227 و 228 و 229 عبق الياسمين شرح رياض الصالحين
سلطان الحمادي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
27 – باب تعظيم حُرمات المسلمين وبيان حقوقهم والشفقة عليهم ورحمتهم
قوله في الباب (والشفقة عليهم) عناية مختلطة بخوف لأن المشفق يحب المشفق عليه ويخاف ما يلحقه من الأذى، قال ابن القيم:” الإشْفَاق رِقَّة الخوف، وهو خوف برحمة من الخائف لمن يُخاف عليه، فنسبته إلى الخوف، نسبة الرَّأفة إلى الرَّحمة، فإنَّها ألطف الرَّحمة وأرقُّها” (مدارج السالكين)
والرحمة عرفها الجرجاني بقوله: الرحمة: هي إرادة إيصال الخير.
قال ابن علان:” (باب تعظيم حرمات) بضمتين جمع حرمة بضم فسكون، وهي ما لا يحلّ انتهاكه من أهل ومال” (دليل الفالحين 1/ 403)
قال ابن باز على نصوص هذا الباب:” تدل على وجوب احترام المسلمين والعناية بحقوقهم والحذر من ظلمهم وأذاهم فالمسلم له حق على أخيه عظيم ووجب عليه أن يحذر إيذاءه وظلمه ووجب عليه أن يحترمه حتى يؤدي حقه ويدع أذاه” (شرح رياض الصالحين 1/ 461)
قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ {[الحج:30] وَقالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] وَقالَ تَعَالَى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 88] وَقالَ تَعَالَى: {مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة:32].
قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:30]
قال ابن كثير:” (ومن يعظم حرمات الله) أي: ومن يجتنب معاصيه ومحارمه ويكون ارتكابها عظيما في نفسه، (فهو خير له عند ربه) أي: فله على ذلك خير كثير وثواب جزيل، فكما على فعل الطاعات ثواب جزيل وأجر كبير، وكذلك على ترك المحرمات و اجتناب المحظورات. (تفسير ابن كثير)
قال القرطبي:” والحرمات المقصودة هنا هي أفعال الحج المشار إليها في قوله: ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم ويدخل في ذلك تعظيم المواضع” (تفسير القرطبي)
قال السعدي:” تعظيم حرمات الله، من الأمور المحبوبة لله، المقربة إليه، التي من عظمها وأجلها، أثابه الله ثوابا جزيلا، وكانت خيرا له في دينه، ودنياه وأخراه عند ربه.
وحرمات الله: كل ما له حرمة، وأمر باحترامه، بعبادة أو غيرها، كالمناسك كلها، وكالحرم والإحرام، وكالهدايا، وكالعبادات التي أمر الله العباد بالقيام بها، فتعظيمها إجلالها بالقلب، ومحبتها، وتكميل العبودية فيها، غير متهاون، ولا متكاسل، ولا متثاقل” (تفسير السعدي)
قال ابن باز:” حرمة المؤمن من حرمات الله وعدم إيذائه مما يحبه الله وإيذاءه مما يغضب الله” (شرح رياض الصالحين لاباز ص 461)
قال ابن عثيمين:” ومن يعظم حرماته: أي ما جعله محترماً من الأماكن أو الأزمان أو الأشخاص، فالذي يعظم حرمات الله فهو خيرٌ له عند ربه، ومن كان يكره أو يشق عليه تعظيم هذا المكان كالحرمين مثلاً والمساجد، أو الزمان كالأشهر الحرم ” ذي القعدة وذي الحجة والمحرم ورجب” وما أشبه ذلك، فليحمل على نفسه وليكرهها على التعظيم.
ومن ذلك تعظيم إخوانه المسلمين، وتنزيلهم منزلتهم، فإن المسلم لا يحل له أن يحقر أخاه المسلم، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ” بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم”.
وكذلك أيضاً تعظيم ما حرمه الله عزّ وجلّ في المعاهدات التي تكون بين المسلمين وبين الكفار، فإنه لا يحل لأحد أن ينقض عهداً بينه وبين غيره من الكفار.
ولكن المعاهدون ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الذين أتموا عهدهم فهؤلاء نتمم عهدهم.
القسم الثاني: الذين خانوا أو نقضوا، قال الله تعالى: (فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة: 7)، فهؤلاء ينتقض عهدهم كما فعلت قريش في الصلح الذي جرى بينها وبين النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية، فإنهم وضعوا الحرب بينهم عشر سنين، ولكن قريشاً نقضوا العهد، فهؤلاء ينتقض عهدهم، ولا يكون بيننا وبينهم عهد، وهؤلاء قال الله فيهم: (أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَأُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةَ) (التوبة: 13).
والقسم الثالث: من لم ينقض العهد لكن نخاف منه أن ينقض العهد، فهؤلاء نبلغهم بأن لا عهد بيننا وبينهم، كما قال تعالى: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) (لأنفال: 58).
فهذه من حرمات الله عزّ وجلّ، وكل شيء جعله الله محترما من زمان أو مكان أو أعيان فهو من حرمات الله عز وجل فإن الواجب على المسلم أن يحترمه، ولهذا قال الله تعالى: (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّه) ” (شرح رياض الصالحين 2/ 540)
الآية الثانية: وَقالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]
قال البغوي:” (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) قال ابن عباس ” شعائر الله ” البدن والهدي، وأصلها من الإشعار، وهو إعلامها ليعرف أنها هدي، وتعظيمها: استسمانها واستحسانها. وقيل ” شعائر الله ” أعلام دينه، ” فإنها من تقوى القلوب “، أي: فإن تعظيمها من تقوى القلوب.”
قال القرطبي:” قوله تعالى: ومن يعظم شعائر الله الشعائر جمع شعيرة، وهو كل شيء لله تعالى فيه أمر أشعر به وأعلم ”
قال ابن تيمية:” قال تعالى: {ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب}. فالمقصود تقوى القلوب لله وهو عبادتها له وحده دون ما سواه. بغاية العبودية له والعبودية فيها غاية المحبة وغاية الذل والإخلاص وهذه ملة إبراهيم الخليل. وهذا كله مما يبين أن عبادة القلوب هي الأصل” (مجموع الفتاوى 17/ 485)
قال السعدي:” أي: ذلك الذي ذكرنا لكم من تعظيم حرماته وشعائره، والمراد بالشعائر: أعلام الدين الظاهرة، ومنها المناسك كلها، كما قال تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ومنها الهدايا والقربان للبيت، وتقدم أن معنى تعظيمها، إجلالها، والقيام بها، وتكميلها على أكمل ما يقدر عليه العبد، ومنها الهدايا، فتعظيمها، باستحسانها واستسمانها، وأن تكون مكملة من كل وجه، فتعظيم شعائر الله صادر من تقوى القلوب، فالمعظم لها يبرهن على تقواه وصحة إيمانه، لأن تعظيمها، تابع لتعظيم الله وإجلاله.”
قال ابن علان:” وقال تعالى: {ومن يعظم شعائر الله} دين الله أو فرائض الحج ومواضع نسكه أو الهدايا لأنها من معالم الحج وهو أوفق لظاهر ما بعده، وعليه فتعظيمها أن يختارها سمانا غالية الأثمان.” (دليل الفالحين 1/ 404)
قال فيصل آل مبارك:” شعائر الله: الهدايا، وفرائض الحج ومواضع نسكه، والآيةُ عامَّة في جميع شعائر الدين” (تطريز رياض الصالحين ص173)
قال ابن باز:” تعظيم ما عظمه الله واحترام ما احترمه الله من الشعائر” (شرح رياض الصالحين لابن باز 1/ 461)
قال ابن عثيمين:” الشعائر: العبادات الظاهرة سواء كانت كبيرة أم صغيرة؛ مثل الطواف بالبيت، والسعى بين الصفا والمروة، والأذان والإقامة، وغيرها من شعائر الإسلام فإنها إذا عظمها الإنسان كان ذلك دليلاً على تقواه، فإن التقوى هي التي تحمل العبد على تعظيم الشعائر” (شرح رياض الصالحين 2/ 542)
الآية الثالثة قالَ تَعَالَى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 88]
قال الطبري:” وقوله (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وألِن لمن آمن بك، واتبعك واتبع كلامك، وقرِّبهم منك، ولا تجف بهم، ولا تَغْلُظ عليهم، يأمره تعالى ذكره بالرفق بالمؤمنين، والجناحان من بني آدم: جنباه، والجناحان: الناحيتان، ومنه قول الله تعالى ذكره: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ قيل: معناه: إلى ناحيتك وجنبك.”
قال القرطبي:” واخفض جناحك للمؤمنين أي ألن جانبك لمن آمن بك وتواضع لهم. وأصله أن الطائر إذا ضم فرخه إلى نفسه بسط جناحه ثم قبضه على الفرخ، فجعل ذلك وصفا لتقريب الإنسان أتباعه ”
قال السعدي:” {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} بلين جانبك، ولطف خطابك لهم، وتوددك، وتحببك إليهم، وحسن خلقك والإحسان التام بهم، وقد فعل صلى الله عليه وسلم، ذلك كما قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ} فهذه أخلاقه صلى الله عليه وسلم، أكمل الأخلاق، التي يحصل بها من المصالح العظيمة، ودفع المضار، ما هو مشاهد، فهل يليق بمؤمن بالله ورسوله، ويدعي اتباعه والاقتداء به، أن يكون كلاًّ على المسلمين، شرس الأخلاق، شديد الشكيمة عليهم، غليظ القلب، فظ القول، فظيعه؟ و إن رأى منهم معصية، أو سوء أدب، هجرهم، ومقتهم، وأبغضهم، لا لين عنده، ولا أدب لديه، ولا توفيق، قد حصل من هذه المعاملة، من المفاسد، وتعطيل المصالح ما حصل، ومع ذلك تجده محتقرا لمن اتصف بصفات الرسول الكريم، وقد رماه بالنفاق والمداهنة، وقد كمَّل نفسه ورفعها، وأعجب بعمله، فهل هذا إلا من جهله، وتزيين الشيطان وخدعه له، ولهذا قال الله لرسوله: {فَإِنْ عَصَوْكَ} في أمر من الأمور، فلا تتبرأ منهم، ولا تترك معاملتهم، بخفض الجناح، ولين الجانب، بل تبرأ من عملهم، فعظهم عليه وانصحهم، وابذل قدرتك في ردهم عنه، وتوبتهم منه، وهذا لدفع احتراز وهم من يتوهم، أن قوله {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ} للمؤمنين، يقتضي الرضاء بجميع ما يصدر منهم، ما داموا مؤمنين، فدفع هذا بهذا والله أعلم. ” (تفسير السعدي)
قال ابن عثيمين:” أما الآية الثالثة فهي قوله تعالي: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) وفي الآية الأخرى: (لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (الشعراء: 215)، والمعني تذلل لهم ولِن لهم في المقال والفعال؛ لأن المؤمن مع أخيه رحيم به، شفيق به، كما قال تعالى في وصف النبي صلي الله عليه وسلم ومن معه: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) ” (شرح رياض الصالحين 2/ 543)
الآية الرابعة: وَقالَ تَعَالَى: {مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة:32].
قال ابن كثير:” (أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا (أي: ومن قتل نفسا بغير سبب من قصاص، أو فساد في الأرض، واستحل قتلها بلا سبب ولا جناية، فكأنما قتل الناس جميعا ; لأنه لا فرق عنده بين نفس ونفس) ومن أحياها (أي: حرم قتلها واعتقد ذلك، فقد سلم الناس كلهم منه بهذا الاعتبار ; ولهذا قال (فكأنما أحيا الناس جميعا) (تفسير ابن كثير)
قال ابن جزي:” أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} قال مجاهد: وعد الله قاتل النفس بجهنم، والخلود فيها، والغضب، واللعنة، والعذاب العظيم … القصد بالآية: تعظيم قتل النفس، والتشديد فيه؛ لينزجر الناس عنه، وكذلك الثواب في إحيائها كثواب إحياء الجميع؛ لتعظيم الأمر، والترغيب فيه. [ابن جزي: (1) / (243)]
قوله {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} قال السعدي:” وكذلك من أحيا نفساً، أي: استبقى أحداً فلم يقتله مع دعاء نفسه له إلى قتله، فمنعه خوف الله تعالى من قتله، فهذا كأنه أحيا الناس جميعاً؛ لأن ما معه من الخوف يمنعه من قتل من لا يستحق القتل. [السعدي: (229)]
قال فيصل آل مبارك:” قوله: {بِغَيْرِ نَفْسٍ}، أي: توجب القصاص. {أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ}، كالشرك، وقطع الطرق، وثبت بالسُّنَّة رجم الزاني المحصن، وقتل تارك الصلاة {وَمَنْ أَحْيَاهَا}، أي: تسبب لبقاء حياتها بعفو، أو منع عن القتل، أو استنقاذ {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}. وفيه: تعظيم إثم قاتل النفس وتعظيم أجر من أحياها.” (تطريز الرياض)
قال ابن عثيمين:” … حرمة المسلمين واحدة، ومن انتهك حرمة شخص من المسلمين، فكأنما انتهك حرمة جميع المسلمين، كما أن من كذب رسولاً واحداً من الرسل، فكأنما كذب جميع الرسل. ولهذا أقرأ قوله تعالى: (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) … وقوله عزّ وجلّ: (بِغَيْرِ نَفْسٍ) يستفاد منه أن من قتل نفساً بنفس فهو معذور ولا حرج عليه. قال الله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) (المائدة: 45)، فإذا قتل نفساً بحق أي بنفس أخرى فلا لوم عليه ولا إثم، ويرث القاتل من المقتول إذا قتله بحق، ولا يرث القاتل من المقتول إذا قتله بغير حق. ” (شرح رياض الصالحين)
وقال أيضا:” وقوله عزّ وجلّ: (أَوْ فَسَادٍ) والفساد في الأرض ليس معناه أن يسلط الإنسان الحفار فيهدم بيتاً ولو كان ذلك بغير حق. فهذا وإن كان فساداً، لكن لا يحل به دم مسلم، والفساد في الأرض إنما يكون بنشر الأفكار السيئة، أو العقائد الخبيثة، أو قطع الطريق، أو ترويج المخدرات أو ما أشبه ذلك، هذا هو الفساد في الأرض. فمن أفسد في الأرض على هذا الوجه فدمه هدر حلال، يُقتل لأنه ساع في الأرض بالفساد؛ بل إن الله تعالى قال في نفس السورة: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ ٌ) (المائدة: 33)، على حسب جريمتهم، إن كانت كبيرة فبالقتل، وإن كانت دونها فبالصلب، وإن كانت دونها فبقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى،، وإن كان دون ذلك فبأن ينفوا من الأرض، إما بالحبس مدى الحياة. كما قال بذلك بعض أهل العلم، وإما بالطرد عن المدن كما قاله آخرون، لكن إذا كان لا يندفع شرهم بطردهم من المدن حبسوا إلى الموت.” (شرح رياض الصالحين)
227 – وعن أَبي موسى رضي اللَّه عنه قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: “الْمُؤْمنُ للْمُؤْمِن كَالْبُنْيَانِ يَشدُّ بعْضُهُ بَعْضاً” وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِه. متفق عليه.
قال القرطبي – رحمه الله -: قوله: “المؤمن للمؤمن كالبنيان … إلخ” تمثيل يفيد الحض على معونة المؤمن للمؤمن، ونصرته، وأن ذلك أمر متأكد، لا بد منه، فإن البناء لا يتم أمره، ولا تحصل فائدته، إلا بأن يكون بعضه يمسك بعضا، ويقويه، فإن لم يكن كذلك انحلت أجزاؤه، وخرب بناؤه، وكذلك المؤمن لا يستقل بأمور دنياه ودينه، إلا بمعونة أخيه، ومعاضدته، ومناصرته، فإن لم يكن ذلك عجز عن القيام بكل مصالحه، وعن مقاومة مضاده، فحينئذ لا يتم له نظام دنيا، ولا دين، ويلتحق بالهالكين” (المفهم)
قال النووي:” قوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا) وفي الحديث الآخر: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم) إلى آخره، صريح في تعظيم حقوق المسلمين بعضهم على بعض، وحثهم على التراحم والملاطفة والتعاضد في غير إثم ولا مكروه، ” (شرح مسلم)
(المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا) اللام فيه للجنس والمراد بعض المؤمنين للبعض، وقوله: ” يشد بعضه بعضا ” بيان لوجه التشبيه، قال ابن بطال: والمعاونة في أمور الآخرة وكذا في الأمور المباحة من الدنيا مندوب إليها، وقد ثبت حديث أبي هريرة: ” والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه “. (فتح الباري)
قال المناوي – رحمه الله -: قوله: “ثم شبك بين أصابعه”؛ أي: يشد بعضهم بعضا مثل هذا الشد، فوقع التشبيك تشبيها لتعاضد المؤمنين بعضهم ببعض، كما أن البنيان الممسك بعضه ببعض يشد بعضه بعضا، وذلك لأن أقواهم لهم ركن، وضعيفهم مستند لذلك الركن القوي، فإذا والاه قوي” (فيض القدير 6/ 252)
قوله: (ثم شبك بين أصابعه) قال النووي:”وفيه جواز التشبيه وضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأفهام.” قال ابن حجر:” يستفاد منه أن الذي يريد المبالغة في بيان أقواله يمثلها بحركاته ليكون أوقع في نفس السامع. (فتح الباري)
قال الراغب – رحمه الله -: إنه لما صعب على كل أحد أن يحصل لنفسه أدنى ما يحتاج إليه إلا بمعاونة عدة له، فلقمة طعام لو عددنا تعب تحصيلها، من زرع، وطحن، وخبز، وصناع آلاتها لصعب حصره، فلذلك قيل: الإنسان مدني بالطبع، ولا يمكنه التفرد عن الجماعة بعيشه، بل يفتقر بعضهم لبعض في مصالح الدارين، وعلى ذلك نبه هذا الحديث.
(فيض القدير)
قال ابن باز:” فكما أن البنيان يمسك بعضه بعضا لبنة مع لبنة وهكذا، فهكذا المؤمنون يتماسكون ويتعاضدون ويتعاونون لا يضر بعضهم بعضا، ولايؤذي بعضهم بعضا، بل يشد بعضهم بعضا ويحترم بعضهم بعضا، قال تعالى: ــ (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) وقال تعالى: وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
228 – عنه قال: قال رسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: “مَن مَرَّ فِي شَيْءٍ مِنْ مَسَاجِدِنَا، أَوْ أَسْوَاقِنَا، ومَعَه نَبْلٌ فَلْيُمْسِكْ، أَوْ لِيَقْبِضْ عَلَى نِصالِهَا بِكفِّهِ أَنْ يُصِيب أَحَداً مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا بِشَيْءٍ” مُتَّفَقٌ عليه
قال النووي:” فيه هذا الأدب، وهو الإمساك بنصالها عند إرادة المرور بين الناس في مسجد أو سوق أو غيرهما، وفيه اجتناب كل ما يخاف منه ضرر.” (شرح مسلم)
قوله: (أو أسواقنا) هو تنويع من الشارع وليس شكا من الراوي. (فتح الباري)
قوله (ومعه نبل) جاء في رواية ” بنبل ” للمصاحبة. (فتح الباري) قال ابن علان:” النبل بفتح النون وسكون الموحدة: السهام العربية وهي مؤنثة لا واحد لها من لفظها” (دليل الفالحين1/ 405)
قال ابن باز:” النبل لها سهام لها أطراف قد تؤذي، قد تجرح، فيمسك بها حتى لا يجرح أحد وهكذا من مر في الأسواق بحطب أو أبواب أو مواسير أو غير هذا مما يجرح، يجب عليه أن يحذر وأن يرفق وأن يتحرى الطريق السليم البعيد عن الأذى، حتى لا يخدش أحدا بحطب أو عود أو ماسورة أو باب أو غير هذا مما قد يؤذي الناس، ليمشي بهون ورفق في أسواق الناس حتى لا يؤذيهم بما يحمل” (1/ 462)
قوله: (على نصالها) ضمن الأخذ معنى الاستعلاء للمبالغة، أو ” على ” بمعنى الباء (فتح الباري) جاء في رواية “ثم ليأخذ بنصالها” كررها ثلاث مرات، وقال القرطبي -رحمه الله-: وتكراره: “فليأخذ بنصالها” ثلاث مرات على جهة التأكيد والمبالغة في سد الذريعة، وهو من جملة ما استدل به مالك على أصله في سد الذرائع (المفهم)
قال النووي:” والنصول والنصال جمع نصل، وهو حديدة السهم ” (شرح مسلم) قال ابن علان:” النصال: بكسر النون وبالمهملة الحديدة التي في رأس السهم” (دليل الفالحين 1/ 405)
وقوله: (فليقبض بكفه)، أي: على النصال، وليس المراد: خصوص ذلك، بل يحرص على أن لا يصيب مسلما بوجه من الوجوه كما دل عليه التعليل بقوله: ” أن يصيب أحدا من المسلمين منها بشيء “.
وزاد مسلم في آخر الحديث: ” قال أبوموسى: والله ما متنا حتى سددناها، بعضنا في وجوه بعض ” أي: قومناها إلى وجوههم، وهي كناية عما وقع من قتال بعضهم بعضا في تلك الحروب الواقعة في الجمل وصفين، وفي هذين الحديثين تحريم قتال المسلم وقتله، وتغليظ الأمر فيه، وتحريم تعاطي الأسباب المفضية إلى أذيته بكل وجه، وفيه حجة للقول بسد الذرائع. (فتح الباري)
قال القرطبي:” يعني: ما مات معظم الصحابة – رضي الله عنهم – حتى وقعت بينهم الفتن والمحن، فرمى بعضهم بعضا بالسهام، وقاتل بعضهم بعضا. ذكر هذا في معرض التأسف على تغير الأحوال وحصول الخلاف لمقاصد الشرع، من التعاطف والتواصل، على قرب العهد وكمال الجد.” (المفهم)
قال ابن عثيمين:” النبل: السهام التي يُرمى بها، وأطرافها تكون دائماً دقيقة تنفذ فيما تصيبه من المرمي، فإذا أمسك الإنسان بها وقى الناس شرها. وإذا تركها هكذا فربما تؤذي أحداً من الناس، ربما يأتي أحدٌ بسرعة فتخدشه، أو يمرّ الرجل الذي يمسك بها وهي مفتوحة غير ممسكة فتخدشهم أيضاً. ومثل ذلك أيضاً العصيّ، إذا كان معك عصّا فامسكها طولاً، يعني اجعل رأسها إلى السماء ولا تجعلها عرضاً؛ لأنك إذا جعلتها عرضاً آذيت الناس الذين وراءك، ربما تؤذى الذين أمامك. ومثله الشمسية أيضاً؛ إذا كان معك شمسية وأنت في السوق فارفعها، لئلا تؤذي الناس.
فكل شيء يؤذي المسلمين أو يُخشى من أذيته فإنه يتجنبه الإنسان؛ لأن أذية المسلمين ليست بالهينة. قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً) ” (شرح رياض الصالحين 2/ 550)
من فوائد الحديث أن الإسلام دين الأمن والأمان. وفيه حرص الإسلام على سلامة الآخرين.
229 – وعن النُّعْمَانِ بنِ بشِيرٍ رضي اللَّه عنهما قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: “مثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمِهِمْ وتَعاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَداعَى لهُ سائِرُ الْجسدِ بالسهَرِ والْحُمَّى” متفقٌ عليه.
قوله: (وتوادهم) بتشديد الدال، والأصل: التوادد، فأدغم، والتوادد ” تفاعل ” من المودة، والود والوداد بمعنى، وهو تقرب شخص من آخر بما يحب. (فتح الباري)
قوله: (وتعاطفهم) قال ابن أبي جمرة: الذي يظهر أن التراحم والتوادد والتعاطف وإن كانت متقاربة في المعنى لكن بينها فرق لطيف، فأما التراحم فالمراد به: أن يرحم بعضهم بعضا بأخوة الإيمان لا بسبب شيء آخر، وأما التوادد فالمراد به: التواصل الجالب المحبة كالتزاور والتهادي، وأما التعاطف فالمراد به: إعانة بعضهم بعضا كما يعطف الثوب عليه ليقويه. انتهى ملخصا (فتح الباري)
قوله: (كمثل الجسد) أي: بالنسبة إلى جميع أعضائه، ووجه التشبيه فيه التوافق في التعب والراحة. (فتح الباري) قال النووي:” وفيه جواز التشبيه وضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأفهام” (شرح مسلم)
قوله: (تداعى) أي: دعا بعضه بعضا إلى المشاركة في الألم، ومنه قولهم: تداعت الحيطان، أي: تساقطت أو كادت. (فتح الباري)
قوله: (بالسهر والحمى) أما السهر فلأن الألم يمنع النوم، وأما الحمى فلأن فقد النوم يثيرها. وقد عرف أهل الحذق الحمى بأنها: حرارة غريزية تشتعل في القلب فتشب منه في جميع البدن فتشتعل اشتعالا يضر بالأفعال الطبيعية. قال القاضي عياض: فتشبيهه المؤمنين بالجسد الواحد تمثيل صحيح، وفيه تقريب للفهم وإظهار للمعاني في الصور المرئية، وفيه تعظيم حقوق المسلمين والحض على تعاونهم وملاطفة بعضهم بعضا. وقال ابن أبي جمرة: شبه النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بالجسد وأهله بالأعضاء؛ لأن الإيمان أصل، وفروعه التكاليف، فإذا أخل المرء بشيء من التكاليف شان ذلك الإخلال الأصل، وكذلك الجسد أصل كالشجرة وأعضاؤه كالأغصان، فإذا اشتكى عضو من الأعضاء اشتكت الأعضاء كلها، كالشجرة إذا ضرب غصن من أغصانها اهتزت الأغصان كلها بالتحرك والاضطراب. (فتح الباري) قال القاري:” أي: بالحرارة، والتكسر، والضعف؛ ليتوافق الكل في العسر، كما كانوا في حال الصحة متوافقين في اليسر، ثم أصل التداعي أن يدعو بعضهم بعضا؛ ليتفقوا على فعل شيء، فالمعنى أنه كما أن عند تألم بعض أعضاء الجسد يسري ذلك إلى كله، كذلك المؤمنون كنفس واحدة، إذا أصاب واحدا منهم مصيبة، ينبغي أن يغتم جميعهم، ويهتموا بإزالتها عنه” (شرح المشكاة)
قال النووي:”قوله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم) إلى آخره صريح في تعظيم حقوق المسلمين بعضهم على بعض، وحثهم على التراحم والملاطفة والتعاضد في غير إثم ولا مكروه. ” (شرح مسلم)
قال ابن باز:” المؤمن هكذا كأنه جسد واحد يتأذى بعضهم ببعض، ويسر بعضهم ببعض، وكما أن الجسد إذا أصيب في رأسه أو في يده أو في رجله تأذى كله، فهكذا المؤمنون يجب أن يتألموا لألم إخوانهم ويسروا لسرور إخوانهم حتى يحملهم هذا على المواساة والمساعدة الدفع عن إخوانهم فيهما يضرهم وإيصال الخير إليهم … ” (شرح رياض الصالحين لاباز 1/ 463)