2194 تحضير سنن أبي داود
جمع أحمد بن علي وعدنان البلوشي وعمر الشبلي وأحمد بن خالد وأسامة الحميري ومحمد فارح
ويوسف بن محمد السوري
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
بَابٌ فِي الطَّلَاقِ عَلَى الْهَزْلِ
2194 – حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ يَعْنِي ابْنَ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَبِيبٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ مَاهَكَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ” ثَلَاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالرَّجْعَةُ ”
[حكم الألباني]: حسن
——
جاء في مسائل الإمام أحمد:
[1116 – ] قلت: رجل سألته امرأته الطلاق، فجعل يضربها، ويقول هذا طلاقك؟
قال أحمد: هذا يلزمه، لأنه يقال: ثلاث لا لعب فيهن
الأولى أحسن حالاً الذي حلف فجرى على لسانه غير ما في قلبه1.
وإذا قال: هذا طلاقك. هذا طلاقك جاز عليه بانت2 منه.
قال إسحاق: لا يجوز فيما قال3 هذا طلاقك وهو يضربها أن يقع الطلاق، لأن هذا تعيين4 من الزوج لها يقول: أنت تريدين الطلاق فضربي إياك طلاقك، ليس هذا بشيء.
[مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه 4/ 1739]
قال الخطابي:
اتفق عامة أهل العلم على أن صريح لفظ الطلاق إذا جرى على لسان البالغ العاقل فإنه مؤاخذ به ولا ينفعه أن يقول كنت لاعباً أو هازلاً أو لم أنو به طلاقاً أو ما أشبه ذلك من الأمور.
واحتج بعض العلماء في ذلك بقول الله تعالى {ولا تتخذوا آيات الله هزواً} [البقرة: 231] وقال لو أطلق للناس ذلك لتعطلت الأحكام ولم يشأ مطلق أو ناكح أو معتق أن يقول كنت في قولي هازلاً فيكون في ذلك إبطال أحكام الله سبحانه وتعالى وذلك غير جائز فكل من تكلم بشيء مما جاء ذكره في هذا الحديث لزمه حكمه ولم يقبل منه أن يدعى خلافه وذلك تأكيد لأمر الفروج واحتياط له والله أعلم.
واختلفوا في الخطأ والنسيان في الطلاق فقال عطاء وعمرو بن دينار فيمن حلف على أمرلا يفعله بالطلاق ففعله ناسياً أنه لا يحنث.
وقال الزهري ومكحول وقتادة يحنث وإليه ذهب مالك وأصحاب الرأي وهو قول الأوزاعي والثوري وابن أبي ليلى.
وقال الشافعي يحنث في الحكم وكان أحمد بن حنبل يحنثه في الطلاق ويقف عند إيجاب الحنث في سائر الايمان إذا كان ناسياً.
[معالم السنن 3/ 243]
قال البغوي:
اتّفق أهلُ الْعلم على أَن طَلَاق الهازل يَقع، وَإِذا جرى صريحُ لفظ الطَّلَاق على لِسَان الْعَاقِل الْبَالِغ لَا ينفعُه أَن يَقُول: كنتُ فِيهِ لاعبًا أَو هازلا …. بنحو كلام الخطابي
وَاتفقَ أهل الْعلم على أَن طَلَاق الصَّبِي، وَالْمَجْنُون لَا يَقع، قَالَ عليٌّ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ القَلَمَ رُفِعَ عَنْ ثَلاثَةٍ: عَنِ المَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يُدْرِكَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، ويروى هَذَا من عَليّ، عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاثٍ».
وَاخْتلف أهل الْعلم فِيمَن علق طَلَاق امْرَأَته، أَو عتق عَبده على فعل من أَفعاله، فَفعله نَاسِيا، أَو حلف بِاللَّه أَن لَا يفعل كَذَا، فَفعله نَاسِيا ….. بنحو كلام الخطابي
قَالَ شُعْبَة: سَأَلت الحكم وحمادًا عَنِ الرجل يمرُّ بالعشَّار وَمَعَهُ رَقِيق، يَقُول: هم أَحْرَار، قَالَ الحكم: لَيْسَ بِشَيْء، وَقَالَ حَمَّاد: أخْشَى أَن يعتقوا.
قَالَ الإِمَامُ: وَهَذَا قِيَاس قَول أهل الْعلم.
وَاخْتلف أهل الْعلم فِي طَلَاق المكرَه، فَذهب جمَاعَة إِلَى أَنَّهُ لَا يَقع، وَكَذَلِكَ لَا يصِح إعتاقُه، وَلَا شَيْء من تَصَرُّفَاته بِالْإِكْرَاهِ، لما رُوي عَنْ صَفِيَّة بنت شَيْبَة، عَنْ عَائِشَة، قَالَت: سمعتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم، يَقُول: «لَا طَلاقَ وَلا عِتَاقَ فِي إِغْلاقٍ».
وَمعنى الإغلاق، قيل: هُوَ الْإِكْرَاه، كَأَنَّهُ يغلق عَلَيْهِ الْبَاب، ويُحبس حَتَّى يُطَلِّقَ.
وَهُوَ قَول عُمَر بْن الْخَطَّاب، وَعلي بْن أَبِي طَالب، وَعَبْد اللَّهِ بْن عُمَر، وَعَبْد اللَّهِ بْن عَبَّاس، وَعَبْد اللَّهِ بْن الزبير، وَبِهِ قَالَ شُرَيْح، وَعَطَاء، وَطَاوُس، وَجَابِر بْن زَيْد، وَالْحَسَن، وَالشَّعْبِيّ، وَعُمَر بْن عَبْد الْعَزِيزِ، وَالقَاسِم، وَسَالم، وَإِلَيْهِ ذهب مَالِك، وَالأَوْزَاعِيّ، وَالشَّافِعِيّ، وَأَحْمَد، وَإِسْحَاق.
وَذهب قوم إِلَى أنَّ طَلَاق الْمُكْره وَاقع، وَهُوَ قَول النَّخعي، وَقَتَادَة، وَالزُّهْرِيّ، وَإِلَيْهِ ذهب أَصْحَاب الرَّأْي، وَقَالَ شُرَيْح: الْقَيْد كُرهٌ، والوعيد كرهٌ.
وَقَالَ أَحْمَد: الكرهُ: القتلُ، أَو الضَّرْب الشَّديد، والتخويف بقتل الْأَب، أَو الابْن، أَو الْأَخ لَيْسَ بإكراه.
وَقَالَ بَعضهم: هُوَ إِكْرَاه فِي جَمِيع الْأُمُور.
وَاتَّفَقُوا على من أُكره على الرِّدة، فتلفظ بهَا، لَا يُكفَّر، لقَوْله سبحانه وتعالى: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النَّحْل: 106].
وَاخْتلفُوا فِي طَلَاق السَّكْرَان، فَذهب بعضُ أهل الْعلم إِلَى أَن طَلَاقه لَا يقعُ، لِأَنَّهُ لَا يعقِل، كَالْمَجْنُونِ، وَهُوَ قَول عُثْمَان، وَابْن عَبَّاس، وَبِهِ قَالَ الْقَاسِم بْن مُحَمَّد، وَطَاوُس، وَعُمَر بْن عَبْد الْعَزِيزِ، وَيَحْيَى بْن سَعِيد، وَاللَّيْث بْن سَعْد، وَإِلَيْهِ ذهب ربيعَة، وَأَبُو يُوسُف، وَإِسْحَاق، وَأَبُو ثَوْر، والمزني.
وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَن طَلَاقه وَاقع، لِأَنَّهُ عاصٍ لم يزُلْ عَنْهُ بِهِ الخطابُ، وَلَا الْإِثْم، بِدَلِيل أَنَّهُ يؤمرُ بِقَضَاء الصَّلَوَات، وَيَاثَم بإخراجها عَنْ وَقتهَا، وَبِهِ قَالَ عليٌّ، ورُوي ذَلِكَ عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب، وَسليمَان بْن يَسَار، وَعَطَاء، وَالْحَسَن، وَالشَّعْبِيّ، وَالنَّخَعِيّ، وَابْن سِيرِينَ، وَمُجاهد، وَهُوَ قَول مَالِك، وَالثَّوْرِيّ، وَالأَوْزَاعِيّ، وَظَاهر مَذْهَب الشَّافِعِيّ، وَأَبِي حنيفَة، وَقَالُوا: لَو قَتَل قُتِلَ، وَاحْتَجُّوا بِأَن الصَّحَابَة بلغُوا حد السَّكْرَان حدَّ المفتري، لِأَنَّهُ إِذا سكر افترى، فلولا أَنَّهُ مؤاخذ بافترائه، لم يحدوه حدَّ المفترين، وَقَالَ هَؤُلَاءِ: أَقْوَاله لَازِمَة.
إِلا أَنهم توقفوا فِي قَتله إِذا ارْتَدَّ فِي حَال السكر استيناء بِهِ ليتوب فِي صحوه، وَهُوَ لَو ارْتَدَّ صَاحِيًا، لاستتيب، وَلم يقتل فِي فوره، فَكَذَلِك إِذا ارْتَدَّ وَهُوَ سَكرَان يُستتاب فِي حَال مَا يَعقِلُ.
[شرح السنة للبغوي 9/ 220]
قال ابن قدامة:
1260 – مسألة؛ قال: (وَإِذَا أتَى بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ، لَزِمَهُ، نَوَاهُ، أَوْ لَمْ يَنْوِهِ)
قد ذكَرْنا أَنَّ صَرِيحَ الطَّلاقِ لا يَحْتاجُ إلى نِيَّةٍ، بل يَقَعُ مِن غيرِ قَصْدٍ، ولا خلافَ في ذلك. ولأنَّ ما يُعتبَرُ له القَول يُكْتَفَى فيه به، مِن غيرِ نِيَّةٍ، إذا كان صريحًا فيه، كالبيعِ. وسواء قَصَدَ المَزْحَ أو الجِدَّ؛ لقولِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم: “ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ؛ النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالرَّجْعَةُ”. روَاه أبو داودَ، والتِّرمِذِىُّ، وقال: حديثٌ حَسَنٌ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كُلُّ مَن أحفظُ عنه من أهلِ العلمِ، على أنَّ جِدَّ الطَّلاقِ وهَزْلَه سواءٌ. رُوِىَ هذا عن عمرَ بنِ الخطَّابِ، وابنِ مسعودٍ. ونحوُه عن عَطاءٍ، وعَبِيدَةَ. وبه قال الشَّافعىُّ، وأبو عُبَيدٍ. قال أبو عُبَيْدٍ: وهو قولُ سفيانَ، وأهلِ العراقِ. فأَمَّا لفظُ الفِرَاقِ والسَّراحِ، فيَنْبَنِى على الخلافِ فيه؛ فَمَنْ جعله صَريحًا أوقعَ به الطَّلاقَ مِن غيرِ نِيَّةٍ، ومَن لم يَجْعلْه صريحًا لم يُوقِعْ به الطَّلاقَ حتى يَنْوِيَه، ويَكونُ بمنزلةِ الكناياتِ الخَفِيَّةِ.
فصل: فإن قال الأعْجَمِىُّ لامرأتِه: أنتِ طالقٌ، ولا يَفْهَمُ معناه، لم تَطْلُقْ؛ لأنَّه ليس بمُخْتارٍ للطَّلاقِ، فلم يَقَعْ طلاقُه، كالمُكْرَهِ. فإن نَوَى مُوجِبَه عندَ أهلِ العربيَّةِ، لم يَقعْ أيضًا؛ لأنَّه لا يَصحُّ منه اخْتيارُ ما لا يَعلمُه، ولذلك لو نطقَ بكلمةِ الكُفْرِ مَنْ لا يَعلمُ معناها لم يَكْفُرْ. ويَحْتمِلُ أن تَطْلُقَ إذا نَوَى مُوجِبَها؛ لأنَّه لَفَظَ بالطَّلاقِ ناويًا مُوجِبَه، فأشْبَهَ العربِىَّ. وكذلك الحُكمُ إذا قال العربِىُّ: بهشتم. وهو لا يَعلمُ معناها.
فصل: فإن قال لزوجتِه وأجْنبِيَّةٍ: إحداكما طالقٌ. أو قال لحَماتِه: ابنتُك طالقٌ. ولها بنتٌ سِوَى امرأتِه. أو كان اسمُ زوجتِه زينبُ، فقال: زينبُ طالقٌ. طَلُقَتْ زوجتُه؛ لأنَّه لا يَمْلِكُ طلاقَ غيرِها. فإن قال: أرَدْتُ الأجْنبِيَّةَ. لم يُصَدَّقْ. نَصَّ عليه أحمدُ، فى رجلٍ تَزوَّجَ امرأةً، فقال لحَماتِه: ابنتُك طالقٌ. وقال: أردتُ ابنتَك الأُخْرَى، التى ليست بزوجتى، فقال: يَحْنَثُ، ولا يُقبَلُ منه. وقال، فى روايةِ أبى داودَ، فى رجلٍ له امرأتانِ، اسْماهما فاطمة، فماتَتْ إحداهما، فقال: فاطمةُ طالقٌ. يَنْوِى المَيِّتَةَ، فقال: المَيِّتةُ تَطْلُقُ! قال أبو داودَ: كأنَّه لا يُصَدِّقُه فى الحُكْمِ. وقال القاضى، فيما إذا نظرَ إلى امرأتِه، وأجنبيَّةٍ، فقال: إحداكما طالقٌ. وقال: أرَدْتُ الأجْنبيَّةَ. فهل يُقبَلُ؟ على رِوَايتَيْنِ. وقال الشَّافعىُّ: يُقْبَلُ ههُنا، ولا يُقبَلُ فيما إذا قال: زينبُ طالقٌ. وقال: أردتُ أجْنبِيَّة اسمُها زينبُ. لأنَّ زينبَ لا يَتناولُ الأجْنبِيَّةَ بصَرِيحِه، بل مِن جهةِ الدَّليلِ، وقد عارضَه دليلٌ آخرُ -وهو أنَّه لا يُطلِّقُ غيرَ زوجتِه- أظهرُ، فصارَ اللَّفظُ فى زَوْجتِه أظهرَ، فلم يُقبَلْ خلافُه، أمَّا إذا قال: إحْداكما. فإنَّه يَتناوَلُ الأجْنبيَّةَ بصَريحِه. وقال أصحابُ الرَّأْىِ، وأبو ثورٍ: يُقْبَلُ فى الجميعِ؛ لأنَّه فسَّرَ كَلامَه بما يَحْتمِلُه.
ولَنا، أنَّه لا يَحْتَمِلُ غيرَ امرأتِه على وجهٍ صحيحٍ، فلم يُقبَلْ تفسيرُه بها، كما لو فسَّرَ كَلامَه بما لا يَحْتمِلُه، وكما لو قال: زينبُ طالقٌ. عندَ الشَّافعىِّ، وما ذكروه من الفَرْقِ لا يَصِحُّ، فإن إحداكما ليس بصَرِيحٍ فى واحدةٍ منهما، إنَّما يَتناولُ واحدةً لا بِعَيْنِها، وزينبُ يتَناولُ واحدةً [من الزَّيانِبِ] لا بعَيْنِها، ثم تعيَّنتِ الزَّوجةُ لكَوْنِها مَحَلَّ الطَّلاقِ، وخِطابُ غيرِها به عَبَثٌ، كما إذا قال: إحْداكما طالقٌ. ثم لو تناوَلَها بصريحهِ لكنَّه صرفَه عنها دليلٌ، فصار ظاهرًا فى غيرِها، ولمَّا قال النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم للمُتَلاعِنَيْنِ: “أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ”. لم يَنْصرِفْ إلَّا إلى الكاذبِ منهما وحدَه، ولمَّا قال حَسَّانُ، يعنى النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم وأبا سفيانَ: * فشَرُّكما لخيركما الفِداءُ *
لم ينْصَرِفْ شَرُّهما إلَّا إلى أبى سفيانَ وحدَه، وخيرُهما النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم وحدَه. وهذا فى الحُكمِ، فأمَّا فيما بينَه وبينَ اللَّه تعالى، فيَدينُ فيه، فمتى عَلِمَ مِنْ نفسِه أنَّه أرادَ الأَجْنَبيَّةَ، لم تَطْلُقْ زوجتُه؛ لأنَّ اللَّفظَ مُحْتمِلٌ له، وإن كان غيرَ مُقَيَّدٍ. ولو كانت ثَمَّ قَرِينةٌ دالَةٌ على إرادتِه الأجْنبيَّةَ، مثل أن يَدْفعَ بيمينِه ظُلْمًا، أو يَتخلَّصَ بها مِن مَكْروهٍ، قُبِلَ قولُه فى الحُكْمِ؛ لوُجودِ الدَّليلِ الصارفِ إليها. وإن لم يَنْوِ زوجتَه، ولا الأجْنبيَّةَ، طَلُقَتْ زوجتُه؛ لأنّها مَحَلُّ الطَّلاقِ، واللفظُ يَحْتمِلُها ويَصْلُحُ لها، ولم يَصْرِفْه عنها، فوقَعَ به، كما لو نَوَاها.
فصل: فإن كانت له امْرأتانِ؛ حَفْصَةُ وعَمْرَةُ، فقال: يا حفصةُ. فأجابَتْه عمرةُ، فقال: أنتِ طالقٌ. فإن لم تَكُنْ له نِيَّةٌ، أو نَوَى المُجِيبةَ وحدَها، طَلُقَتْ وحدَها؛ لأنَّها المُطَلَّقةُ دونَ غيرِها. وإن قال: ما خاطبتُ بقولى: أنتِ طالقٌ. إلَّا حفصةَ، وكانت حاضرةً، طَلُقَتْ وحدَها. وإن قال: علمتُ أنّ المُجيبةَ عَمْرةُ، فخاطَبْتُها بالطَّلاقِ، وأردتُ طلاقَ حَفْصةَ. طَلُقَتَا معًا، فى قولِهم جميعًا. وإن قال: ظَنَنْتُ المُجيبةَ حَفْصةَ فطلَّقْتُها. طَلُقَتْ حفصةُ، روايةً واحدةً، وفى عَمرةَ رِوَايتانِ؛ إحْداهما، تَطْلُقُ أيضًا. وهو قولُ النَّخَعِىِّ، وقَتادةَ، والأوْزاعىِّ، وأصْحابِ الرَّأْىِ. واختاره ابنُ حامدٍ؛ لأنَّه خاطبَها بالطَّلاقِ، وهى مَحَلٌّ له، فطَلُقَتْ، كما لو قَصَدَها. والثَّانية، لا تَطْلُقُ. وهو قولُ الحَسَنِ، والزُّهْرِىِّ، وأبى عُبَيدٍ. قال أحمدُ، فى رواية مُهَنَّا، فى رجلٍ له امرأتانِ، فقال: فلانةُ، أنتِ طالقٌ. فالْتفَتتْ، فإذا هى غيرُ التى حَلَفَ عليها، قال: قال إبراهيمُ: يَطْلُقانِ. والحَسَنُ يقول: تَطْلُقُ التى نَوَى. قيل له: ما تقولُ أنتَ؟ قال: تَطْلُقُ التى نَوَى. ووَجْهُه أنَّه لم يَقْصِدْها بالطَّلاقِ، فلم تَطْلُقْ، كما لو أرادَ أن يقولَ: أنتِ طاهرٌ. فسَبَقَ لسانُه، فقال: أنتِ طالقٌ.
وقال أبو بكرٍ: لا يَخْتلِفُ كلامُ أحمدَ أنَّها لا تَطْلُقُ. وقال الشَّافعىُّ: تَطْلُقُ المُجيبةُ وحدَها؛ لأنَّها مُخَاطَبَةٌ بالطَّلاقِ، فطَلُقَتْ، كما لو لم يَنْوِ غيرَها، ولا تَطْلُقُ المَنْوِيَّةُ؛ لأنَّه لم يُخاطِبْها بالطَّلاقِ، ولم تَعترِفْ بطلاقِها، وهذا يَبطُلُ بما لو علمَ أَنَّ المُجيبةَ عَمْرةُ، فإنَّ المَنْوِيَّةَ تَطْلُقُ بإرادتِها بالطَّلاقِ، ولولا ذلك لم تَطْلُقْ بالاعْترافِ به؛ لأنَّ الاعْترافَ بما لا يُوجِبُ لا يُوجِبُ، ولأنًّ الغائبةَ مقصودة بلَفْظِ الطَّلاقِ، فطَلُقَتْ، كما لو علمَ الحالَ.
فصل: وإن أشار إلى عَمرةَ، فقال: يا حَفْصةُ، أنتِ طالقٌ. وأرادَ طلاقَ عَمْرةَ، فسَبَقَ لسانُه إلى نِداءِ حَفْصةَ، طَلُقَتْ عَمْرةُ وحدَها؛ لأنَّه لم يُرِدْ بلفظِه إلَّا طلاقَها، وإنَّما سبَقَ لسانُه إلى غيرِ ما أرادَه، فأشْبَهَ ما لو أرادَ أن يقولَ: أنتِ طاهرٌ. فسبقَ لسانُه إلى أنتِ طالقٌ. وإن أتَى باللَّفظِ مع علمِه أَنَّ المُشارَ إليها عَمرةُ، طَلُقَتَا معًا، عمرةُ بإشارتِه إليها، [وإضافةِ الطَّلاقِ إليها]، وحَفْصةُ بِنِيَّتِه، وبلَفْظِه بها. وإن ظنَّ أَنَّ المُشارَ إليها حفصةُ، طَلُقَتْ حفصةُ، وفى عَمْرةَ رِوَايتانِ، كالتى قبلَها.
فصل: وإن لَقِىَ أجْنبيّةً، ظنَّها زوجتَه، فقال: فلانةُ، أنتِ طالقٌ. فإذا هى أجْنبيَّة، طَلُقَتْ زوجتُه، نَصَّ عليه أحمدُ. وقال الشَّافعىُّ: لا تَطْلُقُ؛ لأنَّه خاطبَ بالطَّلاقِ غيرَها، [فلم يَقَعْ]، كما لو علمَ أنَّها أجنبيَّة، فقال: أنتِ طالقٌ. ولَنا، أنَّه قصدَ زوجتَه بلفظِ الطَّلاقِ، فطَلُقَتْ، كما لو قال: علمتُ أنَّها أجنبيَّةٌ، وأردتُ طلاقَ زوجتى. وإن قال لها: أنتِ طالقٌ. ولم يَذكُرِ اسمَ زَوْجتِه، احْتمَلَ؛ وذلك أيضًا لأنَّه قصدَ امرأته بلفظِ الطَّلاقِ، واحْتمَلَ أن لا تَطْلُقَ؛ لأنَّه لم يُخاطِبْها بالطَّلاقِ، ولا ذكَرَ اسمَها معه. وإن عَلِمَها أجْنبيَّةً، وأرادَ بالطَّلاقِ زوجتَه، طَلُقَتْ. وإن لم يُرِدْها بالطَّلاقِ، لم تَطْلُقْ.
فصل: وإن لَقِىَ امرأتَه، فظنها أجنبيَّةً، فقال: أنت طالقٌ، أو تَنَحَّىْ يا مُطَلَّقةُ. أو لَقِىَ أمَتَه، فظنها أجْنبيَّةً، فقال: أنتِ حُرّةٌ، أو تَنْحَّىْ يا حُرَّةُ. فقال أبو بكرٍ، فى مَن لَقِىَ امْرأةً، فقال: تَنَحَّى يا مُطَلَّقةُ، أو يا حُرَّةُ. وهو لا يَعرفُها، فإذا هى زوجتُه أو أمتُه: لا يَقعُ بهما طلاقٌ ولا حُرِّيَّةٌ؛ لأنَّه لم يُرِدْ بهما ذلك، فلم يَقعْ بهما شاءٌ، كسَبْقِ اللِّسانِ إلى ما لم يُرِدْه. ويَحْتَمِلُ أن لا تَعْتِقَ الأمَةُ؛ لأنَّ العادةَ مِن النّاس مُخاطبةُ مَنْ لا يَعرفُها بقوله: يا حُرَّةُ. وتَطْلُقَ الزَّوجةُ؛ لعدمِ العادةِ بالمُخاطبةِ بقوله: يا مُطَلَّقةُ.
فصل: فأمَّا غيرُ الصَّريحِ؛ فلا يَقَعُ الطَّلاقُ به إلَّا بِنِيَّةٍ، أو دَلالةِ حالٍ. وقال مالكٌ: الكناياتُ الظَّاهرةُ، كقوله: أنتِ بائنٌ، وبَتَّةٌ، وبَتْلَةٌ، وحرامٌ. يَقَعُ بها الطَّلاقُ مِن غير نِيَّةٍ. قال القاضى، فى “الشَّرحِ”: وهذا ظاهرُ كلامِ أحمدَ، والخِرَقِىِّ؛ لأنَّها مُسْتعمَلَةٌ فى الطَّلاقِ فى العُرْفِ، فصارت كالصَّريحِ. ولَنا، أَنَّ هذه كنايةٌ لم تُعْرَفْ بإرادةِ الطَّلاقِ بها، ولا اخْتصَّتْ به، فلم يَقعِ الطَّلاقُ بها بِمُجَرَّدِ اللَّفظِ، كسائرِ الكناياتِ، وإذا ثَبَتَ اعتبارُ النِّيَّةِ، فإنَّها تُعْتبَرُ مُقارِنَةً للَّفظِ، فإن وُجدَتْ فى ابتدائِه، وعَرِيَتْ عنه فى سائرِه، وقعَ الطَّلاقُ. وقال بعضُ أصحاب الشَّافعىِّ: لا يَقعُ، فلو قال: أنت بائنٌ يَنوِى الطَّلاقَ، وعَرِيَتْ نِيَّتُه حين قال: أنت بائنٌ، لا يَقعُ؛ لأنَّ القَدْرَ الذى صاحبَتْه النِّيَّةُ لا يَقعُ به شاءٌ. ولَنا، أن ما تُعتبَرُ له النِّيَّةُ يُكْتَفَى فيه بوُجودِها فى أوَّلِه، كالصلاةِ وسائرِ العباداتِ، فأمَّا إن تَلَفظَ بالكنايةِ غيرَ ناوٍ، ثم نَوَى بها بعدَ ذلك، لم يقعْ بها الطَّلاقُ، وكما لو نَوَى الطَّهارةَ بالغُسلِ بعدَ فَراغِه منه.
[المغني لابن قدامة 10/ 372]
قال ابن القيم رحمه الله:
وقد احتجَّ به من يرى طلاقَ المكره لازمًا، قال: لأنه أكثر ما فيه أنه لم يقصده، والقصد لا يعتبر في الصريح، بدليل وقوعه من الهازل واللاعب.
وهذا قياس فاسد، فإن المُكْرَه غيرُ قاصدٍ للقول، ولا لموجَبه، وإنما حُمِل عليه وأُكْرِه على التكلُّم به، ولم يُكرَه على القصد.
وأما الهازل فإنه تكلّم باللفظ اختيارًا وقَصَد به غيرَ موجَبه، وهذا ليس إليه، بل إلى الشارع، فهو أراد اللفظ الذي إليه، وأراد أن لا يكون موجَبه، وليس إليه، فإنَّ مَن باشر سببَ الحكم باختياره لزمه مسبّبه ومقتضاه وإن لم يرده. وأما المكره فإنه لم يُرِد لا هذا ولا هذا، فقياسه على الهازل غير صحيح.
[تهذيب سنن أبي داود – ط عطاءات العلم 1/ 524]
قال العباد:
قوله: [باب في الطلاق على الهزل] يعني: كون الإنسان يطلق ثم يقول: إنه هازل يضحك، وإنه ليس جاداً في طلاقه، أو يقول: إنما أردت أن أمزح، وما إلى ذلك، فلا يعتبر مزاحه؛ لأن هذه الثلاث جدهن جد، وهزلهن جد، فيعتبر ويقع الطلاق، ولو كان لا يقع لأمكن كل أحد قد طلق زوجته أن يقول: أنا كنتُ أمزح، ولكن هذا اللفظ الذي هو صريح الطلاق إذا أتى به فإنه يعتبر معناه، ولو قال: إنه هازل؛ فإن هزله جده.
قوله: [(ثلاث جدهن جد وهزلهن جد)] فسواء كان الإنسان يقصدهن ويكون متعمداً جاداً، أو يقولها هازلاً مازحاً أو ما إلى ذلك، فإنها تكون جداً ويعتبر مقتضاها، فلا يصلح التساهل والتهاون بهذا بهزل ومزح وما إلى ذلك.
قوله: [(النكاح والطلاق والرجعة)] وبعض العلماء يلحق العتق بهذه الثلاث، ولا يصح في ذلك حديث، قال في عون المعبود: (قال أبو بكر المعافري: روي فيه: (والعتق)، ولم يصح شيء منه، فإن كان أراد ليس منه شيء على شرط الصحيح فلا كلام، وإن أراد أنه ضعيف ففيه نظر، فإنه يحسَّن كما قال الترمذي)، أي: أن الترمذي قال عن هذا الحديث: حديث حسن غريب، وحسنه الألباني بشواهد ذكرها.
[شرح سنن أبي داود للعباد 251/ 29 بترقيم الشاملة آليا]
قال البسام:
باب الطلاق
مقدمة
الطلاق: لغة: مصدر طلَقَ، بفتح اللام وضمّها، وهو الإرسال والترك.
وشرعًا: حَلَّ قيد النكاح أو بعضه.
والأصل في جوازه: الكتاب، والسنَّة، والإجماع، والقياس:
فإن النكاح إذا تم بالعقد لمصالحه، فإنه ينفسخ بالطلاق للمقصد الصحيح أيضًا، ونصوصه من الكتاب والسنة معروفة.
حكمته: قال الأستاذ عفيف طبارة: بواعث الطلاق الواردة في القرآن هي رغبة أحد الزوجين في الانفصال، وعدم المعاشرة، وليس كل خلاف ينبعث عنه الطلاق، وإنما الذي يعيّنه هو: دوام الشقاق الذي يستحيل معه العشرة الزوجية، وفي حالة الشقاق نفسه لا يجوز فصم عرى الزوجية مباشرة، فلابد من الإصلاح بين الزوجين، وإجراء التحكيم قبل الطلاق، بإرسال حكمٍ من أهل الزوج، وحكم من أهل الزوجة؛ ليتروَّى كل من الزوجين، ويجدا الفرصة للصلح ورجوعهما عن رأيهما، فعلى الحَكمين أن لا يدّخرا جهدهما ووسعهما في الإصلاح بين الزوجين.
فإذا نفدت وسائل الإصلاح والجمع، وتحقق لدى الحكمين أن التفريق أجدى لهما، فالفرقة في هذه الحالة أفضل؛ قال تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130].
ثم إن الطلاق يأتي على ثلاث مراحل:
الأولى: طلاق رجعي، يكون فيه تجربة للزوجين بالفرقة بينهما فترة معينة، يتروَّيان فيها، فإن يكن بينهما علاقة مودةٍ ومحبةٍ، أمكن الرجعة والاجتماع.
الثانية: طلاق ثان، رجعي أيضًا؛ لتكون التجربة الثانية، فإن كان هناك رغبة في بناء العشرة الزوجية بينهما، فالفرصة باقية.
الثالثة: طلاق غير رجعي إلَاّ بعد نكاح زوج آخر، وذلك أنهما تفرَّقا مرتين، فلم يتفق لهما الانسجام، ومعناه أن الفرقة قائمة، وأن هُوَّة الشقاق بينهما واسعة؛ وحينئذٍ يكون الطلاق رحمة وراحة من عيشة الشقاق والخلاف.
والطلاق تأتي عليه الأحكام الخمسة:
أولاً: مكروه في حالة استقامة الزوجين، وعند أبي حنيفة حرام في هذه الحالة.
ثانيًا: مباح عند الحاجة إليه كسوء خلُق المرأة، والتضرر ببقائها عنده.
ثالثًا: مستحب إذا كانت الزوجة متضررة باستدامة النكاح، وهي الحال التي تحوج المخالعة، وعند الشيخ تقي الدين: أنه واجب.
رابعًا: واجب للإيلاء إذا أبى الزوج الفيئة، ويجب أيضًا على الصحيح إذا تركت واجبًا شرعيًّا، أو تركت العفة على الصحيح؛ واختاره الشيخ تقي الدين.
خامسًا: حرام إذا كان الطلاق بدعيًّا، كأن يطلق في حيضٍ، أو نفاسٍ، أو طُهْرٍ جامع فيه، أو طلاقها ثلاثًا بكلمة واحدة، أو بكلمات لم يتخللهن رجعة ولا نكاح.
***
932 – وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: “طَلَّقَ أَبُو رُكَانَةَ أُمَّ رُكَانَة، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: رَاجِعِ امْرَأَتَكَ، فَقَالَ: إِنِّي طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا، قَالَ: قَدْ عَلِمْتُ، رَاجِعْهَا” رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَفِي لَفْظٍ لأحْمَدَ: “طَلَّقَ رُكَانَةُ امْرَأَتَهُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ثَلَاثًا، فَحَزِنَ عَلَيْهَا، فَقَالَ لهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: فإِنَّهَا وَاحِدَةٌ”، وَفِي سَنَدِهِمَا ابْنُ إِسحَاقَ، وَفِيهِ مَقَالٌ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ، مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَحْسَنَ مِنْهُ: “أَنَّ رُكَانَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ سُهَيْمَةَ ألْبَتَّةَ، فَأَخْبرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِذلِكَ، وَقَالَ: واللهِ مَا أَرَدْتُ بِهَا إِلَاّ وَاحِدَةً، فَرَدَّهَا إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
* درجة الحديث:
الحديث ضعيف.
وقد اختلف العلماء فيه، فمنهم من صحَّحه وأخذ به، ومنهم من ضعَّفه وأخذ بما يعارضه، ونتج عن هذا الاختلاف اختلافهم في حكم المسألة التي في هذا الحديث:
قال المصححون: قال أبو داود: هذا الحديث أصحّ من حديث ابن جريج الذي فيه: “إن ركانة طلَّق امرأته ثلاثًا”.
وقال ابن ماجه: سمعت الطنافسي يقول: ما أشرف هذا الحديث.
وهذا بيان لشرف إسناده، وكثرة فائدته.
وقال المضعفون -ومنهم ابن القيم-: حديث “ألبتة” ضعَّفه أحمد.
وقال شيخنا -يعني ابن تيمية-: الأئمة الكبار العارفون بعلل الحديث كالإمام أحمد، والبخاري، وابن عيينة، وغيرهم ضعَّفوا حديث ركانة “ألبتة”، وكذلك ابن حزم، وقالوا: إن رواته قومٌ مجاهيل، لا تُعرف عدالتهم، ولا ضبطهم، وقال أحمد: حديث رُكانة لا يثبت.
قال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلَاّ من هذا الوجه، وسألت البخاري عنه، فقال: مضطرب.
وقال الألباني: وجملة القول: أنَّ حديث الباب ضعيف، وأن حديث ابن عباس المعارض له أقوى منه، والله أعلم ….
* ما يؤخذ من هذه الأحاديث:
1 – الحديث رقم (930) يفيد أن الطلقات الثلاثة بكلمة واحدة، لا تحسب إلَاّ طلقةً واحدةً، فإن لم تكن نهاية الثلاث، فله الرجعة.
وهذا الحديث هو عمدة القائلين بهذا القول.
2 – أمَّا الحديث رقم (931) فيدل على أن الطلقات الثلاث التي لم يتخللهن رجعة، ولا نكاح: أنها طلاقٌ بدعةُ محرمةً.
3 – ويدل على أن التلاعب بأحكام الله تعالى، وتعدي حدوده، من كبائر الذنوب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغضب إلَاّ على معصية كبيرة.
4 – التلاعب بكتاب الله، وسنة رسوله، حرام، ولو بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وإنما قال ذلك استغرابًا من سرعة تغير الأمور.
5 – أمَّا الحديث رقم (932) فتدل روايتا أبي داود وأحمد على ما دل عليه الحديث رقم (930)، من اعتبار الطلاق الثلاث واحدةً، وأن للمطلق الرجعة، إن لم تكن نهاية عدده من الطلاق.
6 – وأمَّا الرواية الثانية لأبي داود، فتدل على أن الطلاق “ألبتة”، يكون بحسب نية المطلق، فإن نوى به الثلاث، صار ثلاثًا، وإن نوى به واحدة، فهو واحدة رجعية.
7 – قال الشيخ بخيت المطيعي: إن رُكانة طلَّق زوجته “ألبتة”، وهو من كنايات الطلاق، يقع به واحدة إن نوى واحدة، ويقع به ثلاثًا إن نواها.
8 – رواية “طلَّقها ألبتة” في حديث ركانة من أدلة الجمهور على أنَّ الطلاق الثلاث كلمةً واحدةً: طلاقٌ بائنٌ بينونةٌ كبرى، وليس فيه رجعة إلَاّ بعد أن تنكح زوجًا آخر.
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء فيمن أوقع الطلقات الثلاث دفعةً واحدةً، أو أوقعها بكلماتٍ ثلاثٍ، لم يتخللها رجعةٌ ولا نكاحٌ، فهل تلزمه الطلقات الثلاث، فلا تحل له زوجته إلَاّ بعد أن تنكح زوجًا غيره، وتعتد منه، أم أنها تكون طلقة واحدة، له رجعتها ما دامت في العدة، وبعد العدة يعقد عليها، ولو لم تنكح زوجًا غيره؟:
اختلف العلماء في ذلك اختلافًا طويلاً عريضًا، وعُذِّب من أجل القول بالرجعة بها جماعة من الأئمة والعلماء، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية، وبعض أتباعه.
ولكننا نسوق هنا ملخصًا فيه الكفاية، إن شاء الله تعالى: …… فساق الخلاف مطولا
وأمَّا مسألة الحلف بالطلاق: فقال -رحمه الله تعالى-: والفرق ظاهرٌ بين الطلاق والحلف به، وبين النذر والحلف بالنذر، فإذا كان الرجل يطلب من الله حاجة فقال: إن شفى الله مريضي، أو قضى ديني، أو خلَّصني من هذه الشدة، فلله عليَّ أن أتصدق بألف درهمٍ، أو أصوم شهرًا، أو أعتق رقبةً، فهذا تعليقُ نذرٍ يجب عليه الوفاء به بالكتاب، والسنَّة، والإجماع.
وإذا علَّق النَّذر على وجه اليمين قاصدًا الحث أو المنع، فقال: إن سافرت معكم، أو إن زوجت فلانًا، فعلىَّ الحج، أو فمالي صدقة، فهذا عند الصحابة وجمهور العلماء: هو حالف بالنذر، ليس بناذر، فإذا لم يف بما التزمه أجزأه كفارة يمين.
* قرار مجلس كبار العلماء بشأن مسألة الطلاق الثلاث بلفظ واحد: رقم (18) وتاريخ 12/ 11/ 1393 هـ:
قال مجلس هيئة كبار العلماء: بَحْث مسألة الطلاق الثلاث بلفظٍ واحدٍ، وبعد الدراسة وتداول الرأي، واستعراض الأقوال التي قيلت فيها، ومناقشة ما على كل قولٍ، توصَّل المجلس بالأكثرية إلى اختيار القول بوقوع الطلاق الثلاث بلفظ واحدٍ ثلاثًا، وخالف من أعضاء المجلس خمسة وهم:
الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ عبد الرزاق عفيفي، والشيخ عبد الله خياط، والشيخ راشد بن خنين، والشيخ محمد بن جبير.
فهؤلاء الخمسة لهم وجهة نظر نصّها ما يلي:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وبعد:
فنرى أن الطلاق الثلاث بلفظٍ واحدٍ طلقةٌ واحدة.
وقال محرِّره: وجاء كل واحد من الفريقين بأدلته وما يراه.
[توضيح الأحكام من بلوغ المرام 5/ 476]
====
شرح سنن أبي داود لابن رسلان — ابن رسلان)
– باب الطلاق على الهزل
(2194) – حدثنا القعنبي، حدثنا عبد العزيز – يعني: ابن محمد – عن عبد الرحمن بن حبيب، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن ماهك، عن أبي هريرة أن رسول الله ? قال: «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة» ((1)).
* * *
باب الطلاق على الهزل
[(2194)] (ثنا) عبد الله بن مسلمة (القعنبي، ثنا عبد العزيز بن محمد) الدراوردي (عن عبد الرحمن بن حبيب) بن أردك المدني، مولى بني مخزوم، ذكره ابن حبان في «الثقات» ((2)) حسن الترمذي حديثه ((3)).
(عن عطاء بن أبي رباح، عن) يوسف (بن ماهك) قال في «المشارق»: هو بفتح الهاء ((4))، وقال النووي: هو بفتح الهاء لا ينصرف؛ لأنه عجمي علم ((5)). الفارسي المكي.
(عن أبي هريرة، أن رسول الله ? قال: ثلاث جدهن) هو (جد) بكسر الجيم فيهما.
قال في «النهاية»: الجد بكسر الجيم ضد الهزل، يقال: جد يجدجدا ((1)) (وهزلهن جد) هذا الحديث له سبب، وهو ما رواه أبو الدرداء قال: كان الرجل يطلق في الجاهلية وينكح ويعتق ويقول: إنما طلقت وأنا لاعب، فأنزل الله هذه الآية {ولا تتخذوا آيات الله هزوا} على هذا، أي: لا تتخذوا أحكام الله في طريق الهزل؛ فإنها جد كلها، فمن هزل فيها لزمته. وفيه إبطال لأمر الجاهلية وتقرير للأحكام الشرعية (النكاح و) نسخة: وهو (الطلاق) قال الرافعي: الهازل بالطلاق يقع طلاقه، وصورة الهزل أن يلاعبها بالطلاق مثل أن تقول في معرض الدلال والاستهزاء: طلقني ثلاثا، فيقول: طلقتك ثلاثا، فيقع الطلاق؛ لأنه خاطبها بالطلاق عن قصد واختيار، وليس فيه إلا أنه غير راض بالطلاق ظانا بأنه كان مستهزئا غير راض بوقوع الطلاق، وهذا الظن خطأ، ألا ترى أنه لو طلق بشرط الخيار لنفسه يقع الطلاق ويلغى الشرط، وإن لم يرض بالوقوع في الحال كما يقع طلاق الهازل في الظاهر ويقع في الباطن أيضا، بخلاف ما إذا قال: أنت طالق، وقال: أردت من وثاق حيث يدين ولا يحكم بوقوعه في الباطن؛ لأن هناك صرف اللفظ عن ظاهره إلى تأويل يدعيه، والهازل لا يصرف اللفظ إلى معنى آخر، قال: وهل ينعقد البيع وسائر التصرفات مع الهزل.
ووجه الآخر أن ظاهر الحديث يقتضي اختصاص التحاق الهازل بالجد في التصرفات الثلاثة.
قال: والخلاف جار في النكاح، والخبر يقتضي التحاق النكاح بالطلاق؛ فإنه مذكور معه. قال: ولفظ الغزالي يشعر بترجيح عدم الانعقاد، وقد يؤيد ذلك بما يختص به النكاح من وجوه الاحتياط ((1)) (والرجعة) يعني: ارتجاع المرأة إلى عصمته بعد الطلاق، ورواه الطبراني من حديث فضالة بن عبيد وجعل بدل الرجعة العتاق ولفظه: «ثلاث لا يجوز اللعب فيهن: النكاح والطلاق والعتق» ((2)). وفيه ابن لهيعة …. ثم ذكره من حديث عبادة وأبي ذر
وفي هذا رد على ابن العربي وعلى النووي حيث أنكرا على الغزالي إيراد لفظ العتاق. وقال النووي: إنما المعروف الرجعة.
———————-
فتح الودود في شرح سنن أبي داود — السندي، محمد بن عبد الهادي (ت (1138))
باب في الطلاق على الهزل
(2194) – قوله: «وهزلهن جد» الهزل: اللعب. والجد: بكسر الجيم ضده وقد استدل به من يقول بطلاق المكره ورد بأن الهازل يتكلم بالطلاق عن: قصد واختيار كامل للمتكلم به، وبذلك يقع طلاقه ويلزمه حكمه ولا يلتفت إلى عدم رضاه بحكمه، بخلاف المكره فإنه ملجأ إلى الاختيار في التكلم بالطلاق ((3)) فكان في اختياره التكلم بإطلاق قصور يفارق الطابع به والله تعالى أعلم، والحكم في جميع العقود كالبيع والهبة مساواة الجد والهزل وإنما خص هذه الثلاثة لتأكيد أمر النكاح، والطلاق، والرجعة.
————————–
الحديث صحيح رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة.
قال الخطابي: اتفق عامة أهل العلم على أن صريح لفظ الطلاق إذا جرى على لسان الإنسان البالغ العاقل فإنه مؤاخذ به، ولا ينفعه أن يقول: كنت لاعبا أو هازلا أو لم أنوه طلاقا .. أو ما أشبه ذلك من الأمور.
وفي الطبراني بسند حسن عن فضالة بن عبيد: ثلاث لا يجوز اللعب فيهن: الطلاق والنكاح والعتق.
——-
الْحَالَةُ الأُْولَى: الْهَزْل فِي التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي لاَ تَحْتَمِل النَّقْضَ وَلاَ يَكُونُ فِيهَا مَالٌ أَصْلًا:
وَيَشْمَل هَذَا النَّوْعُ الطَّلاَقَ، وَالظِّهَارَ، وَالْعِتْقَ، وَالْعَفْوَ عَنِ الْقِصَاصِ – عِنْدَ مَنْ يَرَى
أَنَّ مُوجِبَ الْقَتْل الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ الْقِصَاصُ عَيْنًا – وَالْيَمِينَ وَالنَّذْرَ ((1)).
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْهَزْل فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
(23) – الْقَوْل الأَْوَّل: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الْجِدَّ وَالْهَزْل فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ سَوَاءٌ، وَمِنْ ثَمَّ فَطَلاَقُ الْهَازِل وَاقِعٌ قَضَاءً وَدِيَانَةً، ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَمِثْلُهُ بَاقِي التَّصَرُّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ ((2)).
وَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ ?: ثَلاَثٌ لاَ يَجُوزُ اللَّعِبُ فِيهِنَّ: النِّكَاحُ وَالطَّلاَقُ، وَالْعِتْقُ.
وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ ?: مَنْ طَلَّقَ أَوْ حَرَّرَ أَوْ أَنْكَحَ أَوْ نَكَحَ فَقَال: إِنِّي كُنْتُ لاَعِبًا فَهُوَ جَائِزٌ ((1)).
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِالإِْجْمَاعِ، قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُل مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ أَنَّ هَزْل الطَّلاَقِ وَجِدَّهُ سَوَاءٌ ((2)).
وَنَصَّ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي لاَ تَحْتَمِل النَّقْضَ وَلاَ مَال فِيهَا تَاخُذُ حُكْمَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ: ثَلاَثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ وَالطَّلاَقُ وَالرَّجْعَةُ ((3)).
فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ وَالطَّلاَقَ، وَالرَّجْعَةَ، وَالظِّهَارَ، وَالْيَمِينَ، وَالْعِتْقَ حُكْمُهَا وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّ الْهَزْل وَالْجِدَّ فِيهَا سَوَاءٌ، لِلْحَدِيثِ ثَلاَثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ. . . «فَقَدْ رُوِيَ بِرِوَايَاتٍ: بَعْضُهَا:» النِّكَاحُ وَالطَّلاَقُ وَالْيَمِينُ «وَفِي رِوَايَةٍ:» وَالْعِتْقُ «بَدَل
» الْيَمِينُ «وَفِي رِوَايَةٍ» وَالرَّجْعَةُ «بَعْدَ النِّكَاحِ وَالطَّلاَقِ ((1))» فَأُخِذَ بِهَا فَكَانَ حُكْمُهَا وَاحِدًا، وَأَمَّا غَيْرُ هَذِهِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الْحَدِيثِ وَهِيَ: الْعَفْوُ عَنِ الْقِصَاصِ وَالنَّذْرُ فَإِنَّهَا مَقِيسَةٌ عَلَيْهَا بِجَامِعِ أَنَّهَا إِنْشَاآتٌ لاَ تَحْتَمِل الْفَسْخَ، فَقَدْ أُلْحِقَ الْعَفْوُ عَنِ الْقِصَاصِ بِ – «الْعِتْقُ»، وَالنَّذْرُ بِ – «الْيَمِينُ».
وَجَعَل الْمَالِكِيَّةُ الرَّجْعَةَ مُلْحَقَةً بِالطَّلاَقِ وَالنِّكَاحِ وَالْعِتْقِ، قَال فِي التَّوْضِيحِ فِي كِتَابِ الطَّلاَقِ فِي شَرْحِ قَوْل ابْنِ الْحَاجِبِ: وَفِي الْهَزْل فِي الطَّلاَقِ وَالنِّكَاحِ وَالْعِتْقِ. . . وَيُلْحَقُ بِالثَّلاَثِ الرَّجْعَةُ، وَالْمَشْهُورُ اللُّزُومُ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ?: «قَال رَسُول اللَّهِ ? ثَلاَثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ وَالطَّلاَقُ وَالرَّجْعَةُ.
وَلَكِنْ نَصَّ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ عَلَى أَنَّ الرَّجْعَةَ تَكُونُ بِقَوْلٍ صَرِيحٍ كَرَجَعْتُ. . . وَتَكُونُ بِهِ مَعَ النِّيَّةِ رَجْعَةً ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، أَمَّا مَعَ الْهَزْل فَإِنَّهَا تَكُونُ رَجْعَةً فِي الظَّاهِرِ فَقَطْ لِعَدَمِ
النِّيَّةِ؛ لأَِنَّ الرَّجْعَةَ هَزْلُهَا جِدٌّ؛ فَيُلْزِمُهُ الْحَاكِمُ بِالنَّفَقَةِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ، وَلَكِنْ لاَ يَحِل لَهُ الاِسْتِمْتَاعُ بِهَا، فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلاَ يَحِل لَهُ أَيْضًا أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ مِيرَاثِهَا. وَالْفَرْقُ بَيْنَ النِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ – حَيْثُ قَالُوا: إِنَّ النِّكَاحَ يَصِحُّ بِالْهَزْل ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَالرَّجْعَةَ تَصِحُّ ظَاهِرًا لاَ بَاطِنًا – أَنَّ النِّكَاحَ لَهُ صِيغَةٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، فَكَانَ الْهَزْل فِيهِ كَالْعَدَمِ، وَلَمَّا ضَعُفَ أَمْرُ الرَّجْعَةِ – لِكَوْنِ صِيغَتِهَا مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ فَقَطْ أَثَّرَ هَزْلُهُ فِيهَا فِي الْبَاطِنِ ((1)).
وَعَمَّمَ الشَّافِعِيَّةُ حُكْمَ حَدِيثِ: ثَلاَثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: الطَّلاَقُ وَالنِّكَاحُ وَالرَّجْعَةُ عَلَى كُل التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا، وَقَالُوا: وَخُصَّتِ الثَّلاَثَةُ لِتَأَكُّدِ أَمْرِ الأَْبْضَاعِ، وَإِلاَّ فَكُل التَّصَرُّفَاتِ كَذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةٍ: «وَالْعِتْقُ» وَخُصَّ لِتَشَوُّفِ الشَّارِعِ إِلَيْهِ ((2))، وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي غَيْرِ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ هُوَ مِنْ قَبِيل الْقِيَاسِ ((3)).
(24) – الْقَوْل الثَّانِي: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ (فِي
مُقَابِل الْمَشْهُورِ) إِلَى أَنَّهُ إِنْ قَامَ دَلِيل الْهَزْل لَمْ يَلْزَمْهُ الطَّلاَقُ قَالَهُ اللَّخْمِيُّ، وَفِي رَايٍ لاِبْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُمَا إِذَا كَانَا لاَعِبَيْنِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِمَا ((1)).
الموسوعة الفقهية الكويتية (42) / (279) – (281)
====
حكم الهزل في الطلاق
س: هل في قول: عليَّ الطلاق أن أفعل كذا، وكذا، وأنا لا أقصد بهذا الطلاق، إنّما هو مجرد كلمة. والله يعلم ما في قلبي. هل يصحّ ذلك وهل يلزمني طلاق؟
ج: إذا أطلق الإنسان الطلاق لزمه، جدّه جدّ، وهزله جدّ، فإذا قال: عليّ الطلاق من فلانة، أو فلانة مطلقة، لزمه الطّلاق، إذا استوفى الشروط، إن كانت المرأة صالحة للطلاق، فلا يجوز له التّلاعب بالطلاق؛ لأن الرسول قال: «ثلاث جدّهن جدّ، وهزلهن جدّ، النكاح، والطلاق، والرجعة» فالواجب حفظ اللسان، وعدم التلاعب بالطلاق، ولا يطلّق إلاّ على بصيرة، حال كونها حاملًا، أو في طهر لم يجامعها فيه، أو تكون آيسة إمّا الحامل وإلا آيسة، وإلا في طهر لم يجامعها فيه.
فتاوى نور على الدرب لابن باز بعناية الشويعر (22) / (297)
قال ابن عثيمين:
قوله: «جاد أو هازل» يعني أنه يقع من الجاد ومن الهازل، والفرق بينهما أن الجاد قصد اللفظ والحكم، والهازل قصد اللفظ دون الحكم، فالجاد طلق زوجته قاصدًا اللفظ وقاصدًا الحكم وهو الفراق، وأما الهازل فهو قاصد للفظ غير قاصد للحكم، فكونه يقول: أنا ما قصدت أنه يقع، فهذا ليس إليه بل إلى الله، هذا من جهة التعليل والنظر، أما من جهة الأثر فحديث أبي هريرة ? عن النبي ?: «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة» وفي رواية: «والعتق».
وقال بعض أهل العلم: إنه لا يقع الطلاق من الهازل، وكيف يقع الطلاق من الهازل وهو لم يرِدْه، إنما أراد اللفظ فقط؟!
ولكن الرد على هؤلاء أن نقول: إننا ما قلنا إلا ما دل عليه الدليل، والحديث صححه بعضهم وحسنه بعضهم، ولا شك أنه حجة فنحن نأخذ به، وهو قول عامة الأمة، ثم إن النظر يقتضيه؛ لأننا لو أخذنا بهذا الأمر، وفتحنا الباب لكان كل واحد يدعي هذا، لا يبقى طلاق على الأرض.
فالصواب: أنه يقع سواء كان جادًّا أو هازلًا، ثم إن قولنا بالوقوع فيه فائدة تربوية، وهي كبح جماح اللاعبين، فإذا علم الإنسان الذي يلعب بالطلاق وشبهه أنه مؤاخذ به فما يقدم عليه أبدًا، والقول بأنه غير مؤاخذ به لا شك أنه يفتح بابًا للناس، وتتخذ آيات الله هزوًا.
الشرح الممتع على زاد المستقنع (13) / (63) — ابن عثيمين
قال ابن تيمية:
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: أَرْبَعٌ جَائِزَاتٌ إذَا تُكُلِّمَ بِهِنَّ: الطَّلَاقُ. وَالْعَتَاقُ. وَالنِّكَاحُ. وَالنَّذْرُ، وَعَنْ عَلِيٍّ: ثَلَاثٌ لَا لَعِبَ فِيهِنَّ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالنِّكَاحُ، وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: ثَلَاثٌ اللَّعِبُ فِيهِنَّ كَالْجِدِّ الطَّلَاقُ وَالنِّكَاحُ وَالْعِتْقُ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: النِّكَاحُ جِدُّهُ وَلَعِبُهُ سَوَاءٌ. رَوَاهُنَّ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ.
فَأَمَّا طَلَاقُ الْهَازِلِ فَيَقَعُ عِنْدَ الْعَامَّةِ، وَكَذَلِكَ نِكَاحُهُ صَحِيحٌ كَمَا هُوَ فِي مَتْنِ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ وَهَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَحَكَاهُ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ نَفْسِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِهِ، وَقَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ نَصَّ الشَّافِعِيِّ أَنَّ نِكَاحَ الْهَازِلِ لَا يَصِحُّ بِخِلَافِ طَلَاقِهِ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ أَنَّ هَزْلَ النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ لَازِمٌ؛ فَلَوْ خَطَبَ رَجُلٌ امْرَأَةً وَوَلِيُّهَا حَاضِرٌ وَكَانَتْ فَوَّضَتْ ذَلِكَ إلَيْهِ، فَقَالَ: قَدْ فَعَلْت. أَوْ كَانَتْ بِكْرًا وَخُطِبَتْ إلَى أَبِيهَا، فَقَالَ: قَدْ أَنْكَحْت، فَقَالَ: لَا أَرْضَى لَزِمَهُ النِّكَاحُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ فِي السُّلَيْمَانِيَّةِ، عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: نِكَاحُ الْهَازِلِ لَا يَجُوزُ. قَالَ سُلَيْمَانُ: إذَا عُلِمَ الْهَزْلُ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ فَهُوَ جَائِزٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: فَإِنْ قَامَ دَلِيلُ الْهَزْلِ لَمْ يَلْزَمْهُ عِتْقٌ وَلَا طَلَاقٌ وَلَا نِكَاحٌ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ الصَّدَاقِ. وَإِنْ قَامَ دَلِيلُ ذَلِكَ فِي الْبَاطِنِ لَزِمَهُ نِصْفُ الصَّدَاقِ وَلَمْ يُمَكَّنْ مِنْهَا لِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا.
الفتاوى الكبرى لابن تيمية (6) / (63)