230 و 231 و 232 و 233 عبق الياسمين شرح رياض الصالحين
سلطان الحمادي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
27 – باب تعظيم حُرمات المسلمين وبيان حقوقهم والشفقة عليهم ورحمتهم
230 – وعن أَبي هُريْرَةَ رضي اللَّه عنه قَالَ: قبَّل النَّبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم الْحسنَ ابن عَليٍّ رضي اللَّه عنهما، وَعِنْدَهُ الأَقْرعُ بْنُ حَابِسٍ، فَقَالَ الأَقْرَعُ: إِنَّ لِي عَشرةً مِنَ الْولَدِ مَا قَبَّلتُ مِنْهُمْ أَحداً فنَظَر إِلَيْهِ رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم فقَالَ: “مَن لا يَرْحمْ لاَ يُرْحَمْ” متفقٌ عَلَيهِ.
(وعنده الأقرع بن حابس) الأقرع لقب، واسمه فيما نقل ابن دريد: فراس بن حابس بن عقال- بكسر المهملة، وتخفيف القاف- ابن محمد بن سفيان بن مجاشع بن عبد الله بن دارم التميمي الدارمي، وكانت وفاة الأقرع بن حابس في خلافة عثمان، وكان الأقرع من المؤلفة قلوبهم، وممن حسن إسلامه (فتح الباري) وكان شريفا في الجاهلية وشريفا في الإسلام فهو من أشراف بن تميم.
قوله: (إن لي عشرة من الولد ما قبَّلت منهم أحدا)، زاد الإسماعيلي في روايته: ” ما قبَّلت إنسانا قط “. قال ابن بطال:” يجوز تقبيل الولد الصغير في كل عضو منه وكذا الكبير عند أكثر العلماء ما لم يكن عورة” (فتح الباري) والولد يطلق على الجنسين الذكر والأنثى.
قال القرطبي:” في هذه الأحاديث ما يدلّ على جواز تقبيل الصغير على جهة الرحمة، والشفقة، وكراهة الامتناع من ذلك على جهة الأنفة. وهذه القبلة هي على الفم، ويكره مثل ذلك في الكبار، إذ لم يكن ذلك معروفًا في الصدر الأول، ولا يدل على شفقة” (المفهم) قال الأتيبوبي:” قال الجامع عفا الله عنه: قوله: “على الفم” مما لا دليل عليه، فليتنبه، والله تعالى أعلم.” (البحر المحيط الثجاج)
قال ابن علان:” (ما قبلت منهم أحداً) وذلك لجفاء الأعراب وسكان البوادي” (دليل الفالحين) فمن بدا جفا، فمن يعيش في الأرض الجافة اخذ من طبعها.
قوله: (من لا يرحم لا يرحم) قال القاضي عياض:” كلام عام، ليس هو راجع لخصوص رحمة الولد، إنما هو على عموم الرحمة المشروعة، كما قال فى الحديث الآخر: ” من لا يرحم الناس لا يرحمه الله “، وكما قال:” إنما يرحم الله من عباده الرحماء، ارحموا من فى الأرض يرحمكم من فى السماء “. ومن الرحمة واجبة؛ وهى كف الأذى عن المسلمين، وإغاثة الملهوف، وفك العانى، وإحياء المضطر، واستنقاذ الغريق ” (إِكمَالُ المُعْلِمِ بفَوَائِدِ مُسْلِم 7/ 282) قال النووي:”قال العلماء: هذا عام يتناول رحمة الأطفال وغيرهم.” (شرح مسلم)
قال ابن حجر:” وفي جواب النبي صلى الله عليه وسلم للأقرع إشارة إلى أن تقبيل الولد وغيره من الأهل المحارم وغيرهم من الأجانب إنما يكون للشفقة والرحمة لا للذة والشهوة، وكذا الضم والشم والمعانقة.” (فتح الباري) قال ابن علان:” (لا يرحم) بالبناء للمفعول: أي إن انتفاء ذلك دليل على قسوة القلب وفقد الرحمة منه للخلق، ومن انتفت منه رفعت عنه والجزاء من جنس العمل” (دليل الفالحين)
قال ابن عثيمين:” وقال: ” من لا يرحم لا يُرحم” يعني أن الذي لا يرحم عباد الله لا يرحمه الله، ويُفهم من هذا أن من رحم عباد الله رحمه الله، وهو كذلك فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ” الراحمون يرحمهم الرحمن”
ففي هذا دليلٌ على أنه ينبغي للإنسان أن يستعمل الرحمة في معاملة الصغار ونحوهم، وأنه ينبغي للإنسان أن يقبّل أبناءه، وأبناء بناته، وأبناء أبنائه، يقبلهم رحمة بهم، واقتداءً برسل الله صلى الله عليه وسلم، أما ما يفعله بعض الناس من الجفاء والغلظة بالنسبة للصبيان، فتجده لا يمكن صبيه من أن يحضر على مجلسه، لا أن يمكِّن صبيه من أن يطلب منه شيئاً، وإذا رآه عند الرجال انتهره، فهذا خلاف السنة وخلاف الرحمة.
كان النبي عيه الصلاة والسلام يصلي بالناس إحدى صلاتي العشي، إما العصر وإما الظهر، فجاءته بنت بنته ” أمامة”، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يحملها وهو يصلي بالناس؛ إذا قام حملها، وإذا سجد وضعها. فأين هذا الخلق من أخلاقنا اليوم؟ الآن لو يجد الإنسان صبيه في المسجد أخرجه فضلاً عن كونه يحمله في الصلاة.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام ساجداً فجاءه الحسن أو الحسين فركب عليه – أي جعله راحلة له- فأطال النبي صلى الله عليه السجود، فلما سلم قال: ” إن أبني أرتحلني وإني كرهت أن أقٌوم حتى يقضي نهمته”.
وكان صلى الله عليه وسم ليخطب الناس يوماً على المنبر، فأقبل الحسن والحسين وعليهما ثوبان جديدان يعثران بهما، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم وحملهما بين يديه وقال: صدق الله (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) (التغابن: 15)، نظرت إليى هذين الصبيين يعثران فلم أصبر” يعني فما طابت نفسه حتى نزل وحملهما. ففي هذا كله وأمثاله دليلٌ على أنه ينبغي للإنسان أن يرحم الصغار، ويلطف بهم، وأن ذلك سبب لرحمة الله عزّ وجلّ” (شرح رياض الصالحين 2/ 550)
قال ابن علان:” ففيه استحباب تقبيل الأطفال شفقة ورحمة (دليل الفالحين) قال ابن باز:” تقبيل الأولاد ومداعبتهم وتوجيههم إلى الخير والتلطف بهم و الأحسان إليهم من الرحمة التي يحبها الله عزوجل” (شرح رياض الصالحين 1/ 465)
231 – وعن عائشةَ رضي اللَّه عنها قَالَتْ: قدِم ناسٌ مِن الأَعْرابِ عَلَى رسولِ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، فقالوا: أَتُقبِّلونَ صِبيْانَكُمْ؟ فَقَالَ:”نَعَمْ”قالوا: لَكِنَّا واللَّه مَا نُقَبِّلُ، فَقَالَ رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: “أَوَ أَمْلِكُ أنْ كَانَ اللَّه نَزعَ مِنْ قُلُوبِكُمْ الرَّحمَةَ” متفقٌ عَلَيْهِ.
النووي في هذا الحديث ادخل رواية البخاري في رواية مسلم ولعله ليعمم الدلالة.
قوله (ناس من الأعراب) جاء في رواية البخاري (جاء أعرابي) قال ابن حجر:” يحتمل أن يكون هو الأقرع، ويحتمل أن يكون قيس بن عاصم التميمي ثم السعدي، ويحتمل أن يكون عيينة بن حصن بن حذيفة الفزاري، … – ثم ذكر الروايات – ثم قال ويحتمل أن يكون وقع ذلك لجميعهم (فتح الباري)
قال ابن عثيمين: الأعراب كما نعلم جميعاً جفاة، وعندهم غلظة وشدة ولا سيما رعاة الإبل منهم، فإن عندهم من الغلظة والشدة ما يجعل قلوبهم كالحجارة. نسأل الله العافية.” (شرح رياض الصالحين 2/ 552)
قوله: (أو أملك)، هو بفتح الواو والهمزة الأولى للاستفهام الإنكاري، ومعناه النفي، أي: لا أملك، أي: لا أقدر أن أجعل الرحمة في قلبك بعد أن نزعها الله منه. (فتح الباري)
قوله (أنْ كَانَ اللَّه نَزعَ) أي: إن نزع الله الرحمة من قلبك لا أملك لك ردها إليه. (فتح الباري)
قال القرطبي:” معنى الكلام: نفي قدرته -صلى الله عليه وسلم- عن الإتيان بما نزع الله من قلبه من الرحمة. قال: والرحمة في حقنا هي رقة، وحنو يجده الإنسان في نفسه عند مشاهدة مبتلى، أو ضعيف، أو صغير، يحمله على الإحسان إليه، واللطف به، والرفق، والسعي في كشف ما به، وقد جعل الله تعالى هذه الرحمة في الحيوان كله، عاقله وغير عاقله، فبها تعطف الحيوانات على نوعها، وأولادها، فتحنو عليها، وتلطف بها في حال ضعفها وصغرها. وحكمة هذه الرحمة تسخير القوي للضعيف، والكبير للصغير حتى ينحفظ نوعه، وتتم مصلحته، وذلك تدبير اللطيف الخبير” (المفهم)
قال أيضا:”: وإذا تقرر هذا، فمن خلق الله تعالى في قلبه هذه الرحمة الحاملة له على الرفق، وكشف ضر المبتلى، فقد رحمه الله سبحانه وتعالى بذلك في الحال، وجعل ذلك علامة على رحمته إياه في المآل، ومن سلب الله ذلك المعنى منه، وابتلاه بنقيض ذلك من القسوة والغلظ، ولم يلطف بضعيف، ولا أشفق على مبتلى، فقد أشقاه في الحال، وجعل ذلك علما على شقوته في المآل، نعوذ بالله من ذلك، ولذلك قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “الراحمون يرحمهم الرحمن”، وقال: “لا يرحم الله من عباده إلا الرحماء”، وقال: “لا تنزع الرحمة إلا من شقي”، وقال: “من لا يرحم لا يرحم”. (المفهم)
قال ابن عثيمين:” وفي هذا دليلٌ على تقبيل الصبيان شفقة عليهم ورقة لهم ورحمة بهم” (شرح رياض الصالحين 2/ 554)
قال ابن باز:” فالعطف على الصغار من الذكور و الإناث وتعليمهم والأحسان إليهم والرأفة بهم وعلاج مريضهم إلى غير هذا كل هذا مما يحبه الله سبحانه وتعالى و من الرحمة التي شرعها الله لعباده، وهو القائل جل وعلا ((إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ)) (شرح رياض الصالحين لاباز 1/ 465)
قال فيصل آل مبارك:” في هذا الحديث: الشفقة على الأولاد، وتقبيلهم ورحمتهم.” (تطريز رياض الصالحين)
332 – وعن جريرِ بنِ عبدِ اللَّه رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: “مَنْ لاَ يرْحَم النَّاس لاَ يرْحمْهُ اللَّه” متفقٌ عَلَيهِ. ِ
هذا اللفظ عند مسلم والبخاري رواه في موضعين من كتابه ولفظه (من لا يرحم لا يُرحم) وفي رواية (لا يرحم الله من لا يرحم الناس) وبوب عليه البخاري باب: رحمة الناس ورحمة البهائم.
أخرجه الدولابي (1/ 173) وابن عساكر في ” تاريخ دمشق ” (7/ 113 / 2) عن عمرو بن حبيب أنه قال لسعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان: أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خاب عبد وخسر لم يجعل الله تعالى في قلبه رحمة للبشر. (الصحيحة 456) رواه الحافظ العراقي في ” المجلس 86 من الأمالي ” (77/ 2) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:” والذي نفسي بيده لا يضع الله رحمته إلا على رحيم، قالوا: كلنا يرحم، قال: ليس برحمة أحدكم صاحبه، يرحم الناس كافة ” (الصحيحة 167)
(مَنْ لاَ يرْحَم النَّاس) خصوا بالذكر اهتماماً بهم، وإلا فالرحمة مطلوبة لسائر المخلوقات حتى الدوابّ والبهائم. ففي كل كبد حرّاً رطبة أجر (دليل الفالحين)
قال ابن بطال: فيه الحض على استعمال الرحمة لجميع الخلق، فيدخل المؤمن والكافر والبهائم المملوك منها وغير المملوك، ويدخل في الرحمة التعاهد بالإطعام والسقي، والتخفيف في الحمل، وترك التعدي بالضرب. وقال ابن أبي جمرة: يحتمل أن يكون المعنى: من لا يرحم غيره بأي نوع من الإحسان لا يحصل له الثواب كما قال تعالى: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان}، ويحتمل أن يكون المراد: من لا يكون فيه رحمة الإيمان في الدنيا لا يرحم في الآخرة، أو من لا يرحم نفسه بامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه لا يرحمه الله؛ لأنه ليس له عنده عهد، فتكون الرحمة الأولى بمعنى الأعمال، والثانية بمعنى الجزاء، أي: لا يثاب إلا من عمل صالحا، ويحتمل أن تكون الأولى: الصدقة، والثانية: البلاء، أي: لا يسلم من البلاء إلا من تصدق، أو: من لا يرحم الرحمة التي ليس فيها شائبة أذى لا يرحم مطلقا، أو: لا ينظر الله بعين الرحمة إلا لمن جعل في قلبه الرحمة ولو كان عمله صالحا. انتهى ملخصا. قال: وينبغي للمرء أن يتفقد نفسه في هذه الأوجه كلها، فما قصر فيه لجأ إلى الله تعالى في الإعانة عليه. (فتح الباري)
قال ابن باز:” يعني: الذي لا يرحم الناس لا يرحمه الله، فالجزاء من جنس العمل، فمن رحم رُحم و من ظلم قُصم فكما تدين تدان فمن رحم الناس وأحسن إليهم يرجو ما عند الله رحمه الله ومن ظلمهم وتعدى عليهم استحق غضب الله وعقابه.” (شرح رياض الصالحين لابن باز 465)
قال ابن عثيمين:” الذي لا يرحم الناس لا يرحمه الله عزّ وجلّ، والمراد بالناس: الناس الذين هم أهل للرحمة كالمؤمنين وأهل الذمة ومن شبابههم، وأما الكفار الحربيون فإنهم لا يُرحمون، بل يقتلون لأن الله تعالى قال في وصف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) (الفتح: 29)، وقال تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَاوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (التوبة: 73).
ذكر الله تعالى هذه الآية في سورتين من القرآن الكريم بهذا اللفظ نفسه: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَاوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) ذكرها الله في سورة التوبة وفي سورة التحريم، وقال تعالى: (وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ) (التوبة: 120).
وكذلك أيضاً رحمة الدواب والبهائم فإنها من علامات رحمة الله عزّوجلّ للإنسان؛ لأنه إذا رق قلب المرء رحم كل شيء ذي روح، وإذا رحم كل شيء ذي روح رحمه الله. قيل: يا رسول الله؛ ألنا في البهائم أجر؟ قال: ” نعم، في كل ذات كبد رطبة أجر” (شرح رياض الصالحين 2/ 554)
233 – وعن أَبي هُريرةَ رضي اللَّه عنه، أَنَّ رسولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَالَ: “إِذا صَلَّى أَحدُكُمْ للنَّاسِ فلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ فِيهِمْ الضَّعِيفَ وَالسقيمَ والْكَبِيرَ. وإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيطَوِّل مَا شَاءَ” متفقٌ عَلَيهِ.
وفي روايةٍ:”وذَا الْحاجَةِ”.
قال النووي:” معنى أحاديث الباب ظاهر، وهو الأمر للإمام بتخفيف الصلاة بحيث لا يخل بسنتها ومقاصدها، وأنه إذا صلى لنفسه طول ما شاء في الأركان التي تحتمل التطويل وهي القيام والركوع والسجود والتشهد دون الاعتدال والجلوس بين السجدتين، والله أعلم. ” (شرح مسلم)
قوله صلى الله عليه وسلم (إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف) قال الباجي:” يريد التخفيف من القراءة والركوع والسجود وغير ذلك من الأقوال والأفعال ومعنى ذلك التخفيف الذي لا يبلغ الإخلال بالفرض وإنما هو التخفيف مما زاد على الفرض الذي لا تجزئ الصلاة إلا به والدليل على ذلك ما روي عن أنس كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤخر الصلاة ويكملها” (شرح الموطأ)
جاء في رواية: “إذا أم أحدكم الناس”، قال العراقي -رحمه الله-: لم يذكر الصلاة، فتناول الفرائض والنوافل التي يشرع لها الجماعة، كالعيد، والتراويح، ونحوهما؛ لأن حذف المعمول يدل على العموم، بدليل صحة الاستثناء، فإنه معيار العموم، نعم يستثنى من ذلك صلاة الكسوف؛ لمشروعية تطويل القراءة فيها، فلا يسن النقص عن المشروع في ذلك، وكأنه لم يستثنها؛ لندورها، والاهتمام بشأنها؛ للأمر العارض.” (طرح التثريب)
قال ابن القيم:” فالتخفيف أمر نسبي يرجع إلى ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وواظب عليه، لا إلى شهوة المأمومين، فإنه لم يكن يأمرهم بأمر ثم يخالفه، وقد علم أن من ورائه الكبير والضعيف وذا الحاجة، فالذي فعله هو التخفيف الذي أمر به، فإنه كان يمكن أن تكون صلاته أطول من ذلك بأضعاف مضاعفة، فهي خفيفة بالنسبة إلى أطول منها، وهديه الذي كان واظب عليه هو الحاكم على كل ما تنازع فيه المتنازعون، ويدل عليه ما رواه النسائي وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالتخفيف، ويؤمنا ب (الصافات)»، فالقراءة ب (الصافات) من التخفيف الذي كان يأمر به. والله أعلم. (زاد المعاد)
قال ابن علان:” (فليخفف) بأن يقتصر على أواسط المفصل وصغاره، وفي التسبيح في الركوع والسجود على ثلاث مرات، ويأتي بكمال التشهد والصلاة على النبي، وهذا في إمام العامة، أما إمام قوم محصورين لم يتعلق بعينهم حق، راضين بالتطويل في مسجد لا يطرقهم غيرهم فلا بأس به ومحل ذلك أيضاً في غير ما لم يرد فيه قراءة سورة معينة وإلا كـ {آلم تنزيل} {وهل أتى} في صبح الجمعة، {وق} {واقتربت} في العيد، ونحو ذلك فيأتي به وإن لم يرض القوم اكتفاء بوروده من فعله. ” (دليل الفالحين)
قال الأتيوبي:” (فليخفف) أي القراءة والأذكار، بحيث لا يخل بأركانها، وسننها، وآدابها؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد نهى عن نقرة الغراب، وقال للمسيء صلاته: “صل، فإنك لم تصل”، متفق عليه، وقال: “لا صلاة لمن لا يقيم صلبه في الركوع والسجود”، وقال: “لا ينظر الله عز وجل إلى صلاة رجل لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده” فالذي يخل بشيء مما ذكر لم يصلها، فينبغي لمن يريد التخفيف مراعاة ما ذكر حتى لا يقع في شيء من المحظور، وما أكثر من يقع في ذلك من الجهلة، وذوي الغفلة الذين ناصيتهم بيد الشيطان، فهو الذي يتصرف في رفعها ووضعها، فلا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم. ” (البحر المحيط الثجاج).
قوله: (فَإِنَّ فِيهِمْ الضَّعِيفَ وَالسقيمَ والْكَبِيرَ) قال ابن حجر:” المراد بالضعيف هنا ضعيف الخلقة وبالسقيم من به مرض، زاد مسلم من وجه آخر عن أبي الزناد ” والصغير والكبير ” وزاد الطبراني من حديث عثمان بن أبي العاص ” والحامل والمرضع ” وله من حديث عدي بن حاتم ” والعابر السبيل ” وقوله في حديث أبي مسعود الماضي ” وذا الحاجة ” وهي أشمل الأوصاف المذكورة.” (فتح الباري)
قال الباجي:” وقوله فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير يريد أن الضعيف لا يستطيع التطويل فيضر به ولا يجوز له الخلاف على الإمام فينقطع عن الجماعة وكذلك الكبير والسقيم فيجب على الإمام أن يصلي صلاة يتجوز فيها بحيث لا يشق على أحدهم. (شرح الموطأ)
قوله: (فليطول ما شاء) ولمسلم ” فليصل كيف شاء ” أي: مخففا أو مطولا واستدل به على جواز إطالة القراءة ولو خرج الوقت، وهو المصحح عند بعض أصحابنا وفيه نظر؛ لأنه يعارضه عموم قوله في حديث أبي قتادة: ” إنما التفريط أن يؤخر الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى ” أخرجه مسلم، وإذا تعارضت مصلحة المبالغة في الكمال بالتطويل ومفسدة إيقاع الصلاة في غير وقتها كانت مراعاة ترك المفسدة أولى، واستدل بعمومه أيضا على جواز تطويل الاعتدال والجلوس بين السجدتين. (فتح الباري)
قال ابن الباجي:” وقوله صلى الله عليه وسلم وإذا صلى أحدكم لنفسه يريد أن يصلي وحده فليطول ما شاء فإن تطويله ذلك لا يضر بغيره ” (شرح الموطأ)
قال ابن باز:” الميزان في هذا التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم، الميزان هو فعله عليه الصلاة والسلام كما قال الله عزوجل (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) وقال عليه الصلاة والسلام ((صلوا كما رأيتموني أصلي))، فالتأسي به في صلاته صلى الله عليه وسلم هذا هو الميزان فلا يطول تطويلا يضرُ الناس، ولا يخفف تخفيفا يُخل بالصلاة ويُخلُ بالطمأنينة ولكن بين ذلك. قال أنس رضي الله عنه ما صليت خلف أحد أتم صلاة و لا أخف صلاة من النبي عليه الصلاة والسلام، كانت صلاته تخفيفا في تمام، يراعي التخفيف ويراعي التمام ” (شرح رياض الصالحين لاباز 1/ 466)
قال فيصل آل مبارك:” التخفيف والتطويل من الأمور الإِضافية يرجع إلى فعل النبي – صلى الله عليه وسلم -، فلا حجة فيه للنقارين.” (تطريز)
قال ابن عثيمين:” من الشفقة والرحمة بالمؤمنين أنه إذا كان الإنسان إماماً لهم، فإنه لا ينبغي له أن يطيل عليهم في الصلاة. ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ” إذا أمّ أحدكم الناس فليخفف، فإن من ورائه السقيم والضعيف وذا الحاجة والكبير” يعني من ورائه أهل الأعذار الذين يحتاجون إلى التخفيف، والمراد بالتخفيف ما وافق سنة النبي صلى الله عليه وسلم، هذا هو التخفيف وليس المراد بالتخفيف ما وافق أهواء الناس، حتى صار الإمام يركض في صلاته ولا يطمئن. قال أنس بن مالك رضي الله عنه: ما صليت وراء إمام قطّ أخف صلاة ولا أتم صلاة من النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فكأن يقرأ في فجر الجمعة” آلم تنزيل” السجدة كاملة في الركعة الأولى. و (هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ) كاملة في الركعة الثانية، وكان يقرأ بسورة الدخان في المغرب، ويقرأ فيها بالمرسلات، ويقرأ فيها بالطور، ربما قرأ فيها بالأعراف، ومع هذا فهي خفيفة، قال أنس رضي الله عنه: ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم صلاة من النبي صلى الله عليه وسلم.
وليس هذا الحديث حجة للذين يريدون من الأئمة أن يخففوا تخفيفاً ينقص الأجر ويخالف السنة. ثم أعلم أنه قد يكون التخفيف عارضاً طارئاً، مثل ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، كان يدخل في الصلاة وهو يريد أن يطيل فيها، فيسمع بكاء الصبي فيوجز مخافة أن تفتتن أمه. فإذا حصل طارئ يوجب أن يخفف الإنسان صلاته فليخفف، لكن على وجه لا يخل بالواجب.
فالتخفيف نوعان:
تخفيف دائم: وهو ما وافق سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وتخفيف طارئ يكون أخفّ، وهو ما دعت إليه الحاجة، وهو أيضاً من السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع بكاء الصبي خفف الصلاة حتى لا تفتتن أمه، والمهم أنه ينبغي للإنسان مراعاة أحوال الناس ورحمتهم.” (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 2/ 555 و 556)