214 و 215 و 216 و 217 و 218 عبق الياسمين شرح رياض الصالحين
سلطان الحمادي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
باب تحريم الظلم والأمر برد المظالم
214 – عن أَبِي حُميْد عبْدِ الرَّحْمن بنِ سعدٍ السَّاعِدِيِّ رضي اللَّه عنه قَالَ: اسْتعْملَ النَّبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم رَجُلاً مِن الأَزْدِ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهدِيَ إِلَيَّ فَقَامَ رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم عَلَى الْمِنبرِ، فَحمِدَ اللَّه وأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: “أَمَّا بعْدُ فَإِنِّي أَسْتعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ عَلَى الْعمَلِ مِمَّا ولاَّنِي اللَّه، فَيَاتِي فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَت إِلَيَّ، أَفَلا جَلَسَ في بيتِ أَبيهِ أَوْ أُمِّهِ حتَّى تاتِيَهُ هَدِيَّتُهُ إِنْ كَانَ صَادِقاً، واللَّه لا ياخُذُ أَحدٌ مِنْكُمْ شَيْئاً بِغَيْرِ حقِّهِ إلاَّ لَقِيَ اللَّه تَعالَى، يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ، فَلا أَعْرفَنَّ أَحداً مِنْكُمْ لَقِيَ اللَّه يَحْمِلُ بعِيراً لَهُ رغَاءٌ، أَوْ بَقرة لَهَا خُوارٌ، أَوْ شَاةً تيْعَرُ ثُمَّ رفَعَ يَديْهِ حتَّى رُؤِيَ بَياضُ إبْطيْهِ فَقَالَ:”اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ” ثلاثاً، متفقٌ عليه.
(اسْتعْملَ النَّبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم رَجُلاً) استعمل أي جعله عاملا عنده.
(اللتيبة):قال ابن حجر:” اللتبية بضم اللام وسكون المثناة بعدها موحدة من بني لتب حي من الأزد قاله بن دريد قيل إنها كانت أمه فعرف بها وقيل اللتبية بفتح اللام والمثناة … ابن اللتبية المذكور اسمه عبد الله فيما ذكر بن سعد ” (فتح الباري) (ابن سعد في الطبقات)
وقال أيضا: فيه استعمال المفضول في الإمارة والإمامة والأمانة مع وجود من هو أفضل منه. (فتح الباري)
(قوله فلما قدم) جاء في رواية: (فلما جاء حاسبه) فيه محاسبة العمال ليعلم ما قبضوه وما صرفوا. (شرح النووي)
قال ابن حجر:” قوله في الرواية المذكورة فلما جاء حاسبه أي أمر من يحاسبه ويقبض منه وفي رواية أبي نعيم أيضا فجعل يقول هذا لكم وهذا لي حتى ميزه قال يقولون من أين هذا لك قال اهدي لي فجاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بما أعطاهم”
بوب البخاري على هذا الحديث باب محاسبة الإمام عماله
قوله (فَيَاتِي فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَت إِلَيَّ) قال ابن حجر:” فيه أن من رأى متأولا أخطأ في تأويل يضر من أخذ به أن يشهر القول للناس ويبين خطأه ليحذر من الاغترار به” (فتح الباري)
قال ابن علان:” هذا الكلام المنكر على العامل لم يصرح باسم القائل، لأن مراده التحذير من مثل ذلك سواء فيه القائل أوّلا وغيره وهذا من مزيد فضله وحسن خلقه” (دليل الفالحين 1/ 389)
المقصود التحذير من الفعل لا الفاعل.
قوله (فَقَامَ رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم عَلَى الْمِنبرِ، فَحمِدَ اللَّه وأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: “أَمَّا بعْدُ) قال ابن حجر:” وفي الحديث من الفوائد أن الإمام يخطب في الأمور المهمة واستعمال أما بعد في الخطبة ” (فتح الباري)
قوله (أَفَلا جَلَسَ في بيتِ أَبيهِ أَوْ أُمِّهِ حتَّى تاتِيَهُ هَدِيَّتُهُ إِنْ كَانَ صَادِقاً) قال ابن حجر:” لو أهدي إليه في تلك الحالة لم تكره لأنها كانت لغير ريبة، قال ابن بطال: فيه أن هدايا العمال تجعل في بيت المال، وأن العامل لا يملكها إلا إن طلبها له الإمام، وفيه كراهة قبول هدية طالب العناية.” فتح الباري وقال أيضا:” فيه جواز توبيخ المخطئ” (فتح الباري)
قال ابن بطال: فيه كراهية قبول هدية طالب العناية، ويدخل فى معنى ذلك كراهية هدية المِدْيَان والمقارض، وكل من لهديته سبب غير سبب الجيرة أو الصداقة أو صلة الرحم (شرح ابن بطال)
قال ابن باز:” الهدايا التي تدفع للعمال لأمراء الزكاة ليست لهم بل لبيت المال فإنهم يعطونهم إما أن يتقى شرهم، وإما أن يخففوا عن أهل الزكاة ويقصروا في الأمانة وإما لأسباب أخرى. (شرح رياض الصالحين لاباز 1/ 439)
قوله (يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) جاء في الصحيحن أنه يحمله على رقبته. وفي راوية لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة قال ابن حجر:” قوله لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يعني لا يأتي بشيء يحوزه لنفسه ووقع في رواية عبد الله بن محمد لا يأخذ أحد منها شيئا وفي رواية أبي بكر بن أبي شيبة لا ينال أحد منكم منها شيئا وفي رواية أبي الزناد عند أبي عوانة لا يغل منه شيئا إلا جاء به” (فتح الباري)
قوله (فَلا أَعْرفَنَّ أَحداً مِنْكُمْ لَقِيَ اللَّه يَحْمِلُ بعِيراً) قال النووي:” قوله: (فلأعرفن أحدا منكم لقي الله يحمل بعيرا) هكذا هو في بعض النسخ ” فلأعرفن “، وفي بعضها ” لا أعرفن ” بالألف على النفي، قال القاضي: هذا أشهر، قال: والأول هو رواية أكثر رواة صحيح مسلم. ” (شرح النووي)
قال النووي:” وفي هذا الحديث: بيان أن هدايا العمال حرام وغلول ; لأنه خان في ولايته وأمانته، ولهذا ذكر في الحديث في عقوبته وحمله ما أهدي إليه يوم القيامة، كما ذكر مثله في الغال، وقد بين صلى الله عليه وسلم في نفس الحديث السبب في تحريم الهدية عليه، وأنها بسبب الولاية، بخلاف الهدية لغير العامل، فإنها مستحبة ” (شرح النووي) فلا يجوز لموظف أن يأخذ هدية على عمله فإن أخذها كان ظالما و على ذلك بوب النووي باب تحريم هدايا العمال وورد في الحديث أن هدايا العمال غلول.
قوله (أو شاة تيعر) قال النووي:” هو بمثناة فوق مفتوحة، ثم مثناة تحت ساكنة، ثم عين مهملة مكسورة ومفتوحة، ومعناه: تصيح، واليعار: صوت الشاة. (شرح النووي)
قوله (حتَّى رُؤِيَ بَياضُ إبْطيْهِ) جاء في راوية مسلم (ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه) قال النووي:”هي بضم العين المهملة وفتحها والفاء ساكنة فيهما، وممن ذكر اللغتين في العين القاضي هنا وفي المشارق وصاحب المطالع، والأشهر الضم، قال الأصمعي وآخرون عفرة الإبط هي البياض ليس بالناصع، بل فيه شيء كلون الأرض، قالوا: وهو مأخوذ من عفر الأرض بفتح العين والفاء وهو وجهها.” (شرح النووي) أي بالغ في الرفع.
فيه رفع اليدين في الدعاء.
قال فيصل آل مبارك:” في هذا الحديث: دليل على أنَّ هدية العمال راجعة إلى بيت المال، وأنَّ ما أخذه بغير حقه يجيء به يحمله يوم القيامة تعذيبًا له وزيادة في فضيحته.
قال الله تعالى: {وَمَن يَغْلُلْ يَاتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161].” (تطريز رياض الصالحين)
قال ابن باز:” الواجب على العامل إما أن يردها ولا يقبل الهدية من الناس، وإلا فليجعلها في مال الزكاة لبيت المال … الهدايا التي تبذل في الغالب للعمال من الأمراء، للقضاة إنما تُبذل رشوة إما لاتقاء شره حتى لا يزيد عليهم، وإما ليطعموا فيه حتى يدع لهم بعض الزكاة فالغالب عليها الشر … ” (شرح رياص الصالحين 1/ 440)
215 – وعن أَبي هُرِيْرَةَ رضي اللَّه عنه عن النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَالَ: “مَنْ كَانتْ عِنْدَه مَظْلمَةٌ لأَخِيهِ، مِنْ عِرْضِهِ أَوْ مِنْ شَيْءٍ، فَلْيتَحَلَّلْه ِمنْه الْيوْمَ قَبْلَ أَنْ لاَ يكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، إنْ كَانَ لَهُ عَملٌ صَالحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقدْرِ مظْلمتِهِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سيِّئَاتِ صاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ” رواه البخاري.
قوله: (من عرضه أو شيء) أي من الأشياء، وهو من عطف العام على الخاص فيدخل فيه المال بأصنافه والجراحات حتى اللطمة ونحوها، وفي رواية الترمذي: ” من عرض أو مال “. (فتح الباري)
قوله: (قبل أن لا يكون دينار ولا درهم) أي يوم القيامة، وثبت ذلك في رواية علي بن الجعد عن ابن أبي ذئب عند الإسماعيلي. (فتح الباري)
قوله (أُخِذَ مِنْ سيِّئَاتِ صاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ) قال ابن حجر:” قوله: (أخذ من سيئات صاحبه) أي صاحب المظلمة (فحمل عليه) أي على الظالم، وفي رواية مالك: ” فطرحت عليه “، وهذا الحديث قد أخرج مسلم معناه من وجه آخر وهو أوضح سياقا من هذا ولفظه: ” المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وسفك دم هذا وأكل مال هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه وطرح في النار ” ولا تعارض بين هذا وبين قوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} لأنه إنما يعاقب بسبب فعله وظلمه ولم يعاقب بغير جناية منه بل بجنايته فقوبلت الحسنات بالسيئات على ما اقتضاه عدل الله تعالى في عباده.
قوله: (ليس ثم دينار ولا درهم) في حديث ابن عمر رفعه: ” من مات وعليه دينار أو درهم قضى من حسناته ” أخرجه ابن ماجه … وقد استشكل إعطاء الثواب وهو لا يتناهى في مقابلة العقاب وهو متناه وأجيب بأنه محمول على أن الذي يعطاه صاحب الحق من أصل الثواب ما يوازي العقوبة عن السيئة وأما ما زاد على ذلك بفضل الله فإنه يبقى لصاحبه. قال البيهقي: سيئات المؤمن على أصول أهل السنة متناهية الجزاء وحسناته غير متناهية الجزاء لأن من ثوابها الخلود في الجنة فوجه الحديث عندي والله أعلم أنه يعطى خصماء المؤمن المسيء من أجر حسناته ما يوازي عقوبة سيئاته فإن فنيت حسناته أخذ من خطايا خصومه فطرحت عليه ثم يعذب إن لم يعف عنه فإذا انتهت عقوبة تلك الخطايا أدخل الجنة بما كتب له من الخلود فيها بإيمانه، ولا يعطى خصماؤه ما زاد من أجر حسناته على ما قابل عقوبة سيئاته يعني من المضاعفة لأن ذلك من فضل الله يختص به من وافى يوم القيامة مؤمنا والله أعلم (فتح الباري)
فيه أن التحلل واجب وأن الحقوق لا تسقط بل لا بد أن ترد سواء في العرض أو المال أو غيرهما.
قال ابن تيمية بعد أن ذكر حديث الباب:”الظالم يكون له حسنات فيستوفي المظلوم منها حقه.” (منهاج السنة 3/ 397)
قال ابن القيم: (والظلم عند الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة له دواوين ثلاثة: ديوان لا يغفر الله منه شيئًا، وهو الشرك به، فإن الله لا يغفر أن يُشْرَك به. وديوان لا يترك الله تعالى منه شيئًا، وهو ظلم العباد بعضهم بعضًا، فإن الله تعالى يستوفيه كله. وديوان لا يعبأ الله به شيئًا، وهو ظلم العبد نفسه بينه وبين ربه عزَّ وجلَّ، فإن هذا الديوان أخف الدواوين وأسرعها محوًا، فإنه يُمحى بالتوبة والاستغفار، والحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، ونحو ذلك. بخلاف ديوان الشرك؛ فإنه لا يُمحى إلا بالتوحيد، وديوان المظالم لا يُمحى إلا بالخروج منها إلى أربابها واستحلالهم منها” (الوابل الصيب ص 24)
قال ابن عثيمين:” فإنه في الدنيا يمكن أن يتحلل الإنسان من المظالم التي عليه بأدائها إلى أهلها، أو استحلالهم منها، لكن في الآخرة ليس هناك شيء إلا الأعمال الصالحة، فإذا كان يوم القيامة أقتص من الظالم للمظلوم من حسناته؛ يؤخذ من حسناته التي هي رأس ماله في ذلك اليوم، فإن بقي منه شيء وإلا أخذ من سيئات المظلوم وحملت على الظالم والعياذ بالله، فازداد بذلك سيئات إلى سيئاته.” (شرح رياض الصالحين 2/ 509)
قال فيصل آل مبارك:” في هذا الحديث: الأمر بالاستحلال، ورد المظالم في الدنيا، وإلا أخذ المظلوم لحقه وافيًا في الآخرة.” (تطريز رياض الصالحين ص166)
216 – وعن عبد اللَّه بن عَمْرو بن الْعاص رضي اللَّه عنهما عن النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَالَ: “الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسانِهِ ويَدِهِ، والْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّه عَنْهُ “مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
هذا الحديث متفق عليه في الشطر الأول أما الشطر الثاني والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه من أفراد البخاري
قوله (المسلم): قال ابن عثيمين:” المسلم يطلق على معانٍ كثيرة: منها المستسلم، المستسلم لغيره يُقال له مسلم، ومنه على أحد التفسيرين قوله تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) (الحجرات: 14)، أي قولوا: استسلمنا، ولم نقاتلكم، والقول الثاني في الآية: إن المراد بالإسلام الإسلامُ لله عزّ وجلّ وهو الصحيح.
والمعني الثاني يطلق الإسلام على الأصول الخمسة التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل حين سأله عن الإسلام، فقال: ” أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت.
ويطلق الإسلام على السلامة، يعني أن يسلم الناس من شر الإنسان، فيقال: أسلم بمعنى دخل في السلم أي المسالمة للناس، بحيث لا يؤذي الناس، ومنه هذا الحديث: ” المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده”.” (شرح رياض الصالحين 2/ 512)
وقوله صلى الله عليه وسلم: (من سلم المسلمون من لسانه ويده)
قال النووي: معناه: من لم يؤذ مسلما بقول ولا فعل. وخص اليد بالذكر لأن معظم الأفعال بها … قالوا: معناه المسلم الكامل، وليس المراد نفي أصل الإسلام عن من لم يكن بهذه الصفة، بل هذا كما يقال: العلم ما نفع، أو العالم زيد؛ أي الكامل، أو المحبوب. وكما يقال: الناس العرب، والمال الإبل. فكله على التفضيل لا للحصر. ويدل على ما ذكرناه من معنى الحديث قوله: ” أي المسلمين خير؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده ” ثم إن كمال الإسلام والمسلم متعلق بخصال أخر كثيرة، وإنما خص ما ذكر لما ذكرناه من الحاجة الخاصة. والله أعلم.
قال ابن حجر:” قوله: (المسلم) قيل الألف واللام فيه للكمال نحو زيد الرجل أي: الكامل في الرجولية. وتعقب بأنه يستلزم أن من اتصف بهذا خاصة كان كاملا. ويجاب بأن المراد بذلك مراعاة باقي الأركان، قال الخطابي: المراد أفضل المسلمين من جمع إلى أداء حقوق الله تعالى أداء حقوق المسلمين، انتهى. وإثبات اسم الشيء على معنى إثبات الكمال له مستفيض في كلامهم، ويحتمل أن يكون المراد بذلك أن يبين علامة المسلم التي يستدل بها على إسلامه وهي سلامة المسلمين من لسانه ويده، كما ذكر مثله في علامة المنافق. ويحتمل أن يكون المراد بذلك الإشارة إلى الحث على حسن معاملة العبد مع ربه لأنه إذا أحسن معاملة إخوانه فأولى أن يحسن معاملة ربه، من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى.” (فتح الباري)
قال أيضا:” (تنبيه): ذكر المسلمين هنا خرج مخرج الغالب؛ لأن محافظة المسلم على كف الأذى عن أخيه المسلم أشد تأكيدا؛ ولأن الكفار بصدد أن يقاتلوا وإن كان فيهم من يجب الكف عنه. والإتيان بجمع التذكير للتغليب، فإن المسلمات يدخلن في ذلك. وخص اللسان بالذكر لأنه المعبر عما في النفس، وهكذا اليد لأن أكثر الأفعال بها، والحديث عام بالنسبة إلى اللسان دون اليد؛ لأن اللسان يمكنه القول في الماضين والموجودين والحادثين بعد، بخلاف اليد، نعم يمكن أن تشارك اللسان في ذلك بالكتابة، وإن أثرها في ذلك لعظيم. ويستثنى من ذلك شرعا تعاطي الضرب باليد في إقامة الحدود والتعازير على المسلم المستحق لذلك. وفي التعبير باللسان دون القول نكتة، فيدخل فيه من أخرج لسانه على سبيل الاستهزاء. وفي ذكر اليد دون غيرها من الجوارح نكتة، فيدخل فيها اليد المعنوية كالاستيلاء على حق الغير بغير حق” (فتح الباري)
قوله: (والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه) قال ابن حجر: قيل: خص المهاجر بالذكر تطييبا لقلب من لم يهاجر من المسلمين لفوات ذلك بفتح مكة. فأعلمهم أن من هجر ما نهى الله عنه كان هو المهاجر الكامل، ويحتمل أن يكون ذلك تنبيها للمهاجرين أن لا يتكلوا على الهجرة فيقصروا في العمل، وهذا الحديث من جوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم والله أعلم.
وقال أيضا في موضع آخر:” والمهاجر هو بمعنى الهاجر، وإن كان لفظ المفاعل يقتضي وقوع فعل من اثنين؛ ولكنه هنا للواحد كالمسافر. ويحتمل أن يكون على بابه لأن من لازم كونه هاجرا وطنه مثلا أنه مهجور من وطنه، وهذه الهجرة ضربان: ظاهرة، وباطنة. فالباطنة ترك ما تدعو إليه النفس الأمارة بالسوء والشيطان، والظاهرة الفرار بالدين من الفتن. وكأن المهاجرين خوطبوا بذلك لئلا يتكلوا على مجرد التحول من دارهم حتى يمتثلوا أوامر الشرع ونواهيه، ويحتمل أن يكون ذلك قيل بعد انقطاع الهجرة لما فتحت مكة تطييبا لقلوب من لم يدرك ذلك، بل حقيقة الهجرة تحصل لمن هجر ما نهى الله عنه، فاشتملت هاتان الجملتان على جوامع من معاني الحكم والأحكام. (فتح الباري)
في هذا الحديث أن من أكمل المسلمين من أدى حقوق المسلمين.
قال فيصل آل مبارك:” في هذا الحديث: دليل على أن من كف لسانه ويده عن المسلمين أنه كامل الإسلام، ومن هجر ما نهى الله عنه فهو المهاجر حقًا، فاشتمل هذا الحديث على جوامع من معاني الكلم والحكم.”” (تطريز رياض الصالحين)
قال ابن عثيمين:” كف اللسان من أشد ما يكون على الإنسان، وهو من الأمور التي تصعب على المرء وربما يستسهل إطلاق لسانه.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: ” أفلا أخبرك بملاك ذلك كله”؟ قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسان نفسه وقال: ” كفّ عليك هذا” قلت: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به، يعني هل نؤاخذ بالكلام؟ فقال: ” ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكبّ الناس في النار على وجوههم- أو قال على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم”.
فاللسان من أشد الجوارح خطراً على الإنسان” (شرح رياض الصالحين 2/ 512)
217 – عنه رضي اللَّه عنه قَالَ: كَانَ عَلَى ثَقَل النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ كِرْكِرةُ، فَمَاتَ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: “هُوَ في النَّارِ” فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فوَجَدُوا عَبَاءَة قَدْ غَلَّهَا. رواه البخاري.
روى الترمذي والنسائي وابن ماجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من مات وهو بريء من ثلاث الكبر والغلول والدين دخل الجنة. (صحيح ابن ماجه 2412)
وروى ابن ماجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” يا أيها الناس إن هذا من غنائمكم، أدوا الخيط والمخيط، فما فوق ذلك، فما دون ذلك، فإن الغلول عار على أهله يوم القيامة وشنار ونار “. (الصحيحة 985)
قوله (ثقل): قوله على ثقل بمثلثة وقاف مفتوحتين العيال وما يثقل حمله من الأمتعة. (فتح الباري)
قوله (كركرة) قال البخاري في صحيحه: قَالَ ابْنُ سَلَامٍ: كَرْكَرَةُ. يَعْنِي بِفَتْحِ الْكَافِ، وَهُوَ مَضْبُوطٌ كَذَا. قال ابن حجر:” أراد بذلك أن شيخه محمد بن سلام رواه عن ابن عيينة بهذا الإسناد بفتح الكاف، وصرح بذلك الأصيلي في روايته فقال: يعني بفتح الكاف والله أعلم.” (فتح الباري) وقال ابن حجر أيضا:” (كركرة) ذكر الواقدي أنه كان أسود يمسك دابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القتال، وروى أبو سعيد النيسابوري في ” شرف المصطفى ” أنه كان نوبيا أهداه له هوذة بن علي الحنفي صاحب اليمامة فأعتقه، وذكر البلاذري أنه مات في الرق ” (فتح الباري)
قال ابن حجر:” اختلف في ضبطه فذكر عياض أنه يقال بفتح الكافين وبكسرهما، وقال النووي إنما اختلف في كافه الأولى وأما الثانية فمكسورة اتفاقا، قال عياض: هو للأكثر بالفتح في رواية علي وبالكسر في رواية ابن سلام وعند الأصيلي بالكسر في الأول، وقال القابسي: لم يكن عند المروزي فيه ضبط إلا أني أعلم أن الأول خلاف الثاني.
وقوله: (هو في النار) قال ابن حجر:” أي يعذب على معصيته، أو المراد هو في النار إن لم يعف الله عنه.” (فتح الباري)
قوله (فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ) فيه حرص الصحابة على معرفة ما ينجي من عذاب الله.
قوله (غلها) قال ابن علان:” الغلول هنا: الخيانة في المغنم، قال ابن قتيبة: سمي بذلك لأن آخذه يغله في متاعه: أي يخفيه فيه” (دليل الفالحين 1/ 392)
وفي الحديث تحريم قليل الغلول وكثيره، قال الشوكاني:” أحاديث الباب تدل على تحريم الغلول من غير فرق بين القليل منه والكثير. ونقل النووي الإجماع على أنه من الكبائر، وقد صرح القرآن والسنة بأن الغال يأتي يوم القيامة والشيء الذي غله معه فقال الله تعالى – {ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة} ” (7/ 351)
قال ابن باز:” هذا هو من المغنم، كيف إذا ظلم واحدا معينا وأخذ منه عباءة أو نقودا أو طعاما أو أرضا أو غير ذلك ” (شرح رياض الصالحين 1/ 443)
218 – وعن أَبي بَكْرَةَ نُفَيْعِ بنِ الحارثِ رضيَ اللَّه عنهُ عن النَّبيّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَالَ: “إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّه السَّمواتِ والأَرْضَ: السَّنةُ اثْنَا عَشَر شَهْراً، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُم: ثَلاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقعْدة وَذو الْحِجَّةِ، والْمُحرَّمُ، وَرجُب مضر الَّذِي بَيْنَ جُمادَي وَشَعْبَانَ، أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ “قلْنَا: اللَّه ورسُولُهُ أَعْلَم، فَسكَتَ حَتَّى ظنَنَّا أَنَّهُ سَيُسمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: أَليْس ذَا الْحِجَّةِ؟ قُلْنَا: بلَى: قَالَ:”فأَيُّ بلَدٍ هَذَا؟ “قُلْنَا: اللَّه وَرسُولُهُ أَعلمُ، فَسَكَتَ حتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سيُسمِّيهِ بغَيْر اسْمِهِ. قَالَ:”أَلَيْسَ الْبلْدةَ؟ “قُلْنا: بلَى. قَالَ:”فَأَيُّ يَومٍ هذَا؟ “قُلْنَا: اللَّه ورسُولُهُ أَعْلمُ، فَسكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّه سيُسمِّيهِ بِغيْر اسمِهِ. قَالَ:”أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْر؟ “قُلْنَا: بَلَى. قَالَ:”فإِنَّ دِماءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وأَعْراضَكُمْ عَلَيْكُمْ حرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا في بَلَدِكُمْ هَذا في شَهْرِكم هَذَا، وَسَتَلْقَوْن ربَّكُم فَيَسْالُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، أَلا فَلا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّاراً يضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، أَلاَ لِيُبلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فلَعلَّ بعْض مَنْ يبْلغُه أَنْ يَكُونَ أَوْعَى لَه مِن بَعْضِ مَنْ سَمِعه”ثُمَّ قال:”أَلا هَلْ بَلَّغْتُ، أَلا هَلْ بلَّغْتُ؟ “قُلْنا: نَعَمْ، قَالَ:”اللَّهُمْ اشْهدْ “متفقٌ عَلَيهِ.
(إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ) المراد بالزمان: السنة (فتح الباري)
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض)
قال الخطابي – رحمه الله -: كانوا يخالفون بين أشهر السنة بالتحليل والتحريم، والتقديم والتأخير لأسباب تعرض لهم، منها استعجال الحرب، فيستحلون الشهر الحرام، ثم يحرمون بدله شهرا غيره، فتتحول في ذلك شهور السنة، وتتبدل، فإذا أتى على ذلك عدة من السنين استدار الزمان، وعاد الأمر إلى أصله، فاتفق وقوع حجة النبي – صلى الله عليه وسلم – عند ذلك.
قال النووي:” فقال العلماء: معناه أنهم في الجاهلية يتمسكون بملة إبراهيم صلى الله عليه وسلم في تحريم الأشهر الحرم، وكان يشق عليهم تأخير القتال ثلاثة أشهر متواليات، فكانوا إذا احتاجوا إلى قتال أخروا تحريم المحرم إلى الشهر الذي بعده وهو صفر، ثم يؤخرونه في السنة الأخرى إلى شهر آخر، وهكذا يفعلون في سنة بعد سنة، حتى اختلط عليهم الأمر، وصادفت حجة النبي صلى الله عليه وسلم تحريمهم، وقد تطابق الشرع، وكانوا في تلك السنة قد حرموا ذا الحجة لموافقة الحساب الذي ذكرناه، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الاستدارة صادفت ما حكم الله تعالى به يوم خلق السماوات والأرض. وقال أبو عبيدة: كانوا ينسئون، أي: يؤخرون وهو الذي قال الله تعالى فيه: {إنما النسيء زيادة في الكفر} فربما احتاجوا إلى الحرب في المحرم، فيؤخرون تحريمه إلى صفر، ثم يؤخرون صفرا في سنة أخرى، فصادف تلك السنة رجوع المحرم إلى موضعه. (شرح النووي)
قال الأتيوبي:” قال التوربشتي – رحمه الله -: قوله: “إن الزمان قد استدار. . . إلخ”: الزمان اسم لقليل الوقت وكثيره، وأراد به هنا السنة. انتهى، قال الطيبي – رحمه الله -: وذلك أن قوله: “السنة اثنا عشر شهرا” إلى آخره جملة مستأنفة مبينة للجملة الأولى، فالمعنى أن الزمان في انقسامه إلى الأعوام، والأعوام إلى الأشهر عاد إلى أصل الحساب والوضع الذي اختاره الله، ووضعه يوم خلق السماوات والأرض، والهيئة صورة الشيء، وشكله، وحاله، والكاف صفة مصدر محذوف؛ أي: استدار استدارة مثل حالته يوم خلق الله السماوات والأرض. (البحر المحيط الثجاج)
قوله (مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُم) قال ابن الجوزي:” إنما سماها حرما لمعنيين: أحدهما: لتحريم القتال فيها، وكانت العرب تعتقد ذلك. والثاني: لأن تعظيم انتهاك المحارم فيها أشد من تعظيمه في غيرها” (كشف المشكل من حديث الصحيحين 2/ 6)
قال ابن حجر:” قيل: الحكمة في جعل المحرم أول السنة أن يحصل الابتداء بشهر حرام ويختم بشهر حرام، وتتوسط السنة بشهر حرام وهو رجب، وإنما توالى شهران في الآخر لإرادة تفضيل الختام، والأعمال بالخواتيم.” (فتح الباري)
قوله (ذو القعدة) فبفتح القاف، وذو الحجة بكسر الحاء هذه اللغة المشهورة، ويجوز في لغة قليلة كسر القاف وفتح الحاء. (شرح مسلم)
قال النووي:” وقد أجمع المسلمون على أن الأشهر الحرم الأربعة هي هذه المذكورة في الحديث، ولكن اختلفوا في الأدب المستحب في كيفية عدها، فقالت طائفة من أهل الكوفة وأهل الأدب: يقال: المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة ليكون الأربعة من سنة واحدة، وقال علماء المدينة والبصرة وجماهير العلماء: هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، ثلاثة سرد وواحد فرد، وهذا هو الصحيح الذي جاءت به الأحاديث الصحيحة، منها هذا الحديث الذي نحن فيه، وعلى هذا الاستعمال أطبق الناس من الطوائف كلها. (شرح النووي)
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان) وإنما قيده هذا التقييد مبالغة في إيضاحه وإزالة للبس عنه، قالوا: وقد كان بين بني مضر وبين ربيعة اختلاف في رجب، فكانت مضر تجعل رجبا هذا الشهر المعروف الآن، وهو الذي بين جمادى وشعبان، وكانت ربيعة تجعله رمضان، فلهذا أضافه النبي صلى الله عليه وسلم إلى مضر، وقيل: لأنهم كانوا يعظمونه أكثر من غيرهم، وقيل: إن العرب كانت تسمي رجبا وشعبان الرجبين، وقيل: كانت تسمي جمادى ورجبا جمادين، وتسمي شعبان رجبا. (شرح النووي)
قوله: (ثم قال: أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس ذا الحجة؟ قلنا. بلى، قال: فأي بلد هذا؟ قلنا. الله ورسوله أعلم … ) إلى آخره، قال النووي” هذا السؤال والسكوت والتفسير أراد به التفخيم والتقرير والتنبيه على عظم مرتبة هذا الشهر والبلد واليوم (شرح النووي)
قال القرطبي: سؤاله صلى الله عليه وسلم عن الثلاثة وسكوته بعد كل سؤال منها كان لاستحضار فهومهم، وليقبلوا عليه بكليتهم، وليستشعروا عظمة ما يخبرهم عنه، ولذلك قال بعد هذا: ” فإن دماءكم … “. إلخ، مبالغة في بيان تحريم هذه الأشياء.
وقولهم: ” الله ورسوله أعلم “. هذا من حسن أدبهم، وأنهم علموا أنه صلى الله عليه وسلم لا يخفى عليه ما يعرفونه من الجواب فعرفوا أنه ليس المراد مطلق الإخبار بما يعرفون. (شرح النووي)
قوله (حتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سيُسمِّيهِ بغَيْر اسْمِهِ) فيه إشارة إلى تفويض الأمور الكلية إلى الشارع، ويستفاد منه الحجة لمثبتي الحقائق الشرعية (فتح الباري)
قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا) المراد بهذا كله: بيان توكيد غلظ تحريم الأموال والدماء والأعراض والتحذير من ذلك. قال ابن حجر:” ومناط التشبيه في قوله: ” كحرمة يومكم ” وما بعده، ظهوره عند السامعين؛ لأن تحريم البلد والشهر واليوم كان ثابتا في نفوسهم، مقررا عندهم، بخلاف الأنفس والأموال والأعراض فكانوا في الجاهلية يستبيحونها، فطرأ الشرع عليهم بأن تحريم دم المسلم وماله وعرضه أعظم من تحريم البلد والشهر واليوم، فلا يرد كون المشبه به أخفض رتبة من المشبه؛ لأن الخطاب إنما وقع بالنسبة لما اعتاده المخاطبون قبل تقرير الشرع،” (فتح الباري)
(وَسَتَلْقَوْن ربَّكُم فَيَسْالُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُم) قال القرطبي:” ستقفون في العرض موقف من لقي فحبس حتَّى تعرض عليه أعماله، فيسأل عنها، وهذا إخبارٌ بمقام عظيم، وأمر هائل، لا يُقدَرُ قدرُه، ولا يتصور هوله، أصبح الناس عن التذكر فيه معرضين، وعن الاستعداد له متشاغلين. فالأمر كما قال في كتابه المكنون: {قُل هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنتُم عَنهُ مُعرِضُونَ} فنسأل الله تعالى من فضله أن يوقظنا من رقدتنا، وينبهنا من غفلتنا، ويجعلنا ممن استعدَّ للقائه، وكُفِي فواجِئ نِقمَه وبلائه.” (المفهم)
قال ابن باز:” كل العباد سوف يلقون الله جل وعلا وسوف يجازيهم بأعمالهم وسوف يسألهم عنها، كما قال عزوجل: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)
قوله صلى الله عليه وسلم: (فلا ترجعن, بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض) تقدم شرحه في حديث ابن عمر المتقدم في أول الباب.
قوله صلى الله عليه وسلم: (فلعل بعض من يبلغه يكون أوعى له من بعض من سمعه) أوعى أي أفهم. قال ابن حجر:” المراد إما تبليغ القول المذكور أو تبليغ جميع الأحكام … في هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم الحث على تبليغ العلم وجواز التحمل قبل كمال الأهلية وأن الفهم ليس شرطا في الأداء وأنه قد يأتي في الآخر من يكون أفهم ممن تقدمه لكن بقلة” (فتح الباري)