203 عبق الياسمين شرح رياض الصالحين
سلطان الحمادي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
24 – باب تغليظ عقوبة من أمر بمعروف أَوْ نهى عن منكر وخالف قولُه فِعله
قَالَ الله تَعَالَى: {أَتَامُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] وقال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2،3] وَقالَ تَعَالَى إخباراً عن شعيب صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88].
203 – وعن أَبي زيدٍ أُسامة بْنِ زيد بن حَارثَةَ، رضي اللَّه عنهما، قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يَقُولُ: “يُؤْتَى بالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيامةِ فَيُلْقَى في النَّار، فَتَنْدلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ، فيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الحِمَارُ في الرَّحا، فَيجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَهْلُ النَّار فَيَقُولُونَ: يَا فُلانُ مَالَكَ؟ أَلَمْ تَكُن تَامُرُ بالمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، كُنْتُ آمُرُ بالمَعْرُوفِ وَلاَ آتِيه، وَأَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ وَآَتِيهِ” مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
قولُهُ:”تَنْدلِقُ”هُوَ بالدَّالِ المهملةِ، وَمَعْنَاهُ تَخْرُجُ. وَ”الأَقْتابُ”: الأَمْعَاءُ، واحِدُهَا قِتْبٌ.
قول (باب تغليظ عقوبة من أمر بمعروف أَوْ نهى عن منكر وخالف قولُه فِعله) قال ابن باز:” يجب على المؤمن أن تطابق أقواله أعماله في الحق، وألا يقول قولا ثم يخالف بأفعاله كفعل من غضب عليهم من اليهود وغيرهم” (شرح رياض الصالحين 1/ 412)
هذا الباب كالمتمم للباب السابق، قال ابن عثيمين:” لما كان الباب الذي قبله في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كان المناسب ذكر هذا الباب في تغليظ عقوبة من أمر بمعروف ولم يفعله، أو نهى عن منكر وفعله – والعياذ بالله – وذلك أن من هذه حالة، لا يكون صادقاً في أمره ونهيه؛ لأنه لو كان صادقاً في أمره، معتقداً أن ما أمر به معروف، وأنه نافع؛ لكان هو أول من يفعله لو كان عاقلاً. وكذلك لو نهى عن منكر وهو يعتقد أنه ضار، وأن فعله إثم؛ لكان أول من يتركه لو كان عاقلاً. فإذا أمر بمعروف ولم يفعله، أو نهى عن منكر وفعله؛ علم أن قوله هذا ليس مبنياً على عقيدة والعياذ بالله.” (شرح رياض الصالحين 2/ 457)
قَالَ الله تَعَالَى: {أَتَامُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44]
قال الطبري:” أتأمرون الناس بطاعة الله وتتركون أنفسكم تعصيه؟ فهلا تأمرونها بما تأمرون به الناس من طاعة ربكم؟ معيرهم بذلك، ومقبحا إليهم ما أتوا به، ومعنى”نسيانهم أنفسهم” في هذا الموضع نظير النسيان الذي قال جل ثناؤه: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) [التوبة: 67] بمعنى: تركوا طاعة الله فتركهم الله من ثوابه.” (جامع البيان في تأويل القرآن 1/ 9)
قال البغوي:” نزلت في علماء اليهود وذلك أن الرجل منهم كان يقول لقريبه وحليفه من المسلمين إذا سأله عن أمر محمد صلى الله عليه وسلم: اثبت على دينه فإن أمره حق، وقوله صدق، وقيل: هو خطاب لأحبارهم حيث أمروا أتباعهم بالتمسك بالتوراة، ثم خالفوا وغيروا نعت محمد صلى الله عليه وسلم،” (تفسير البغوي 1/ 110)
قال القرطبي:” قوله تعالى: {أَتَامُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} هذا استفهام التوبيخ والمراد في قول أهل التأويل علماء اليهود” (الجامع لأحكام القرآن 1/ 365)
قال القاضي أبو يعلى: ” والأولى أن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من أهل الستر والصيانة والعدالة والقبول عند الناس؛ لأنه إذا كان بهذه الصفة رَهِبَه المأمور، وربما استجاب إليه ورجع إلى قوله … ؛ ولأن من هذه صفته فكلامه أوقع في النفوس وأقرب إلى القلوب” انتهى من رسالة ” الأمر بالمعروف ” (ص47).
قال ابن القيم:” علماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم ويدعونهم إلى النار بأفعالهم فكلما قالت أقوالهم للناس هلموا قالت أفعالهم لا تسمعوا منهم فلو كان ما دعوا إليه حقا كانوا أول المستجيبين له فهم في الصورة أدلاء وفي الحقيقة قطاع الطرق” (الفوائد ص 61)
قال ابن كثير:” وليس المراد: ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، بل على تركهم له؛ فإن الأمر بالمعروف معروف، وهو واجب على العالم، ولكن الواجب والأولى بالعالم أن يفعله مع أمرهم به ولا يتخلف عنهم … فكُلٌّ من الأمر بالمعروف وفعله واجب، لا يسقط أحدهما بترك الآخر. ” [ابن كثير: (1) / (82)]
قوله (أفلا تعقلون)
قال ابن علان:” تنبيه على أن ما صدر منهم خارج عن أفعال العقلاء، إذ مركوز في العقل أن الإنسان إذا لم يحصل مصلحة نفسه كيف يحصل لغيره ولاسيما مصلحة يكون فيها نجاته” (دليل الفالحين 1/ 360)
قال السعدي:” وسُمِّي العقل عقلا لأنه يعقل به ما ينفعه من الخير، وينعقل به عما يضره، وذلك أن العقل يحث صاحبه أن يكون أول فاعل لما يأمر به، وأول تارك لما ينهى عنه، فمن أمر غيره بالخير ولم يفعله، أو نهاه عن الشر فلم يتركه، دل على عدم عقله وجهله، خصوصا إذا كان عالما بذلك، قد قامت عليه الحجة، وهذه الآية، وإن كانت نزلت في سبب بني إسرائيل، فهي عامة لكل أحد” (تفسير السعدي 1/ 55)
وقال أيضا:” ليس في الآية أن الإنسان إذا لم يقم بما أمر به أنه يترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لأنها دلت على التوبيخ بالنسبة إلى الواجبين، وإلا فمن المعلوم أن على الإنسان واجبين: أمر غيره ونهيه، وأمر نفسه ونهيها، فترك أحدهما، لا يكون رخصة في ترك الآخر، فإن الكمال أن يقوم الإنسان بالواجبين، والنقص الكامل أن يتركهما، وأما قيامه بأحدهما دون الآخر، فليس في رتبة الأول، وهو دون الأخير، وأيضا فإن النفوس مجبولة على عدم الانقياد لمن يخالف قوله فعله، فاقتداؤهم بالأفعال أبلغ من اقتدائهم بالأقوال المجردة.” (السعدي)
قال ابن باز:” أفلا تعقلون يعني إذا كان ما هناك وازع إيماني فأين العقل الذي يحجز أصحابه عما يكون فيه سُبة وشناعة على صاحبه، لأن الإنسان إذا فعل خلاف قوله كانت له شناعة يُسب عليه” (شرح رياض الصالحين لابن باز 1/ 412)
قال ابن عثيمين:” مثال ذلك: رجل يأمر الناس بترك الربا، ولكنه يتعامل به أو يفعل ما هو أعظم منه فهو يقول للناس مثلاً: لا تأخذوا الربا في معاملات البنوك، ثم يذهب هو فيأخذ الربا بالحيلة والمكر والخداع، ولم يعلم أن ما وقع هو فيه من الحيلة والمكر والخداع أكبر ذنباً، وأعظم إثماً، ممن أتى الأمر على وجهه.
ولهذا قال أيوب السختياني- رحمه الله – في أهل الحيل والمكر: ” أنهم يخادعون الله كما يخادعون الصبيان، لو أنهم أتوا الأمر على وجهه لكان أهون” وصدق رحمه الله.” (شرح رياض الصالحين 1/ 458)
وقال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2،3]
واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أُنزلت هذه الآية وذكر الطبري الأقوال ثم قال:”وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: عنى بها الذين قالوا: لو عرفنا أحبّ الأعمال إلى الله لعملنا به، ثم قصروا في العمل بعد ما عرفوا.
وإنما قلنا: هذا القول أولى بها، لأن الله جلّ ثناؤه خاطب بها المؤمنين، فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ولو كانت نزلت في المنافقين لم يسمْوا، ولم يوصفوا بالإيمان، ولو كانوا وصفوا أنفسهم بفعل ما لم يكونوا فعلوه، كانوا قد تعمدوا قيل الكذب، ولم يكن ذلك صفة القوم، ولكنهم عندي أمَّلوا بقولهم: لو علمنا أحبّ الأعمال إلى الله عملناه أنهم لو علموا بذلك عملوه؛ فلما علموا ضعفت قوى قوم منهم، عن القيام بما أملوا القيام به قبل العلم، وقوي آخرون فقاموا به، وكان لهم الفضل والشرف” (جامع البيان في تأويل القرآن 23/ 356)
قال البغوي:” (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} … أي عظم ذلك في المقت والبغض عند الله أي إن الله يبغض بغضا شديدا أن تقولوا، ما لا تفعلون، أي تعدوا من أنفسكم شيئا ثم لم تفوا به.” (تفسير البغوي 5/ 79)
قال ابن كثير:” إنكار على من يعد وعدا أو يقول قولا لا يفي به، ولهذا استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من علماء السلف إلى أنه يجب الوفاء بالوعد مطلقا، سواء ترتب عليه عزم للموعود أم لا” (تفسير ابن كثير 8/ 132)
قال ابن علان:” {كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}) المقت: أشد البغض وهو نصب على التمييز للدلالة على أن قولهم لهذا مقت خالص كبير عند من يحقر دونه كل عظيم مبالغة في المنع عنه.” (دليل الفالحين 1/ 361)
قال السعدي:” أي: لم تقولون الخير وتحثون عليه، وربما تمدحتم به وأنتم لا تفعلونه، وتنهون عن الشر وربما نزهتم أنفسكم عنه، وأنتم متلوثون به ومتصفون به، فهل تليق بالمؤمنين هذه الحالة الذميمة؟ أم من أكبر المقت عند الله أن يقول العبد ما لا يفعل؟ ولهذا ينبغي للآمر بالخير أن يكون أول الناس إليه مبادرة، وللناهي عن الشر أن يكون أبعد الناس منه. [السعدي: (858)]
قال ابن عثيمين:” (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خاطبهم بالإيمان؛ لأن مقتضى الإيمان ألا يفعل الإنسان هذا، وألا يقول ما لا يفعل، ثم وبخهم بقوله: (لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ) ثم بيّن أن هذا الفعل مكروه عند الله، مبغضٌ عنده أشد البعض، فقال: (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ)
والمقت: قال العلماء: هو أشد البغض، فالله تعالى يبغض الرجل الذي هذه حاله؛ يقول ما لا يفعل، ويبين الله عزّ وجلّ لعباده أن ذلك مما يبغضه من أجل أن يبتعدوا عنه؛ لأن المؤمن حقاً يبتعد عما نهى الله عنه.” (شرح رياض الصالحين 2/ 459)
وَقالَ تَعَالَى إخباراً عن شعيب صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88].
قال الطبري:” يقول: وما أريد أن أنهاكم عن أمر ثم أفعلُ خلافه، بل لا أفعل إلا ما آمركم به، ولا أنتهي إلا عما أنهاكم عنه” (تفسير الطبري 15/ 453)
قال ابن القيم:” النفوس مجبولة على عدم الانتفاع بكلام من لا يعمل بعلمه ولا ينتفع به، وهذا بمنزلة من يصف له الطبيب دواء لمرض به مثله، والطبيب معرض عنه غير ملتفت إليه، بل الطبيب المذكور عندهم أحسن حالا من هذا الواعظ المخالف لما يعظ به، لأنه قد يقوم دواء آخر عنده مقام هذا الدواء، وقد يرى أن به قوة على ترك التداوي، وقد يقنع بعمل الطبيعة وغير ذلك بخلاف هذا الواعظ، فإن ما يعظ به طريق معين للنجاة لا يقوم غيرها مقامها، ولا بد منها، ولأجل هذه النفرة قال شعيب عليه السلام لقومه {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} [هود: 88] وقال بعض السلف: إذا أردت أن يقبل منك الأمر والنهي فإذا أمرت بشيء فكن أول الفاعلين له، المؤتمرين به، وإذا نهيت عن شيء، فكن أول المنتهين عنه، وقد قيل:
يا أيها الرجل المعلم غيره … هلا لنفسك كان ذا التعليم؟ ” (مدراج السالكين لابن القيم 1/ 445)
قال ابن كثير:” قال الثوري: وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه أي لا أنهاكم عن الشيء وأخالف أنا في السر فأفعله خفية عنكم، كما قال قتادة: في قوله وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه يقول: لم أكن أنهاكم عن أمر وأرتكبه” (تفسير ابن كثير)
قال ابن عاشور:” ومعنى وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه عند جميع المفسرين من التابعين فمن بعدهم: ما أريد مما نهيتكم عنه أن أمنعكم أفعالا وأنا أفعلها، أي لم أكن لأنهاكم عن شيء وأنا أفعله” (التحرير والتنوير 12/ 142)
قال ابن علان:” أي: وما أريد أن آتي بما أنهاكم عنه لأستبد به، فلو كان صواباً لآثرته ولم أعرض عنه فضلاً عن أني أنهي عنه، يقال خالفت زيداً إلى كذا: إذا قصدته وهو مولّ عنه، وخالفته عنه: إذا كان الأمر بالعكس.” (دليل الفالحين 1/ 361)
قال ابن عثيمين:” يعني أنه يقول لقومه: لا يمكن أن أنهاكم عن الشرك، وأنهاكم عن نقص المكيال والميزان وأنا أفعله، لا يمكن أبداً؛ لأن الرسل عليهم السلام هم أنصح الخلق للخلق، وهم أشد الناس تعظيماً لله، وامتثالاً لأمره واجتناباً لنهيه، فلا يمكن أن يخالفهم إلى ما ينهاهم عنه فيفعله.
وفي هذا دليلٌ على أن الإنسان الذي يفعل ما ينهى عنه، أو يترك ما أمر به مخالف لطريقة الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ لأنهم لا يمكن أن يخالفوا الناس إلى ما ينهونهم عنه. وستأتي الأحاديث إن شاء الله في بيان عقوبة من ترك ما أمر به، أو فعل ما نهى عنه” (2/ 459)
قال الشاعر:
لا تَنْه عن خُلُقٍ وتأتيَ مثله * عارٌ عليك إذا فعلت عظيما.
203 – وعن أَبي زيدٍ أُسامة بْنِ زيد بن حَارثَةَ، رضي اللَّه عنهما، قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يَقُولُ: “يُؤْتَى بالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيامةِ فَيُلْقَى في النَّار، فَتَنْدلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ، فيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الحِمَارُ في الرَّحا، فَيجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَهْلُ النَّار فَيَقُولُونَ: يَا فُلانُ مَالَكَ؟ أَلَمْ تَكُن تَامُرُ بالمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، كُنْتُ آمُرُ بالمَعْرُوفِ وَلاَ آتِيه، وَأَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ وَآَتِيهِ” مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
قولُهُ:”تَنْدلِقُ”هُوَ بالدَّالِ المهملةِ، وَمَعْنَاهُ تَخْرُجُ. وَ”الأَقْتابُ”: الأَمْعَاءُ، واحِدُهَا قِتْبٌ.
قوله (وعن أَبي زيدٍ أُسامة بْنِ زيد بن حَارثَةَ) صحابي ابن صحابي ابن صحابي.
قوله (يُؤْتَى بالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيامةِ) قال ابن عثيمين:” أي تأتي به الملائكة، فيلقى في النار إلقاء، لا يدخلها برفق، ولكنه يلقى فيها كما يلقى الحجر في اليمّ، وتندلق أقتاب بطن.” (شرح رياض الصالحين 2/ 460)
قوله صلى الله عليه وسلم: (فتندلق أقتاب بطنه) قال النووي:” هو بالدال المهملة، قال أبو عبيد: الأقتاب: الأمعاء، قال الأصمعي: واحدها: قتبة، وقال غيره: قتب، وقال ابن عيينة: هي ما استدار في البطن، وهي الحوايا والأمعاء، وهي الأقصاب، واحدها قصب، والاندلاق: خروج الشيء من مكانه.” شرح النووي
قال ابن حجر:” الأقتاب: جمع قتب – بكسر القاف وسكون المثناة بعدها موحدة – هي الأمعاء، واندلاقها: خروجها بسرعة، يقال: اندلق السيف من غمده، إذا خرج من غير أن يسله أحد” (فتح الباري)
قال ابن عثيمين:” تخرج من بطنه من شدة الإلقاء” (شرح رياض الصالحين 2/ 460)
قوله: (فيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الحِمَارُ في الرَّحا) قال ابن علان:” كأنه أراد أن الرجل يدور فتلتف عليه أمعاؤه فيبقى هكذا يدور وهي تدور عليه عبرة ونكالاً، والأظهر أن المراد أنه يدور بسبب ألم خروجها منه حوله دوران الحمار حول الرحى بسببها” (دليل الفالحين 1/ 361)
قال ابن عثيمين:” هذا التشبيه للتقبيح، شبهه بالحمار الذي يدور على الرحا، وصفة ذلك: أنه في المطاحن القديمة قبل أن توجد هذه المعدات الجديدة، كان يُجعل حجران كبيران وينقشان فيما بينهما أي ينقران، ويوضع للأعلى منها فتحة تدخل منها الحبوب، وفيها خشبة تربط بمتن الحمار، ثم يستدير على الرحا، وفي استدارته تطحنُ الرحا.” (شرح رياض الصالحين 2/ 460 و461)
قوله: (فَيجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَهْلُ النَّار) وفي رواية للبخاري (فيطيف به أهل النار) قال ابن حجر:” أي: يجتمعون حوله، يقال: أطاف به القوم، إذا حلقوا حوله حلقة وإن لم يدوروا، وطافوا: إذا داروا حوله، وبهذا التقرير يظهر خطأ من قال: إنهما بمعنى واحد” (فتح الباري)
قال ابن علان:” (فيجتمع إليه أهل النار) أي: الذين بها ونسبتهم إليها باعتبار هذه الملابسة متعجبين من دخوله النار وقد كان يأمرهم بما يبعدهم منها” (دليل الفالحين 1/ 362)
قوله: ((ألم تك تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟) قال ابن علان:” ومن شأن الآمر أن يفعل ما يأمر به والناهي أن يترك ما نهى عنه، وفعل المعروف وترك المنكر مانع بالوعد الذي لا يخلف عن دخول النار” (دليل الفالحين 1/ 362)
قوله: (فَيَقُولُ: بَلَى، كُنْتُ آمُرُ بالمَعْرُوفِ وَلاَ آتِيه، وَأَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ وَآَتِيهِ) قال ابن علان:” فشدد عليه الأمر لعصيانه مع العلم المقتضي للخشية والمباعدة عن المخالفة” (دليل الفالحين1/ 362)
قال فيصل آل مبارك:” في هذا الحديث: وعيدٌ شديد لمن خالف قوله فعله، وأنَّ العذاب يُشَدَّدُ على العالِم إذا عصى أعظم من غيره، كما يضاعف له الأجر إذا عمل بعلمه.” (تطريز ص156.)
قال ابن باز في تعليقه على هذا الحديث:” هذه الفضيحة من أهل النار أعوذ بالله مع ما هو فيه من العذاب فضيحة بين الناس الذي كان يأمرهم وينهاهم، فهذه رؤية من الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة ليحذروا هذا الخلق الذميم” (شرح رياض الصالحين لاباز 1/ 414)
قال ابن عثيمين:” الواجب على المرء أن يبدأ بنفسه فيأمرها بالمعروف وينهاها عن المنكر؛ لأن أعظم الناس حقاً عليك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسك.
ابدأ بنفسٍك فانهها عن غيها
فإذا انتهت عنه فأنت حكيم ” (شرح رياض الصالحين 2/ 461)
مسألة: البعض يفهم من بعض النصوص مثل هذه الآيات وحديث الباب على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا لم يكن الآمر والناهي على قدرٍ من الاستقامة والطاعة أو ملتزماً بما يأمر به وينهى عنه على الأقل.
قال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم): ” اعْلَمْ وَفَّقَكَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ التَّوْبِيخَ فِي الْآيَةِ بِسَبَبِ تَرْكِ فِعْلِ الْبِرِّ، لَا بِسَبَبِ الْأَمْرِ بِالْبِرِّ ” انتهى من “تفسير القرطبي” (1/ 366).
وقال الحافظ ابن كثير: ” وَالْغَرَضُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّهُمْ عَلَى هَذَا الصَّنِيعِ وَنَبَّهَهُمْ عَلَى خَطَئِهِمْ فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمْ، حَيْثُ كَانُوا يَامُرُونَ بِالْخَيْرِ وَلَا يَفْعَلُونَهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ: ذَمُّهُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ بِالْبِرِّ مَعَ تَرْكِهِمْ لَهُ، بَلْ عَلَى تَرْكِهِمْ لَهُ.
فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْعَالِمِ، وَلَكِنَّ الْوَاجِبَ وَالْأَوْلَى بِالْعَالِمِ أَنْ يَفْعَلَهُ مَعَ أَمْرِهِمْ بِهِ، وَلَا يَتَخَلَّفَ عَنْهُمْ، كَمَا قَالَ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).
فَكُلٌّ مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَفِعْلِهِ: وَاجِبٌ، لَا يَسْقُطُ أَحَدُهُمَا بِتَرْكِ الْآخَرِ عَلَى أَصَحِّ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ.
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ مُرْتَكِبَ الْمَعَاصِي لَا يَنْهَى غَيْرَهُ عَنْهَا، وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَأَضْعَفُ مِنْهُ تَمَسُّكُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ؛ فَإِنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهَا.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْعَالِمَ يَامُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَإِنِ ارْتَكَبَهُ.
قَالَ مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يَقُولُ لَهُ: لَوْ كَانَ الْمَرْءُ لَا يَامُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ حَتَّى لَا يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ، مَا أَمَرَ أَحَدٌ بِمَعْرُوفٍ وَلَا نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ، قَالَ مَالِكٌ: وَصَدَقَ، مَنْ ذَا الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ؟ قُلْتُ: وَلَكِنَّهُ – وَالْحَالَةُ هَذِهِ – مَذْمُومٌ عَلَى تَرْكِ الطَّاعَةِ وَفِعْلِهِ الْمَعْصِيَةَ، لِعِلْمِهِ بِهَا وَمُخَالَفَتِهِ عَلَى بَصِيرَةٍ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مَنْ يَعْلَمُ كَمَنْ لَا يَعْلَمُ؛ وَلِهَذَا جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ فِي الْوَعِيدِ عَلَى ذَلِكَ” انتهى من “تفسير القرآن العظيم” (1/ 248).
وقال أبو بكر ابن العربي: ” إنَّمَا وَقَعَ الذَّمُّ هَاهُنَا عَلَى ارْتِكَابِ مَا نُهِيَ عَنْهُ، لَا عَنْ نَهْيِهِ عَنْ الْمُنْكَرِ” انتهى من “أحكام القرآن” (1/ 349).
وقال السفاريني: ” لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ: أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهُ عَدْلًا فِي الْمُعْتَمَدِ، بَلْ الْإِمَامُ، وَالْحَاكِمُ، وَالْعَالِمُ، وَالْجَاهِلُ، وَالْعَدْلُ، وَالْفَاسِقُ: فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ.
نَعَمْ، يَنْبَغِي أَنْ لَا يُخَالِفَ قَوْلَهُ فِعْلُهُ، بَلْ يَامُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَاتَمِرُ بِهِ، وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَيَنْزَجِرُ عَنْهُ.
فَإِنْ قَلْت: هَذِهِ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ أَوْ الْآثَارُ الصَّرِيحَةُ تُعَيِّنُ اعْتِبَارَ عَدَالَةِ الْآمِرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِي عَنْ الْمُنْكَرِ.
فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا هُوَ الْأَكْمَلُ وَالْأَفْضَلُ، وَنَحْنُ نَقُولُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَكُونَ تَقِيًّا عَدْلًا، وَلَكِنْ فَلَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَلَوْ لَمْ يَعِظْ النَّاسَ إلَّا مَعْصُومٌ أَوْ مَحْفُوظٌ لَتَعَطَّلَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ مَعَ كَوْنِهِ دِعَامَةَ الدِّينِ.
وَقَدْ قِيلَ:
إذَا لَمْ يَعِظْ النَّاسَ مَنْ هُوَ مُذْنِبٌ *** فَمَنْ يَعِظُ الْعَاصِينَ بَعْدَ مُحَمَّدٍ
وَقِيلَ لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: إنَّ فُلَانًا لَا يَعِظُ وَيَقُولُ: أَخَافُ أَنْ أَقُولَ مَا لَا أَفْعَلُ.
فَقَالَ الْحَسَنُ: وَأَيُّنَا يَفْعَلُ مَا يَقُولُ؟ وَدَّ الشَّيْطَانُ أَنَّهُ قَدْ ظَفِرَ بِهَذَا فَلَمْ يَامُرْ أَحَدٌ بِمَعْرُوفٍ وَلَمْ يَنْهَ عَنْ مُنْكَرٍ.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ مَعَ الشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَلَوْ فَاسِقًا أَوْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّ أَمْرٍ حَتَّى عَلَى جُلَسَائِهِ وَشُرَكَائِهِ فِي الْمَعْصِيَةِ وَعَلَى نَفْسِهِ فَيُنْكِرُ عَلَيْهَا، لِأَنَّ النَّاسَ مُكَلَّفُونَ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ” انتهى من “غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب” (1/ 215).