171 عبق الياسمين شرح رياض الصالحين
سلطان الحمادي وآخرون
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
16 – باب في الأمر بالمحافظة على السنة وآدابها
171 – وعنْ عابسِ بن ربيعةَ قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ بنَ الخطاب، رضي اللَّه عنه، يُقَبِّلُ الْحَجَرَ يَعْنِي الأَسْوَدَ ويَقُولُ: إِني أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ مَا تَنْفَعُ وَلاَ تَضُرُّ، ولَوْلا أنِّي رأَيْتُ رسولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ .. متفقٌ عليه.
هذا كان في الحج بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم
قال النووي:” أما قول عمر – رضي الله عنه -: (لقد علمت أنك حجر وإني لأعلم أنك حجر وأنك لا تضر ولا تنفع) فأراد به بيان الحث على الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في تقبيله، ونبه على أنه لولا الاقتداء به لما فعله، وإنما قال: وإنك لا تضر ولا تنفع؛ لئلا يغتر بعض قريبي العهد بالإسلام الذين كانوا ألفوا عبادة الأحجار وتعظيمها ورجاء نفعها، وخوف الضرر بالتقصير في تعظيمها، وكان العهد قريبا بذلك، فخاف عمر – رضي الله عنه – أن يراه بعضهم يقبله، ويعتني به، فيشتبه عليه فبين أنه لا يضر ولا ينفع بذاته، وإن كان امتثال ما شرع فيه ينفع بالجزاء والثواب فمعناه أنه لا قدرة له على نفع ولا ضر، وأنه حجر مخلوق كباقي المخلوقات التي لا تضر ولا تنفع وأشاع عمر هذا في الموسم؛ ليشهد في البلدان، ويحفظه عنه أهل الموسم المختلفو الأوطان (شرح مسلم)
قال ابن حجر:” قال الطبري: إنما قال ذلك عمر؛ لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام، فخشي عمر أن يظن الجهال أن استلام الحجر من باب تعظيم بعض الأحجار كما كانت العرب تفعل في الجاهلية، فأراد عمر أن يعلم الناس أن استلامه اتباع لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا؛ لأن الحجر ينفع ويضر بذاته كما كانت الجاهلية تعتقده في الأوثان” (فتح الباري)
قال ابن تيمية:” ليس في الدنيا من الجمادات ما يشرع تقبيلها إلا الحجر الأسود، وقد ثبت في الصحيحين: أن عمر رضي الله عنه قال: والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك ولهذا لا يسن باتفاق الأئمة أن يقبل الرجل أو يستلم ركني البيت – اللذين يليان الحجر – ولا جدران البيت، ولا مقام إبراهيم ولا صخرة بيت المقدس، ولا قبر أحد من الأنبياء والصالحين، حتى تنازع الفقهاء في وضع اليد على منبر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما كان موجودا، فكرهه مالك وغيره؛ لأنه بدعة، وذكر أن مالكا لما رأى عطاء فعل ذلك لم يأخذ عنه العلم”. (زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور لابن تيمية)
الذريعة الحادية والعشرون: التبرك بالحجر الأسود.
لقد صرح الإمام الشاه ولي الله الدهلوي (1176هـ) الذي عظمته الديوبندية إلى حد قالوا فيه: ” حجة الله على العالمين “- بأن قول عمر بن الخطاب – رضي الله عنه-: ” إني أعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر ولولا أني رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قبلك ما قبلتك “.
دليل على أن الحجر الأسود إذا لا ينفع ولا يضر، وأن تقبيله على خلاف القياس لمجرد التعبد لله عز وجل، لا لأجل التبرك به؛ فما ظنك بأحجار القبور وأشجارها؛ فلا يقاس عليه تقبيل غيره من الأحجار والأشجار، وفي كلام عمر -رضي الله عنه- إشارة إلى أن تقبيل الحجر لأجل الخوف والطمع والتعظيم فيه خوف الوقوع في الشرك؛ فلهذا نبه الناس بأنه لا يضر ولا ينفع وهذا دليل على أن الصحابة كانوا يهتمون بأمر التوحيد وحماية حماة وسد ذرائع الشرك.
وقال الإمام البدر العيني (855هـ)، والقاري (1014هـ)، في شرح هذا الأثر، واللفظ للأول:
(إنما قال ذلك؛ لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام؛ فخشي عمر -رضي الله عنه-: أنه يظن الجهال بأن استلام الحجر هو مثل ما كانت العرب تفعله؛ فأراد عمر أن يعلم: أن استلامه لا يقصد به إلا تعظيم الله عز وجل، والوقوف عند أمر نبيه صلى الله عليه وسلم؛ وأن ذلك من شعائر الحج التي أمر الله تعالى بتعظيمها، وأن استلامه مخالف لفعل الجاهلية في عبادتهم الأصنام؛ لأنهم كانوا يعتقدون أنها تقربهم إلى الله زلفى؛ فنبه عمر على مخالفة هذا الاعقتاد، وأنه لا ينبغي أن يعبد إلا من يملك الضر والنفع، وهو الله تعالى جل جلاله).
قلت: إذا لا يجوز تقبيل الحجر الأسود، واستلامه والتمسح به؛ لأجل التبرك به والاستشفاء به – فكيف يجوز التبرك بالقبور وأحجارها وأشجارها وخرقها وزيوتها، وشموعها ونحوها،؟؟ وفي ذلك عبرة للقبورية عامة والديوبندية التبليغية خاصة.!؟! فلو كان التبرك بهذه الأشياء جائزا لكان الحجر الأسود أولى وأحرى وأليق؛ لأنه مسته أيدي الأنبياء والمرسلين* والصحابة والتابعين* والأولياء والصالحين* (جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية)
قال العلامة السعدي رحمه الله في تعليقه على كتاب التوحيد: باب من تبرك بشجرة أو حجرة أو نحوهما:”أي فإن ذلك من الشرك، ومن أعمال المشركين؛ فإن العلماء اتفقوا على أنه لا يشرع التبرك بشيء من الأشجار، والأحجار، والبقع، والمشاهد وغيرها؛ فإن هذا التبرك غلوٌّ فيها، وذلك يتدرّج به إلى دعائها وعبادتها وهذا هو الشرك الأكبر كما تقدم انطباق الحديث عليه، وهذا عام في كل شيء حتى مقام إبراهيم، وحجرة النبي – صلى الله عليه وسلم -، وصخرة بيت المقدس، وغيرها من البقع الفاضلة، وأما استلام الحجر الأسود وتقبيله، واستلام الركن اليماني من الكعبة المشرّفة، فهذا عبودية لله، وتعظيم لله، وخضوع لعظمته، فهو روح التّعبُّد. فهذا تعظيم للخالق وتَعبُّدٌ له، وذلك تعظيم للمخلوق، وتألُّه له. والفرق بين الأمرين كالفرق بين الدعاء لله الذي هو إخلاصٌ وتوحيدٌ، والدعاء للمخلوق الذي هو شرك وتنديد”. (القول السديد في مقاصد التوحيد)
قال الشيخ صالح آل الشيخ: ” وقد دلت النصوص في الكتاب والسنة على أن الأشياء التي أحل الله – جل وعلا – البركة فيها قد تكون أمكنة أو أزمنة؛ وقد تكون مخلوقات آدمية، فهذان قسمان:
القسم الأول: أن الله – تعالى – بارك بعض الأماكن كبيت الله الحرام، وحول بيت المقدس، كما قال سبحانه: {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1] ومعنى كون الأرض مباركة: أن يكون فيها الخير الكثير اللازم يعني – أبدا – أن يُتَمَسَّح بأرضها، أو أن يُتَمَسَّح بحيطانها، لأن بركتها لازمة لا تنتقل بالذات، يعني: أنك إذا لامست الأرض، أو دفنت فيها، أو تبركت بها، فإن بركتها لا تنتقل إليك بالذات، وإنما بركتها من جهة المعنى فقط.
كذلك بيت الله الحرام هو مبارك لا من جهة ذاته، يعني: ليس كما يعتقد البعض أن من تمسح به انتقلت إليه البركة وإنما هو مبارك من جهة المعنى، يعني: اجتمعت فيه البركة التي جعلها الله في هذه البنية، من جهة: تعلق القلوب بها، وكثرة الخير الذي يكون لمن أرادها، وأتاها، وطاف بها، وتعبد عندها، وكذلك الحجر الأسود هو حجر مبارك، ولكن بركته لأجل العبادة، يعني أن من استلمه تعبدا مطيعا للنبي صلى الله عليه وسلم في استلامه له، وفي تقبيله، فإنه يناله به بركة الاتباع. وقد قال عمر رضي الله عنه لما قبّل الحجر: ” إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر ” فقوله: لا تنفع ولا تضر، يعني لا يجلب لمن قبله شيئا من النفع، ولا يدفع عن أحد شيئا من الضر، وإنما الحامل على التقبيل مجرد الاتِّساء، تعبدا لله، ولذلك قال: “. . ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك ” فهذا معنى البركة التي جعلت في الأمكنة.
وأما معنى كون الزمان مباركا – مثل شهر رمضان، أو بعض أيام الله الفاضلة – فيعني: أن من تعبد فيها، ورام الخير فيها، فإنه ينال من كثرة الثواب ما لا يناله في غيرها من الأزمنة.
والقسم الثاني: البركة المنوطة ببني آدم، وهي البركة التي جعلها الله – جل وعلا – في المؤمنين من الناس، وعلى رأسهم: سادة المؤمنين: من الأنبياء والرسل فهؤلاء بركتهم بركة ذاتية، يعني: أن أجسامهم مباركة، فالله – جل وعلا – هو الذي جعل جسد آدم مباركا وجعل جسد إبراهيم عليه السلام مباركا، وجعل جسد نوح مباركا، وهكذا جسد عيسى، وموسى، عليهم جميعا الصلاة والسلام جعل أجسادهم جميعا مباركة، بمعنى: أنه لو تبرك أحد من أقوامهم بأجسادهم، إما بالتمسح بها، أو بأخذ عرقها، أو التبرك ببعض أشعارهم، فهذا جائز؛ لأن الله جعل أجسادهم مباركة بركة متعدية، وهكذا نبينا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم جسده أيضا جسد مبارك؛ ولهذا ورد في السنة أن الصحابة كانوا يتبركون بعرقه، ويتبركون بشعره، وإذا توضأ اقتتلوا على وضوئه، إلى آخر ما ورد في ذلك؛ ذلك أن أجساد الأنبياء فيها بركة ذاتية ينتقل أثرها إلى غيرهم، وهذا مخصوص بالأنبياء والرسل، أما غيرهم فلم يرد دليل على أن من أصحاب الأنبياء والرسل مَن بركتهم بركة ذاتية، حتى أفضل هذه الأمة أبو بكر وعمر، فقد جاء بالتواتر القطعي: أن الصحابة والتابعين والمخضرمين لم يكونوا يتبركون بأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، كما كانوا يتبركون بشعر النبي صلى الله عليه وسلم، أو بوضوئه، أو بنخامته، أو بعرقه أو بملابسه، ونحو ذلك، فعلمنا بهذا التواتر القطعي أن بركة أبي بكر وعمر إنما هي بركة عمل، ليست بركة ذات تنتقل كما هي بركة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا جاء في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن من الشجر لَمَا بركته كبركة المسلم» فدل هذا: على أن في كل مسلم بركة، وفي البخاري أيضا قول أسيد بن حضير: «ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر». فهذه البركة التي أضيفت لكل مسلم وأضيفت لآل أبي بكر، هي: بركة عمل، هذه البركة راجعة إلى الإيمان، وإلى العلم، والدعوة، والعمل.
فكل مسلم فيه بركة، وهذه البركة ليست بركة ذات، وإنما هي بركة عمل، وبركة ما معه من الإسلام والإيمان، وما في قلبه من الإيقان والتعظيم لله – جل وعلا – والإجلال له، والاتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم، فهذه البركة التي في العلم، أو العمل، أو الصلاح: لا تنتقل من شخص إلى آخر وعليه فيكون معنى التبرك بأهل الصلاح هو الاقتداء بهم في صلاحهم، والتبرك بأهل العلم هو الأخذ من علمهم والاستفادة منه وهكذا، ولا يجوز أن يُتبرك بهم بمعنى أن يُتمسح بهم، أو يُتبرك بريقهم؛ لأن أفضل الخلق من هذه الأمة وهم الصحابة لم يفعلوا ذلك مع خير هذه الأمة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وهذا أمر مقطوع به. (التمهيد شرح كتاب التوحيد)
قال النووي:” هذا الحديث فيه فوائد منها: استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف بعد استلامه،
وكذا يستحب السجود على الحجر أيضا بأن يضع جبهته عليه، فيستحب أن يستلمه ثم يقبله، ثم يضع جبهته عليه. هذا مذهبنا ومذهب الجمهور، وحكاه ابن المنذر عن عمر بن الخطاب وابن عباس وطاوس والشافعي وأحمد، قال: وبه أقول، قال: وقد روينا فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وانفرد مالك عن العلماء فقال: السجود عليه بدعة، واعترف القاضي عياض المالكي بشذوذ مالك في هذه المسألة عن العلماء،
وأما الركن اليماني فيستلمه ولا يقبله، بل يقبل اليد بعد استلامه، هذا مذهبنا، وبه قال جابر بن عبد الله وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة، وقال أبو حنيفة: لا يستلمه، وقال مالك وأحمد: يستلمه ولا يقبل اليد بعده، وعن مالك رواية أنه يقبله، وعن أحمد رواية أنه يقبله، والله أعلم. ” (شرح مسلم)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:”ولما حج النبي صلى الله عليه وسلم استلم الركنين اليمانيين ولم يستلم الشاميين؛ لأنهما لم يبنيا على قواعد إبراهيم، فإن أكثر الحجر من البيت، والحجر الأسود استلمه وقبله، واليماني استلمه ولم يقبله، وصلى بمقام إبراهيم ولم يستلمه ولم يقبله، فدل ذلك على أن التمسح بحيطان الكعبة غير الركنين اليمانيين، وتقبيل شيء منها غير الحجر الأسود ليس بسنة، ودل على أن استلام مقام إبراهيم وتقبيله ليس بسنة.” (مجموع الفتاوى (17))
قال ابن حجر:” قال شيخنا في ” شرح الترمذي “: فيه كراهة تقبيل ما لم يرد الشرع بتقبيله، وأما قول الشافعي: ومهما قبل من البيت فحسن، فلم يرد به الاستحباب؛ لأن المباح من جملة الحسن عند الأصوليين” (فتح الباري)
قال ابن عثيمين:” لا يشرع أن يقبل شيء من الكعبة المشرفة إلا الحجر الأسود فقط، أما الركن اليماني فيستلم ـ يعني يمسح ولا يقبل. والحجر الأسود أفضل شيء أن يمسحه بيده اليمني ويقبله، فإن لم يمكن استلمه وقبل يده، فإن لم يمكن أشار إليه بشيء معه أو بيده، ولكن لا يقبل ما أشار به، لأن هذا الذي أشار به لم يمس الحجر حتى يقبله.
أما الركن اليماني فليس فيه إلا استلام فقط، ويكون الاستلام باليد اليمنى. ونرى بعض الجهال الذين لا يدرون لماذا استلموا هذا الحجر يستلم باليد اليسرى، واليد اليسرى كما قال أهل العلم: لا تستعمل إلا في الأذى، في القذر والنجاسات وما أشبهها، أما أن تعظم بها شعائر الله فلا.
ثم أن بقية الأركان: الركن الشامي، والعراقي، يعني الشمالي الشرقي والشمالي الغربي، هذان الركنان لا يقبلان ولا يمسحان، وذلك لأنهما ليس على قواعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وذلك أن قريشاً لما أرادوا بناء الكعبة، قالوا: لن نبنها إلا بمال طيب، لا نبنها بأموال الربا، وانظر كيف عظم الله بيته حتى على أيدي الكفار
ولما طاف معاوية ـ رضي الله عنه ـ ذات سنة، وكان معه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، جعل معاوية يمسح الأركان الأربعة؛ الحجر الأسود، والركن اليماني، والشمالي، والغربي، فقال له ابن عباس: كيف تمسح الركنين الشماليين، والنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم يمسح إلا الركن اليماني والحجر الأسود.؟ فقال معاوية: إنه ليس شيء من البيت مهجوراً. يعني البيت لا يهجر، كله يحترم ويعظم، فقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وهو أفقه من معاوية قال: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة) (الأحزاب: من الآية21)، وما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسح إلا الركنين اليمانيين، يعني ركن الحجر الأسود والركن اليماني , فقال له معاوية: صدقت ورجع إلى قوله. ” (شرح رياض الصالحين)
قال ابن حجر:” اعترض بعض الملحدين على الحديث الماضي، فقال: كيف سودته خطايا المشركين، ولم تبيضه طاعات أهل التوحيد؟ وأجيب بما قال ابن قتيبة: لو شاء الله لكان ذلك، وإنما أجرى الله العادة بأن السواد يصبغ، ولا ينصبغ على العكس من البياض. وقال المحب الطبري: في بقائه أسود عبرة لمن له بصيرة، فإن الخطايا إذا أثرت في الحجر الصلد فتأثيرها في القلب أشد. قال: وروي عن ابن عباس: إنما غيره بالسواد لئلا ينظر أهل الدنيا إلى زينة الجنة، فإن ثبت، فهذا هو الجواب” (فتح الباري)
قال ابن عثيمين:” في هذا دليل على أن كمال التعبد أن ينقاد الإنسان لله عز وجل، سواء عرف السبب والحكمة في المشروعية أم لم يعرف. فعلى المؤمن إذا قيل له أفعل؛ أن يقول: سمعنا وأطعنا، وإن عرفت الحكمة فهو نور على نور، وإن لم تعرف فالحكمة أمر الله ـ تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ولهذا قال الله في كتابه: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) ” (شرح رياض الصالحين)
قال فيصل آل مبارك:” فيه: بيان السُّنَنِ بالقول، والفعل، وأنَّ الإمام إذا خشِيَ على أحد من فعله فساد اعتقاد أن يبادر إلى بيان الأمر.” (تطريز الرياض)
فيه تجريد الصحابة في اتباع السنة ولو علموا أن الأمر ليس فيه نفع و لا ضر ولكن لمجرد اتباع السنة كما روى مسلم عن رجل قال نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَمْرٍ كَانَ لَنَا نَافِعًا وَطَوَاعِيَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْفَعُ لَنَا.
فيه أن العبادات توقيفية. نقبل الحجر لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبله.
قال ابن أبي الحواري: سمعت أبا سليمان الداراني يقول:” ليس لمن ألهم شيئا من الخيرات أن يعمل به حتى يسمعه من الأثر” (سير أعلام النبلاء)
قال سفيان الثوري:” إن استطعت، ألا تحك رأسك إلا بأثر فافعل” (الجامع لأخلاق الراوي)
قال ابن سيرين:”كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ عَلَى الطَّرِيقِ مَا كَانَ عَلَى الْأَثَرِ” (سنن الدارمي)
قال ابن القيم في المدارج:” انظر هل كان في الصحابة من إذا سمع نص رسول الله صلى الله عليه وسلم عارضه بقياسه، أو ذوقه، أو وجده، أو عقله، أو سياسته؟ وهل كان قط أحد منهم يقدم على نص رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلا أو قياسا، أو ذوقا، أو سياسة، أو تقليد مقلد؟ فلقد أكرم الله أعينهم وصانها أن تنظر إلى وجه من هذا حاله، أو يكون في زمانهم، ولقد حكم عمر بن الخطاب رضي الله عنه على من قدم حكمه على نص الرسول بالسيف، وقال: هذا حكمي فيه، فيالله! كيف لو رأى ما رأينا، وشاهد ما بلينا به من تقديم رأي كل فلان وفلان على قول المعصوم صلى الله عليه وسلم، ومعاداة من اطرح آراءهم، وقدم عليها قول المعصوم؟ فالله المستعان، وهو الموعد، وإليه المرجع.” (مدارج السالكين)