172 عبق الياسمين شرح رياض الصالحين
سلطان الحمادي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
17 – باب في وجوب الانقياد لحكم الله تعالى وما يقوله من دُعي إِلَى ذلِكَ، وأُمِرَ بمعروف أَوْ نُهِيَ عن منكر
قَالَ الله تعالي: {فَلا وَرَبِّكَ لايُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}
[النساء:65]،
وَقالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51].
وفيه من الأحاديث: حديث أبي هريرة المذكور في أول الباب قبله وغيره من الأحاديث فِيهِ.
——-
أما الآية الأولى فقد تقدم شرحها في الباب السابق
أما الآية الثانية قال تعالى:: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
قال ابن كثير:” قال قتادة في هذه الآية: (أن يقولوا سمعنا وأطعنا) ذكر لنا أن عبادة بن الصامت – وكان عَقَبِيَّا بدريا، أحد نقباء الأنصار – أنه لما حضره الموت قال لابن أخيه جنادة بن أبي أمية: ألا أنبئك بماذا عليك وماذا لك؟ قال: بلى. قال: فإن عليك السمع والطاعة، في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك. وعليك أن تقيم لسانك بالعدل، وألا تنازع الأمر أهله، إلا أن يأمروك بمعصية الله بواحا، فما أمرت به من شيء يخالف كتاب الله، فاتبع كتاب الله.” (تفسير ابن كثير)
قول تعالة (المفلحون) قال ابن كثير:” هو نيل المطلوب والسلامة من المرهوب” (تفسير ابن كثير)
قال السعدي في تفسير هذه الآية:” أي: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ) حقيقة، الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم حين يدعون إلى الله ورسوله ليحكم بينهم، سواء وافق أهواءهم أو خالفها، (أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) أي: سمعنا حكم الله ورسوله، وأجبنا من دعانا إليه، وأطعنا طاعة تامة، سالمة من الحرج. (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) حصر الفلاح فيهم، لأن الفلاح: الفوز بالمطلوب، والنجاة من المكروه، ولا يفلح إلا من حكم الله ورسوله، وأطاع الله ورسوله.” (تفسير السعدي)
قال فيصل آل مبارك:” يخبر تعالى أن قول المؤمنين إذا دُعُوا إلى حكم الله وحكم رسوله خلاف قول المنافقين، فإن المنافقين إذا دعوا إلى حكم الله ورسوله أعرضوا، وإن كان الحق لهم أتوا. وأما المؤمنون فيقولون: سمعنا وأطعنا سواءً كان الحق لهم أو عليهم.” (تطريز الرياض)
قال ابن باز:”الواجب على أهل الإيمان أن يتمسكوا بشرع الله وأن ينقادوا له وأن يقولوا: سمعنا وأطعنا فيما أمر الله به ورسوله، وألا يقولوا كما قال من قبلهم من أهل الكتاب الذين ضلوا السبيل سمعنا وعصينا” (شرح الرياض)
ثم قال النووي:” وفيه من الأحاديث حديث أَبي هريرة المذكور في أول الباب قبله, وغيره من الأحاديث فيه. يشير إلى حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي اللَّه عنه عن النبيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَالَ: “دَعُونِي مَا تَرَكتُكُمْ: إِنَّما أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قبْلكُم كَثْرةُ سُؤَالِهمْ، وَاخْتِلافُهُمْ عَلَى أَنْبيائِهمْ، فَإِذا نَهَيْتُكُمْ عنْ شَيْءٍ فاجْتَنِبُوهُ، وَإِذا أَمَرْتُكُمْ بأَمْرٍ فَاتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ” متفقٌ عَلَيهِ.
——-
172 – عن أَبِي هريرةَ رضي اللَّه عنه، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رسولِ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] اشْتَدَّ ذلكَ عَلَى أَصْحابِ رَسُول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، فأَتوْا رَسُول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، ثُمَّ برَكُوا عَلَى الرُّكَب فَقالُوا: أَيْ رسولَ اللَّه كُلِّفَنَا مِنَ الأَعمالِ مَا نُطِيقُ: الصَّلاَةَ وَالْجِهادَ وَالصِّيام وَالصَّدقةَ، وَقَدَ أُنْزلتْ عليْكَ هَذِهِ الآيَةُ وَلا نُطِيقُهَا. قالَ رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: ” أَتُريدُونَ أَنْ تَقُولوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتابَين مِنْ قَبْلكُمْ: سَمِعْنَا وَعصينَا؟ بَلْ قُولوا: سمِعْنا وَأَطَعْنَا غُفْرانَك رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمصِيرُ “فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَومُ، وَذَلّتْ بِهَا أَلْسِنتهُمْ، أَنَزلَ اللَّه تَعَالَى في إِثْرهَا: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} فَلَمَّا فعَلُوا ذلِكَ نَسَخَهَا اللَّه تَعَالَى، فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَانَا} قَالَ: نَعَمْ {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قَالَ: نعَمْ {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ}.
قَالَ: نَعَمْ {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} قَالَ: نعَمْ. رواه مسلم.
———-
قوله: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ}، قال الحافظ ابن كثير:”يُخْبِرُ تَعالى أنَّ لَهُ مُلْكَ السموات والأرْضِ وما فِيهِنَّ وما بَيْنَهُنَّ، وأنَّهُ المُطَّلِعُ عَلى ما فِيهِنَّ، لا تَخْفى عَلَيْهِ الظَّواهِرُ ولا السَّرائِرُ والضَّمائِرُ، وإنْ دَقَّتْ وخَفِيَتْ، وأخْبَرَ أنَّهُ سَيُحاسب عِبادَهُ عَلى ما فَعَلُوهُ وما أخْفَوْهُ فِي صُدُورِهِمْ كَما قالَ: {قُلْ إنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ويَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وما فِي الأرْضِ واللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آلِ عِمْرانَ: (29)]، وقالَ: {يَعْلَمُ السِّرَّ وأخْفى} [طَهَ (7)]، والآياتُ فِي ذَلِكَ ((3)) كَثِيرَةٌ جِدًّا، وقَدْ أخْبَرَ فِي هَذِهِ بِمَزِيدٍ عَلى العِلْمِ، وهُوَ: المُحاسَبَةُ عَلى ذَلِكَ، ولِهَذا لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلى الصَّحابَةِ، رضي الله عنهم، وخافُوا مِنها، ومِن مُحاسَبَةِ اللَّهِ لَهُمْ عَلى جَلِيلِ الأعْمالِ وحَقِيرِها، وهَذا مِن شِدَّةِ إيمانِهِمْ وإيقانِهِمْ ” (تفسير ابن كثير)
قال ابن عثيمين:” لما نزَّل الله على نبيه هذه الآية (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) (البقرة: 284)، كبُر ذلك عليهم وشق عليهم ذلك؛ لأن ما في النفس من الحديث أمر لا ساحل له، فالشيطان يأتي الإنسان ويحدثه في نفسه بأشياء منكرة عظيمة، منها ما يتعلق بالنفس، ومنها ما يتعلق بالمال، أشياء كثيرة يلقيها الشيطان في قلب الإنسان” (شرح الرياض)
قوله: اشْتَدَّ ذلكَ عَلَى أَصْحابِ رَسُول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، فأَتوْا رَسُول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، ثُمَّ برَكُوا عَلَى الرُّكَب، قال ابن علان:” ثم (بركوا) جثياً (على الركب) بضم ففتح كما هي عادة الخائف الوجل. (دليل الفالحين)
قال ابن عثيمين:” فالإنسان إذا نزل به أمر شديد يجثو على ركبتيه” (شرح رياض الصالحين)
فَقالُوا: أَيْ رسولَ اللَّه كُلِّفَنَا مِنَ الأَعمالِ مَا نُطِيقُ: الصَّلاَةَ وَالْجِهادَ وَالصِّيام وَالصَّدقةَ، وَقَدَ أُنْزلتْ عليْكَ هَذِهِ الآيَةُ وَلا نُطِيقُهَ. قال النووي:” قال الإمام أبو عبد الله المازري رحمه الله يحتمل أن يكون اشفاقهم وقولهم لا نطيقها لكونها اعتقدوا أنهم يؤاخذون بما لا قدرة لهم على دفعه من الخواطر التي لا تكتسب فلهذا رأوه من قبل ما لا يطاق، وعندنا أن تكليفه جائز عقلا، واختلف، هل وقع التعبد به في الشريعة، أو لا؟ (شرح مسلم)
قال القرطبي:” هذه الآية تدل على أن لله تعالى أن يكلف عباده بما يطيقونه، وما لا يطيقونه، ممكنا كان، أو غير ممكن، لكنه تعالى تفضل علينا بأنه لم يكلفنا بما لا نطيقه، وبما لا يمكننا إيقاعه، وكمل علينا فضله برفع الإصر، والمشقات التي كلفها غيرنا. انتهى. (المفهم)
قال الأتيوبي:”وخلاصة القول: إن الله سبحانه وتعالى رفع عنا ما لا طاقة لنا به، فله الحمد والمنة، وله الفضل والنعمة، سبحانك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك” (البحر المحيط الثجاج)
هل يكلف الله العبد بشيء لا يطيقه؟
قال الراجحي:” اختلف الناس في هذا، في التكليف فيما لا يطاق على مذاهب:
المذهب الأول: مذهب الأشعرية وبعض المعتزلة ببغداد، والبكرية أتباع بكر بن زياد الباهي، فقالوا: إن تكليف ما لا يطاق جائز عقلا، وذلك كالجمع بين الضدين، وقلب الأجناس كجعل الشجر فرسا، أو الفرس إنسانا، أو الحيوان نباتا، وإيجاد القديم وإعدامه، قالوا: تكليف ما لا يطاق جائز عقلا، لكن هل ورد به الشرع، تردد أصحاب أبي الحسن الأشعري هل ورد به الشرع فوقع أم لا؟ على قولين. ….
المذهب الثاني قالوا: يجوز التكليف بالمستحيل العادي دون المستحيل العقلي أي يجوز تكليف الممتنع عادة، وهو ما يتصور العقل وجوده مع خارق للعادة على يد نبي أو ولي دون الممتنع لذاته أي عقلا، وهو ما لا يتصور العقل وجوده أصلا كالجمع بين الضدين؛ لأنه ممتنع لذاته لا يتصور وجوده فلا يعقل الأمر به بخلاف الممتنع عادة فيتصور العقل وجوده فيعقل الأمر به.
المذهب الثالث: قالوا ما لا يطاق للعجز عنه، وهو المستحيل العادي والعقلي لا يجوز التكليف به، وما لا يطاق للاشتغال بضده كاشتغاله بلعب القمار أو الكرة عن الصلاة، فإنه يجوز التكليف به.
هؤلاء موافقون للسلف والأئمة في المعنى لكن تسميتهم ما يتركه العبد ما لا يطاق؛ لكونه مشتغلا بضده بدعة في الشرع واللغة، فإن مضمونه أن فعل ما لا يفعله العبد لا يطيقه، وهم قد التزموا هذا لقولهم: إن الطاقة والاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل فقالوا: كل من لم يفعل فعلا فإنه لا يطيقه.
وهذا خلاف الكتاب والسنة وإجماع السلف وخلاف ما عليه عامة العقلاء؛ لأن ما يقدر الإنسان على فعله وتركه هو مناط التكليف، بخلاف ما لا يكون إلا مقارنا للفعل فذلك ليس شرطا في التكليف، والتعبير السليم أن يقال ما لا يطاق للعجز عنه لا يجوز التكليف به، وما عداه فيجوز التكليف به.
ومن أدلة هذا القول قول الله -تعالى-: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وقوله -عليه الصلاة والسلام-: (بعثت بالحنفية السمحة ليلها كنهارها) وقوله صلى الله عليه وسلم (إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه) نعم.
ولم يكلفهم الله -تعالى- إلا ما يطيقون.
هذا معتقد أهل السنة والجماعة أن الله -تعالى- ما كلف العباد إلا ما يطيقون، رحمة منه وإحسانا كما قال سبحانه: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا}. (شرح الطحاوية)
قال الأتيوبي:
قوله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: ” أَتُريدُونَ أَنْ تَقُولوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتابَين مِنْ قَبْلكُمْ: سَمِعْنَا وَعصينَا؟ بَلْ قُولوا: سمِعْنا وَأَطَعْنَا غُفْرانَك رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمصِيرُ:” هذا إشارة إلى قوله الله عزوجل {وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا} الآية [البقرة: 93]
(البحر المحيط الثجاج)
قوله: (“فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَومُ، وَذَلّتْ بِهَا أَلْسِنتهُمْ، أَنَزلَ اللَّه تَعَالَى في إِثْرهَا)
قال الأتيوبي:” (فلما اقترأها القوم) أي قرؤوها، قال المجد: قرأ القرآن: تلاه، كاقترأه. انتهى. فالافتعال للمبالغة (ذلت) جواب “لما”: أي لانت، وسهلت (بها) أي بقرائتها (ألسنتهم) يعني أنهم استجابوا، وأطاعوا للنبي – صلى الله عليه وسلم – فيما دعاهم، وأرشدهم إليه (فأنزل الله في إثرها) بفتح الهمزة والثاء، وبكسر الهمزة مع إسكان الثاء، لغتان، وضمير “إثرها” يعود إلى الآية التي اشتدت عليهم.” (البحر المحيط الثجاج)
لا نفرق بين أحد من رسله} قال النووي:”لا نفرق بينهم في الإيمان فنؤمن ببعضهم، ونكفر ببعض كما فعله أهل الكتابين، بل نؤمن بجميعهم.” (شرح النووي)
{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} قال ابن علان:” قال القرطبي المفسر وهو تلميذ القرطبي شارح «مختصر مسلم» كما نقل عنه في آخر سورة النمل: لما تقرّر الأمر على أن {قالوا سمعنا وأطعنا} مدحهم الله تعالى وأثنى عليهم في هذه الآية ورفع المشقة في الخواطر عنهم، وهذه ثمرة الطاعة والانقطاع إلى الله تعالى كما جرى لبني إسرائيل ضد ذلك من ذمهم وتحملهم المشاق من الذلة والمسكنة والجلاء كما قالوا سمعنا وعصينا، وهذه ثمرة العصيان والتمرد على الله والعياذ بالله” (دليل الفالحين)
قال ابن عثيمين:” (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ) (البقرة 285) يعني: والمؤمنون آمنوا (كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (البقرة: 285)، فبين الله عز وجل في هذه الآية الثناء على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى المؤمنين؛ لأنهم قالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.” (شرح الرياض)
قوله (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) قال ابن كثير:” أي: لا يكلف أحدا فوق طاقته، وهذا من لطفه تعالى بخلقه ورأفته بهم وإحسانه إليهم، وهذه هي الناسخة الرافعة لما كان أشفق منه الصحابة ” (تفسير ابن كثير)
قال السدي: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] طاقتها وحديث النفس مما لا يطيقون. وفي الحديث عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «إنَّ الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل». (التطريز)
قال ابن كثير” قوله: (لها ما كسبت) أي: من خير، (وعليها ما اكتسبت) أي: من شر، وذلك في الأعمال التي تدخل تحت التكليف، ثم قال تعالى مرشدا عباده إلى سؤاله، وقد تكفل لهم بالإجابة، كما أرشدهم وعلمهم أن يقولوا (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا) أي: إن تركنا فرضا على جهة النسيان، أو فعلنا حراما كذلك (أو أخطأنا) أي: الصواب في العمل، جهلا منا بوجهه الشرعي.” (تفسير ابن كثير)
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه ”
قال ابن عثيمين:” ثم أنزل الله (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) (البقرة: 286)، فالذي ليس في وسع الإنسان لا يكلفه الله به، ولا عرج عليه فيه، مثل الوسواس التي تهجم على القلب، ولكن الإنسان إذا لم يركن إليها، ولم يصدق بها، ولم يرفع بها رأساً فإنها لا تضره، لأن هذه ليست داخلة في وسعه، والله عز وجل يقول: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة 286).
فقد يحدث الشيطان الإنسان في نفسه عن أمور فظيعة عظيمة، ولكن الإنسان إذا أعرض عنها واستعاذ بالله من الشيطان ومنها، زالت عنه (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَانَا) قال نعم. يعني قال الله نعم لا أؤخذكم إن نسيتم أو أخطأتم (رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا) قال: نعم , ولهذا قال الله تعالى في وصف رسوله محمد صلى الله عليه وسلم: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) (الأعراف: 157)، (رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) قال الله نعم.
ولهذا لا يكلف الله تعالى في شرعه ما لا يطيقه الإنسان، بل إذا عجز عن الشيء انتقل إلى بدله إذا كان له بدل، أو سقط عنه إن لم يكن له بدل، أما أن يكلف ما لا طاقة له فإن الله تعالى قال هنا: نعم، يعني لا أحملكم ما لا طاقة لكم به” (شرح الرياض)
قوله (واعف عنا واغفر لنا وارحمنا) قال السعدي:” فالعفو والمغفرة يحصل بهما دفع المكاره والشرور، والرحمة يحصل بها صلاح الأمور” (تفسير السعدي)
قال ابن باز:” ولهذا قال عليه الصلاة و السلام: ((إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ)) فإذا خطر بقلب الإنسان كذا وكذا من الأمور القبيحة ثم ترك ذلك وابتعد عن ذلك وحارب ذلك وجاهد ذلك ولم ينطق بها ولم يعمل بها عفا الله عنه سبحانه وتعالى … ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أُحَدِّثُ نَفْسِي بِالْحَدِيثِ، لَأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَكَلَّمَ بِهِ، قَالَ: ” ذَلِكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ ” وفي اللفظ الآخر فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيَدَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ “. (انظر: شرح الرياض لابن باز)
قال ابن عثيمين:” نستفيد من هذه الآيات الكريمة الأخيرة أن الله ـ سبحانه وتعالى لا يحملنا ما لا طاقة لنا به، ولا يكلفنا إلا وسعنا، وأن الوساوس التي تجول في صدورنا إذا لم نركن إليها، ولم نطمئن إليها، ولم نأخذ بها، فإنها لا تضر” (شرح الرياض)