17 نفح الطيب في شرح أحاديث صحيح الترغيب والترهيب
نورس الهاشمي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
(17) – ((17)) [صحيح] وعَنِ ابْنِ عباسٍ؛ أنّ رسول اللهِ – صلى الله عليه وسلم – قالَ فيما يروي عن ربه عزوجل:
«إنَّ اللهَ كَتَبَ الحَسَناتِ والسيئاتِ، ثم بَيَّنَ ذَلِكَ في كتابه؛ فمن هَمَّ بِحسنةٍ فلم يَعْمَلْها؛ كتبها اللهُ عِنْدَهُ حسنةً كاملةً، فَإنْ هَمَّ بِها فَعَمِلَها؛ كتبها اللهُ عنده عشرَ حسناتٍ، إلى سبع مِئةِ ضِعفٍ، إلى أضعافٍ كثيرَةٍ، ومن هَمَّ بسيئةٍ فلم يَعمَلْها، كتبها اللهُ عنده حسنةً كاملةً، وإن هو هَمَّ بها فَعمِلَها؛ كتبها اللهُ سيئةً واحدَةً» -زاد في رواية (1):- «أو محاها، ولا يَهلِكُ [على] الله إلا هالِكٌ».
رواه البخاري ومسلم.
(18) – ((18)) [صحيح] وعن أبي هريرة؟ أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال:
«يقولُ اللهُ -عزوجل -: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئةً فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها بِمثلها، وإن تَركَها من أجلي، فاكتبوها له حسنةً، وإن أراد أن يعمَلَ حَسنةً فلم يَعمَلْها، فاكتبوها له حسنةً، فإن عمِلَها فاكتبوها له بعشرِ أمثالِها، إلى سبع مِئة».
رواه البخاري -واللفظ له- ومسلم.
وفي رواية لمسلم: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -:
«من همَّ بحسنةٍ فلم يعملها كُتِبَتْ له حسنةً، ومن هَمَّ بحسنةٍ فَعَمِلَها كُتِبَتْ له عشرُ حسناتَ، إلى سبع مِائة ضِعفٍ، ومن هَمَّ بسيئةٍ فلم يعَملْها لم تُكتَبْ عليه، وإن عَملَها كُتِبَتْ».
وفي أخرى له قال:
عن محمد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال:
«قال اللهُ عزوجل: إذا تَحَدَّثَ عبْدي بأن يعملَ حسنةً، فأنا أكْتُبُها له حسنةً ما لم يَعْمَلَها، فإذا عَمِلَها فإني أكتُبُها له بعشرِ أمثالها، وإذا تحدَّثَ عبدي بأن يعملَ سيئةً، فأنا أغفرُها له ما لم يعملْها، فإذا عملها، فأنا أكتبها له بِمثلها، وإنْ تَرَكها فاكتبوها له حسنةً، إنما تَرَكها من جَرّاي».
قوله: (من جرّاي) بفتح الجيم وتشديد الراء، أي: من أجلي.
—–
((1)) قال الألباني هذه الرواية من افراد مسلم خلفا لما يوهمه صنيع المؤلف
————
قال ابن دقيق العيد: فانظر يا أخي وفّقنا الله وإياك إلى عظيم لطف الله تعالى وتأمل هذه الألفاظ. وقوله: «عنده» إشارة إلى الاعتناء بها. وقوله: «كاملة» للتأكيد وشدة الاعتناء بها. وقال: في السيئة التي هم بها ثم تركها: «كتبها الله عنه حسنة كاملة» فأكدها بـ «كاملة» وإن عملها كتبها سيئة واحدة فأكد تقليلها بـ «واحدة» ولم يؤكّدها بـ «كاملة» فلله الحمد والمنة سبحانه لا نحصي ثناء عليه. وبالله التوفيق.
شرح الأربعين النووية ((122)).
قال العلامة عطية سالم: و (كتب) هنا بمعنى: أعلم الملائكة كيف تكتب الحسنات والسيئات على بني آدم، وما يكون موقفهم عند عمل العبد فعلًا أو عزمه على العمل، وبين لهم الهم بالفعل والتنفيذ العملي، وعلمهم ماذا تكتب الملائكة على الإنسان في هذا كله.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الحسنات والسيئات) بمعنى: بين منهجًا للملائكة كيف تكتب إذا عمل العبد فعلًا أو عزيمةً. وقيل: المعنى يرجع إلى القضاء والقدر، أي: أن الله قدر الحسنات والسيئات، ولكن تتمة الحديث تؤيد المعنى الأول؛ لأن الحديث يبين ماذا للعبد في عمله وماذا للعبد في عزمه على العمل فهو بيان الإحصاء، وكيفية تسجيل الملائكة على العباد أعمالهم. شرح الاربعين النووية ((2) / (79)).
قال ابن رجب: وفِي المَعْنى أحادِيثُ أُخَرَ مُتَعَدِّدَةٌ. فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ النُّصُوصُ كِتابَةَ الحَسَناتِ، والسَّيِّئاتِ، والهَمُّ بِالحَسَنَةِ والسَّيِّئَةِ، فَهَذِهِ أرْبَعَةُ أنْواعٍ:
النَّوْعُ الأوَّلُ: عَمَلُ الحَسَناتِ، فَتُضاعَفُ الحَسَنَةُ بِعَشْرِ أمْثالِها إلى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إلى أضْعافٍ كَثِيرَةٍ، ومُضاعَفَةُ الحَسَنَةِ بِعَشْرِ أمْثالِها لازِمٌ لِكُلِّ الحَسَناتِ، وقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: {مَن جاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمْثالِها} [الأنعام (160)] [الأنْعامِ: (160)].
وأمّا زِيادَةُ المُضاعَفَةِ عَلى العَشْرِ لِمَن شاءَ اللَّهُ أنْ يُضاعِفَ لَهُ، فَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ واللَّهُ يُضاعِفُ لِمَن يَشاءُ واللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة (261)] [البَقَرَةِ (261)]، فَدَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى أنَّ النَّفَقَةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تُضاعَفُ بِسَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ. وفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قالَ: «جاءَ رَجُلٌ بِناقَةٍ مَخْطُومَةٍ، فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقالَ: لَكَ بِها يَوْمَ القِيامَةِ سَبْعُمِائَةِ ناقَةٍ» …
أنَّ مُضاعَفَةَ الحَسَناتِ زِيادَةٌ عَلى العَشْرِ تَكُونُ بِحَسْبِ حُسْنِ الإسْلامِ، كَما جاءَ ذَلِكَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ وغَيْرِهِ، وتَكُونُ بِحَسْبِ كَمالِ الإخْلاصِ، وبِحَسْبِ فَضْلِ ذَلِكَ العَمَلِ فِي نَفْسِهِ، وبِحَسْبِ الحاجَةِ إلَيْهِ.
وذَكَرْنا مِن حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أنَّ قَوْلَهُ: {مَن جاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمْثالِها} [الأنعام (160)] [الأنْعامِ: (160)] نَزَلَتْ فِي الأعْرابِ، وأنَّ قَوْلَهُ: {وإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها ويُؤْتِ مِن لَدُنْهُ أجْرًا عَظِيمًا} [النساء (40)] [النِّساءِ (40)] نَزَلَتْ فِي المُهاجِرِينَ.
النَّوْعُ الثّانِي: عَمَلُ السَّيِّئاتِ، فَتُكْتَبُ السَّيِّئَةُ بِمِثْلِها، مِن غَيْرِ مُضاعَفَةٍ، كَما قالَ تَعالى: {ومَن جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إلّا مِثْلَها وهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الأنعام (160)] [الأنْعامِ: (160)].
وقَوْلُهُ: «كُتِبَتْ لَهُ سَيِّئَةٌ واحِدَةٌ» إشارَةٌ إلى أنَّها غَيْرُ مُضاعَفَةٍ، ما صَرَّحَ بِهِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ، لَكِنَّ السَّيِّئَةَ تَعْظُمُ أحْيانًا بِشَرَفِ الزَّمانِ أوِ المَكانِ، كَما قالَ تَعالى: {إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ مِنها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أنْفُسَكُمْ} [التوبة (36)] [التَّوْبَةِ (36)] (0)
قالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ فِي هَذِهِ الآيَةِ: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أنْفُسَكُمْ} [التوبة (36)]: فِي كُلِّهِنَّ، ثُمَّ اخْتَصَّ مِن ذَلِكَ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ، فَجَعَلَهُنَّ حَرَمًا، وعَظَّمَ حُرُماتِهِنَّ، وجَعَلَ الذَّنْبَ فِيهِنَّ أعْظَمَ، والعَمَلَ الصّالِحَ والأجْرَ أعْظَمَ. وقالَ قَتادَةُ فِي هَذِهِ الآيَةِ: اعْلَمُوا أنَّ الظُّلْمَ فِي الأشْهُرِ الحُرُمِ أعْظَمُ خَطِيئَةً ووِزْرًا فِيما سِوى ذَلِكَ، وإنْ كانَ الظُّلْمُ فِي كُلِّ حالٍ غَيْرَ طائِلٍ، ولَكِنَّ اللَّهَ تَعالى يُعَظِّمُ مِن أمْرِهِ ما يَشاءُ تَعالى رَبُّنا …
وقَدْ تُضاعَفُ السَّيِّئاتُ بِشَرَفِ فاعِلِها، وقُوَّةِ مَعْرِفَتِهِ بِاللَّهِ، وقُرْبِهِ مِنهُ، فَإنَّ مَن عَصى السُّلْطانَ عَلى بِساطِهِ أعْظَمُ جُرْمًا مِمَّنْ عَصاهُ عَلى بُعْدٍ، ولِهَذا تَوَعَّدَ اللَّهُ خاصَّةَ عِبادِهِ عَلى المَعْصِيَةِ بِمُضاعَفَةِ الجَزاءِ، وإنْ كانَ قَدْ عَصَمَهُمْ مِنها، لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَضْلَهُ عَلَيْهِمْ بِعِصْمَتِهِمْ مِن ذَلِكَ، كَما قالَ تَعالى: {ولَوْلا أنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا – إذًا لَأذَقْناكَ ضِعْفَ الحَياةِ وضِعْفَ المَماتِ} [الإسراء (74) – (75)] [الإسْراءِ: (74) – (75)]. وقالَ تَعالى: {يانِساءَ النَّبِيِّ مَن يَاتِ مِنكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَها العَذابُ ضِعْفَيْنِ وكانَ ذَلِكَ عَلى اللَّهِ يَسِيرًا – ومَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ ورَسُولِهِ وتَعْمَلْ صالِحًا نُؤْتِها أجْرَها مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب (30) – (31)]
وكانَ عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ يَتَأوَّلُ فِي آلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِن بَنِي هاشِمٍ مِثْلَ ذَلِكَ لِقُرْبِهِمْ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
[تعقيب العلامة ابن باز رحمه الله]
قال العلامة ابن باز رحمه الله: أما السيئات فالذي عليه المحققون من أهل العلم أنها لا تضاعف من جهة العدد، ولكن تضاعف من جهة الكيفية، أما العدد فلا؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [الأنعام:160]. فالسيئات لا تضاعف من جهة العدد لا في رمضان ولا في الحرم ولا في غيرهما، بل السيئة بواحدة دائمًا وهذا من فضله وإحسانه.
ولكن سيئة الحرم وسيئة رمضان وسيئة عشر ذي الحجة أعظم في الإثم من حيث الكيفية لا من جهة العدد، فسيئة في مكة أعظم وأكبر وأشد إثما من سيئة في جدة والطائف مثلًا، وسيئة في رمضان وسيئة في عشر ذي الحجة أشد وأعظم من سيئة في رجب أو شعبان ونحو ذلك، فهي تضاعف من جهة الكيفية لا من جهة العدد. مجموع الفتاوى ((16) / (135)).
و ينظر مجموع فتاوى و رسائل الشيخ محمد صالح العثيمين المجلد العشرون – كتاب الصيام.
النَّوْعُ الثّالِثُ: الهَمُّ بِالحَسَناتِ، فَتُكْتَبُ حَسَنَةً كامِلَةً، وإنْ لَمْ يَعْمَلْها، كَما فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ وغَيْرِهِ، وفِي حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ كَما تَقَدَّمَ: «إذا تَحَدَّثَ عَبْدِي بِأنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً، فَأنا أكْتُبُها لَهُ حَسَنَةً»
والظّاهِرُ أنَّ المُرادَ بِالتَّحَدُّثِ حَدِيثُ النَّفْسِ، وهُوَ الهَمُّ، وفِي حَدِيثِ خُرَيمِ بْنِ فاتَكٍ: «مَن هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْها، فَعَلِمَ اللَّهُ مِنهُ أنَّهُ قَدْ أشْعَرَ قَلْبَهُ، وحَرَصَ عَلَيْها، كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً»
وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ بِالهَمِّ هُنا هُوَ العَزْمُ المُصَمِّمُ الَّذِي يُوجَدُ مَعَهُ الحِرْصُ عَلى العَمَلِ، لا مُجَرَّدُ الخَطْرَةِ الَّتِي تَخْطُرُ، ثُمَّ تَنْفَسِخُ مِن غَيْرِ عَزْمٍ ولا تَصْمِيمٍ …
وقالَ أبُو عِمْرانَ الجَوْنِيُّ: يُنادى المَلَكُ: اكْتُبْ لِفُلانٍ كَذا وكَذا، فَيَقُولُ: يا رَبِّ، إنَّهُ لَمْ يَعْمَلْهُ، فَيَقُولُ: إنَّهُ نَواهُ. قالَ زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ: كانَ رَجُلٌ يَطُوفُ عَلى العُلَماءِ، يَقُولُ: مَن يَدُلُّنِي عَلى عَمَلٍ لا أزالُ مِنهُ لِلَّهِ عامِلًا، فَإنِّي لا أُحِبُّ أنْ تَاتِيَ عَلَيَّ ساعَةٌ مِنَ اللَّيْلِ والنَّهارِ إلّا وأنا عامِلٌ لِلَّهِ تَعالى، فَقِيلَ لَهُ: قَدْ وجَدْتَ حاجَتَكَ، فاعْمَلِ الخَيْرَ ما اسْتَطَعْتَ، فَإذا فَتَرْتَ أوْ تَرَكْتَهُ فَهِمَّ بِعَمَلِهِ، فَإنَّ الهامَّ بِعَمَلِ الخَيْرِ كَفاعِلِهِ. ومَتى اقْتَرَنَ بِالنِّيَّةِ قَوْلٌ أوْ سَعْيٌ، تَأكَّدَ الجَزاءُ، والتَحَقَ صاحِبُهُ بِالعامِلِ
النَّوْعُ الرّابِعُ: الهَمُّ بِالسَّيِّئاتِ مِن غَيْرِ عَمَلٍ لَها، فَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّها تُكْتَبُ حَسَنَةً كامِلَةً، وكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ وأنَسٍ وغَيْرِهِما: أنَّها تُكْتَبُ حَسَنَةً، وفِي حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: «إنَّما تَرَكَها مِن جَرّايَ» يَعْنِي: مِن أجْلِي.
وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ مَن قَدَرَ عَلى ما هَمَّ بِهِ مِنَ المَعْصِيَةِ، فَتَرَكَهُ لِلَّهِ تَعالى، وهَذا لا رَيْبَ فِي أنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ بِذَلِكَ حَسَنَةً؛ لِأنَّ تَرْكَهُ المَعْصِيَةَ بِهَذا القَصْدِ عَمَلٌ صالِحٌ. فَأمّا إنْ هَمَّ بِمَعْصِيَةٍ، ثُمَّ تَرَكَ عَمَلَها خَوْفًا مِنَ المَخْلُوقِينَ، أوْ مُراءاةً لَهُمْ، فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ يُعاقَبُ عَلى تَرْكِها بِهَذِهِ النِّيَّةِ، لِأنَّ تَقْدِيمَ خَوْفِ المَخْلُوقِينَ عَلى خَوْفِ اللَّهِ مُحَرَّمٌ. وكَذَلِكَ قَصْدُ الرِّياءَ لِلْمَخْلُوقِينَ مُحَرَّمٌ، فَإذا اقْتَرَنَ بِهِ تَرْكُ المَعْصِيَةِ لِأجْلِهِ، عُوقِبَ عَلى هَذا التَّرْكِ.
وقَدْ خَرَّجَ أبُو نُعَيْمٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، قالَ: يا صاحِبَ الذَّنْبِ، لا تَامَنَنَّ سُوءَ عاقِبَتِهِ، ولَما يَتْبَعُ الذَّنْبَ أعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ إذا عَمِلْتَهُ، وذَكَرَ كَلامًا، وقالَ: وخَوْفُكَ مِنَ الرِّيحِ إذا حَرَّكَتْ سِتْرَ بابِكَ وأنْتَ عَلى الذَّنْبِ، ولا يَضْطَرِبُ فُؤادُكَ مِن نَظَرِ اللَّهِ إلَيْكَ أعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ إذا عَمِلْتَهُ.
وقالَ الفُضَيْلُ بْنُ عِياضٍ: كانُوا يَقُولُونَ: تَرْكُ العَمَلِ لِلنّاسِ رِياءٌ، والعَمَلُ لَهُمْ شِرْكٌ. وأمّا إنْ سَعى فِي حُصُولِها بِما أمْكَنَهُ، ثُمَّ حالَ بَيْنَهُ وبَيْنَها القَدَرُ، فَقَدْ ذَكَرَ جَماعَةٌ أنَّهُ يُعاقَبُ عَلَيْها حِينَئِذٍ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:: «إنَّ اللَّهَ يَتَجاوَزُ لِأُمَّتِي عَمّا حَدَّثَتْ بِهِ أنْفُسَها، ما لَمْ تَكَلَّمْ بِهِ أوْ تَعْمَلْ ومَن سَعى فِي حُصُولِ المَعْصِيَةِ جُهْدَهُ، ثُمَّ عَجَزَ عَنْها، فَقَدْ عَمِلَ»، وكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «إذا التَقى المُسْلِمانِ بِسَيْفَيْهِما، فالقاتِلُ والمَقْتُولُ فِي النّارِ، قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، هَذا القاتِلُ، فَما بالُ المَقْتُولِ؟! قالَ: إنَّهُ كانَ حَرِيصًا عَلى قَتْلِ صاحِبِهِ.» ينظر: جامع العلم و الحكم ((311) – (322)). بتصرف
و قال ابن بطال في شرح صحيح البخاري ((10) / (200)): ولولا هذا التفضل العظيم لم يدخل أحد الجنة؛ لأن السيئات من العباد أكثر من الحسنات، فلطف الله بعباده بأن ضاعف لهم الحسنات، ولم يضاعف عليهم السيئات، وإنما جعل الهموم بالحسنة حسنةً، لأن الهموم بالخير هو فعل القلب بعقد النية على ذلك.
فإن قيل: فكان ينبغى على هذا القول أن يكتب لمن همّ بالشرّ ولم يعمله سيئةً؛ لأن الهموم بالشرّ عمل من أعمال القلب للشرّ. قيل: ليس كما توهمت، ومن كفّ عن فعل الشرّ فقد نسخ اعتقاده للسيئة باعتقاد آخر نوى به الخير وعصى هواه المريد للشرّ، فذلك عمل للقلب من أعمال الخير، فجوزى على ذلك بحسنة، وهذا كقوله (صلى الله عليه وسلم): (على كل مسلم صدقة. قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: يمسك عن الشرّ فإنه صدقة) ذكره فى كتاب الأدب فى باب كل معروف صدقة.
أنواع الهم
خلاصة كلام العلماء في قوله: (هم بحسنة، وهم بسيئة):
الهم همان:
(1) – هم مؤكد ومصمم على الفعل بعزم، ولم يمنع منه إلا العجز، كحديث: اللذين التقيا بسيفيهما، فالقاتل موجود همه وعزمه، والمقتول لا ينقص عنه في الهم والعزيمة، ولكن القاتل ظفر بالقتل، والمقتول عجز، فقبل وقوع القتل هما لا يتفاوتان في الهم والعزيمة بل هما سواء، فكل منهما حريص على قتل الآخر، فوجد الحرص والهم المؤكد من كل منهما.
(2) – هم بمجرد الخطرات، مثل رجل أراد أن يسرق وفكر وعمل كل التخطيط، ولكن لم يرد التنفيذ، وما عنده عزم، بل هو مجرد خاطرة في البال، فقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، نقنع بالقليل، ونترك الذنب، فتأتي الفكرة تراوده مرة أخرى في أن يسرق دكان فلان، ثم يقول: لا، هذا مال زائل، وسيأتي ثم يذهب في طريقه، وما أتى بالحرام سيذهب في الحرام، وسأقنع بما أعطاني الله، فهذا الذي يفكر في مجرد السرقة، ولم يكن عنده التصميم والعزم الأكيد، ولم يذهب بالفعل إلى المحل الذي يريد سرقته، فله حسنة.
إذًا: الهم الذي يصحبه العزم المؤكد شيء، والهم الذي هو مجرد خاطرة في البال شيء آخر، ومن هنا يبحث العلماء في تفسير قوله تعالى في قصة نبي الله يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام مع زوجة الملك: {ولَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وهَمَّ بِها} [يوسف: (24)]، هل كان الهم من الجانبين متساويًا؟ لا والله! قالوا: إن همها كان مع سبق الإصرار والعزم المؤكد؛ لأنها كما قال الله: {وغَلَّقَتِ الأبْوابَ وقالَتْ هَيْتَ لَكَ} [يوسف: (23)] أي: هلم، أو تهيئت لك، فعندها عزم مؤكد وتصميم سابق على ما تريد، ولكن هم يوسف هو أمر خاطر، وهمه بها ليس هو الهم الذي يؤدي إلى الفعل، فرأى برهان ربه، فهمه هو: الخاطر والغريزة الجبلية في الإنسان، لكنه قاومها ودافعها، ولم يسترسل مع خواطر نفسه مثل زوجة العزيز، فإنها لم يمنعها من تنفيذ ما كانت تريده إلا ما قاله الله: {وألْفَيا سَيِّدَها لَدى البابِ} [يوسف: (25)]، فهمها وهم يوسف مختلفان، ولذا قال الشاهد من أهلها: إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين، وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين. شرح الاربعين النووية لعطية سالم ((79) / (7)).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: و «الإرادَةُ الجازِمَةُ» إذا فَعَلَ مَعَها الإنْسانُ ما يَقْدِرُ عَلَيْهِ كانَ فِي الشَّرْعِ بِمَنزِلَةِ الفاعِلِ التّامِّ: لَهُ ثَوابُ الفاعِلِ التّامِّ وعِقابُ الفاعِلِ التّامِّ الَّذِي فَعَلَ جَمِيعَ الفِعْلِ المُرادِ حَتّى يُثابَ ويُعاقَبَ عَلى ما هُوَ خارِجٌ عَنْ مَحَلِّ قُدْرَتِهِ مِثْلَ المُشْتَرِكِينَ والمتعاونين عَلى أفْعالِ البِرِّ ومِنها ما يَتَوَلَّدُ عَنْ فِعْلِ الإنْسانِ كالدّاعِي إلى هُدًى أوْ إلى ضَلالَةٍ والسّانِّ سُنَّةً حَسَنَةً وسُنَّةً سَيِّئَةً كَما ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ: {مَن دَعا إلى هُدًى كانَ لَهُ مِن الأجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَن تَبِعَهُ مِن غَيْرِ أنْ يَنْقُصَ مِن أُجُورِهِمْ شَيْءٌ ومَن دَعا إلى ضَلالَةٍ كانَ عَلَيْهِ مِن الوِزْرِ مِثْلُ أوْزارِ مَن تَبِعَهُ مِن غَيْرِ أنْ يَنْقُصَ مِن أوْزارِهِمْ شَيْءٌ} وثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أنَّهُ قالَ: {مَن سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً كانَ لَهُ أجْرُها وأجْرُ مَن عَمِلَ بِها إلى يَوْمِ القِيامَةِ مِن غَيْرِ أنْ يَنْقُصَ مِن أُجُورِهِمْ شَيْءٌ}.
فالدّاعِي إلى الهُدى وإلى الضَّلالَةِ هُوَ طالِبٌ مُرِيدٌ كامِلُ الطَّلَبِ والإرادَةِ لِما دَعا إلَيْهِ؛ لَكِنَّ قُدْرَتَهُ بِالدُّعاءِ والأمْرِ وقُدْرَةَ الفاعِلِ بِالِاتِّباعِ والقَبُولِ؛ ولِهَذا قَرَنَ اللَّهُ تَعالى فِي كِتابِهِ بَيْنَ الأفْعالِ المُباشِرَةِ والمُتَوَلِّدَةِ فَقالَ: {ذَلِكَ بِأنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ ولا نَصَبٌ ولا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الكُفّارَ ولا يَنالُونَ مِن عَدُوٍّ نَيْلًا إلّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إنّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أجْرَ المُحْسِنِينَ} {ولا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً ولا كَبِيرَةً ولا يَقْطَعُونَ وادِيًا إلّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ}. مجموع الفتاوى ((10) / (722) – (723)). يراجع هذا المبحث كاملا لما فيه من فوائد
من الفوائد الحديث:
– ومن هنا ينبه العلماء على أنه ينبغي للعبد أن يحرص على نية الخير، وعلى تجديد العزم، وعلى فعل الخير دائمًا، يقول ابن رجب في شرحه لهذا الحديث: جاء رجل يطوف في المسجد الحرام، ويقول: من يدلني على عمل أداوم عليه ويرضي ربي؟ فقالوا له: جدد العزم دائمًا على أن تفعل الخير، فإن لك أجر الخير ما دمت ناويًا فعله. شرح الأربعين النووية لعطية سالم (79) / (3)
– تتضاعف الحسنة بحسب ميزان الإيمان في قلب المؤمن. نفس المصدر سابقا
– العزم المصمم الذي يجعل الشخص حريصًا على المعصية، ولم يكف عن المعصية إلا لعارض منعه قهرًا؛ فهذا يأثم. نفس المصدر سابقا ((6) / (79)).
– مضاعفة الحسنات، وأن الأصل أن الحسنة بعشر أمثالها، ولكن قد تزيد إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة.
ومضاعفة ثواب الحسنات تكون بأمور، منها:
الأول: الزمان، مثاله: قول النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأول من ذي الحجة «ما مِن أيّام العَمَلُ الصّالِحُ فِيهِنَّ أحَبُّ إلى اللهِ مِن هَذِهِ الأيّامِ العَشر قالوا: ولاَ الجِهادُ في سَبيلِ اللهِ، قالَ: ولا الجِهادُ في سَبيلِ الله» هذا عظم ثواب العمل بالزمن.
ومن ذلك قوله تعالى: (لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِن ألْفِ شَهْرٍ) (القدر: (3))
الثاني: باعتبار المكان، ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “صَلاَةٌّ في مَسجِدي هَذا أفضَلُ مِن ألفِ صَلاَة فيما سِواهُ إلاَّ مَسجِدِ الكَعبَة»
الثالث: باعتبار العمل فقد قال الله تعالى في الحديث القدسي «ما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أحَبُّ إلَيَّ مَمّا افتَرَضْتُ عَلَيْهِ» فالعمل الواجب أفضل من التطوع.
الرابع: باعتبار العامل قال النبي صلى الله عليه وسلم لخالد بن الوليد وقد وقع بينه وبين عبد الرحمن بن عوف – رضي الله عنهما – ما وقع «لاَ تَسِبوا أصحابي، فوالذي نَفسي بيَدِهِ لَو أنفَقَ أحَدُكُم مِثلَ أُحُدٍ ذَهَبًا ما بَلَغَ مَد أحَدِكُم ولاَ نصيفَهُ».
وهناك وجوه أخرى في المفاضلة تظهر للمتأمل ومتدبر الأدلة.
أيضًا يتفاضل العمل بالإخلاص، فلدينا ثلاثة رجال: رجل نوى بالعمل امتثال أمر الله والتقرب إليه، وآخر نوى بالعمل أنه يؤدي واجبًا، وقد يكون كالعادة، والثالث نوى شيئًا من الرياء أو شيئًا من الدنيا.
فالأكمل فيهم: الأول، ولهذا ينبغي لنا ونحن نقوم بالعبادة أن نستحضر أمر الله بها، ثم نستحضر متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيها، حتى يتحقق لنا الإخلاص والمتابعة ..
أن من هم بالسيئة ولم يعملها كتبها الله حسنة كاملة، وقد مر التفصيل في ذلك أثناء الشرح، فإن هم بها وعملها كتبها الله سيئة واحدة.
ولكن السيئات منها الكبائر والصغائر، كما أن الحسنات منها واجبات وتطوعات ولكلٍ منهما الحكم والثواب المناسب، والله الموفق. شرح الاربعين النووية لابن عثيمين رحمه الله ((374) – (375)).