارَ، قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ دَخَلُوهَا لَكَانَتْ عَلَيْهِمْ بَرْدًا وَسَلَامًا)
——‘——‘—–
وحسنه محققو المسند، وصححه الألباني في “الصحيحة” (1434) وله شواهد متعددة، ذكرها ابن كثير في تفسيره (5/ 50 – 53).
لكن قال الذهبي قتادة لم يلق الأحنف. تذكرة الحفاظ
ثم إن قتادة اختلف عليه فرواه معمر عن قتادة عن أبي هريرة قوله.
واعتبرها ابن عبدالبر من أحاديث الشيوخ ولا تخلوا من علل والأحاديث التي فيها التوقف أصح. التمهيد 18/ 124
قال ابن عبدالبر: واحاديث هذا الباب ليست قوية ولا تقوم بها حجة واهل العلم ينكرونها لان الاخرة دار جزاء ووليست دار عمل وابتلاء وكيف يكلفون دخول النار وليس ذلك في وسع المخلوقين والله لايكلف نفسا الا وسعها ورد عليه الحافظ ابن كثير رحمه الله في هذا واتى بعشر احاديث في بعض احاديثها اكثر من طرق وذكر ايضا اقوال العلماء على المسألة ذكرها في تفسيره عند قوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا)
قال ابن كثير في متعقبا ابن عبدالبر أنها قوية بالشواهد … وذكر عشرة أحاديث فذكر التسعة ثم قال:
الحديث العاشر: عن عم حسناء.
قال [الإمام] أحمد: [حدثنا إسحاق، يعني الأزرق]، أخبرنا روح، حدثنا عوف، عن حسناء بنت معاوية من بني صريم قالت: حدثني عمي قال: قلت: يا رسول الله، من في الجنة؟ قال: ” النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة، والوئيد في الجنة “.
فمن العلماء من ذهب إلى التوقف فيهم لهذا الحديث، ومنهم من جزم لهم بالجنة، لحديث سمرة بن جندب في صحيح البخاري: أنه عليه الصلاة والسلام قال في جملة ذلك المنام، حين مر على ذلك الشيخ تحت الشجرة وحوله ولدان، فقال له جبريل: هذا إبراهيم، عليه السلام، وهؤلاء أولاد المسلمين وأولاد المشركين، قالوا: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟. قال ” نعم، وأولاد المشركين “.
ومنهم من جزم لهم بالنار، لقوله عليه السلام: ” هم مع آبائهم “.
ومنهم من ذهب إلى أنهم يمتحنون يوم القيامة في العرصات، فمن أطاع دخل الجنة وانكشف علم الله فيهم بسابق السعادة، ومن عصى دخل النار داخرا، وانكشف علم الله فيه بسابق الشقاوة. [ص: 58]
وهذا القول يجمع بين الأدلة كلها، وقد صرحت به الأحاديث المتقدمة المتعاضدة الشاهد بعضها لبعض. وهذا القول هو الذي حكاه الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، رحمه الله، عن أهل السنة والجماعة، وهو الذي نصره الحافظ أبو بكر البيهقي في ” كتاب الاعتقاد ” وكذلك غيره من محققي العلماء والحفاظ النقاد.
وقد ذكر الشيخ أبو عمر بن عبد البر النمري بعد ما تقدم من أحاديث الامتحان، ثم قال: وأحاديث هذا الباب ليست قوية، ولا تقوم بها حجة وأهل العلم ينكرونها؛ لأن الآخرة دار جزاء وليست دار عمل ولا ابتلاء، فكيف يكلفون دخول النار وليس ذلك في وسع المخلوقين، والله لا يكلف نفسا إلا وسعها؟!
والجواب عما قال أن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح، كما قد نص على ذلك غير واحد من أئمة العلماء، ومنها ما هو حسن، ومنها ما هو ضعيف يقوى بالصحيح والحسن. وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متعاضدة على هذا النمط، أفادت الحجة عند الناظر فيها، وأما قوله: ” إن الآخرة دار جزاء “. فلا شك أنها دار جزاء، ولا ينافي التكليف في عرصاتها قبل دخول الجنة أو النار، كما حكاه الشيخ أبو الحسن الأشعري عن مذهب أهل السنة والجماعة، من امتحان الأطفال، وقد قال الله تعالى: (يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود) [ن: 42] وقد ثبتت السنة في الصحاح وغيرها أن المؤمنين يسجدون لله يوم القيامة، وأما المنافق فلا يستطيع ذلك ويعود ظهره طبقا واحدا كلما أراد السجود خر لقفاه.
وفي الصحيحين في الرجل الذي يكون آخر أهل النار خروجا منها أن الله يأخذ عهوده ومواثيقه ألا يسأل غير ما هو فيه، ويتكرر ذلك مرارا، ويقول الله تعالى: يا ابن آدم، ما أغدرك! ثم يأذن له في دخول الجنة.
وأما قوله: ” وكيف يكلفهم دخول النار، وليس ذلك في وسعهم؟ ” فليس هذا بمانع من صحة الحديث، فإن الله يأمر العباد يوم القيامة بالجواز على الصراط، وهو جسر على جهنم أحد من السيف وأدق من الشعرة، ويمر المؤمنون عليه بحسب أعمالهم، كالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخيل والركاب، ومنهم الساعي ومنهم الماشي، ومنهم من يحبو حبوا، ومنهم المكدوش على وجهه في النار، وليس ما ورد في أولئك بأعظم من هذا بل هذا أطم وأعظم، وأيضا فقد ثبتت السنة بأن الدجال يكون معه جنة ونار، وقد أمر الشارع المؤمنين الذين يدركونه أن يشرب أحدهم من الذي يرى أنه نار، فإنه يكون عليه بردا وسلاما، فهذا نظير ذلك، وأيضا فإن الله تعالى [قد] أمر بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم، فقتل بعضهم بعضا حتى قتلوا فيما قيل في غداة واحدة سبعين ألفا، يقتل الرجل أباه وأخاه وهم في عماية غمامة أرسلها الله عليهم، وذلك عقوبة لهم على عبادتهم العجل، وهذا أيضا شاق على النفوس جدا لا يتقاصر عما ورد في الحديث المذكور، والله أعلم. [ص: 59]
فصل
فإذا تقرر هذا، فقد اختلف الناس في ولدان المشركين على أقوال:
أحدها: أنهم في الجنة، واحتجوا بحديث سمرة أنه، عليه السلام رأى مع إبراهيم أولاد المسلمين وأولاد المشركين وبما تقدم في رواية أحمد عن حسناء عن عمها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” والمولود في الجنة “. وهذا استدلال صحيح، ولكن أحاديث الامتحان أخص منه. فمن علم الله [عز وجل] منه أنه يطيع جعل روحه في البرزخ مع إبراهيم وأولاد المسلمين الذين ماتوا على الفطرة، ومن علم منه أنه لا يجيب، فأمره إلى الله تعالى، ويوم القيامة يكون في النار كما دلت عليه أحاديث الامتحان، ونقله الأشعري عن أهل السنة [والجماعة] ثم من هؤلاء القائلين بأنهم في الجنة من يجعلهم مستقلين فيها، ومنهم من يجعلهم خدما لهم، كما جاء في حديث علي بن زيد، عن أنس، عند أبي داود الطيالسي وهو ضعيف، والله أعلم
—‘——
والمقصود من ذكر الأصم والأحمق وغيرهما: ذكر من لم تقم عليه الحجة بسبب ما أصابه من عاهة أو غير ذلك، فكل من أصابه شيء يمنع من إقامة الحجة عليه فإنه يكون معذورا ويمتحن يوم القيامة.
وقد جاء ذكر الأبكم مع الأصم في الحديث:
قال الحافظ السيوطي رحمه الله: ” أخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن أبي هريرة قال: ” إذا كان يوم القيامة، جمع الله أهل الفترة، والمعتوه، والأصم، والأبكم، والشيوخ الذين لم يدركوا الإسلام، ثم أرسل إليهم رسولا أن ادخلوا النار، فيقولون: كيف ولم تأتنا رسل؟ قال: وايم الله، لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما، ثم يرسل إليهم، فيطيعه من كان يريد أن يطيعه، قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم [وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا] الإسراء/ 15). إسناده صحيح على شرط الشيخين، ومثله لا يقال من قبل الرأي، فله حكم الرفع “.
انتهى من “الحاوي” (2/ 247).
أما الأعمى: فحاله أهون منهما، لأنه يسمع ويتكلم ويدرك إدراكا صحيحا، ولا يكاد يحول عماه عن إقامة الحجة عليه.
وبكل حال: فمن حالت عاهته دون قيام الحجة عليه فهو معذور، سواء كان أبكم أو أصم أو غير ذلك.
وقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: الأصم الأبكم، هل هو مكلف مثل غيره من المسلمين؟
فأجاب:
” الأصم الأبكم من فقد حاستين من حواسه، وهما السمع والنطق، ولكن بقي عليه النظر، فما كان يدركه من دين الإسلام بالنظر؛ فإنه لا يسقط عنه، وما كان لا يدركه؛ فإنه يسقط عنه، أما ما كان طريقه السمع إذا كان لا يدركه بالإشارة فإنه يسقط عنه، وعلى هذا فإذا كان لا يفهم شيئاً من الدين فإننا نقول: إذا كان أبواه مسلمين أو أبوه أو أمه فهو مسلم تبعاً لهما، وإن كان بالغاً عاقلاً مستقلاً بنفسه فأمره إلى الله، لكنه ما دام يعيش بين المسلمين فإننا نحكم له ظاهراً بالإسلام، يعلم بعض الأشياء بالإشارة، وأنا أعرف الذين في معهد الصم والبكم في الرياض يعرفون بالإشارة أسرع من النطق؛ لأن هناك أناساً يترجمون لهم بالإشارة فيفهمون منهم مباشرة ” انتهى من “لقاء الباب المفتوح” (11/ 22) بترقيم الشاملة.
قال ابن القيم رحمه الله بعد أن ذكر الأحاديث التي فيها امتحان هؤلاء يوم القيامة:
” هِيَ الْمُوَافِقَةُ لِلْقُرْآنِ، وَقَوَاعِدِ الشَّرْعِ، فَهِيَ تَفْصِيلٌ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ الْقُرْآنُ أَنَّهُ لَا يُعَذَّبُ أَحَدٌ إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، وَهَؤُلَاءِ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِمْ حُجَّةُ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا، فَلَا بُدَّ أَنْ يُقِيمَ حُجَّتَهُ عَلَيْهِمْ، وَأَحَقُّ الْمَوَاطِنِ أَنْ تُقَامَ فِيهِ الْحُجَّةُ يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ، وَتُسْمَعُ الدَّعَاوَى، وَتُقَامُ الْبَيِّنَاتُ، وَيَخْتَصِمُ النَّاسُ بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ، وَيَنْطِقُ كُلُّ أَحَدٍ بِحُجَّتِهِ وَمَعْذِرَتِهِ، فَلَا تَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَتَنْفَعُ غَيرهُمْ ” انتهى من “أحكام أهل الذمة” (2/ 1149).
فالمعيار هو قيام الحجة ممن قامت عليه الحجة فلا عذر له، ومن لم تقم عليه الحجة، فإنه يكون معذورا.
ثانياً:
من كان من هؤلاء من أولاد المسلمين: فهم تبع لآبائهم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
” حُكْمُ الْمَجْنُونِ حُكْمُ الطِّفْلِ إذَا كَانَ أَبَوَاهُ مُسْلِمَيْنِ كَانَ مُسْلِمًا تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ أُمُّهُ مُسْلِمَةً عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد، وَكَذَلِكَ مَنْ جُنَّ بَعْدَ إسْلَامِهِ يَثْبُتُ لَهُمْ حُكْمُ الْإِسْلَامِ تَبَعًا لِآبَائِهِمْ، وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ الَّذِي وُلِدَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ يُحْكَمُ لَهُ بِالْإِسْلَامِ ظَاهِرًا تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ أَوْ لِأَهْلِ الدَّارِ كَمَا يُحْكَمُ بِذَلِكَ لِلْأَطْفَالِ، لَا لِأَجْلِ إيمَانٍ قَامَ بِهِ، فَأَطْفَالُ الْمُسْلِمِينَ وَمَجَانِينُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَبَعٌ لِآبَائِهِمْ ” انتهى من “مجموع الفتاوى” (10/ 437).
====
====
====
هذا ملخص من رسالة جامعية عنوانها “أهل الفترة ومن في حكمهم” أشرف عليها الشيخ عبدالعزيز الراجحي-حفظه الله-:
البَاب الثَاني (بيان المقصود بأهل الفترة)
وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول: التعريف بأهل الفترة.
الفصل الثاني: حكم مطالبتهم بأحكام الأنبياء السابقين.
الفصل الثالث: الملحقون بأهل الفترة:
ويشتمل هذا الفصل على مبحثين:
المبحث الأول: أطفال المشركين.
المبحث الثاني: المجانين وذوو العاهات.
الفصل الأول (التعريف بأهل الفترة):
في الاصطلاح: هي ما بين كل نبيين، أو هي ما كانت بين رسولين لم يُرسل إليه الأول ولم يُدرِك الثاني.
(راجع تفسير ابن كثير (ج 2 ص 35) وجمع الجوامع للسبكي (ج 1ص 63)).
وقيل الفترة ما بين إسماعيل ومحمد عليهما السلام، وهذا القول فيه تخصيص أهل الفترة بالعرب، وهذا التخصيص ليس له دليل يستند إليه، وإنما هناك فترات. كالفترة التي حصلت بين نوح وإدريس، والفترة التي حصلت بين عيسى ومحمد، لذا نرى قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ} [المائدة: 19] نراه يؤيد ما ذهبنا إليه من أن الفترة عامة، ولم تخصص بقوم من الأقوام ولا بزمن من الأزمان.
الفصل الثاني: (حكم مطالبتهم بأحكام الأنبياء السابقين)
أقسام أهل الفترة وتحرير محل النزاع:
ينقسم أهل الفترة إلى قسمين:
القسم الأول: من بلغته الدعوة.
القسم الثاني: من لم تبلغه الدعوة وبقي على حين غفلة.
ويشمل القسم الأول نوعين هما:
1. من بلغته الدعوة، ووحّد ولم يشرك.
2. من بلغته الدعوة ولكنه غيّر وأشرك.
فمن وحّد ولم يشرك بالله شيئًا كقس بن ساعدة الأيادي، وقسّ هذا له خطبة مشهورة من كلماتها “أقسم قسٌّ قسمًا لاريب فيه أن لله دينًا هو أرضى لكم من دينكم”
وكذلك “زيد بن عمرو بن نفيل” الذي كان يقول: “اللهم إني لو أعلم أحبَّ الوجوه إليك عبدتك، ولكني لا أعلم -ثم يسجد على راحلته”
وكان يقوِل:
أربًّا واحدًا أم ألفُ رَبٍّ … أدين إذا تقسّمت الأمور
وقد أدركه النبي – صلى الله عليه وسلم – قبل مبعثه، وكان يتحنث في غار حراء، وكان لا يأكل مما ذبح على النصب، فذُكر عند النبي – صلى الله عليه وسلم – بعد البعثة فقال: “غفر الله له ورحمه فإنه مات على دين إبراهيم”
وهذا النوع ليس محلًا للنزاع وذلك لورود النصوص التي تدل على أنهم ماتوا على التوحيد.
والنوع الثاني: بلغته الدعوة ولكنه أشرك وغيّر ولم يوحد، وأمثلة ذلك كثيرة منها:
- عمرو بن لحي: فهو أول من سن عبادة الأصنام؛ فبحّر البحيرة، وسيّب السائبة، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي قال فيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: رأيت عمرو بن لحي بن خندف أخا بني كعب هؤلاء يجر قصبه في النار.
وهذا محمول على أنه غير وبدل وأشرك بعد أن بلغته الدعوة.
2. وكما ورد في عبد الله بن جدعان.
“فعن عائشة – رضي الله عنها – أنها سألت النبي – صلى الله عليه وسلم – عن ابن جدعان قالت: قلت يا رسول الله، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذاك نافعه؟ قال: لا، إنه لم يقل يومًا رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين”
3. ما ورد في أبي الرسول – صلى الله عليه وسلم -، الحديث الذي أخرجه مسلم “أن رجلًا سأل النبي – صلى الله عليه وسلم -، أين أبي؟ قال: في النار، فلما قفا دعاه فقال له: إن أبي وأباك في النار”
وأما ما ورد بشأن أمه – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الذي يرويه مسلم في صحيحه “استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي”.
فهذا الحديث يحتمل أنها بلغتها الدعوة ويحتمل أنها لم تبلغها الدعوة، وهذا النص ليس بصريح لأن النهي عن الاستغفار لها حيث أنها لم تمت على التوحيد سواء بلغتها الدعوة أم لم تبلغها، والله أعلم.
وهذا النوع ليس محلًا للنزاع لورود النصوص التي تفيد بأن الدعوة قد بلغتهم.
وقد ذكر السيوطي في الحاوي أن الله سبحانه وتعالى أحيا له أبويه فأسلما على يديه ثم ماتا.
وقد نقل السيوطي ذلك عن الخطيب البغدادي في اللاحق والسابق والسهيلي في الروض الأنف، والقرطبي في التذكرة.
وقد تناقلت هذا الكلام بعض كتب السيرة وغيرها من كتب التاريخ التي تحمل الغث والسمين.
مع أن هذا الكلام لا دليل على صحته إطلاقًا، وإنما هو من التخرصات التي تنتشر عند عوام الناس.
وشيخ الإِسلام ابن تيمية يرد على هذه التخرصات التي تناقلتها بعض الكتب فيقول: “لم يصح ذلك عن أهل الحديث، بل أهل العلم متفقون على أن ذلك كذب مختلق، ولو كان صحيحًا لتناقلته كتب الصحاح لأنه من أعظم الأمور خرقًا للعادة لما فيه من إحياء للموتى والإِيمان بعد الموت، وهذا خلاف ما جاء في الكتاب والسنة والإِجماع. قال تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء: 18]. فبيّن الله سبحانه وتعالى أنه لا توبة لمن مات كافرًا، وجاء في صحيح مسلم أن رجلًا سأل النبي – صلى الله عليه وسلم -، أين أبي؟ فقال: إنه في النار، فلما قفا دعاه، فقال له: إن أبي وأباك في النار”. وكذلك حديث الاستغفار، فلو كان الاستغفار -جائزًا بحقهما، لم ينهه عن ذلك -أي الاستغفار- فإن الأعمال بالخواتيم، ومن مات مؤمنًا فإن الله يغفر له. ولا يكون الاستغفار ممتنعًا. أما زيارة النبي – صلى الله عليه وسلم – لأمه، فإنها كانت بطريقه بالحجون (بمكة) أما أبوه فقد دفن بالشام، فكيف أحياه له، ولو كان أبواه مؤمنين لكانا أحق بالشهرة من عميه الحمزة والعباس والله أعلم.
القسم الثاني: (من لم تبلغه الدعوة وبقي على حين غفلة من هذا كله).
وأكثر أهل الجاهلية من هذا النوع،
قال تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} [يس: 6].
وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [السجدة: 3].
وقال تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص: 46].
وهذا القسم هو محل نزاع بين العلماء.
أقوال العلماء في حكم هذا القسم:
للعلماء في عاقبة هؤلاء ومصيرهم أقوال ثلاثة هي:
1. من مات ولم تبلغه الدعوة مات ناجيًا.
2. من مات ولم تبلغه الدعوة فهو في النار.
3. من مات ولم تبلغه الدعوة فإنه يمتحن بنار في عرصات يوم القيامة.
والقول الأول: قال به الأشاعرة من أهل الكلام والأصول، وبعض الشافعية من الفقهاء.
والقول الثاني: وهو أن من مات ولم تبلغه الدعوة فهو في النار.
قال به المعتزلة وجماعة من الحنفية الماتوريدية -قالوا بأنهم مكلفون وإن لم يرسَل إليهم رسول، وعليهم أن يستدلوا بعقولهم، فما استحسنه العقل فهو حسن، وما قبحه العقل فهو قبيح. وإن الله سبحانه يعذب في النار من لم يؤمن وإن لم يرسَل إليه رسول لقيام الحجة عليه بالعقل، وهذا يدل على أن هناك ثوابًا وعقابًا قبل بلوغ الدعوة وبعثة الرسل.
والقول الثالث: وهو أن أهل الفترة يُمتحنون في عرصات القيامة بنار يأمرهم الله سبحانه وتعالى بدخولها، فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا، ومن لم يدخلها فقد عصى الله تعالى، فيدخله الله فيها.
وهذا القول قال به السلف وجمهور الأئمة واختاره شيخ الإِسلام ابن تيمية، وتلميذه العلامة الإِمام ابن القيم، والإِمام ابن كثير، والإِمام ابن حجر العسقلاني. وحكاه أبو الحسن الأشعري عن أهل السنة والجماعة. وقال به الإِمام أبو محمد بن حزم رحمه الله، واختاره الشيخ محمد أمين الشنقيطي في أضواء البيان.
أدلتهم:
استدل هؤلاء الأئمة على ما ذهبوا إليه بما يلي:
- الحديث الذي أورده أحمد في مسنده عن الأسود بن سريع، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “أربعة يحتجون يوم القيامة، رجل لا يسمع شيئًا، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في الفترة. فأما الأصم فيقول: رَبِّ، قد جاء الإِسلام وما أسمع شيئًا، وأما الأحمق فيقول: رب، قد جاء الإِسلام والصبيان يحذفونني بالبعر، وأما الهرم فيقول: لقد جاء الإِسلام وما أعقل شيئًا، وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب، ما أتاني كتاب ولا رسول، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنّه، فيرسل إليهم أن ادخلوا النار، فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردًا وسلامًا”
2. الحديث الذي يرويه أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “يؤتى بأربعة يوم القيامة، بالمولود وبالمعتوه وبمن مات في الفترة وبالشيخ الفاني، كلهم يتكلم بحجته، فيقول الرب تبارك وتعالى لعنق من النار ابرزي، فيقول لهم: إني كنت أبعث إلى عبادي رسلًا من أنفسهم وإني رسول نفسي إليكم، قال: ويقول لهم ادخلوا هذه، ويقول من كتب عليه الشقاء: أنى ندخلها ومنها كنا نفر؟! فيقول الله: فأنتم لرسلي أشد تكذيبًا. قال: وأما من كتب عليه السعادة فيمضي فيقتحم فيها، فيدخل هؤلاء الجنة وهؤلاء إلى النار”
3. عن أبي سعيد الخدري عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: يؤتى بالهالك في الفترة والمعتوه والمولود، فيقول الهالك في الفترة: لم يأتني كتاب ولا رسول، ويقول المعتوه: أي رب، لم تجعل لي عقلًا أعقل به خيرًا ولا شرًا، ويقول المولود: لم أدرك العمل قال: فيرفع لهم النار فيقال، رِدوها، أو قال: ادخلوها. فيدخلها من كان في علم الله سعيدًا أن لو أدرك العمل، قال: ويمسك عنها من كان في علم الله شقيًا أن لو أدرك العمل، فيقول الله تبارك وتعالى: “إياي عصيتم، فكيف برسلي بالغيب؟ “ - عن معاذ بن جبل أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلًا وبالهالك في الفترة وبالهالك صغيرًا، فيقول الممسوخ عقلًا: يا رب، لو آتيتني عقلًا ما كان من آتيته عقلًا بأسعد مني، ويقول الهالك بالفترة: يا رب، لو أتاني منك عهد ما كان من أتاه عهد بأسعد بعبده مني، ويقول الهالك صغيرًا: لو آتيتني عمرًا ما كان من آتيته عمرًا بأسعد مني. فيقول الرب إن آمركم بأمر فتطيعوني؟ فيقولون: نعم وعزتك، فيقول اذهبوا إلى النار. فلو دخلوها ما ضرتهم. فيخرج عليهم قوابس يظنون أنها أهلكت ما خلق الله من شيء، فيرجعون سراعًا فيقولون: خرجنا يا رب نريد دخولها فخرجت علينا قوابس ظننا أنها قد أهلكت ما خلق الله من شيء، فيأمرهم ثانية فيرجعون كذلك، فيقولون مثل قولهم، فيقول تبارك وتعالى قبل أن تخلقوا علمتُ ما أنتم عاملون وإلى علمي تصيرون. فتأخذهم النار”
المناقشة والترجيح:
وبعد التأمل والنظر أرى أن أقرب الأقوال إلى الصواب هو القول الثالث وهو أن أهل الفترة يُمتحنون، ولا ينافيه ما استدل به أهل الفريقين الأول والثاني.
أما ما استدل به الفريق الأول بما يفيد نفي العذاب عن أهل الفترة، فهذه الأدلة لا تدل على أنهم ناجون وأنهم في الجنة. وأما أهل الفترة فلا تشملهم هذه النصوص لأن هناك نصوص أخرى دلت على أنهم يُمتحنون في عرصات القيامة، وهي النصوص التي استدل بها أهل الفريق الثالث. والله أعلم.
وأما ما استدل به الفريق الثاني من نصوص تفيد أنهم في النار فيُجاب عنها بأن هذه النصوص عامة ولم تخصص، وأما أهل الفترة الذين لم تبلغهم الدعوة فقد وردت فيهم نصوص تخصهم فيخرجون من هذا العموم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “فمعلوم أن الحجة تقوم بالقرآن على من بلغه كقوله تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]، فمن بلغه بعض القرآن دون بعض قامت عليه الحجة بما بلغه من القرآن دون ما لم يبلغه، فكيف فيمن لم يبلغه جميع نصوص الكتاب فهذا من باب أولى”
وأما الأحاديث التي احتجوا بها كحديث “استأذنتُ ربي” وحديث: “إن أبي وأباك في النار” فهذه نصوص لا يحتجّ بها لأنها في غير محل النزاع، ولأنها محمولة على أن الدعوة قد بلغتهم، ومحل النزاع عندنا هو فيمن لم تبلغه الدعوة والله أعلم.
وأما استدلالهم بالعقل فلا يصحّ لأن العقل لا يدرك به التكليف على انفراده. يقول شيخ الإِسلام ابن تيمية: “والصواب أن معرفته بالسمع واجبة -التكليف- وأما بالعقل فقد يعرف وقد لا يعرف وليست معرفته بالعقل ممتنعة ولا هي واجبة”
وبعد عرضنا لأدلة كل فريق ومناقشتها يظهر لنا ترجيح القول الثالث بأن أهل الفترة يمتحنون، وهو اختيار أهل التحقيق من العلماء. قال الإِمام أبو محمَّد بن حزم رحمه الله: “إن النذارة لا تلزم إلا من بلغته لا من لم تبلغه، وأنه تعالى لا يعذب أحدًا حتى يأتيه رسول من عند الله، فصحّ بذلك أن من لم يبلغه الإِسلام أصلًا فإنه لا عذاب عليه، وهكذا جاء النص من عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيوقد لهم نارًا يقال لهم ادخلوها فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا.
ويقول ابن القيم رحمه الله: “إن العذاب يستحق بسببين:
أحدهما: الإعراض عن الحجة وعدم إرادتها والعمل بموجبها.
والثاني: العناد لها بعد قيامها وترك إرادة العمل بموجبها.
فالأول كفر إعراض، والثاني كفر عناد، وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة وعدم التمكن من معرفتها فهذا الذي نفى الله سبحانه وتعالى التعذيب عنه حتى تقوم الحجة بإرسال الرسل”
ويقول ابن حجر: “فقد صحت مسألة الامتحان في حق من مات في الفترة والمجنون”
ويقول الشيخ الشنقيطي: “والجمع بين الأدلة واجب متى ما أمكن بلا خلاف لأن إعمار الدليلين أولى من إلغاء أحدهما، ولا وجه للجمع إلا بهذا وهو القول بالعذر والامتحان”
الفصل الثالث (الملحقون بأهل الفترة)
المبحث الأول
أطفال المشركين
والمقصود بأطفال المشركين: الذين ماتوا ولم يبلغوا الحلم، أي لم تكن لديهم القدرة على فهم شيء من الأحكام لكونهم في سن الصغر، والصغر يعتبر من العوارض التي تعترض أهلية التكليف، أي يجعل صاحبه غير مكلف بشيء ما والله أعلم.
وقد اختلف العلماء حول تكليف أطفال المشركين اختلافًا كثيرًا.
نورد هنا الأقوال المشهورة ثم ترجيح ما يتقوى بالدليل الصحيح:
1. إن أطفال المشركين في الجنة.
2. إن أطفال المشركين في النار.
3. إن أطفال المشركين يمتحنون في عرصات القيامة.
4. إن أطفال المشركين يجب التوقف في أمرهم.
القول الأول: أنهم في الجنة. وممن ذهب إلى هذا القول: المحققون البخاري والنووي وابن الجوزي وابن حزم. وهو قول لطائفة من المفسرين -وقاله ابن حجر العسقلاني. وهو قول الجبائي من المعتزلة.
القول الثاني: أنهم في النار. قال به الأزارقة من الخوارج. واختاره القاضي أبو يعلى وذكر أنه منصوص عن الإِمام أحمد وهو غلط عليه، وهو قول لجماعة من المتكلمين وأهل التفسير.
القول الثالث: إنهم يمتحنون في عرصات القيامة ويُرسَل إليهم رسول وإلى كل من لم تبلغه الدعوة؛ فمن أطاع الرسول دخل الجنة ومن عصاه دخل النار. وممّن قال بهذا القول واختاره: شيخ الإِسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم.
واستدلوا بما يلي:
1. حديث الأسود بن سريع رضي الله عنه قال: قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “أربعة يحتجون يوم القيامة” الحديث.
2. حديث أنس رضي الله عنه “يؤتى يوم القيامة بأربعة” الحديث.
3. حديث معاذ بن جبل، يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلًا” الحديث.
4. حديث أبي سعيد الخدري: “يؤتى الهالك بالفترة” الحديث.
وجه الدلالة من هذه الأحاديث السالفة الذكر بأن الأطفال يمتحنون في عرصات القيامة، فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا ومن أبى بقي فيها.
القول الرابع: التوقف فيهم حيث لا يحكم أنهم بالجنة أو بالنار، وممن ذهب إلى هذا المذهب الإِمام أبو حنيفة وأحمد في رواية وحماد ابن سلمة وابن المبارك وإسحاق بن راهويه.
الترجيح:
وبعد عرض الأقوال مع الأدلة ومناقشتها أرى أن القول الأول وهو أنهم في الجنة هو القول الراجح من تلك الأقوال، ولا ينافيه ما ورد من أن المولود يمتحن مع صاحب الفترة والمجنون والشيخ الهرم، كما سبق في أدلة القائلين بالامتحان لأنها عامة مجملة، خصصتها وبينتها النصوص التي دلت على أنهم في الجنة، كما سبق في أدلتهم.
ونكون بذلك عملنا بالأدلة من الجانبين “لأن إعمال الدليلين أولى من إسقاط أحدهما” ومن المتقرر في الأصول أن الخاص يقضي على العام كما هو مذهب الجمهور، والله أعلم.
الفصْل الثالث (الملحقون بأهل الفترة)
المبحث الثاني (المجانين وذوو العاهات)
قبل أن نبدأ الكلام في هذا البحث لابد لنا من تمهيد نبين فيه أهلية المجنون وذي العاهة للتكليف. فقد سبق أن ذكرنا أن من شروط التكليف أن يكون ذا أهلية تامة، وهذه الأهلية “صلاحية الإِنسان لوجوب الحقوق المشروعة له وعليه”
وملاك هذه الأهلية الذمّة، وهي خصوصية ميّز الله سبحانه وتعالى بها الإِنسان على غيره، وهذه الأهلية قد تعترضها عوارض، والعارض هو المانع حيث أنه إذا حصل مانع لا يستطيع الإِنسان أن يقوم بعمل من الأعمال.
والعوارض نوعان:
أ- عوارض سماوية: وهي تكون من الله سبحانه وتعالى ولا دخل للإِنسان فيها مثال ذلك “الجنون”.
ب- عوارض مكتسبة: وهي تكون من الإِنسان ذاته ومثال ذلك “السكر”.
فقد عرفنا أن الجنون هو عارض سماوي أي ليس للإِنسان دخل فيه، فإذا حصل هذا العارض للإِنسان سقطت عنه التكاليف المشروعة التي عليه مثل الأحكام الشرعية إلى أن يرجع إليه رشده.
والجنون: هو فقدان العقل، معنى ذلك أنه لا يدرك ولا يعي ما يقال له وما يؤمر به، فما حكمه في الآخرة هل هو مؤاخذ أم لا.
تحرير محل النزاع:
1. من كان في أول عمره مجنونًا ثم فاق، وهذا ليس محلًا للنزاع.
2. من كان في أول عمره عاقلًا ثم جن في آخره، وهذا كذلك ليس محلًا للنزاع.
3. من خلق مجنونًا ومات على ذلك، وهذا الأخير هو محل نزاع بين العلماء.
اختلف العلماء في حكم هذه المسألة “مسألة المجنون” إلى قولين:
أ- أنهم يمتحنون بنار توقد لهم يوم القيامة فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا، ومن أبى بقي فيها. وممن قال بهذا القول ابن حجر.
ب- هم تبع لآبائهم. وممن قال بهذا القول شيخ الإِسلام ابن تيمية.
أدلة الفريق الأول:
1. حديث الأسود بن سريع: “أربعة يحتجون … ورجل أحمق”
2. حديث أنس بن مالك: “يؤتى بأربعة … وبالمعتوه”
3. حديث أبو سعيد الخدري: “يؤتى بالهالك … والمعتوه”
4. حديث معاذ بن جبل: “يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلًا”
ووجه الدلالة من هذه الأحاديث أن المجنون يمتحن بنار في عرصات يوم القيامة.
أدلة الفريق الثاني:
استدل الفريق الثاني القائلون أنهم تبع لآبائهم بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21].
ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة أن شرط التكليف: العقل، وهؤلاء المجانين لا عقل لهم، وليس لديهم أعمال لأن العمل مناط بالتكليف، لذا يلحقون بآبائهم.
الترجيح:
والناظر في أدلة الفريقين يرى أن أدلة الفريق الأول أكثر وضوحًا من أدلة الفريق الثاني، وذلك لأن النصوص التي استدلوا بها صريحة واضحة على أنهم يمتحنون. وقد ذكر ابن حجر رحمه الله في الفتح: “أنه قد صحت مسألة امتحان المجنون وصاحب الفترة”. والله أعلم.
البَاب الثَالث (حكم من لم تبلغهم الدعوة المحمدية)
ويشتمل على ثلاثة فصول:
الفصل الأول: في وجود أقوام لم تبلغهم الدعوة.
الفصل الثاني: في من تقع عليهم مسؤولية عدم تبليغهم الدعوة.
الفصل الثالث: الطرق المؤدية إلى إيصال الدعوة إلى جميع الناس.
الفصْل الأوّل (في وجود أقوام لم تبلغهم الدعوة)
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: “كان الناس على التوحيد مدة عشرة قرون، وكانوا كلهم على الإِسلام، وكان أول ما عُبدت الأصنام أن قومًا صالحين ماتوا، فبنى قومهم عليهم مساجد وصوروا صور أولئك فيها ليتذكروا حالهم وعبادتهم فيتشبهوا بهم. فلما طال الزمان جعلوا أجسادًا على تلك الصور، فلما تمادى الزمان عبدوا تلك الأصنام وسمَّوها بأسماء أولئك الصالحين ودًّا وسواعًا ويغوثَ ويعوقَ ونسرًا، فلما تفاقم الأمر بعث الله سبحانه وتعالى -وله الحمد والمنة- نوحًا يأمرهم بعبادة الله سبحانه وتعالى”
فهذا الأثر الذي ينقله ابن كثير عن ابن عباس يدل على أن الشرك طارئ وحادث والأصل في الإِنسان التوحيد والإِيمان.
فعندما فسدت الفطر وخلت العقول، وتاهت في متاهات الضلال والجهل والخرافات أرسل رسله وأنبياءه إلى أقوامهم كل رسول إلى قومه، وأرسل نبيّنا محمدًا – صلى الله عليه وسلم – إلى البشرية جمعاء فبلّغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، وكان لهذه الدعوة الحظ الوافر من الاتساع والانبساط على سطح الكرة الأرضية بفضل الله الذي تكفل بحفظ هذه الدعوة وجعلها باقية إلى ما شاء، ثم بفضل الدعاة المخلصين الذين أخلصوا النية لله منذ ولادة هذه الدعوة.
وهنا نصل إلى البحث في حكم وجود أقوام لم تبلغهم الدعوة، أو بَلَغَتْهم ولكن بَلَغَتْهم مشوهةً عن طريق الإِرساليات النصرانية الحاقدة على الإِسلام وأهله، والمستشرقين من اليهود، فشوّهوا الإِسلام تشويهًا حيث تنفر منه النفوس وهم عندما يقومون بهذا العمل الخبيث قصدوا إبعاد هذه الجماعات عن هذا الدين وصدِّهم عنه.
فعلى سبيل المثال يذكر الأستاذ “إبراهيم النعمة” في رسالته “الإِسلام في إفريقيا الوسطى”: “ترك المبشرون في الكاميرون وأذاعوا بينهم أن المسلمين إذا مرض أحدهم قاموا عليه فذبحوه، ثم سلخوا جلده ليستفيدوا منه في عمل التمائم التي تعلق على الناس والدواب.
وشاعت هذه الفرية وروج لها أعداء الإِسلام فانتشرت انتشارًا كبيرًا”
فهذه صورة من الصور التي يستعملها أعداء الإِسلام لكي يبعدوا ويصدوا الناس عن هذا الدين، ولكن هيهات هيهات أن يصيبوه بسوء، وقد تكفل الله سبحانه وتعالى بحفظه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9].
ولا ننسى أن هناك جماعات بدائية في تفكيرها موجودة على شكل أقليات هنا وهناك في شرق خليج البنغال وفي الغابات الجبلية من جزيرة الملايو، وهناك في جزيرة غينيا الجديدة، وهناك في سوريتام في أمريكا الجنوبية، وهناك في أوربا، وهناك في أستراليا، وهناك في إفريقيا وفي مجاهلها فما حكمهم وما مصيرهم؟.
حُكم مَن لم تبلغه الدعوة:
فهؤلاء والله أعلم يلحقون بأهل الفترة بالحكم وهو الامتحان في عرصات القيامة لاشتراكهم معهم في عدم وصول الدعوة إليهم. قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإِسراء: 15].
——
قلت سيف بن دورة:
وسبق عرض الأقوال أيضا:
في الصحيح المسند
1551 – قال الإمام أبو داود رحمه الله: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا بقية ح و حدثنا موسى بن مروان الرقي وكثير بن عبيد المذحجي قالا حدثنا محمد بن حرب المعنى عن محمد بن زياد عن عبد الله بن أبي قيس عن عائشة قالت
قلت يا رسول الله ذراري المؤمنين فقال هم من آبائهم فقلت يا رسول الله بلا عمل قال الله أعلم بما كانوا عاملين قلت يا رسول الله فذراري المشركين قال من آبائهم قلت بلا عمل قال الله أعلم بما كانوا عاملين.
هذا حديث صحيح من حيث السند، وأما من حيث المتن فإن حمل على الحكم الدنيوي فيما إذا بيت الكفار المسلمون ولم يستطيعوا التمييز بين الكبير والصغير فالأبناء من آبائهم. وأما الحكم الأخروي فهم في الجنة، كما في حديث سمرة بن جندب. راجع تهذيب السنن لابن القيم.
وكذلك توسعنا في عون الصمد شرح الذيل على الصحيح المسند
مسند أحمد
20697 – حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ يَعْنِي ابْنَ سَلَمَةَ، أَخْبَرَنَا عَمَّارٌ يَعْنِي ابْنَ أَبِي عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ وَأَنَا أَقُولُ: أَوْلَادُ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، حَتَّى حَدَّثَنِي فُلَانٌ، عَنْ فُلَانٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سُئِلَ عَنْهُمْ، فَقَالَ: ” اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ “، قَالَ: فَلَقِيتُ الرَّجُلَ فَأَخْبَرَنِي، فَأَمْسَكْتُ عَنْ قَوْلِي
قوله: اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ. في الصحيحن
قلت سيف على شرط الذيل على الصحيح
ونقلنا ملخص لبحث مطول في الشبكة:
بعنوان (أطفال المشركين دراسة حديثية تحليلية) مفاده أن اطفال المشركين في الجنة: قال الخلاصة:
والذي يترجح بعد ما تقدم من البحث والنقاش – في نظري – هو القول بأن أطفال المشركين الذين ماتوا صغارا أنهم في الجنة من غير اختبار يجرى لهم يوم القيامة، وذلك لصحة ووضوح الأدلة المتكاثرة فيه، وعدم مقاومة أدلة الأقوال الأخرى، وبيانه باختصار كالآتي:
*- أما القول بالإختبار والإمتحان يوم القيامة فلم يصح فيه شيء مطلقا وإن قاله بعض كبار المحققين، لكن العبرة بالحجة والدليل، حيث ورد فيه حديث معاذ بن جبل لكنه لا يصلح للتقوية، وحديث أنس مثله حيث أجتمعت فيه علل متعددة من جهالة عبد الوارث راويه عن أنس، وضعف ليث بن أبي سليم، ومخالفته لروايات الآخرين كما تقدم التفصيل، وحديث أبي سعيد الخدري فيه عطية العوفي ضعيف مدلس شيعي وقد عنعنه فيصلح للاعتبار عند بعض العلماء لكنه لا عاضد له، وهي مع ذلك مخالفة للروايات الصحيحة الصريحة بأنهم في الجنة، وعليه: فهذا القول ضعيف في ميزان النقد والتمحيص، ولا يقوم على دليل صحيح، وأما ما قيل من إجماع أهل السنة عليه فقد قدمنا بطلانه، وأشبعنا القول في نقول أبي الحسن الأشعري في المقالات في الحلقة الخامسة بما أغنى عن الإعادة والله اعلم.
*- وأما القول بالتوقف فليس عليه دليل صريح، وقد اختلف في المراد من التوقف أهو الرد إلى المشيئة المجردة، أو الرد إلى الاختبار؟ فإن كان الثاني فقد تقدم قريبا، وإن كان الأول فليس فيما احتجوا به ما يدل على ذلك، وغاية ما فيه قوله صلى الله عليه وسلم ” الله اعلم بما كانوا عاملين “، وقد تقدم في حديث ابن عباس رضي الله عنهما ما يكشف المعنى وأنه قاله لهم جوابا لما سألوا عن معنى قوله ” هم من آبائهم” على أن الحديث فسر بتفسيرات غيرها محتملة يسقط معها الاستدلال، والنصوص الصريحة في أنهم في الجنة لا تعارض بحديث محتمل لأكثر من معنى وقد تقدم تفصيل المناقشة.
*- وأما القول بأنهم في النار مع آبائهم، فهو وإن كان أقوى من القولين السابقين من حيث الدليل إلا أنه ليس بالدرجة التي تعارض النصوص الواردة بأنهم في الجنة على العموم والجملة، وما ورد في ذلك منه ما لا يصح وهو حديثا خديجة وعلي رضي الله عنهما، ومنه ما هو خارج عن محل النزاع وهو حديث الصعب بن جثامة، ومنه ما هو قابل للتأويل وهو حديث سلمة بن يزيد وابن مسعود في الوائدة والمؤودة، والجمع ممكن بحمل هذا الحديث على واقعة معينة وقصة خاصة ورد فيها الخبر تستثنى من الحكم العام، ولا يعارض ذلك قاعدة ” العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ” لأن ذلك ما لم تكن هناك قرينة تؤيد حمل اللفظ العام على سببه الخاص كما قيل في حديث ” ليس من البر الصوم في السفر ” وهو هنا كذلك للأحاديث الكثيرة المعارضة لهذا الحديث وفيها ما هو صحيح كما تقدم البيان.
ثم لو لم يمكن الجمع فالترجيح ممكن بأن النصوص الكثيرة أرجح من حديث بطريقين، كما أن موافقة الأحاديث الكثيرة للقواعد المتيقنة وظواهر القرآن ترجح هذه الكثرة، فكيف إذا اجتمع هذان الوجهان؟ وقد تقدم تفصيل أكثر من هذا في الحلقة الخامسة أثناء مناقشة هذا القول فليراجع.
*- وبكل ما تقدم يتضح – في نظري والعلم عند الله – أن أقوى الأقوال، وأجراها على القواعد، وأصحها أدلة هو القول بأنهم في الجنة على العموم، وقد تقدم التفصيل لمن رامه في مواضعه.
والله تعالى ولي التوفيق والهداية، ونسأله المغفرة في الزلل والخطأ، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبي الهدى والرحمة، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا