(2/1220) فتح الاحد الصمد شرح الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير، وعبدالحميد البلوشي، وكديم، ومحمد البلوشي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى ، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا).
——-‘——-‘——–‘
قال الشيخ مقبل الوادعي في الصحيح المسند (ج2/ رقم 1220):
مسند أبي خراش السلمي رضي الله عنه
قال الإمام أبو داود رحمه الله تعالى (ج ٥ ص ٢١٥) بتحقيق الدعاس وعادل السيد: حدثنا ابن السرح حدثنا ابن وهب عن حيوة عن أبي عثمان الوليد بن أبي الوليد عن عمران بن أبي أنس عن أبي خراش السلمي (١): أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: «من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه».
هذا حديث صحيحٌ. والوليد بن أبي الوليد من رجال مسلم كما في «تهذيب التهذيب»، وقد وثَّقه أبو زُرْعَة كما في «الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم.
(١) هو حدرد بن أبي حدرد، كما في «الإصابة».
===================
أحاديث في الباب
في الباب عن أبي هريرة قال الإمام مسلم:
٣٦ – (٢٥٦٥) حَدَّثَنا ابْنُ أبِي عُمَرَ، حَدَّثَنا سُفْيانُ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ أبِي مَرْيَمَ، عَنْ أبِي صالِحٍ، سَمِعَ أبا هُرَيْرَةَ، رَفَعَهُ مَرَّةً قالَ: «تُعْرَضُ الأعْمالُ فِي كُلِّ يَوْمِ خَمِيسٍ واثْنَيْنِ، فَيَغْفِرُ اللهُ ﷿ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ، لِكُلِّ امْرِئٍ لا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، إلّا امْرَأً كانَتْ بَيْنَهُ وبَيْنَ أخِيهِ شَحْناءُ، فَيُقالُ: ارْكُوا هَذَيْنِ حَتّى يَصْطَلِحا، ارْكُوا هَذَيْنِ حَتّى يَصْطَلِحا»
قال ابن عبدالبر في التمهيد :
وقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي الهِجْرَةِ آثارٌ شِدادٌ فِيها تَغْلِيظٌ مِنها
حَدِيثُ أبِي حازِمٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مَن هَجَرَ فَوْقَ ثَلاثٍ دَخَلَ النّارَ ومِنها حَدِيثُ أبِي خِراشٍ السَّلَمِيِّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ مَن هَجَرَ أخاهُ سَنَةً فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ وحَسْبُكَ بِحَدِيثِ أبِي صالِحٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّهُ يَغْفِرُ فِي كُلِّ خَمِيسٍ واثْنَيْنِ لِكُلِّ عَبْدٍ لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إلّا مَن كانَ بَيْنَهُ وبَيْنَ أخِيهِ شَحْناءُ فَيَقُولُ أنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتّى يَصْطَلِحا وهَذِهِ الآثارُ كُلُّها قَدْ ورَدَتْ فِي التَّحابِّ والمُؤاخاةِ والتَّآلُفِ والعَفْوِ (والتَّجاوُزِ) وبِهَذا بُعِثَ ﷺ وفَّقَنا اللَّهُ لِما يُحِبُّ ويَرْضى بِرَحْمَتِهِ ولُطْفِ صُنْعِهِ انتهى
وفي الباب أيضا حديث جابر
قال الإمام مسلم
٦٥ – (٢٨١٢) حَدَّثَنا عُثْمانُ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، وإسْحاقُ بْنُ إبْراهِيمَ – قالَ إسْحاقُ: أخْبَرَنا، وقالَ عُثْمانُ حَدَّثَنا – جَرِيرٌ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ أبِي سُفْيانَ، عَنْ جابِرٍ، قالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ، يَقُولُ: «إنَّ الشَّيْطانَ قَدْ أيِسَ أنْ يَعْبُدَهُ المُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ العَرَبِ، ولَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ»،
شرح حديث أبي خراش :
الحديث سيكون من وجوه:
أورد الإمام أبو داود السجستاني (ت ٢٧٥) رحمه الله الحديث في السنن، ٤٠ – كِتاب الأدَبِ، بابٌ: فِيمَن يَهْجُرُ أخاهُ المُسْلِمَ، (٤٩١٥).
وجاء في تراجعات الألباني رحمه الله، ص(147): “صفحة ١٦١:
٢٣٢ – ((من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه)) رواه خ في الأدب المفرد، أحمد، د، ح عن أبي خراش السلمي.
إسناده لين: تخريج المشكاة (٥٠٣٦)، ثم صحيح: السلسلة الصحيحة (٩٢٨)”. انتهى.
قال الإمام البخاري في الأدب المفرد
٤٠٥ – حَدَّثَنا ابْنُ أبِي مَرْيَمَ قالَ: أخْبَرَنا يَحْيى بْنُ أيُّوبَ قالَ: حَدَّثَنِي الوَلِيدُ بْنُ أبِي الوَلِيدِ المَدَنِيُّ، أنَّ عِمْرانَ بْنَ أبِي أنَسٍ حَدَّثَهُ، أنَّ رَجُلًا مِن أسْلَمَ مِن أصْحابِ النَّبِيِّ ﷺ حَدَّثَهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «هِجْرَةُ المُسْلِمِ سَنَةً كَدَمِهِ»، وفِي المَجْلِسِ مُحَمَّدُ بْنُ المُنْكَدِرِ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبِي عَتّابٍ، فَقالا: قَدْ سَمِعْنا هَذا عَنْهُ [قال الشيخ الألباني]:
صحيح . وقال في شرحه أن هذه الرواية تبين أن عمران بن أبي أنس تابعه مُحَمَّدُ بْنُ المُنْكَدِرِ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبِي عَتّابٍ
وأورده النووي (ت ٦٧٦) رحمه الله في رياض الصالحين، (١٧) – كتاب الأمُور المَنهي عَنْها، ٢٨٠ – باب: تحريم الهجران بين المسلمين فوق ثلاثة أيام إلاَّ لبدعة في المهجور، أوْ تظاهرٍ بفسقٍ أوْ نحو ذَلِكَ؛ قالَ الله تَعالى: ﴿إنّما المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأصْلِحُوا بَيْنَ أخَوَيْكُمْ﴾ [الحجرات ١٠]، وقال تَعالى: ﴿ولاَ تَعاوَنُوا عَلى الإثْمِ والعُدْوانِ﴾ [المائدة ٢]”، (١٥٩٦).
والوادعي رحمه الله جعله في الجامع: في ٢٧ – كتاب الكبائر، ٩ – هجر المسلم فوق ثلاثة أيام، (٣٢٩٢)”.
وفي (مشكاة المصابيح): كتاب الآداب، [١٧] بابُ ما يُنْهى عَنْهُ مِنَ التَّهاجُرِ والتَّقاطُعِ واتِّباع العورات، (٥٠٣٦).
وفي الأدب المفرد للبخاري (ت ٢٥٦) رحمه الله، بابُ مَن هَجَرَ أخاهُ سَنَةً، (٤٠٤).
وفي المسند للإمام أحمد بن حنبل (ت ٢٤١) رحمه الله، قال: حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ، قالَ حَدَّثَنا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ، حَدَّثَنا أبُو عُثْمانَ الوَلِيدُ بْنُ أبِي الوَلِيدِ المَدَنِيُّ، أنَّ عِمْرانَ بْنَ أبِي أنَسٍ، حَدَّثَهُ عَنْ أبِي خِراشٍ السُّلَمِيِّ، أنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ…”. الحديث.
قال محققو المسند:
“إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الصحيح غير صحابيه، فلم يخرجا له، وحديثه عند البخاري في «الأدب المفرد» وأبي داود.
وأخرجه المزي في «تهذيب الكمال» ٥/٤٨٨ في ترجمة صحابيه أبي خراش من طريق عبد الله بن أحمد، عن أبيه، بهذا الإسناد.
وأخرجه ابن سعد في «الطبقات» ٧/٥٠٠، والبخاري في «الأدب المفرد» (٤٠٤)، والدولابي في «الكنى» ١/٢٦، والطبراني ٢٢/ (٧٧٩)، والحاكم ٤/١٦٣، والبيهقي في «الآداب» (٢٨٠) من طريق عبد الله بن يزيد، به.
وأخرجه أبو داود (٤٩١٥)، وابن الأثير في «أسد الغابة» ٦/٨٥، والخرائطي في «مساوئ الأخلاق» (٥٥١) من طريق عبد الله بن وهب، والبيهقي في «الشعب» (٦٦٣١) من طريق إبراهيم بن منقذ، كلاهما عن حيوة ابن شريح، به. =
= وأخرجه ابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (٢٧٣٥)، والطبراني ٢٢/ (٧٨١ و٧٨٢) من طريق سعيد بن أبي أيوب، و٢٢/ (٧٨٠) من طريق ابن لهيعة، كلاهما عن الوليد بن أبي الوليد المدني، به.
وأخرجه الدولابي ١/٢٦ من طريق عبد الله بن يزيد، عن سعيد بن أبي أيوب، عن الوليد، به.
وأخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (٤٠٥) من طريق يحيى بن أيوب، عن الوليد، عن عمران، عن رجل من أسلم، ولم يُسمَ.
وفي باب النهي عن هجران المسلم فوق ثلاث عن سعد بن أبي وقاص، سلف برقم (١٥٨٩)، وعن أبي هريرة، سلف برقم (٨٩١٩)، وانظر تتمة شواهده هناك.”. انتهى.
الأول: شرح الحديث:
قال أبو نعيم الأصبهاني (ت ٤٣٠) رحمه الله في معرفة الصحابة (2/875): “حَدْرَدُ بْنُ أبِي حَدْرَدٍ الأسْلَمِيُّ، يُكْنى أبا خِراشٍ، يُعَدُّ فِي المَدَنِيِّينَ، حَدِيثُهُ عِنْدَ عِمْرانَ بْنِ أبِي أنَسٍ”. انتهى.
قال ابن الأثير، أبو الحسن (ت ٦٣٠) رحمه الله في (أسد الغابة(6/82): “٥٨٤٤- أبو خراش السلمي، ب د ع: أبو خرش السلمي وقيل الأسلمي، واسمه: حدرد، قاله أبو نعيم، ورواه أبو عمر عن مسلم.”. انتهى. وقال عن الحديث: “أخرجه الثلاثة”.
وقال أبو أحمد العسكري (ت ٣٨٢) رحمه الله، في تصحيفات المحدثين (2/528-)، : “- بابُ ما يصحف من خِراشٍ وخِداشٍ وحِراشٍ وحِراسٍ أما خِراشُ الخاءُ مُعْجمَة والشين منقوطة فَمَنِ الصَّحابَة
أبُو خراش السملي، واسْمه حَدْرَد، كانَ من أهل البادِيَة، ثُمَّ قدم المَدِينَة أيّام عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، فأقام بها”، انتهى المراد، ثم أورد حديثه.
وفي (بذل المجهود): هو حدرد بن أبي حدرد، قال الحافظ في ترجمة حدرد: أبو خراش السلمي، ويقال: الأسلمي، له صحبة، يعد في المدنيين، روى عن النبي ﷺ في الهجرة، وما له غيره، قلت: الجمهور على أنه أسلمي، وساق ابن الأثير نسبه إلى أسلم، وحكاه العسكري عن أحمد بن حنبل”. انتهى.
“أورد أبو داود حديث أبي خراش حدرد بن أبي حدرد السلمي رضي الله عنه، عن النبي ﷺ أنه قال: ((من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه))، في استحقاق مزيد الإثم، وكون كل منهما مما لا يناسب الإيمان، فإنه بالإيمان صار آمنًا من القتل والهجران. قاله صاحب بذل المجهود.
“وهذا يدل على أنه ذنب كبير ألحقه بأخيه وأضافه إلى أخيه وأنه بمثابة سفك دمه، ومعلوم أن سفك الدم من أخطر وأشنع الأمور التي تحصل بين الناس.
وهذا يدل على خطورة الهجر الكثير، وقد جاءت النصوص الكثيرة التي مرت بأن الهجر للمصالح الشخصية إنما يكون في حدود ثلاثة أيام، وأن الإنسان لا يزيد عليها، فإذا زاد فإنه يستحق النار كما مر في الحديث السابق، وإذا وصل إلى هذا المقدار الذي هو سنة فإنه يكون كسفك الدم.”. انتهى من شرح العباد للسنن.
وفي الصحيحين أن ﷺ قالَ: «لا يحل لمُسلم أن يهجر أخاهُ فَوق ثَلاث».
قال ابن الجوزي (ت ٥٩٧) رحمه الله في كشف المشكل من حديث الصحيحين، (2/86-77): “اعْلَم أن تَحْرِيم الهِجْرَة بَين المُسلمين أكثر من ثَلاث إنَّما هُوَ فِيما يكون بَينهم من عتب وموجدة، أو لتقصير يَقع فِي حُقُوق العشْرَة ونَحْو ذَلِك، فَهَذا يحد لَهُ ثَلاثَة أيّام ليرْجع المقصر عَن تَقْصِيره، ويرعوي بهجرته، فَإذا انْقَضتْ المدَّة حرمت الهِجْرَة عَلَيْهِم، ويَكْفِي فِي قطع الهِجْرَة السَّلام.
وفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي ﷺ أنه قالَ: «فَإذا مرت ثَلاثَة أيّام فليلقه فليسلم عَلَيْهِ، فَإن رد عَلَيْهِ السَّلام فقد اشْتَركا فِي الأجر، وإن لم يرد عَلَيْهِ فقد برِئ المُسلم من الهِجْرَة».
وفِي حَدِيث أبي خراش السّلمِيّ عَن النَّبِي ﷺ أنه قالَ: «من هجر أخاهُ سنة فَهُوَ كسفك دَمه».
فَأما إذا كانَ الهجر لأجل الدّين فَإن هجر أهل البدع يَنْبَغِي أن يَدُوم على مُرُور الزَّمان ما لم تظهر مِنهُ تَوْبَة ورُجُوع إلى الحق، وكَذَلِكَ المبارزون بِالمَعاصِي، فَإن النَّبِي ﷺ امْتنع من كَلام الثَّلاثَة الَّذين خلفوا ونهى النّاس عَن كَلامهم حَتّى أنزل الله عز وجل تَوْبَتهمْ”. انتهى.
الثاني: مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
سبق في ذكر مسألة الهجر في عدة مواضع في صحيح مسلم، وفتح الأحد الصمد شرح الصحيح المسند (ج2/ رقم 1186)، و(١٦١٠)، (1307). وهذا مما ذكر في (ج2/ رقم 1186):
(المسألة الأولى): تعريف الهجر:
يقال: هَجَره يهجُرُه، من باب قتل، هَجْرًا بالفتح، وهِجرانًا بالكسر: إذا صرمه، والشيءَ تَرَكه، كأهجره. [راجع: «القاموس المحيط» ص ١٣٣٦].
والهجرة بكسر الهاء، وسكون الجيم: ترك الشخصً مكالمة الآخر إذا تلاقيا، وهي في الأصل الترك فعلًا كان، أو قولًا، وليس المراد بها مفارقة الوطن، فإن تلك ذُكرت في غير هذا المحلّ.
ومن المفردات:
قوله ﷺ: «ولا تدابروا»: قال أبو عبيد: التدابر:
المصارمة، والهجران، مأخوذ من أن يولّي الرجل صاحبه دُبُره، ويُعرض عنه بوجهه، وهو التقاطع، وفي «الصحيحين» عن أبي أيوب -رضي الله عنه-، عن النبيّ ﷺ
قال: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان، فيصدّ هذا، ويصدّ هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام».
وخرّج أبو داود من حديث أبي خِراش السلميّ، عن النبيّ ﷺ قال: «من هجر أخاه سنةً، فهو كسفك دمه» [صحيح، رواه أبو داود، وأحمد، والبخاريّ في «الأدب المفرد»، وصححه
الحاكم، ووافقه الذهبيّ].
وكلّ هذا في التقاطع للأمور الدنيوية، فأما لأجل الدِّين فتجوز الزيادة على الثلاثة، نصّ عليه الإمام أحمد، واستَدَلّ بقصة الثلاثة الذين خُلّفوا، وأمَر النبيّ ﷺ بهجرانهم لمّا خاف منهم النفاق، وأباح هجران أهل البدع المغلظة، والدعاة إلى الأهواء، وذَكَر الخطابيّ أن هجران الوالد لولده، والزوج لزوجته، وما كان في معنى ذلك تأديبًا تجوز الزيادة فيه على الثلاث؛ لأن النبيّ ﷺ هجر نساءه شهرًا.
واختلفوا هل ينقطع الهجران بالسلام؟ فقالت طائفة: ينقطع بذلك، ورُوي عن الحسن، ومالك، في رواية وهب، وقاله طائفة من أصحابنا – يعني: الحنبليّة-.
وخرّج أبو داود، من حديث أبي هريرة، عن النبيّ ﷺ: «لا يحل لمؤمن أن يهجر مؤمنًا فوق ثلاث، فإن مرت به ثلاث، فلْيَلْقَه، فليسلِّم عليه، فإن ردّ عليه السلام فقد اشتركا في الأجر، وإن لم يردّ عليه، فقد باء بالإثم، وخرج المسلِّم من الهجر» [رواه أبو داود، والبيهقيّ، ورجاله ثقات، غير هلال بن أبي هلال المدنيّ راويه عن أبي هريرة، روى عنه اثنان، ووثّقه ابن حبّان، وصححه الحافظ في «الفتح» ١٠/ ٤٩٥].
ولكن هذا فيما إذا امتنع الآخر من الردّ عليه، فأما مع الردّ إذا كان بينهما قبل الهجر مودّة، ولم يعودوا إليها، ففيها نظر.
وقد قال أحمد في رواية الأثرم: وسئل عن السلام يقطع الهجران؟ فقال: قد يسلّم عليه، وقد صدّ عنه، ثم قال: قال النبيّ ﷺ: «يلتقيان، فيصدّ هذا»، فإذا كان قد عوّده [قال الإتيوبي في حاشية (البحر الحميط): هكذا العبارة، وفيها ركاكة، والظاهر أنها: «فإذا كان كذلك فعَوْده أن يكلمه، ويصافحه»، والله تعالى أعلم”. انتهى] أن يكلمه، أو يصافحه، وكذلك رُوي عن مالك أنه
قال: لا يقطع الهجران بدون العودة إلى المودّة.
وفرَّق بعضهم بين الأقارب والأجانب، فقال في الأجانب: يزول الهجر بينهم بمجرد السلام، بخلاف الأقارب، وإنما قال هذا؛ لوجوب صلة الرحم. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله [«جامع العلوم والحكم» ٢/ ٢٦٨ – ٢٧٠]، وهو بحث مفيدٌ جدًّا، والله تعالى أعلم. [البحر المحيط]
ومن الفروق:
الفرق بين التّهاجر والتّدابر والتّشاحن:
قال ابن حجر رحمه الله:
التّهاجر: أن يهجر المسلم أخاه فوق ثلاثة أيّام لغير غرض شرعيّ.
والتّدابر: هو الإعراض عن المسلم بأن يلقى أخاه فيعرض عنه بوجهه.
والتّشاحن: هو تغيّر القلوب المؤدّي إلى التّهاجر والتّدابر. [الزواجر (418)].
(المسألة الثانية): حكم الهجر
قال القرطبيّ رحمه الله: دليل خطابه أن الهجرة دون الثلاث معفوّ عنها، وسببه أن البشر لا بدّ له غالبًا من سوء خُلُق وغضب، فسامَحَه الشرع في هذه المدّة؛ لأنّ الغضب فيها لا يكاد الإنسان ينفك عنه، ولأنه لا يمكنه ردّ الغضب في تلك الحالة غالبًا، وبعد ذلك يضعُف، فيمكن ردّه، بل قد يُمحى أثره.
وظاهر هذا الحديث تحريم الهجرة فوق ثلاث، وقد أكد هذا المعنى قوله: «لا هجرة بعد ثلاث»، وكون المتهاجِرَين لا يُغْفَر لهما حتى يصطلحا. انتهى [«المفهم» ٦/ ٥٣٢ – ٥٣٣].
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج ٤ ص ٢٠): حدثنا روح بن عبادة قال حدثنا شعبة عن يزيد الرشك قال شعبة قرأته عليه قال سمعت معاذة العدوية قالت سمعت هشام بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول «لا يحل لمسلم أن يهجر مسلمًا فوق ثلاث ليال فإن كان تصارما فوق ثلاث فإنهما ناكبان عن الحق ما داما على صرامهما وأولهما فيئًا فسبقه بالفيء كفارته فإن سلم عليه فلم يرد عليه ورد عليه سلامه ردت عليه الملائكة ورد على الآخر الشيطان فإن ماتا على صرامهما لم يجتمعا في الجنة أبدًا».
قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا شعبة عن يزيد الرشك عن معاذة عن هشام بن عامر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم «لا يحل لمسلم أن يهجر مسلمًا فوق ثلاث ليال، فإنهما ناكبان عن الحق ما داما على صرامهما، وأولهما فيئًا يكون سبقه بالفيء كفارة له، وإن سلم فلم يقبل ورد عليه سلامه ردت عليه الملائكة، ورد على الآخر الشيطان، وإن ماتا على صرامهما لم يدخلا الجنة جميعًا أبدًا». هذا حديث صحيحٌ، رجاله رجال الصحيح. [الصحيح المسند (ج2/ رقم 1186)].
(المسألة الثالثة): متى يحل الهجر فوق ثلاثة أيام
قال الطيبيّ رحمه الله: تخصيص الأخ بالذِّكر إشعار بالعليّة، والمراد به أخوّة الإسلام، ويُفهم منه: أنه إن خالف هذه الشريطة، وقطع هذه الرابطة جاز هِجرانه فوق ثلاث. [«الكاشف عن حقائق السنن» ١٠/ ٣٢٠٩].
وقال ابن الأثير- عند قوله: «لا هِجْرَةَ بَعْد ثلاثٍ»-: يريد به الهَجْر ضِدّ الوَصل؛ يَعْني: فيما يَكُون بَيْن المسلمين من عَتْب، ومَوْجِدَة، أو تَقْصِيرٍ يَقَع في حُقُوق العِشْرَة، والصُّحْبَة،
دونَ ما كان من ذلك في جانب الدِّين، فإنَّ هِجْرة أهْلِ الأهْواء، والبِدَع دائمة على مَرِّ الأوقاتِ، ما لم تَظْهر منْهُم التَّوْبة، والرُّجُوع إلى الحقِّ، فإنَّه ﷺ لَمّا خاف على كعْب بن مالك وصحابيه النِّفاقَ حين تَخَلّفوا عن غَزْوة تَبوك، أمَر بِهِجْرانِهم خَمْسين يَوْمًا، وقد هَجَر ﷺ نِساءَه شَهرًا، وهَجَرت عائشة ابنَ الزُّبَير -رضي الله عنهما- مُدَّة، وهَجر جَماعةٌ من الصحابة جَماعةً منهم، وماتُوا مُتَهاجِرِين، ولعلّ أحَدَ الأمْرَيْن مَنسُوخٌ بالآخَر. انتهى كلام ابن الأثير.[ »النهاية في غريب الأثر«٥/ ٥٥٧]
قال الأثيوبي: قوله: “منسوخ بالآخر” هذا غير صحيح، بل الحقّ أنه يُحمل على أن هجران هؤلاء بعضهم لبعض كان لأمر دينيّ، لا دنيويّ حَسَب اجتهادهم، وإن لم يكن كذلك عند الآخرين، فهذا هو وجه الجمع بين الأخبار، والله تعالى أعلم. [البحر المحيط الثجاج].
(المسألة الرابعة): سبب ذكر ثلاثة أيام في الهجر
قوله صلى الله عليه وسلم: (فَوْقَ ثَلاثِ لَيالٍ) ظاهره إباحة ذلك في الثلاث، وهو من الرفق؛ لأن الآدميّ في طبعه الغضب، وسوء الخُلُق، ونحو ذلك، والغالب أنه يزول، أو يقلّ في الثلاث.
وقال النوويّ: قال العلماء: تَحْرُم الهجرة بين المسلمين أكثر من ثلاث ليال بالنصّ، وتباح في الثلاث بالمفهوم، وإنما عُفِي عنه في ذلك؛ لأن الآدميّ مجبول على الغضب، فسومح بذلك القدر؛ ليرجع، ويزول ذلك العارض.
(المسألة الخامسة): متى يبدأ عد وقت الهجر
وقال أبو العباس القرطبيّ: المعتبَر ثلاث ليال، حتى لو بدأ بالهجرة في أثناء النهار ألغي البعض، وتُعتبَر ليلة ذلك اليوم، وينقضي العفو بانقضاء الليلة الثالثة.
وتعقّبه الحافظ، قائلًا: وفي الجزم باعتبار الليالي دون الأيام جمود، فقد جاء في رواية بلفظ: «ثلاثة أيام»، فالمعتمَد أن المرخَّص فيه ثلاثة أيام بلياليها، فحيث أُطلقت الليالي أريد بأيامها، وحيث أُطلقت الأيام أريد بلياليها، ويكون الاعتبار مضيّ ثلاثة أيام بلياليها ملفّقةً، إذا ابتدئت مثلًا من الظهر يوم السبت، كان آخرها الظهر يوم الثلاثاء، ويَحْتَمِل أن يُلْغى الكسر، ويكون أول العدد من ابتداء اليوم أو الليلة، والأول أحوط. انتهى. [«الفتح» ١٣/ ١٤٣ – ١٤٤، كتاب «الأدب» رقم (٦٠٧٧)]، والله تعالى أعلم.
(المسألة السادسة): بما يقطع الهجرة، ويرفع الإثم فيها
وقوله: (وخَيْرُهُما الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلامِ»)؛ أي: هو أفضلهما، قال النوويّ: وفيه دليل لمذهب الشافعيّ، ومالك، ومن وافقهما أن السلام يقطع الهجرة، ويرفع الإثم فيها، ويزيله، وقال أحمد، وابن القاسم المالكيّ: إن كان يؤذيه لمِ يقطع السلامُ هجرته، قال أصحابنا -الشافعيّة-: ولو كاتَبَه، أو راسله عند غيبته عنه، هل يزول إثم الهجرة؟
فيه وجهان: أحدهما لا يزول؛ لأنه لم يكلّمه، وأصحّهما يزول؛ لزوال الوحشة، والله أعلم. انتهى [«شرح النوويّ» ١٦/ ١١٧ – ١١٨].
قال ابن مفلح في الآداب: اسناده جيد
وذكر أحاديث أخرى منها :لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام.
ونقل أن العبرة برجوع الأمور إلى قبل ما كانت فإن كان متعود أن يصافحه فاليصافحه، وإن كانا متآنسين رجعا للمؤانسة. قاله أحمد. انتهى
وليس المقصود أن ترجع لمن اتضح أن خلطته تضر بالدين، فهذا إنما يخالط بقدر مناصحته.
وفي (وخَيْرُهُما الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلامِ) زاد الطبريّ من طريق أخرى، عن الزهريّ: ((يسبق إلى الجنة))، ولأبي داود بسند صحيح، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-:» فإن مرَّت به ثلاث، فلقيه، فليسلِّم عليه، فإن ردّ عليه فقد اشتركا في الأجر، وإن لم يردّ عليه، فقد باء بالإثم، وخَرَج المسلِّم من الهجرة«، ولأحمد والبخاريّ في»الأدب المفرد«، وصححه ابن حبان، من حديث هشام بن عامر:»فإنهما ناكثان عن الحقّ ما داما على صِرامهما، وأوّلُهما فَيْئًا يكون سَبْقه كفارة«، فذكر نحو حديث أبي هريرة، وزاد في آخره: ((فإن ماتا على صِرامهما، لم يدخلا الجنة جميعًا)). [«الفتح» ١٣/ ٦٤٩، كتاب «الأدب» رقم (٦٠٧٧)].
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج ٤ ص ٢٠): حدثنا روح بن عبادة قال حدثنا شعبة عن يزيد الرشك قال شعبة قرأته عليه قال سمعت معاذة العدوية قالت سمعت هشام بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول «لا يحل لمسلم أن يهجر مسلمًا فوق ثلاث ليال فإن كان تصارما فوق ثلاث فإنهما ناكبان عن الحق ما داما على صرامهما وأولهما فيئًا فسبقه بالفيء كفارته فإن سلم عليه فلم يرد عليه ورد عليه سلامه ردت عليه الملائكة ورد على الآخر الشيطان فإن ماتا على صرامهما لم يجتمعا في الجنة أبدًا».
قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا شعبة عن يزيد الرشك عن معاذة عن هشام بن عامر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم «لا يحل لمسلم أن يهجر مسلمًا فوق ثلاث ليال، فإنهما ناكبان عن الحق ما داما على صرامهما، وأولهما فيئًا يكون سبقه بالفيء كفارة له، وإن سلم فلم يقبل ورد عليه سلامه ردت عليه الملائكة، ورد على الآخر الشيطان، وإن ماتا على صرامهما لم يدخلا الجنة جميعًا أبدًا». هذا حديث صحيحٌ، رجاله رجال الصحيح. [الصحيح المسند (ج2/ رقم 1186)].
(المسألة السابعة): ترك المهاجرة لابد منه ولو حلف
وفي الحديث عَنْ عبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ سَمُرةَ رضي الله عنه، قالَ: قالَ لي رسُولُ اللَّه ﷺ:«… وإذا حَلَفْتَ على يَمِينٍ، فَرَأيْت غَيْرَها خَيْرًا مِنها، فأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وكفِّرْ عَنْ يَمِينك» متفقٌ عَلَيْهِ.
وبوب عليه النووي ٣١٦- باب ندب مَن حلف عَلى يَمينٍ، فرأى غيرها خيرَا منهاأن يفعل ذَلِكَ المحلوف عَلَيْهِ، ثُمَّ يكفِّر عن يمينه
وأورد بنحوه عدة أحاديث في رياض الصالحين.
(المسألة الثامنة):
قال الشيخ ابن عثيمين في شرح (الممتع): “«يحرم هجره». أفادنا أن من المسلمين من لا يحرم هجره؛ وذلك أن الهجر ينقسم إلى أقسام:
القسم الأول: من يجب هجره، وذلك كصاحب البدعة الداعي إلى بدعته، إذا لم ينتهِ إلا بالهجر، كما في قصة كعب وصاحبيه ـ رضي الله عنهم ـ، وفاعل المحرم أهون ممن يدعو إلى البدعة؛ لأن البدعة تستمر بالدعوة إليها، وفاعل المحرم فَعَلَه وانتهى.
القسم الثاني: من هجره سُنة، وهو هجر فاعل المعصية التي دون البدعة، إذا كان في هجره مصلحة، فإن لم يكن مصلحة صار الهجر حراماً، إذ لا يحصل منه إلا عكس ما نريد، وأما ما يفعله بعض الإخوة المستقيمين الغيورين على دينهم من هجر أهل المعاصي مطلقاً فغلط، ومخالف للسنة ويعتبر كبيرة.
القسم الثالث: هجر مباح، وهو ما يحصل بين الإنسان وأخيه بسبب سوء تفاهم، وهو مقيد بثلاثة أيام فأقل.
والقول الراجح أن الهجر لا يجب، ولا يسن، ولا يباح إلا حيث تحققت المصلحة.
المهم أن المذهب يقسمون الهجر إلى ثلاثة أقسام: واجب، وسنة، ومباح، ولكن الصحيح عندنا أنه لا ينقسم إلى هذه الأقسام، وأن الأصل في الهجر التحريم، إلا إذا كان فيه مصلحة.
هذا بالنسبة لمن كان مسلماً، أما غير المسلمين فلا يبدؤون بالسلام، سواء كانوا غير منتسبين للإسلام، كأن يصرحوا بأنهم نصارى، أو يهود، أو وثنيون، أو كانوا منتسبين للإسلام لكن بدعتهم تخرجهم من الإسلام؛ لأن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ يقول في أهل الكتاب: «لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه»، لكن إن سلم علينا نرد عليه، فإن قال: السلام عليكم، قلنا: وعليكم السلام، وإن قال: السام عليكم، قلنا: وعليكم. انتهى المراد.
(المسألة التاسعة): أنواع الهجر عموما:
يختلف الهجر باختلاف المهجور، ويمكن تلخيص ذلك في الأنواع الآتية:
1- هجر القرآن. وهذا ما سنتحدّث عنه في الصّفة التّالية (انظر هجر القرآن).
2- هجر الرّجل زوجته، أو نساءه.
[تنبيه]: هجر الزوجة في البيت:
(ولا تهجر إلا في البيت): أي: لا تتحول عنها أو لا تحولها إلى دار أخرى؛ لقوله تعالى: {واهجروهن في المضاجع} . (عون المعبود)
قوله ( ولا يهجر إلا في البيت ) أي لا يهجرها إلا في المضجع ولا يتحول عنها، ولا يحولها إلى دار أخرى، ولعل ذلك فيما يعتاد وقوعه من الهجر بين الزوج والزوجة، وإلا فيجوز هجرهن إذا انْحَسَّتِ المعصية في بيت كإيلاء النبي صلى الله عليه وسلم إياهن شهرا واعتزاله في المشربة. (حاشية السندي على ابن ماجه 1 / 568)
قال ابن عثيمين رحمه الله: ” قال: ((ولا تهجرها إلا في البيت)) يعني: إذا وجد سبب الهجر فلا تهجرها علناً وتظهر للناس أنك هجرتها.
اهجرها في البيت؛ لأنه ربما تهجرها اليوم وتتصالح معها في الغد فتكون حالكما مستورة، لكن إذا ظهرت حالكما للناس بأن قمت بنشر ذلك والتحدث به كان هذا خطأ، اهجرها في البيت، ولا يطلع على هجرك أحد، حتى إذا اصطلحت معها رجع كل شيء على ما يرام، دون أن يطلع عليه أحد من الناس.” [شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 3/132].
3- هجر الأقارب (وهو نوع من قطيعة الرّحم).
4- هجر أهل البدع والأهواء.
5- هجر المسلمين بعضهم بعضا، ويسمّى بالتّهاجر.
(المسألة العاشرة): بم يكون الهجر؟
والهجر والهجران: يكون بالبدن وباللّسان وبالقلب،
وقوله تعالى {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ} (النساء/ 34) أي: بالأبدان. وقوله تعالى: {إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} (الفرقان/ 30) باللّسان أو بالقلب. وقوله تعالى: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا} (المزمل/ 10) محتمل للثّلاثة. وقوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (المدثر/ 5) حثّ على المفارقة بالوجوه كلّها.[المفردات للراغب (537) ، وبصائر ذوى التمييز (5/ 304)].
قال المناويّ: الهجر والهجران: مفارقة الإنسان غيره. إمّا بالبدن. أو اللّسان. أو القلب [التوقيف على مهمات التعاريف (242)].
وقال الكفويّ: الهَجر بالفتح: التّرك والقطيعة. والهُجر بالضمّ: الفحش في المنطق [الكليات (961)].
[للاستزادة: انظر صفات: قطيعة الرحم- هجر القرآن- الإعراض. وفي ضد ذلك: انظر صفات: صلة الرحم- إفشاء السلام- تلاوة القرآن- التودد- حسن العشرة- الإخاء] . [انظر: نظرة النعيم (ج11/ص 5681- 5700)].
(المسألة الحادية عشر):
استُشكل كون هجران الفاسق، أو المبتدِع مشروعًا ولا يُشرع هجران الكافر، وهو أشدّ جُرْمًا منهما؛ لكونهما من أهل التوحيد في الجملة !
وأجاب ابن بطال بأن لله أحكامًا فيها مصالح للعباد، وهو أعلم بشأنها، وعليهم التسليم لِأمْره فيها، فجنح إلى أنه تعبُّد، لا يُعْقَل معناه.
وأجاب غيره بأن الهجران على مرتبتين: الهجران بالقلب، والهجران باللسان، فهجران الكافر بالقلب، وبترك التودّد، والتعاون، والتناصر، لا سيما إذا كان حربيًّا،
وإنما لم يشرع هجرانه بالكلام؛ لعدم ارتداعه بذلك عن كفره، بخلاف العاصي المسلم، فإنه ينزجر بذلك غالبًا، ويشترك كل من الكافر والعاصي في مشروعية مكالمته بالدعاء إلى الطاعة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإنما المشروع ترك المكالمة بالمودّة، ونحوها.
[«الفتح» ١٣/ ٦٥٢]، والله تعالى أعلم. [انظر: البحر الثجاج].
(المسألة الثاني عشر): فيما ورد من هجر أهل البدع والأفكار المنحرفة، والتحذير منها
ختم الإمام – ابن بطه – رحمه الله كتابه [الإبانة الصغرى ص326] بقوله: ((وَمِنْ اَلسُّنَّةِ وَتَمَامِ اَلْإِيمَانِ وَكَمَالِهِ: اَلْبَرَاءَةُ مِنْ كُلِّ اِسْمٍ خَالَفَ اَلسُّنَّةَ وَخَرَجَ مِنْ إِجْمَاعِ اَلْأُمَّةِ وَمُبَايَنَةُ أَهْلِهِ وَمُجَانَبَةُ مَنِ اِعْتَقَدَهُ وَالتَّقَرُّبُ إِلَى اَللَّهِ عز وجل بِمُخَالِفَتِهِ.
وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: فذكر اسماء بعض الفرق ورؤساءهم…… )).
قد سُئل الشيخ ربيع حفظه الله السؤال الآتي كما في [فتاوى فضيلة الشيخ ربيع 1/218]: وذكر تعليم الناس أمور دينهم وقال : قال الشيخ أبو الحسن الكرجي: “وسمعتُ شيخي الإمام أبا منصور الفقيه الأصبهاني يقول سمعتُ شيخنا الإمام أبا بكر الزاذقاني يقول:
كنتُ في درس الشيخ أبي حامد الإسْفَرايني، وكان ينهي أصحابه عن الكلام، وعن الدخول على الباقلاني، فبلغه أنَّ نفراً من أصحابه يدخلون عليه خفية لقراءة الكلام، فظن أني معهم ومنهم، وذكر قصة، قال في آخرها:
إنَّ الشيخ أبا حامد قال: لي يا بني؛ قد بلغني أنك تدخل على هذا الرجل يعني الباقلاني، فإياك وإياه فإنه مبتدع يدعو الناس إلى الضلالة، وإلا فلا تحضر مجلسي. فقلتُ: أنا عائذ بالله مما قيل، وتائب إليه، واشهدوا عليَّ أني لا أدخل إليه”.
قال الشيخ أبو الحسن: “وسمعتُ الفقيه الإمام أبا منصور سعد بن علي العجلي يقول سمعتُ عدة من المشايخ والأئمة ببغداد أظن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي أحدهم قالوا: كان أبو بكر الباقلاني يخرج إلى الحمام متبرقعاً خوفاً من الشيخ أبي حامد الإسْفَرايني”، قال أبو الحسن: “ومعروف شدة الشيخ أبي حامد على أهل الكلام حتى ميز أصول فقه الشافعي من أصول الأشعري، وعلَّقه عنه أبو بكر الزاذاقاني، وهو عندي، وبه اقتدى الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في كتابيه اللمع والتبصرة، حتى لو وافق قول الأشعري وجهاً لأصحابنا ميزه، وقال: هو قول بعض أصحابنا وبه قالت الأشعرية، ولم يعدهم من أصحاب الشافعي، استنكفوا منهم!، ومن مذهبهم في أصول الفقه!، فضلاً عن أصول الدين”.
قلتُ: هذا المنقول عن الشيخ أبي حامد وأمثاله من أئمة أصحاب الشافعي أصحاب الوجوه معروف في كتبهم المصنفة في أصول الفقه وغيرها)) انتهى النقل من كلام شيخ الإسلام رحمه الله.
4- وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله في مقدِّمة [الفرق بين النصيحة والتعيير]: ((اعلم أنَّ ذِكرَ الإنسان بما يكره محرم؛ إذا كان المقصود منه مجرد الذمِّ والعيب والنقص، فأما إنْ كان فيه مصلحة لعامة المسلمين خاصة لبعضهم، وكان المقصود منه تحصيل تلك المصلحة؛ فليس بمحرم بل مندوب إليه. وقد قرر علماء الحديث هذا في كتبهم في الجرح والتعديل، وذكروا الفرق بين جرح الرواة وبين الغيبة، وردُّوا على من سوَّى بينهما من المتعبدين وغيرهم ممن لا يتسع علمه. ولا فرق بين الطعن في رواة حفَّاظ الحديث ولا التمييز بين مَنْ تقبل روايته منهم ومَنْ لا تقبل، وبين تبيين خطأ مَنْ أخطأ في فهم معاني الكتاب والسنة وتأوَّلَ شيئاً منها على غير تأويله وتمسَّك بما لا يُتمسَّك به ،ليُحذَر من الاقتداء به فيما أخطأ فيه، وقد أجمع العلماء على جواز ذلك أيضاً)).
5- وسُئلت اللجنة الدائمة [الشيخ ابن باز رحمه الله، الشيخ عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله، الشيخ عبدالله بن غديان رحمه الله، الشيخ صالح الفوزان حفظه الله] كما في [فتاوى اللجنة الدائمة 12/98-99] السؤال رقم (3): ما موقع تتبع عورات العلماء من الشرع بدعوى التحذير من زلاتهم ولفت نظر الناس إليها؟ مع العلم إنَّ هذا العمل يقوم به طلبة العلم، ويحذِّرون العوام من الناس، وممن يحذِّرونهم من علماء أجلاء أحياناً، كالسيوطي بدعوى إنه أشعري، وغيره كثير.
فكان جوابهم: ((العلماء ليسوا معصومين من الخطأ كما في الحديث: “إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد”، ولا ينقص ذلك من قدرهم ما دام قصدهم التوصل إلى الحق، ولا تجوز الوقيعة في أعراضهم من أجل ذلك، وبيان الحق والتنبيه على الخطأ واجب، مع احترام العلماء ومعرفة قدرهم، إلا ما كان مبتدعاً أو مخالفاً في العقيدة فإنه يحذَّر منه إن كان حياً، ومن كتبه التي فيها أخطاء؛ لئلا يتأثر بذلك الجهال، لا سيما إذا كان داعية ضلال؛ لأنَّ هذا من بيان الحق والنصيحة للخلق، وليس الهدف منه النيل من الأشخاص، والعلماء الكبار مثل السيوطي وغيره ينبه على أخطائهم، ويستفاد من علمهم، ولهم فضائل تغطي على ما عندهم من أخطاء، لكن الخطأ لا يقبل منهم ولا من غيرهم)).
(المسألة الثالث عشر): فوائد الباب:
١ – (منها): ما قاله النوويّ رحمه الله: قال العلماء: في هذا الحديث تحريم الهجر بين المسلمين أكثر من ثلاث ليال، وإباحتها في الثلاث، الأوّلُ بنصّ الحديث، والثاني بمفهومه، قالوا: وإنما عُفي عنها في الثلاث؛ لأن الآدمي مجبول على الغضب، وسوء الخُلُق، ونحو ذلك، فعُفي عن الهجرة في الثلاثة؛ ليذهب ذلك العارض، وقيل: إن الحديث لا يقتضي إباحة الهجرة في الثلاث، وهذا على مذهب من يقول: لا يُحتجّ بالمفهوم، ودليلِ الخطاب. انتهى [«شرح النوويّ» ١٦/ ١١٧].
٢ – (ومنها): ما قاله في «الفتح»: قال أكثر العلماء: تزول الهجرة بمجرد السلام، وردّه،
وقال أحمد: لا يبرأ من الهجرة إلا بعوده إلى الحال التي كان عليها أوّلًا، وقال أيضًا: ترك الكلام إن كان يؤذيه لم تنقطع الهجرة بالسلام،
وكذا قال ابن القاسم، وقال عياض: إذا اعتزل كلامه لم تُقبل شهادته عليه عندنا، ولو سَلَّم عليه؛ يعني: وهذا يؤيّد قول ابن القاسم.
قال الحافظ: ويمكن الفرق بأن الشهادة يُتَوَقّى فيها، وتَرْك المكالمة يُشعر بأن في باطنه عليه شيئًا، فلا تُقبل شهادته عليه، وأما زوال الهجرة بالسلام عليه بعد تَرْكه ذلك في الثلاث، فليس بممتنع.
واستَدَلّ للجمهور بما رواه الطبرانيّ من طريق زيد بن وهب، عن ابن مسعود -رضي الله عنه- في أثناء حديث موقوف، وفيه: «ورجوعه أن يأتي، فيسلِّم عليه».
٣ – (ومنها): ما قاله في «الفتح» أيضًا: استُدِلّ بقوله: «أخاه» على أن الحكم يختص بالمؤمنين، وقال النوويّ: لا حجة في قوله: «لا يحل لمسلم» لمن يقول: الكفار غير مخاطَبين بفروع الشريعة؛ لأن التقييد بالمسلم لكونه الذي يقبل خطاب الشرع، وينتفع به، وأما التقييد بالأخُوّة فدالّ على أن للمسلم أن يهجر الكافر من غير تقييد.
٤ – (ومنها): أنه استُدِلّ بهذه الأحاديث على أن من أعرض عن أخيه المسلم، وامتنع من مكالمته، والسلام عليه أثم بذلك؛ لأن نفي الحلّ يستلزم التحريم، ومرتكب الحرام آثم، قال ابن عبد البرّ: أجمعوا على أنه لا يجوز الهجران فوق ثلاث، إلا لمن خاف من مكالمته ما يُفسد عليه دينه، أو يُدخل منه على نفسه، أو دنياه مضرّةً، فإن كان كذلك جاز، ورُبّ هَجْر جميل خير من مخالطة مؤذية، قاله في «الفتح». [«الفتح» ١٣/ ٦٤٩، كتاب «الأدب» رقم (٦٠٧٧)]. [البحر المحيط الثجاج].
5 – (ومنها): “من فوائد السلام، والتدابر الذي هو نتيجة الهجر ينقطع معه، ولا شك أن وجود السلام دليل على السلامة وسبب للسلامة وللألفة والصفاء؛ لأن ما بعده يتبعه، بخلاف ما إذا انقطع السلام فمعنى ذلك أن التدابر والتقاطع بلغ أشده.
فإذا رد أحدهما على الآخر السلام فإن الذي ينبغي مع هذا أن يعمل مع السلام على إزالة ما في النفوس؛ وذلك بأن يحصل بينهما التواد والكلام الحسن الجميل بحيث يزول ما في النفوس”. [قاله العباد في السنن]
6 – (ومنها): “وهذا من المواضع التي يقولون فيها: إن النافلة أفضل من الواجب؛ فإن ابتداء السلام سنة ورده واجب، والسنة هنا خير وأفضل من الواجب؛ لأن الذي فعل السنة هو الذي حصلت له الخيرية، لقوله: (وخيرهما الذي يبدأ بالسلام).”
فإن “النبي ﷺ قال: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)، أي: أن كل واحد يعرض عن الآخر أو يعرض أحدهما عن الآخر والثاني لم يعرض، وهذا غير سائغ، وقد بين عليه السلام أن خيرهما هو الذي يبدأ بالسلام؛ لأنه يدل على سلامته وعلى حرصه على الألفة وعلى بغضه وكراهيته للفرقة، ولذا كان هو الذي يبادر بالسلام، ويبادر إلى إزالة الكدر الذي حصل للنفوس، وذلك بأن يتكلم مع صاحبه، ويعتذر له، أو يأتي بأسلوب يهون ما في نفس صاحبه بحيث تعود المياه إلى مجاريها، ويعود الصفاء إلى ما كان عليه من قبل”. [قاله العباد في السنن].
٧- وفي تحريش الشيطان بين المصلين
قال القاري في «مرقاة المفاتيح» (١/٢٣٤): «أنّه يسعى في التحريش بينهم، أي: إغراء بعضهم على بعض، والتحريض بالشرِّ بين الناس من قتل وخصومة، والمعنى: لكنَّ الشيطانَ غَيرُ آيسٍ من إغراء المؤمنين، وحملهم على الفتن، بل له مطمع في ذلك، قيل: ولعلَّه أخبر عما يجري فيما بعده من التحريش الذي وقع بين أصحابه، أي: أيسَ الشيطانُ أن يُعبدَ فيها، لكن طمع في التحريش بين ساكنيها، وكان كما أخبر؛ فكان معجزةً له ﵊». اهـ. وانظر «شرح النووي على مسلم» (١٧/١٥٦)، و«فيض القدير» (٢/٣٥٦)، و«مشارق الأنوار» (١/١٨٨)، و«النهاية» (١/٣٦٨)
٨- قال ابن الجوزي :
1286- كان لنا أصدقاء وإخوان أعتد بهم؛ فرأيت منهم من الجفاء وترك شروط الصداقة والأخوة عجائب، فأخذت أعتب، ثم انتبهت لنفسي، فقلت: وما ينفع العتاب؛ فإنهم إن صلحوا، فللعتاب لا للصفاء؟! فهممت بمقاطعتهم! ثم تفكرت، فرأيت الناس بين معارف وأصدقاء في الظاهر، وإخوة مباطنين، فقلت: لا تصلح مقاطعتهم؛ إنما ينبغي أن تنقلهم من ديوان الأخوة إلى ديوان الصداقة الظاهرة، فإن لم يصلحوا لها، نقلتهم إلى جملة المعارف، وعاملتهم معاملة المعارف، ومن الغلط أن تعاتبهم، فقد قال يحيى بن معاذ: بئس الأخ أخ تحتاج أن تقول له: اذكرني في دعائك
صيد الخاطر (ص391)
٩- وقوله: ” هل تستطيع أن تغيب وجهك عني؟ ” في هذا إشكال على من قل علمه، فإنه يقول: إذا كان الإسلام يجب ما قبله، فما وجه هذا القول من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهو قول يشبه موافقة الطبع، وأين الحلم؟ . والجواب: أن الشرع لا يكلف نقل الطبع، إنما يكلف ترك العمل بمقتضاه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم كلما رأى وحشيا ذكر فعله فتغيظ عليه بالطبع، وهذا يضر وحشيا في دينه، فلعله أراد اللطف في إبعاده
كشف المشكل من حديث الصحيحين (4/ 177)
١٠- وراجع أيضًا لشرح الحديث وفوائده صحيح مسلم [(2560) و(6701) الفوائد المنتقاة على صحيح مسلم ].