2195 – تحضير سنن أبي داود
جمع أحمد بن علي وعبدالله المشجري وعدنان البلوشي وعمر الشبلي وأحمد بن خالد وأسامة الحميري ومحمد فارح ويوسف بن محمد السوري
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
سنن أبي داود
بَابُ نَسْخِ الْمُرَاجَعَةِ بَعْدَ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ
2195 – حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ، وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] الْآيَةَ، ” وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، فَهُوَ أَحَقُّ بِرَجْعَتِهَا، وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، فَنُسِخَ ذَلِكَ، وَقَالَ: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229]
_________
[حكم الألباني]: حسن صحيح
2196 – حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي بَعْضُ بَنِي أَبِي رَافِعٍ، مَوْلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: طَلَّقَ عَبْدُ يَزِيدَ أَبُو رُكَانَةَ، وَإِخْوَتِهِ أُمَّ رُكَانَةَ، وَنَكَحَ امْرَأَةً مِنْ مُزَيْنَةَ، فَجَاءَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: مَا يُغْنِي عَنِّي إِلَّا كَمَا تُغْنِي هَذِهِ الشَّعْرَةُ، لِشَعْرَةٍ أَخَذَتْهَا مِنْ رَاسِهَا، فَفَرِّقْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَأَخَذَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَمِيَّةٌ، فَدَعَا بِرُكَانَةَ، وَإِخْوَتِهِ، ثُمَّ قَالَ لَجُلَسَائِهِ: «أَتَرَوْنَ فُلَانًا يُشْبِهُ مِنْهُ كَذَا وَكَذَا؟، مِنْ عَبْدِ يَزِيدَ، وَفُلَانًا يُشْبِهُ مِنْهُ كَذَا وَكَذَا؟» قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعَبْدِ يَزِيدَ: «طَلِّقْهَا» فَفَعَلَ، ثُمَّ قَالَ: «رَاجِعِ امْرَأَتَكَ أُمَّ رُكَانَةَ وَإِخْوَتِهِ؟» قَالَ: إِنِّي طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «قَدْ عَلِمْتُ رَاجِعْهَا» وَتَلَا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَحَدِيثُ نَافِعِ بْنِ عُجَيْرٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ بْنِ رُكَانَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رُكَانَةَ، طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ، فَرَدَّهَا إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «أَصَحُّ، لِأَنَّ وَلَدَ الرَّجُلِ، وَأَهْلَهُ أَعْلَمُ بِهِ، إِنَّ رُكَانَةَ إِنَّمَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ، فَجَعَلَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَاحِدَةً»
[حكم الألباني]: حسن
2197 – حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَجَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: إِنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، قَالَ: فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ رَادُّهَا إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: ” يَنْطَلِقُ أَحَدُكُمْ، فَيَرْكَبُ الْحُمُوقَةَ ثُمَّ يَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، وَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]، وَإِنَّكَ لَمْ تَتَّقِ اللَّهَ فَلَمْ أَجِدْ لَكَ مَخْرَجًا، عَصَيْتَ رَبَّكَ، وَبَانَتْ مِنْكَ امْرَأَتُكَ، وَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ} [الطلاق: 1] فِي قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ “.
قَالَ أَبُو دَاوُدَ: رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ حُمَيْدٌ الْأَعْرَجُ، وَغَيْرُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهُ شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَيُّوبُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، جَمِيعًا عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهُ الْأَعْمَشُ، عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ كُلُّهُمْ قَالُوا: فِي الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنَّهُ أَجَازَهَا، قَالَ: وَبَانَتْ مِنْكَ نَحْوَ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، إِذَا قَالَ: «أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا بِفَمٍ وَاحِدٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ»، وَرَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، هَذَا قَوْلُهُ لَمْ يَذْكُرْ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَجَعَلَهُ قَوْلَ عِكْرِمَةَ
[حكم الألباني]: صحيح
2198 – وَصَارَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى وَهَذَا حَدِيثُ أَحْمَدَ – قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِيَاسٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَأَبَا هُرَيْرَةَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، سُئِلُوا عَنِ الْبِكْرِ يُطَلِّقُهَا زَوْجُهَا ثَلَاثًا؟ فَكُلُّهُمْ قَالُوا: «لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ». قَالَ أَبُو دَاوُدَ: رَوَى مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، أَنَّهُ شَهِدَ هَذِهِ الْقِصَّةَ حِينَ جَاءَ مُحَمَّدُ بْنُ إِيَاسِ بْنِ الْبُكَيْرِ، إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَعَاصِمِ بْنِ عُمَرَ فَسَأَلَهُمَا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَا: اذْهَبْ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ فَإِنِّي تَرَكْتُهُمَا عِنْدَ عَائِشَةَ رضي الله عنها، ثُمَّ سَاقَ هَذَا الْخَبَرَ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: ” وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ: أَنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ تَبِينُ مِنْ زَوْجِهَا مَدْخُولًا بِهَا، وَغَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا، لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، هَذَا مِثْلُ خَبَرِ الصَّرْفِ، قَالَ فِيهِ: ثُمَّ إِنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ ”
[حكم الألباني]: صحيح
2199 – حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ، عَنْ طَاوُسٍ، أَنَّ رَجُلًا، يُقَالُ لَهُ: أَبُو الصَّهْبَاءِ كَانَ كَثِيرَ السُّؤَالِ لِابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، جَعَلُوهَا وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبِي بَكْرٍ، وَصَدْرًا مِنْ إِمَارَةِ عُمَرَ؟، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَلَى، ” كَانَ الرَّجُلُ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، جَعَلُوهَا وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبِي بَكْرٍ، وَصَدْرًا مِنْ إِمَارَةِ عُمَرَ، فَلَمَّا رَأَى النَّاسَ قَدْ تَتَابَعُوا فِيهَا، قَالَ: أَجِيزُوهُنَّ عَلَيْهِمْ ”
[حكم الألباني]: ضعيف
2200 – حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَتَعْلَمُ أَنَّمَا كَانَتِ الثَّلَاثُ تُجْعَلُ وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَبِي بَكْرٍ، وَثَلَاثًا مِنْ إِمَارَةِ عُمَرَ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «نَعَمْ»
[حكم الألباني]: صحيح
قال الخطابي:
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، قال: حَدَّثنا عبد الرزاق قال أخبرنا ابن جريج قال أخبرني بعض بني رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم عن عكرمة عن ابن عباس قال طلق عبد يزيد أبو ركانة أم ركانة ونكح امرأة من مزينة فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت ما يغني عني إلاّ كما تغني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها ففرق بيني وبينه فأخذت النبي صلى الله عليه وسلم حمية فدعا بركانة واخوته ثم قال لجلسائه أترون فلاناً يشبه منه كذا أو كذا من عبد يزيد، قالوا نعم قال لعبد يزيد طلقها ففعل، ثم قال راجع امرأتك أم ركانة، فقال إني طلقتها ثلاثاً يا رسول الله ققال قد علمت ارجعها وتلا {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق: 1] الآية.
قال الشيخ في إسناد هذا الحديث مقال لأن ابن جريج إنما رواه عن بعض بني أبي رافع ولم يسمعه والمجهول لا يقوم به الحجة.
وقد روى أبو داود هذا الحديث بإسناد أجود منه أن ركانة طلق امرأته البتة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أردت إلاّ واحدة فقال ركانة والله ما أردت إلاّ واحدة فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلقها الثانية في زمان عمر والثالثة في زمان عثمان رضي الله عنهما.
قال أبو داود: حدثنا ابن السرح وإبراهيم بن خالد الكلبي في آخرين قالوا حدثنا الشافعي قال حدثني عمي محمد بن علي بن شافع عن عبد الله بن علي بن السائب عن نافع بن عجير بن عبد يزيد بن ركانة وذكر الحديث، قال أبو داود وهذا أولى لأنهم ولد الرجل وأهله وهم أعلم به.
قال الشيخ قد يحتمل أن يكون حديث ابن جريج إنما رواه الراوي على المعنى دون اللفظ وذلك أن الناس قد اختلفوا في البتة، فقال بعضهم هي ثلاثة، وقال بعضهم هي واحدة وكأن الراوي له ممن يذهب مذهب الثلاث فحكي أنه قال إني طلقتها ثلاثا يريد البتة التي حكمها عنده حكم الثلاث والله أعلم.
وكان أحمد بن حنبل يضعف طرق هذه الأحاديث كلها.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، قال: حَدَّثنا عبد الرزاق قال أخبرنا ابن جريج، قال أخبرني ابن طاوس عن أبيه أن أبا الصهباء قال لابن عباس أتعلم إنما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وثلاثاً إمارة عمر قال ابن عباس نعم.
قال الشيخ اختلف الناس في تأويل ما روي من هذا عن ابن عباس فقال بعضهم قد كان هذا في الصدر الأول ثم نسخ.
قال الشيخ وهذا لا وجه له لأن النسخ إنما يكون في زمان النبي صلى الله عليه وسلم والوحي غير منقطع فأما في زمان عمر رضي الله عنه فلا معنى للنسخ، وقد استقرت أحكام الشريعة وانقطع الوحي وإنما هو زمان الاجتهاد والرأي فيما لم يبلغهم عن النبي صلى الله عليه وسلم نص وتوقيف وحدثني الحسن بن يحيى عن ابن المنذر، وروى هذا الحديث، ثم روي عن ابن عبد الحكم عن ابن وهب عن سفيان الثوري عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال لرجل طلق امرأته ثلاثا حرمت عليك، قال ابن المنذر فغير جائز أن يظن بابن عباس أن يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ثم يفتي بخلافه.
قال الشيخ ويشبه أن يكون معنى الحديث منصرفا إلى طلاق البتة، لأنه قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ركانة أنه جعل البتة واحدة وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يراها واحدة، ثم تتابع الناس في ذلك فألزمهم الثلاث وإليه ذهب غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم، روى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه جعلها ثلاثاً، وكذلك روي عن ابن عمر وكان يقول ابت الطلاق طلاق البتة، وإليه ذهب سعيد بن المسيب وعروة وعمر بن عبد العزيز والزهري، وبه قال مالك والأوزاعي وابن أبي ليلى وأحمد بن حنبل. وهذا كصنيعه بشارب الخمر فإن الحد كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر أربعين ثم ان عمر لما رأى الناس تتابعوا في الخمر واستخفوا بالعقوبة فيها، قال أرى أن تبلغ فيها حد المفتري لأنه إذا سكر هذى، وإذا هذي افترى وكان ذلك عن ملأ من الصحابة فلا ينكر أن يكون الأمر في طلاق البتة على شاكلته.
وفيه وجه آخر ذهب إليه أبو العباس بن شريح قال يمكن أن يكون ذلك إنما جاء في نوع خاص من الطلاق الثلاث وهو أن يفرق بين اللفظ كأنه يقول أنت طالق أنت طالق أنت طالق فكان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر والناس على صدقهم وسلامتهم ولم يكن ظهر فيهم الخب والخداع، فكانوا يصدقون أنهم أرادوا به التوكيد ولا يريدون الثلاث، فلما رأى عمر رضي الله عنه في زمانه أموراً ظهرت وأحوالاً تغيرت منه من حمل اللفظ على التكرار وألزمهم الثلاث.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبد الملك بن مروان،، قال: حَدَّثنا أبو النعمان، قال: حَدَّثنا حماد بن زيد عن أيوب عن غير واحد عن طاوس أن رجلا يقال له أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس؛ قال أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدراً من إمارة عمر؛ فلما رأى الناس تتابعوا فيها قال أجيزوهن عليهم.
قال الشيخ وهذا تأويل ثالث وهو أن ذلك إنما جاء في طلاق غير المدخول بها، وقد ذهب إلى هذا الرأي جماعة من أصحاب ابن عباس منهم سعيد بن جبير وطاوس وأبو الشعثاء وعطاء وعمرو بن دينار وقالوا من طلق البكر ثلاثاً فهي واحدة. وعامة أهل العلم على خلاف قولهم.
وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن وابن أبي ليلى والأوزاعي والليث بن سعد ومالك بن أنس فيمن تابع بين كلامه فقال لإمرأته التي لم يدخل بها أنت طالق أنت طالق أنت طالق ثلاثاً لم يحل له حتى تنكح زوجا غيره، غير أن مالكاً قال إذا لم يكن له نية، وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي والشافعي وأحمد وإسحاق تبين بالأولى ولا حكم لما بعدها.
[معالم السنن 3/ 235]
قال ابن قدامة:
فصل: وإن طلَّقَ ثلاثًا بكلمةٍ واحدةٍ، وقعَ الثَّلاثُ، وحَرُمَتْ عليه حتى تَنْكِحَ زوجًا غيرَه، لا (20) فرقَ بينَ قبلِ الدُّخولِ وبعدِه. رُوِىَ ذلك عن ابنِ عبَّاسٍ، وأبى هُرَيْرةَ، وابن عمرَ، وعبدِ اللَّهِ بنِ عمروٍ، وابنِ مسعودٍ، وأنَسٍ. وهو قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ مِنَ التَّابعِينَ والأئَّمةِ بعدَهم. وكان عطاءٌ، وطاوسٌ، وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، وأبو الشَّعْثَاءِ (21)، وعمرُو بنُ دينارٍ، يقولون: مَن طلَّقَ البِكْرَ ثلاثةً فهى واحدةٌ. وَرَوَى طاوسٌ عنِ ابنِ عبَّاسٍ، قال: كان الطَّلاقُ على عهدِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأبى بكرٍ وسَنتَينِ مِن خلافةِ عمرَ، طلاقُ الثَّلاثِ واحدةً. رَوَاه أبو داود (22). وروىَ سعيدُ بنُ جُبَيرٍ، وعمرو بنُ دينارٍ، ومُجَاهِدٌ، ومالكُ بنُ الحارثِ، عن ابنِ عبَّاسٍ، خلافَ روايةِ طَاوُسٍ، أخْرَجه أيضًا أبو داودَ (23). وأفْتَى ابنُ عبَّاسٍ بخلافِ ما رَوَاه (24) عنه طاوسٌ. وقد ذكرْنا حديثَ ابنِ عمرَ: أرأيتَ لو طلَّقْتُها ثلاثًا. ورَوَى الدَّارَقُطْنِىُّ (25)، بإسْنادِه عن عُبَادَةَ بنِ الصَّامتِ، قال: طلَّقَ بعضُ آبائى امرأتَه ألفًا، فانْطلقَ بَنُوه إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّ أبانا طلَّقَ أُمُّنا ألفًا، فهل له مَخْرَجٌ؟ فقال: “إنَّ أَبَاكُمْ لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ فَيَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ مَخْرَجًا، بَانَتْ مِنْهُ بِثَلَاثٍ عَلَى غَيْرِ السُّنَّةِ، وَتِسْعُمِائَةٍ وَسَبْعَةٌ وَتِسْعُوْنَ إثْمٌ فِى عُنُقِهِ”. ولأنَّ النِّكاحَ مِلْكٌ يَصِحُّ إزالتُه مُتَفَرِّقًا، فصَحَّ مُجتمِعًا، كسائرِ الأملاكِ. فأمَّا حديثُ ابنِ عبَّاسٍ، فقد صحَّتِ الرِّوايةُ عنه بخلافِه، وأفْتَى أيضًا بخلافِه.
قال الأثْرمُ: سألتُ أبا عبدِ اللَّهِ، عن حديثِ ابنِ عبَّاسٍ، بأىِّ شاءٍ تدْفَعُه؟ فقال: أدْفَعُه برواية النَّاس عن ابنِ عبَّاسٍ مِن وجُوهٍ خلافَه. ثم ذكَرَ عن عِدَّةٍ، عن ابن عبَّاسٍ من وُجوهٍ، أنَّها ثلاثٌ. وقيل: معنى حديثِ ابنِ عبَّاسٍ، أنَّ النَّاسَ كانوا يُطَلِّقُونَ واحدةً على عهدِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأبى بكرٍ، وإلَّا فلا يَجوزُ أن يُخالفَ عمرُ ما كان فى عهدِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبى بكرٍ، ولا يَسُوغُ لابنِ عبَّاسٍ أن يَرْوِىَ هذا عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ويُفْتِىَ بخلافِه.
[المغني لابن قدامة 10/ 334]
قال ابن القيم:
فصل
واعلم أن من اتقى الله فى طلاقة، فطلق كما أمره الله ورسوله، وشرعه له. أغناه عن ذلك كله، ولهذا قال تعالى، بعد أن ذكر حكم الطلاق المشروع: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق: 2].
فلو اتقى الله عامة المطلقين لاستغنوا بتقواه عن الآصار والأغلال، والمكر والاحتيال، فإن الطلاق الذى شرعه الله سبحانه: أن يطلقها طاهراً من غير جماع، ويطلقها واحدة، ثم يدعها حتى تنقضى عدتها. فإن بدا له أن يمسكها فى العدة أمسكها، وإن لم يراجعها حتى انقضت عدتها أمكنه أن تستقبل عليها من غير زوج آخر، وإن لم يكن له فيها غرض لم يضره أن تتزوج بزوج غيره، فمن فعل هذا لم يندم، ولم يحتج إلى حيلة بزوج ولا تحليل.
ولهذا سئل ابن عباس عن رجل طلق امرأته مائة؟ فقال: “عصيت ربك، وفارقت امرأتك، لم تتق الله فيجعل لك مخرجاً”.
وقال سعيد بن جبير: “جاء رجل إلى ابن عباس، فقال: إنى طلقت امرأتى ألفا، فقال: أما ثلاث فتحرم عليك امرأتك، وبقيتهن وزر، اتخذت آيات الله هزوا”.
وقال مجاهد: “كنت عند ابن عباس، فجاءه رجل، فقال: إنه طلق امرأته ثلاثا. فسكت، حتى ظننت أنه رادّها إليه، ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة، ثم يقول: يا ابن عباس، يا ابن عباس، وإن الله تعالى قال: {وَمَنْ يَتَّق اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق: 2]، وإنك لم تتق الله، فلا أجد لك مخرجاً، عصيت ربك، وبانت منك امرأتك، ذكره أبو داود.
وقد روى النسائى عن محمود بن لبيد قال: ” أُخْبِرَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ رَجُلٍ طَلّقَ امْرأَتَهُ ثَلاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعاً، فقَامَ غَضْبَانَ، ثُمَّ قَالَ: أَيُلْعَبُ بِكِتَاب اللهِ وَأَنَآ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ حَتَّى قَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلا أَقْتُلهُ؟ “.
وهذه الآثار موافقة لما دل عليه القرآن، فإن الله سبحانه إنما شرع الطلاق مرة بعد مرة. ولم يشرعه جملة واحدة أصلاً. قال تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229]، والمرتان فى لغة العرب، بل وسائر لغات الناس إنما تكون لما يأتى مرة بعد مرة، فهذا القرآن من أوله إلى آخره، وسنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وكلام العرب قاطبة شاهد بذلك، كقوله تعالى:
{سَنُعذَبُهُمْ مَرَّتَينِ} [التوبة: 101] وقوله: {أَولَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلِّ عَامٍ مَرّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة: 126] وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلَم مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} [النور: 58].
ثم فسرها بالأوقات الثلاثة، وشواهد هذا أكثر من أن تحصى.
ثم قال سبحانه: {فَإِنْ طَلّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230].
فهذه هى المرة الثالثة.
فهذا هو الطلاق الذى شرعه الله سبحانه مرة بعد مرة، فهذا شرعه من حيث العدد.
وأما شرعه من حيث الوقت: فشرع الطلاق للعدة، وقد فسره النبى صلى الله عليه وآله وسلم بأن يطلقها طاهراً من غير جماع، فلم يشرع جمع ثلاث، ولا تطليقتين، ولم يشرع الطلاق فى حيض، ولا فى طهر وطئها فيه، وكان المطلق فى زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كله وزمن أبى بكر كله، وصدرا من خلافة عمر رضى الله عنهما، إذا طلق ثلاثاً يحسب له واحدة، وفى ذلك حديثان صحيحان: أحدهما رواه مسلم فى “صحيحه”، والثانى: رواه الإمام أحمد فى “مسنده”.
فأما حديث مسلم: فرواه من طريق ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضى الله عنهما قال:
“كانَ الطّلاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ تعالى عليهِ وآله وسلمَ وأبى بكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلافَةِ عُمَر: طَلَاقُ الثَّلاثِ وَاحِدَةٌ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِىَ اللهُ عَنْهُ: إِنَّ النَّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا فى أَمْرِ كانَتْ لَهُمْ أنَاةٌ، فَلَوْ أمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ؟ فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ”.
وفى “صحيحه” أيضاً عن طاوس: أن أبا الصهباء قال لابن عباس:
“هَاتِ مِنْ هُنَيَّاتِكَ: ألَمْ يَكُنِ الطّلاقُ الثّلاثُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ تعَالَى علَيْهِ وآله وسلّمَ، وَأبى بَكْرٍ وَاحِدَةً؟ فقَالَ: قَدْ كانَ ذلِكَ فَلَمَّا كَانَ فى عَهْدِ عُمر تَتَايعَ النَّاسُ فى الطلاقِ، فأَجَازَهُ عَلَيْهِمْ”.
وفى لفظ لأبى داود: “أن رجلاً يقال له: أبو الصهباء، كان كثير السؤال لابن عباس، قال: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأبى بكر، وصدرا من إمارة عمر رضى الله عنهما؟ فقال ابن عباس: بلى، كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة، على عهد رسول الله صلى الله تعالى وآله وسلم، وأبى بكر، وصدراً من إمارة عمر رضى الله عنهما، فلما رأى الناس قد تتابعوا فيها قال: أجرهن عليهم”، هكذا فى هذه الرواية: “قبل أن يدخل بها” وبها أخذ إسحاق بن راهويه، وخلق من السلف، جعلوا الثلاث واحدة فى غير المدخول بها. وسائر الروايات الصحيحة ليس فيها: “قبل الدخول” ولهذا لم يذكر مسلم منها شيئاً ….
[ثم بحث المسألة بحثا طويلا وخلص أن الطلاق الثلاث تقع واحدة]
[إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان 1/ 283 ت الفقي]
وقال ابن القيم أيضا:
فهذا كتاب اللَّه وهذه سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهذه لغة العرب وهذا عرف التخاطب وهذا خليفة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والصحابة كلهم معه في عَصْره وثلاث سنين من عصر عمر على هذا المذهب (3)؛ فلو عَدَّهم العادُّ بأسمائهم واحدًا واحدًا [لوجد] (1) أنهم كانوا يرون الثلاث واحدة إما بفتوى وإما بإقرار عليها، ولو فُرض فيهم مَنْ لم يكن يرى ذلك فإنه لم يكن منكرًا للفتوى به، بل كانوا ما بين مُفتٍ ومقرّ بفتيا وساكتٍ غيرِ منكر، وهذا حال كل صحابي من عهد الصديق إلى ثلاث سنين من خلافة عمر، وهم يزيدون على الألف قطعًا كما ذكره يونس بن بكير عن ابن إسحاق (2)، قال: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير قال؛ استشهد من المسلمين في وَقعة اليمامة ألف ومئتا رجل منهم سبعون من القرّاء كلهم قد قرأوا القرآن، وتُوفي في خلافة الصديق رضي الله عنه فاطمة بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعبد اللَّه بن أبي بكر (3)، قال محمد بن إسحاق: فلما أُصيب المسلمون من المهاجرين والأنصار باليمامة وأصيب فيهم عامة فقهاء المسلمين وقرائهم فزع أبو بكر إلى القرآن، وخاف أن يهلك منه طائفة، وكل صحابي من لدن خلافة الصديق إلى ثلاث سنين من خلافة عمر كان على أن الثلاث واحدة فتوى أو إقرارًا أو سكوتًا.
ولهذا ادعى بعضُ أهلِ العلم أن هذا إجماع قديم، ولم تجمع الأمة -وللَّه الحمد- على خلافه، بل لم يزل فيهم مَنْ يُفتي به قرنًا بعد قرن، وإلى يومنا هذا، فأفتى به حَبْر الأمة وتَرْجُمَان القرآن عبد اللَّه بن عبَّاس كما رواه حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس: “إذا قال أنت طالق ثلاثًا بفم واحد فهي واحدة” (4) وأفتى أيضًا بالثلاث، أفتى بهذا وهذا، وأفتى بأنها واحدة الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف، حكاه عنهما ابنُ وضَّاح (1)، وعن علي كرم اللَّه وجهه وابن مسعود روايتان (2) كما عن ابن عباس، وأما التابعون فأفتي به عكرمة، رواه إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عنه، وأفتى به طاوس، وأما تابعوا التابعين فأفتى به محمد بن إسحاق، حكاه الإمام أحمد وغيره عنه، وأفتى به خِلَاس بن عمرو والحارث العُكْلي، وأما أتباع تابعي التابعين فأفتى به داود بن علي وأكثر أصحابه، حكاه عنهم ابن المغلِّس (1) وابن حزم وغيرهما، وأفتى به بعض أصحاب مالك، حكاه التلمساني في “شرح تفريع ابن الجلاب” (2) قولًا لبعض المالكية، وأفتى به بعضُ الحنفية، حكاه أبو بكر الرازي عن محمد بن مقاتل، وأفتى به بعض أصحاب أحمد، حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية عنه، قال: وكان الجد يفتي به أحيانًا (3)، وأما الإمام أحمد نفسه فقد قال الأثرم: سألت أبا عبد اللَّه عن حديث ابن عباس: “كان الطلاق الثلاث على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر واحدة” (4) بأيِّ شيء تدفعه؟ قال: برواية الناس عن ابن عباس من وجوه خلافُه، ثم ذكر عن عدة عن ابن عباس أنها ثلاث (5)؛ فقد صرح بأنه إنما ترك القول به لمخالفة رَاوِيه له، وأصل مذهبه وقاعدته التي بنى عليها أن الحديث إذا صح لم يرده لمخالفة (1) راويه له، بل الأخذ عنده بما رواه، كما فعل في رواية ابن عباس وفَتْواه في بيع الأمة (2) فأخذ بروايته أنه لا يكون طلاقًا، وترك رأيه، وعلى أصله يُخرَّج له قول إن الثلاث واحدة؛
فإنه إذا صرح بأنه إنما ترك الحديث لمخالفة الراوي وصرَّح في عدة مواضع أن مخالفة الراوي لا تُوجب ترك الحديث خرج له في المسألة قولان، وأصحابه يخرِّجون على مذهبه أقوالًا دون ذلك بكثير.
والمقصود أن هذا القولَ قد دل عليه الكتاب والسنة والقياس والإجماع القديم، ولم يأت بعده إجماعٌ يبطله، ولكن رَأى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أن الناس قد استهانوا بأمر الطلاق، وكثر منهم إيقاعه جملةً واحدة؛ فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم؛ ليعلموا أن أحدهم إذا أوقعه جملة بانت منه المرأة وحرمت عليه حتى تنكح زوجًا غيره نكاحَ رغبةٍ يراد للدوام لا نكاحَ تحليلٍ، فإنه كان من أشدِّ الناس فيه (3)، فإذا علموا ذلك كفّوا عن الطلاق المحرَّم، فرأى عمر أن هذا مصلحة لهم في زمانه، ورأى أن ما كانوا عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد الصديق وصدرًا من خلافته كان الأليق بهم؛ لأنهم لم يتتابعوا (4) فيه، وكانوا يتقون اللَّه في الطلاق، وقد جعل اللَّه لكل من اتقاه مخرجًا، فلما تركوا تقوى اللَّه وتلاعبوا بكتاب اللَّه وطلّقوا على غير ما شرعه اللَّه ألزمهم بما التزموه عقوبةً لهم؛ فإن اللَّه تعالى إنما شرع الطلاق مرَّة بعد مرَّة، ولم يشرعه كله مرة واحدة، فمن جمع الثلاث في مرة واحدة فقد تعدَّى حدود اللَّه، وظلم نفسه، ولعب بكتاب اللَّه، فهو حقيق أن يُعَاقَبَ، ويُلزم بما التزمه، ولا يُقرّ على رخصة اللَّه وسعته، وقد صعّبها على نفسه، ولم يتق اللَّه ولم يطلق كما أمره اللَّه وشَرَعه له، بل استعجل فيما جعل اللَّه له الأناة فيه رحمة منه وإحسانًا، ولبّس على نفسه، واختار الأغلظ والأشد؛ فهذا مما تغيرت به الفتوى لتغير الزمان …
[إعلام الموقعين عن رب العالمين 4/ 384 ت مشهور]
قال ابن رسلان:
(قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد يزيد) أي ركانة (طلقها) أي طلق المزنية، والظاهر أن هذا أمر إرشاد ومصلحة يشبه أن يكون أمره بطلاقها لما جهرت به بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولما رأى من المصلحة (ففعل) أي: طلقها امتثالًا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي رأى له فيه المصلحة.
(قال: راجع امرأتك أم) بالنصب بدل (ركانة و) أم (إخوته) هذا كالتعليل للمراجعة، والتقدير: راجعها لأنها أم أولادك لما يحصل للأولاد من الرفق عند اجتماع أبويهما وما يحصل لهم من المشقة إذا كانوا عند ضرة أمهما.
(فقال: إني طلقتها ثلاثًا يا رسول الله قال: قد علمت) فيه دلالة على جواز وقوع الطلاق الثلاث واحدة؛ لأنه قال: “قد علمت” فأقره عليه ولم ينكر عليه (راجعها) هذا موضع التبويب وهو أن هذِه المراجعة التي بعد التطليقات الثلاث منسوخة بما في “الصحيح” عن عائشة: أن امرأة رفاعة القرظي طلقها فبت طلاقها، وفي رواية: فطلقها آخر ثلاث تطليقات فتزوجها ابن الزبير، وإنما معه مثل هدبة الثوب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟! لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك” (1). وهذا الذي ذكره المصنف من النسخ هو قول الجمهور من السلف والخلف، وشذ طاوس وبعض أهل الظاهر فقالوا: إن الطلاق الثلاث في كلمة واحدة يقع واحدة فقط، ولزوجها أن يراجعها، ويروى هذا عن محمد بن إسحاق والحجاج بن أرطاة، حكاه القرطبي، وقال: قيل عنهما: لا يلزم منه شيء، وهو مذهب مقاتل، ويروى عن داود (2).
واستدل من قال: تقع الثلاث المجتمعة بكلمة واحدة بأحاديث ثلاثة: بهذا الحديث، والثاني حديث ابن عمر على رواية من روى أنه طلق ثلاثًا (3)، والثالث: ما روي عن ابن عباس من رواية طاوس وأبي الصهباء وعكرمة (4) (وتلا) قول الله تعالى: ({يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ}) (5) فيه استدلال بكتاب الله على السنة؛ لأنه الأصل المعتمد للأخذ منه، والسنة بيان له ({فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}) (1) قال مالك في “الموطأ”: فطلقوهن لعدتهن يعني بذلك أن يطلق في كل طهر مرة (2)، انتهى. ويؤخذ منه أن من طلق ثلاثًا بكلمة واحدة مخالف لأمر الله ….
[شرح سنن أبي داود لابن رسلان 9/ 620]
قال الإتيوبي:
قال الجامع عفا الله عنه: لقد أحسن الشيخ الشنقيطيّ رحمه الله في تحقيق هذه المسألة، واستوعب البحث فيها من جميع الجوانب، فأجاد وأفاد.
وخلاصته ترجيح مذهب الجمهور في أن من قال لامرأته أنت طالق ثلاثًا تبين منه امرأته، ولا تحلّ له إلا بعد زوج آخر، وقد كنت رجّحت فيما كتبته في “شرح النسائيّ” قول من قال: إنها تقع واحدة، ثم ترجّح لديّ الآن أن مذهب الجمهور هو الصحيح؛ لقوّة حججهم، كما عرفته مما سبق، فللَّه سبحانه وتعالى الحمد والمنّة، وله الفضل والنعمة، وهو أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج 26/ 89]
راجع كلام الشنقيطي عند قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ}.
[أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 1/ 187 ط عطاءات العلم]
جاء في قرار هيئة كبار العلماء
رقم (18) وتاريخ 12\ 11 \ 1393 هـ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فبناء على ما قرره مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الثالثة، المنعقدة في شهر ربيع الثاني عام 1393 هـ بحث مسألة (الطلاق الثلاث بلفظ واحد) واستنادا إلى المادة السابعة من لائحة سير العمل في هيئة كبار العلماء، والتي تنص على: أن ما يجري بحثه في مجلس الهيئة يتم بطلب من ولي الأمر أو بتوصية من الهيئة، أو من أمينها، أو من رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، أو من اللجنة الدائمة المتفرعة عن الهيئة – فقد جرى إدراج الموضوع في جدول أعمال الهيئة لدورتها المنعقدة في ما بين 29\ 10 \ 1393 هـ و 12\ 11 \ 1393 هـ في هذه الدورة جرى دراسة الموضوع.
بعد الاطلاع على البحث المقدم من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء والمعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء في موضوع (الطلاق الثلاث بلفظ واحد).
وبعد دراسة المسألة، وتداول الرأي، واستعراض الأقوال التي قيلت فيها، ومناقشة ما على كل قول من إيراد – توصل المجلس بأكثريته إلى اختيار القول بوقوع الطلاق الثلاث بلفظ واحد ثلاثا؛ وذلك لأمور أهمها ما يلي:
أولا: لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (1) إلى قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (2)
فإن الطلاق الذي شرعه الله هو ما يتعقبه عدة، وما كان صاحبه مخيرا بين الإمساك بمعروف والتسريح بإحسان. وهذا منتف في إيقاع الثلاث في العدة قبل الرجعة، فلم يكن طلاقا للعدة، وفي فحوى هذه الآية دلالة على وقوع الطلاق لغير العدة، إذ لو لم يقع لم يكن ظالما لنفسه بإيقاعه لغير العدة، ولم ينسد الباب أمامه حتى يحتاج إلى المخرج الذي أشارت إليه الآية الكريمة {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (3) وهو الرجعة حسبما تأوله ابن عباس رضي الله عنه حين قال للسائل الذي سأله – وقد طلق ثلاثا -: إن الله تعالى يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (4) وإنك لم تتق الله فلم أجد لك مخرجا، عصيت ربك وبانت منك امرأتك.
ولا خلاف في أن من لم يطلق للعدة بأن طلق ثلاثا مثلا فقد ظلم نفسه، فعلى القول بأنه إذا طلق ثلاثا فلا يقع من طلاقه إلا واحدة، فما هي التقوى التي بالتزامها يكون المخرج واليسر، وما هي عقوبة هذا الظالم نفسه المتعدي لحدود الله حيث طلق بغير العدة، فلقد جعل الشارع على من قال قولا منكرا لا يترتب عليه مقتضى قوله المنكر عقوبة له على ذلك كعقوبة المظاهر من امرأته بكفارة الظهار، فظهر والله أعلم: أن الله تعالى عاقب من طلق ثلاثا بإنفاذها عليه وسد المخرج أمامه، حيث لم يتق الله فظلم نفسه وتعدى حدود الله.
ثانيا: ما في [الصحيحين] عن عائشة رضي الله عنها: «أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت فطلقت، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم أتحل للأول؟ قال: لا، حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول (1)»، فقد ذكره البخاري رحمه الله تحت ترجمة (باب من أجاز الطلاق ثلاثا)، واعترض على الاستدلال به بأنه مختصر من قصة رفاعة بن وهب التي جاء في بعض رواياتها عند مسلم أنها طلقها زوجها آخر ثلاث تطليقات.
ورد الحافظ ابن حجر رحمه الله الاعتراض بأن غير رفاعة قد وقع له مع امرأته نظير ما وقع لرفاعة، فلا مانع من التعدد، فإن كلا من رفاعة القرظي ورفاعة النضري وقع له مع زوجة له طلاق فتزوج كلا منهما عبد الرحمن بن الزبير فطلقها قبل أن يمسها، ثم قال: وبهذا يتبين خطأ من وحد بينهما ظنا منه أن رفاعة بن سموءل هو رفاعة بن وهب. اهـ.
وعند مقابلة هذا الحديث بحديث ابن عباس الذي رواه عنه طاوس «كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة (2)» إلخ. . .) فإن الحال لا تخلو من أمرين: إما أن يكون معنى الثلاث في حديث عائشة وحديث طاوس أنها مجتمعة أو متفرقة، فإن كانت مجتمعة فحديث عائشة متفق عليه فهو أولى بالتقديم، وفيه التصريح بأن تلك الثلاث تحرمها ولا تحل إلا بعد زوج، وإن كانت متفرقة فلا حجة في حديث طاوس على محل النزاع في وقوع الثلاث بلفظ واحد واحدة، وأما اعتبار الثلاث في حديث عائشة مفرقة وفي حديث طاوس مجتمعة فلا وجه له ولا دليل عليه.
ثالثا: لما وجه به بعض أهل العلم كابن قدامة رحمه الله حيث يقول: ولأن النكاح ملك يصح إزالته متفرقا فصح مجتمعا كسائر الأملاك. والقرطبي رحمه الله حيث يقول: وحجة الجمهور من جهة اللزوم من حيث النظر ظاهرة جدا، وهو أن المطلقة ثلاثا لا تحل للمطلق حتى تنكح زوجا غيره، ولا فرق بين مجموعها ومفرقها لغة وشرعا وما يتخيل من الفرق صوري ألغاه الشارع اتفاقا في النكاح والعتق والأقارير، فلو قال الولي: أنكحتك هؤلاء الثلاث في كلمة واحدة انعقد، كما لو قال: أنكحتك هذه وهذه وهذه، وكذلك في العتق والإقرار وغير ذلك من الأحكام. اهـ، وغاية ما يمكن أن يتجه على المطلق بالثلاث لومه على الإسراف برفع نفاذ تصرفه.
رابعا: لما أجمع عليه أهل العلم إلا من شذ في إيقاع الطلاق من الهازل، استنادا إلى حديث أبي هريرة وغيره مما تلقته الأمة بالقبول، من أن «ثلاثا جدهن جد وهزلهن جد: الطلاق والنكاح والرجعة (1)» ولأن قلب الهازل بالطلاق عمد ذكره، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في تعليله القول بوقوع الطلاق من الهازل، حيث قال: ومن قال: لا لغو في الطلاق فلا حجة معه؛ بل عليه؛ لأنه لو سبق لسانه بذكر الطلاق من غير عمد القلب لم يقع به وفاقا، وأما إذا قصد اللفظ به هازلا فقد عمد قلبه ذ كره. اهـ.
فإن ما زاد على الواحدة لا يخرج عن مسمى الطلاق بل هو من صريحه، واعتبار الثلاث واحدة إعمال لبعض عدده دون باقيه بلا مسوغ، اللهم إلا أن يكون المستند في ذلك حديث ابن عباس، ويأتي الجواب عنه إن شاء الله.
خامسا: إن القول بوقوع الثلاث ثلاثا قول أكثر أهل العلم، فلقد أخذ به عمر وعثمان وعلي والعبادلة: ابن عباس، وابن عمر، وابن عمرو، وابن مسعود، وغيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال به الأئمة الأربعة: أبو حنيفة ومالك، والشافعي، وأحمد، وابن أبي ليلى، والأوزاعي، وذكر ابن عبد الهادي عن ابن رجب رحمه الله قوله: اعلم أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من أئمة السلف المعتد بقولهم في الفتاوى في الحلال والحرام – شيء صريح في أن الطلاق الثلاث بعد الدخول يحسب واحدة، إذا سبق بلفظ واحد. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض بحثه الأقوال في ذلك: الثاني: أنه طلاق محرم ولازم، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، وأحمد في الرواية المتأخرة عنه، اختارها أكثر أصحابه، وهذا القول منقول عن كثير من السلف من الصحابة والتابعين. اهـ.
وقال ابن القيم: واختلف الناس فيها – أي: في وقوع الثلاث بكلمة واحدة – على أربعة مذاهب: أحدها: أنه يقع، وهذا قول الأئمة الأربعة وجمهور التابعين وكثير من الصحابة. اهـ.
وقال القرطبي: قال علماؤنا: واتفق أئمة الفتوى على لزوم إيقاع الطلاق الثلاث في كلمة واحدة، وهو قول جمهور السلف.
وقال ابن العربي في كتابه: [الناسخ والمنسوخ] ونقله عنه ابن القيم رحمه الله في [تهذيب السنن]: قال تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (1) زل قوم في آخر الزمان فقالوا: إن الطلاق الثلاث في كلمة واحدة لا يلزم، وجعلوه واحدة، ونسبوه إلى السلف الأول، فحكوه عن علي والزبير وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وابن عباس، وعزوه إلى الحجاج بن أرطأة الضعيف المنزلة والمغموز المرتبة، ورووا في ذلك حديثا ليس له أصل. . . إلى أن قال: وما نسبوه إلى الصحابة كذب بحت لا أصل له في كتاب ولا رواية له عن أحد، إلى أن قال: وأما حديث الحجاج بن أرطأة فغير مقبول في الملة ولا عند أحد من الأئمة. اهـ.
سادسا: لتوجه الإيرادات على حديث ابن عباس رضي الله عنه: «كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافة أبي بكر وصدر من خلافة عمر، طلاق الثلاث واحدة (2)» إلى آخر الحديث، مما يضعف الأخذ به والاحتجاج بما يدل عليه، فإنه يمكن أن يجاب عنه بما يلي:
(أ) ما قيل من أن الحديث مضطرب سندا ومتنا:
أما اضطراب سنده: فلروايته تارة عن طاوس عن ابن عباس، وتارة عن طاوس عن أبي الصهباء عن ابن عباس، وتارة عن أبي الجوزاء عن ابن عباس.
وأما اضطراب متنه: فإن أبا الصهباء تارة يقول: ألم تعلم أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة، وتارة يقول: «ألم تعلم أن الطلاق الثلاث كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر واحدة (1)».
(ب) قد تفرد به عن ابن عباس طاوس، وطاووس متكلم فيه من حيث روايته المناكير عن ابن عباس، قال القاضي إسماعيل في كتابه [أحكام القرآن]: طاوس مع فضله وصلاحه يروي أشياء منكرة منها هذا الحديث، وعن أيوب أنه كان يعجب من كثرة خطأ طاوس، وقال ابن عبد البر: شذ طاوس في هذا الحديث، وقال ابن رجب: وكان علماء أهل مكة ينكرون على طاوس ما ينفرد به من شواذ الأقاويل، ونقل القرطبي عن ابن عبد البر أنه قال: رواية طاوس وهم وغلط لم يعرج عليها أحد من فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والمغرب.
(ج) ما ذكره بعض أهل العلم من أن الحديث شاذ من طريقين:
أحدهما: تفرد طاوس بروايته، وأنه لم يتابع عليه، قال الإمام أحمد في رواية ابن منصور: كل أصحاب ابن عباس رووا عنه خلاف ما روى طاوس، وقال الجوزجاني: هو حديث شاذ، وقال ابن رجب ونقله عنه ابن عبد الهادي: وقد عنيت بهذا الحديث في قديم الدهر فلم أجد له أصلا. الثاني: ما ذكره البيهقي، فإنه ساق الروايات عن ابن عباس بلزوم الثلاث، ثم نقل عن ابن المنذر أنه لا يظن بابن عباس أنه يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ويفتي بخلافه، وقال ابن التركماني: وطاووس يقول: إن أبا الصهباء مولاه سأله عن ذلك ولا يصح ذلك عن ابن عباس لرواية الثقات عنه خلافه، ولو صح عنه ما كان قوله حجة على من هو من الصحابة أجل وأعلم منه وهم عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عمر وغيرهم. اهـ.
فلما في هذا الحديث من الشذوذ فقد أعرض عنه الشيخان الجليلان أبو عبد الله أحمد بن حنبل، فقد قال للأثرم وابن منصور: بأنه رفض حديث ابن عباس قصدا؛ لأنه يرى عدم الاحتجاج به في لزوم الثلاث بلفظ واحد، لرواية الحفاظ عن ابن عباس ما يخالف ذلك، والإمام محمد بن إسماعيل البخاري ذكر عنه البيهقي أنه ترك الحديث عمدا لذلك الموجب الذي تركه من أجله الإمام أحمد، ولا شك أنهما لم يتركاه إلا لموجب يقتضي ذلك.
(د) أن حديث ابن عباس يتحدث عن حالة اجتماعية مفروض فيها أن تكون معلومة لدى جمهور معاصريها، وتوفر الدواعي لنقلها بطرق متعددة مما لا ينبغي أن يكون موضع خلاف، ومع هذا لم تنقل إلا بطريق أحادي عن ابن عباس فقط، ولم يروها عن ابن عباس غير طاوس الذي قيل عنه بأنه يروي المناكير، ولا يخفى ما عليه جماهير علماء الأصول من أن خبر الآحاد إذا كانت الدواعي لنقله متوفرة، ولم ينقله إلا واحد ونحوه أن ذلك يدل على عدم صحته، فقد قال صاحب [جمع الجوامع] عطفا على ما يجزم فيه بعدم صحة الخبر: والمنقول آحادا فيما تتوفر الدواعي إلى نقله خلافا للرافضة. اهـ.
وقال ابن الحاجب في مختصره الأصولي: إذا انفرد واحد فيما يتوافر الدواعي على نقله وقد شاركه خلق كثير، كما لو انفرد واحد بقتل خطيب على المنبر في مدينة فهو كاذب قطعا خلافا للشيعة. اهـ.
فلا شك أن الدواعي إلى نقل ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون بعده في خلافة أبي بكر وصدر من خلافة عمر، من أن الطلاق الثلاث كانت تجعل واحدة متوفرة توافرا لا يمكن إنكاره، ولا شك أن سكوت جميع الصحابة عنه حيث لم ينقل عنهم حرف واحد في ذلك غير ابن عباس، يدل دلالة واضحة على أحد أمرين: إما أن المقصود بحديث ابن عباس ليس معناه بلفظ واحد، بل بثلاثة ألفاظ في وقت واحد، وإما أن الحديث غير صحيح لنقله آحادا مع توفر الدواعي لنقله.
(هـ) ما عليه ابن عباس رضي الله عنه من التقى والصلاح والعلم والاستقامة والتقيد بالاقتداء والقوة في الصدع بكلمة الحق التي يراها، يمنع القول بانقياده إلى ما أمر به عمر رضي الله عنه من إمضاء الثلاث والحال أنه يعرف حكم الطلاق الثلاث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر من أنه يجعل واحدة.
فلا يخفى خلافه مع عمر رضي الله عنهما في متعة الحج وبيع الدينار بالدينارين وفي بيع أمهات الأولاد وغيرها من مسائل الخلاف، فكيف يوافقه في شيء يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه خلافه، وإلى قوته رضي الله عنه في الصدع بكلمة الحق التي يراها، تشير كلمته المشهورة في مخالفته عمر في متعة الحج وهي قوله: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر.
(و) على فرض صحة حديث ابن عباس فإن ما عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من التقى والصلاح والاستقامة وتمام الاقتداء بما عليه الحال المعتبرة شرعا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر – يمنع القول بانقيادهم إلى أمر عمر رضي الله عنه في إمضاء الثلاث، والحال أنهم يعرفون ما كان عليه أمر الطلاق الثلاث في ذلك العهد، ومع هذا فلم يثبت بسند صحيح أن أحدا منهم أفتى بمقتضى ما عليه الأمر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر حسبما ذكره ابن عباس في حديثه.
(ز) ما في حديث ابن عباس من الدلالة على أن عمر أمضى الثلاث عقوبة للناس؛ لأنهم قد استعجلوا أمرا كان لهم فيه أناة. وهذا مشكل، ووجه الإشكال: كيف يقرر عمر رضي الله عنه وهو هو تقى وصلاحا وعلما وفقها – بمثل هذه العقوبة التي لا تقتصر آثارها على من استحقها، وإنما تتجاوزه إلى طرف آخر ليس له نصيب في الإجرام، ونعني بالطرف الآخر: الزوجات، حيث يترتب عليها إحلال فرج حرام على طرف ثالث، وتحريم فرج حلال بمقتضى عقد الزواج، وحقوق الرجعة، مما يدل على أن حديث طاوس عن ابن عباس فيه نظر.
وأما المشايخ: عبد العزيز بن باز، وعبد الرزاق عفيفي، وعبد الله خياط، وراشد بن خنين، ومحمد بن جبير – فقد اختاروا القول بوقوع الثلاث واحدة، ولهم وجهة نظر مرفقة، وأما الشيخ صالح بن لحيدان فقد أبدى التوقف.
وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء
رئيس الدورة الرابعة
عبد الله بن محمد بن حميد
عبد الله خياط مخالف … عبد العزيز بن صالح … إبراهيم بن محمد آل الشيخ
عبد الله بن غديان … صالح بن لحيدان … محمد الأمين الشنقيطي
عبد المجيد حسن … سليمان بن عبيد … راشد بن خنين
عبد الله بن منيع … عبد الرزاق عفيفي … عبد العزيز بن باز
محمد الحركان … صالح بن غصون … محمد بن جبير
[أبحاث هيئة كبار العلماء 1/ 541]
بينما طول ابن القيم في التدليل على أن من قال أنت طالق ثلاثا واحدة: فقال:
وكان المطلق في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلِّه، وزمَنِ أبي بكر كلِّه، وصَدْرًا من خلافة عمر رضي الله عنه؛ إذا طلّق ثلاثًا تُحْسَب له واحدة، وفي ذلك حديثان صحيحان: أحدهما رواه مسلم في «صحيحه»، والثاني رواه الإمام أحمد في «مسنده».
فأما حديث مسلم ((2)): فرواه من طريق ابن طاوُس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان الطلاق على عَهْد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وسنَتين من خلافة عمر: طلاقُ الثلاث واحدة، فقال عمر رضي الله عنه: إن الناس قد استعجلوا في أمرٍ كانت لهم فيه أناةٌ، فلو أمضيناه عليهم! فأمضاه عليهم.
وفي «صحيحه» ((3)) أيضًا عن طاوس: أن أبا الصهباء قال لابن عباس: هاتِ من هَنَاتِك! ألم يكن الطلاقُ الثلاث على عَهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر واحدةً؟ فقال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتايع الناس في الطلاق، فأجازه عليهم.
وفي لفظ لأبي داود ((4)): أن رجلًا يقال له أبو الصهباء كان كثير السؤال
لابن عباس، قال: أمَا علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدةً: على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وصدرًا من إمارة عمر رضي الله عنه؟ فقال ابن عباس: بَلى، كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة: على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وصدرًا من إمارة عمر رضي الله عنه، فلمّا رأى الناس قد تتايعوا فيها قال: أجْروهنّ عليهم.
هكذا في هذه الرواية: قبل أن يدخل بها. وبها أخذ إسحاق بن راهويه، وخَلْقٌ من السلف، جعلوا الثلاث واحدة في غير المدخول بها. وسائر الروايات الصحيحة ليس فيها: قبل الدخول؛ ولهذا لم يذكر مسلم منها شيئًا.
وهذا الحديث قد رواه عن ابن عباس ثلاثةُ نَفَرٍ: طاوس وهو أجلُّ من رواه عنه، وأبو الصهباء العدوي، وأبو الجوزاء، وحديثه عند الحاكم في «المستدرك» ((1)). ولفظه: أن أبا الجوزاء أتى ابن عباس، فقال: أتعلم أن ….
عن ابن عباس، قال: طلق عبد يزيد ــ أبو رُكانة وإخْوَتِهِ ــ أمَّ ركانة، ونكح امرأةً من مُزيَنْة، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ما يُغني عنِّي إلا كما تُغني هذه الشعرة، لشعرة أخذتها من رأسها، ففرِّقْ بيني وبينه، فأخذت النبي صلى الله عليه وسلم حَمِيّةٌ، فدعا بِركانة وإخوته، ثم قال لجلسائه: «أترون فلانًا يُشبه منه كذا وكذا؟ من عبد يزيد، وفلانًا يشبه منه كذا وكذا؟»، قالوا: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «طَلِّقها»، ففعل، فقال: «راجع امرأتك أمّ رُكانة وإخوته»، فقال: إني طلقتها ثلاثًا يا رسول الله؟! قال: «قد علمت، رَاجِعْها»، وتلا: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} الآية [الطلاق: (1)].
فأمره أن يراجعها وقد طلقها ثلاثًا، وتلا الآية التي هي وما بعدها صريحة في كون الطلاق الذي شرعه الله لعباده: هو الطلاق الذي يكون للعدّة، فإذا شارفت انقضاءها فإما أن يُمسكها بمعروف، أو يفارقها بمعروف، وأنه سبحانه شرعه على وجه التوسِعَة والتيّسير، فلعلّ المطلِّق أن يَندم، فيكون له سبيل إلى الرّجعة، وهو قوله تعالى: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: (1)]، فأمره بالمراجعة. وتلاوته الآية كافٍ في الاستدلال على ما كان عليه الحال.
فإن قيل: فهذا الحديث فيه مجهول، وهو بعض بني أبي رافع، والمجهول لا تقوم به حجة.
فالجواب من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الإمام أحمد قد قال في «المسند» ((1)): حدثنا سعد بن إبراهيم، حدثنا أبي، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني داود بن الحُصين، عن عِكْرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال: طلّق رُكانةُ بن عبد يزيد أخو المُطّلب امرأته ثلاثًا في مجلس واحد، فحزنَ عليها حُزنًا شديدًا، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف طلّقتها؟» قال: طلّقتُها ثلاثًا، قال: «في مجلس واحد؟» قال: نعم، قال: «فإنما تلك واحدة؛ فارْجِعْها إن شئت»، قال: فراجعها.
قال: وكان ابن عباس يرى أن الطلاق عند كل طُهْر.
تنبيه: حديث ابن عباس في تطبيق ركانه أخرجه أحمد في المسند ((1) / (265))، ورواه أيضًا أبو يعلى ((2500)) والبيهقي في الكبرى ((7) / (339)) وغيرهما من طرق عن ابن إسحاق به، وأُعلّ بداود بن الحصين فإنّه ثقة إلا في عكرمة، واختُلِف في صفة طلاق ركانة، فقال البيهقي: «هذا الإسناد لا تقوم به الحجة، مع ثمانية رووا عن ابن عباس فتياه بخلاف ذلك، ومع رواية أولاد ركانة أنّ طلاق ركانة كان واحدة»، وقال ابن عبد البر في الاستذكار ((6) / (9)): «هذا حديث منكر خطأ، وإنما طلق ركانة زوجته البتة»، وقال القرطبي في تفسيره ((3) / (131)): «الذي صحّ من حديث ركانة أنه طلق امرأته البتة لا ثلاثًا»، وضعّف الحديث الإمام أحمد كما في معالم السنن ((3) / (236))، وقال البخاري: مضطرب، كما في سنن الترمذي ((3) / (480))، وضعَّفه ابن الجوزي في العلل المتناهية ((1059))، وجوّد إسناده ابن تيمية كما في المجموع ((32) / (312)، (33) / (67)، (71)، (73)، (85))، وصحّحه المصنف في الزاد ((5) / (263))، ونقل فيما يأتي تصحيحَ أبي الحسن اللخمي، وحسنه بمجموع طريقيه الألباني في الإرواء ((7) / (145)).
ورواه الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي في «مُختارته» ((1)) التي هي أصحّ من «صحيح الحاكم».
فهذا موافق للأول، وكلاهما موافق لحديث طاوس، وأبي الصّهباء، وأبي الجوزاء، عن ابن عباس به، وطاوس وعكرمة أعلم أصحاب ابن عباس به؛ فإن عكرمة كان مولاه مصاحبًا له، وكان يقيِّده على العلم، وكان طاوس خاصًا عنده، يجتمع به كثيرًا، ويدخل عليه مع الخاصَّة، وكان طاوس وعكرمة يفتيان بأن الثلاث واحدة، وكذلك ابن إسحاق، لمَّا صحَّ عنده هذا الحديث أفتى بموجبه، وكان يقول: جهل السُّنَّةَ فيُردُّ إليها.
فرواةُ هذا الحديث أفتوا به، وعملوا به.
وعن ابن عباس فيه روايتان: إحداهما: موافقة عمر رضي الله عنه تأديبًا وتعزيرًا للمطلقين، والثانية: الإفتاء بموجبه.
وروى حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس ــ وحَسْبُك بهذا السند صِحَّةً وجلالةً ــ: إذا قال: أنت طالق ثلاثًا بفمٍ واحد فهي واحدة. ذكره أبو داود في «السنن» ((2)).
الوجه الثاني: أن هذا المجهول هو من التابعين، من أبناء مولى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن الكذب مشهورًا فيهم، والقصة معروفة محفوظة، وقد تابعه عليها داود بن الُحصين وهذا يدل على أنه حفظها.
الوجه الثالث: أن روايته لم يُعتمد عليها وحدها، فقد ذكرنا رواية داود بن الحصين، وحديث أبي الصهباء، فهَبْ أن وجود روايته وعدمها سواء؛ ففي حديث داود كفاية، وقد زالت تُهمة تَدْليس ابن إسحاق بقوله: حدثني.
وقد احتجَّ الأئمة بهذا السند بعينه في حديث تقدير العرايا بخمسة أوسُق أو دونها ((1))، وأخذوا به وعملوا بموجَبه، مع مخالفة عمومات الأحاديث الصحيحة في مَنع بيع الرُّطب بالتّمر ((2)) له.
والقول بهذه الأحاديث موافقٌ لظاهر القرآن، ولأقوال الصحابة، وللقياس، ومصالح بني آدم:
أما ظاهر القرآن: فإن الله سبحانه شرع الرّجْعة في كل طلاق إلا طلاق غير المدخول بها والمطلقة طلقة ثالثة بعد الأُولَيَيْن، وليس في القرآن طلاقٌ بائن قط إلا في هذين الموضعين، وأحدهما بائن غير مُحرِّم، والثاني بائن محرِّم، وقال تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ}، والمرتان ما كان مرة بعد مرة، كما تقدم
تنبيه:
حديث ابن عباس سنن أبي داود ((2) / (226)) معلّقًا، وقال عقبه: «ورواه إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن عكرمة هذا قوله لم يذكر ابن عباس وجعله قول عكرمة»، قال الشنقيطي في الأضواء ((1) / (129)): «لم يثبت عن ابن عباس أنه أفتى في الثلاث بفم واحد أنها واحدة، وما روى عنه أبو داود من طريق حماد عن أيوب عن عكرمة عنه، فهو معارَض بما رواه أبو داود نفسه من طريق إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن عكرمة أن ذلك من قول عكرمة لا من قول ابن عباس، وتُرجَّح رواية إسماعيل بن إبراهيم على رواية حماد بموافقة الحفاظ لإسماعيل في أنّ ابن عباس يجعلها ثلاثًا لا واحدة».
تتمة كلام ابن القيم
وأما القياس: فإن الله سبحانه قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: (6)]، ثم قال: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: (8)].
فلو قال: أشهد بالله أربع شهادات أنِّي صادق، أو قالت: أشهدُ بالله أربع شهاداتٍ أنه كاذبٌ كانت شهادةً واحدةً، ولم تكن أربعًا؛ فكيف يكون قوله: أنت طالقٌ ثلاثًا ثلاث تطليقاتٍ؟ وأيُّ قياسٍ أصحُّ من هذا؟
وهكذا كل ما يعتبر فيه العدد من الإقرار ونحوه. ولهذا لو قال المقرّ بالزنى: إني أقرّ بالزنى أربع مرات؛ كان ذلك مرةً واحدة، وقد قال الصحابة لماعزٍ: إن أقررت أربعًا رجمك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلو قال: أُقِرُّ به أربع مرات كانت مرة واحدة، فهكذا الطلاق سواءً.
فهذا القياس، وتلك الآثار، وذاك ظاهر القرآن.
وأما أقوال الصحابة: فيكفي كون ذلك على عهد الصديق، ومعه جميع الصحابة، لم يختلف عليه منهم أحد، ولا حُكي في زمانه القولان، حتى قال بعض أهل العلم: إن ذلك إجماع قديم؛ وإنما حدثَ الخلافُ في زمن عمر رضي الله عنه، واستمر الخلاف في المسألة إلى وقتنا هذا، كما سنذكره.
قالوا: فقد صحَّ بلا شك أنهم كانوا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر مُدّة خلافته كلها، وصَدْرًا من خلافة عمر رضي الله عنه: يوقعون على من طلق ثلاثًا واحدة.
قالوا: فنحن أحقّ بدعوى الإجماع منكم؛ لأنه لا يُعرف في عهد الصِّدِّيق أحدٌ رد ذلك ولا خالفه، فإن كان إجماعٌ فهو من جانبنا أظهرُ ممن
يَدّعيه من نِصْفِ خلافة عمر رضي الله عنهما وهَلُمّ جَرًّا؛ فإنه لم يزل الاختلاف فيها قائمًا، وذكره أهلُ العلم في مصنفاتهم قديمًا وحديثًا.
فمِمّن ذكر الخلاف في ذلك: داود وأصحابه، واختاروا أن الثلاث واحدة.
وممن حكى الخلاف: الطحاوي في كتابه «اختلاف العلماء» ((1))، وفي كتاب «تهذيب الآثار» ((2))، وأبو بكر الرازي في كتاب «أحكام القرآن» ((3))، وحكاه ابنُ المنذر، وحكاه ابن حزم ((4))، وحكاه المؤرِّج في «تفسيره»، وحكى حجّة القولين، ثم قال: وهي مسألة خلاف بين العلماء، وحكاه محمد بن نَصْر المَرْوَزِي ((5))، واختار القول الثالث ((6)): أنها واحدة في حق البِكْر، ثلاث في حق المدخول بها.
وحكاه من المتأخرين: المازَرِيّ في كتاب «المُعْلِم» ((7))، وحكاه عن محمد بن مُقاتل من أصحاب أبي حنيفة، وهو من أجلِّ أصحابهم من الطبقة الثالثة من أصحاب أبي حنيفة، فهو أحد القولين في مذهب أبي حنيفة. وحكاه التِّلِمْسَانِيُّ في «شرح التفريع» في مذهب مالك قولًا في مذهبه، بل رواية عن
مالك، وحكاه غيره قولًا في المذهب، فهو أحد القولين في مذهب مالك، وأبي حنيفة. وحكاه شيخ الإسلام عن بعض أصحاب أحمد، وهو اختياره، وأسوأُ أحواله أن يكون كبعض أصحاب الوجوه في مذهبه، كالقاضي وأبي الخطاب، وهو أجلّ من ذلك، فهو قول في مذهب أحمد بلا شك.
وأما التابعون، فقال ابن المنذر: كان سعيد بن جُبير، وطاوس، وأبو الشّعْثاء، وعطاء، وعَمْرو بن دينار، يقولون: من طلق البِكْر ثلاثًا فهي واحدة.
قال: واختُلِف في هذا الباب عن الحسن: فرُوي عنه أنها ثلاث، وذكر قتادة، وحُميد، ويونس عنه: أنه رجع عن قوله بعد ذلك، وقال: واحدة بائنة.
وقال محمد بن نصر في كتاب «اختلاف العلماء» ((1)): أجمع أهل العلم: أن الرجل إذا طلق امرأته تطليقةً، ولم يدخل بها، أنها بانَتْ منه، وليس عليها عِدّة، واختلفوا في غير المدخول بها، إذا طلقها الزوج ثلاثًا بلفظٍ واحد:
فقال الأوزاعي، ومالك، وأهل المدينة: لا تحلّ له حتى تنكح زوجًا غيره.
وروي عن ابن عباس، وغير واحد من التابعين أنهم قالوا: إذا طلقها ثلاثًا قبل أن يدخل بها فهي واحدة.
وأكثر أهل الحديث على القول الأول.
قال: وكان إسحاق ((2)) يقول: طلاق الثلاث للبكر واحدة، وتأوّل حديث
طاوس، عن ابن عباس ــ كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله ?، وأبي بكر، وعمر رضي الله عنهما تُجعل واحدة ــ على هذا.
قلت: هذا تأويل إسحاق.
وأما أبو داود فجعله منسوخًا، فقال في كتاب «السنن»: «باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث»، ثم ساق حديث ابن عباس: أن الرجل كان إذا طلّق امرأته فهو أحق برجعتها، وإن طلقها ثلاثًا، ثم نُسخ ذلك بقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: (229)]، ثم ذكر في أثناء الباب حديث أبي الصهباء.
وكأنه اعتقد أن حكمه كان ثابتًا لمّا كان الرجل يراجع امرأته كلما طلقها. وهذا وَهمٌ، لوجهين:
أحدهما: أن المنسوخ هو ثبوت الرجعة بعد الطلاق ولو بلغ ما بلغ، كما كان في أول الإسلام.
الثاني: أن النسخ لا يثبت بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكونُ الثلاث واحدةً قد عُمِل به في خلافة الصديق كلها، وأول خلافة عمر ?. فمن المستحيل أن يُنسخ بعد ذلك.
وأما ابن المنذر فقال: لم يكن ذلك عن علم النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أمره.
قال: وغير جائز أن يُظَنّ بابن عباس أنه يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا، ثم يُفْتِي بخلافه، فلما لم يجز ذلك دَلّ فُتْيا ابن عباس رضي الله عنهما على أن ذلك لم يكن عن علم النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أمره؛ إذ لو كان ذلك عن علم النبي صلى الله عليه وسلم ما اسْتَحَلَّ ابنُ عباس أن يفتيَ بخلافه، أو يكون ذلك منسوخًا، استدلالًا بفُتيا ابن عباس.
وهذا المسلك ضعيف جدًّا لوجوه:
أحدها: أن حديث عِكرمة عن ابن عباس ــ في رد النبي صلى الله عليه وسلم امرأة رُكانة عليه بعد الطلاق الثلاث ــ يُبطل هذا التأويل رأسًا.
الثاني: أن هذا لو كان صحيحًا لقال ابن عباس لأبي الصهباء: ما أدري أبَلَغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لم يبلغه؟ فلما أقرّه على ذلك إقرارَ راوٍ لذلك: عُلم أنه مما بلغه ((1)).
الثالث: أنه لو كان ذلك صحيحًا لم يقل عمرُ: إن الناس قد استعجلوا في شيء ((2)) كانت لهم فيه أناة، بل كان الواجب أن يبين أن السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلاف ذلك، وأن هذا العمل من الناس خلافُ دين الإسلام وشرع محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يقول: فلو أنا أمضيناه عليهم! فإن هذا إنما يكون إمضاءً من الله تعالى ورسوله، لا من عمر.
الرابع: أنه من الممتنع أو المستحيل أن يكون خيارُ الخلق يُطَلِّقُون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعَهْد خليفته من بعده ويُراجعون، على خلاف دينه،
فيطلِّقون طلاقًا محرمًا، ويراجعون رَجْعة محرمة، ولا يُعْلِمون بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بَينَ أظْهُرِهم.
ثم حديث ابن عباس الذي رواه أحمد يردّ ذلك، ثم تردُّه فتوى ابن عباس في إحدى الروايتين عنه ((1))، وهي ثابتة عنه بأصحّ إسناد؛ كما أن الرواية الأخرى ثابتة عنه.
وكيف يستمر جَهْلُ أخيار الأمة بالطلاق والرجعة مدة حياته صلى الله عليه وسلم، ومدة حياة الصديق رضي الله عنه كلها، وشَطْرًا من خلافة عمر رضي الله عنه، ثم يظهر لهم بعد ذلك الطلاق والرجعة الجائزان؟
وكيف يصحُّ قول عمر رضي الله عنه: إن الناس قد استعجلوا في شيء كانت لهم فيه أناة؟ وكيف يصح قوله: فلو أنا أمضيناه عليهم؟
فهذا المسلك كما ترى!
وأما الإمام أحمد رحمه الله فإنما ردَّه بفتوى ابن عباس بخلافه، وهو راوي الحديثين.
قال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن حديث ابن عباس: كان الطلاقُ الثلاثُ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر رضي الله عنهما: طلاق الثلاث واحدة؛ بأي شيء تدفعه؟ قال: برواية الناس عن ابن عباس من وجوهٍ خلافَه.
وكذلك نقل عنه ابن منصور.
وهذا المسلك إنما يجيء على إحدى الروايتين: أن الصحابيّ إذا عمل.
بخلاف الحديث لم يُحتجّ به، واتُّبع عمل الصحابي.
والمشهور عنه أن العبرة بما رواه الصحابي لا بقوله، إذا خالف الحديث. ولهذا أخذ برواية ابن عباس في حديث بريرة ((1))، وأن بَيْعَ الأمَة لا يكون طلاقًا لها؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خَيّرها، ولو انفسخ النكاح ببيعها لم يُخيّرها، مع أن مذهب ابن عباس أن بيع الأمة طلاقها، واحتج بظاهر القرآن، وهو قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: (24)]، فأباح وَطْءَ مملوكته المزوَّجة، ولو كان النكاح باقيًا لم ينفسخ لم يُبَحْ له وطؤها. والجمهور وأحمد معهم خالفوه في ذلك، وقالوا: لا يكون بيعها طلاقًا، واحتجوا بحديث بَرِيرة، وتركوا رأيه لروايته؛ فإن روايته معصومة، ورأيه غير معصوم.
والمشهور من مذهب الشافعي أن الأخذ بروايته دون رأيه، والمشهور من مذهب أبي حنيفة عكس ذلك، وعن أحمد روايتان.
فهذا المسلك في رد الحديث لا يقْوى.
وسلك آخرون في رد الحديث مسلكًا آخر؛ فقالوا: هو حديث مضطرب لا يصح، ولذلك أعرض عنه البخاري، وترجم في «صحيحه» ((2)) على خلافه، فقال: «باب جواز الطلاق الثلاث في كلمة، لقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ}»، ثم ذكر حديث اللّعان، وفيه: فطلقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يغير عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو لا يقرّ على باطل.
قالوا: ووجه اضطرابه: أنه تارة يُروَى: عن طاوس، عن ابن عباس، وتارةً: عن طاوس، عن أبي الصهباء، عن ابن عباس، وتارة: عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس، فهذا اضطرابه من جهة السند.
وأما المتن: فإن أبا الصهباء تارة يقول: ألم تعلم أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها؛ جعلوها واحدة؟ وتارة يقول: ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله ?، وأبي بكر، وصدرًا من خلافة عمر واحدة؟ فهذا يخالف اللفظ الآخر.
إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان – ط عطاءات العلم (1) / (505)