1647 التعليق على الصحيح المسند
مجموعة ابراهيم البلوشي وأبي عيسى البلوشي وفيصل الشامسي وفيصل البلوشي
وهشام السوري وعبدالله المشجري وخميس العميمي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله. ورفع درجته في عليين وحكام الإمارات ووالديهم ووالدينا)
——–‘——–‘——-
———‘——‘——-
1647 – قال الإمام أحمد رحمه الله: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيْهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ قَالَ: فَقَالَ يَا أُمَّهْ، قَدْ خِفْتُ أَنْ يُهْلِكَنِي كَثْرَةُ مَالِي، أَنَا أَكْثَرُ قُرَيْشٍ مَالًا، قَالَتْ: يَا بُنَيَّ، فَأَنْفِقْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ مِنْ أَصْحَابِي مَنْ لَا يَرَانِي بَعْدَ أَنْ أُفَارِقَهُ» فَخَرَجَ فَلَقِيَ عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ، فَجَاءَ عُمَرُ فَدَخَلَ عَلَيْهَا، فَقَالَ لَهَا: بِاللهِ مِنْهُمْ أَنَا؟ فَقَالَتْ: لَا، وَلَنْ أُبْلِيَ أَحَدًا بَعْدَكَ.
قال الشيخ مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله: هذا حديث صحيح.
(1) أبلي بمعنى أخبر كما في النهاية.
————————–
أولاً: دراسة الحديث رواية:
* وقال البزار: ” رَوَاهُ الأَعْمَشُ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَأَبُو وَائِلٍ رَوَى عَنْهَا ثَلاثَةَ أَحَادِيثَ، وَأَدْخَلَ بَعْضُ النَّاسِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا مَسْرُوقًا.” كشف الأستار 004 (ص: 74)
قال الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة 2982: ” وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين، والمتابع الذي أشار إليه البزار للأعمش، لم أعرفه، وإنما توبع أبو معاوية، فأخرجه أحمد (6/ 307 و 317) وإسحاق بن راهويه في ” مسنده ” (4/ 215 / 1) وأبو يعلى (12/ 436 / 7003) وإبراهيم بن طهمان في ” مشيخته ” (189/ 143) والطبراني أيضا (23/ 319 / 724) من طرق عن الأعمش به. ورواية مسروق، يرويها شريك عن عاصم عن أبي وائل عنه قال: ” دخل عبد الرحمن على أم سلمة، فقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ” الحديث، ليس فيه قصة عبد الرحمن مع المال.
أخرجه أحمد (6/ 312) والطبراني (23/ 317 – 318). قلت: وعاصم – وهو ابن بهدلة – وهو حسن الحديث إذا لم يخالف، وقد خالفه الأعمش، وهو أوثق منه، لكن فيه تدليس، وقد عنعنه، وقد ذكروا عاصما هذا في شيوخه، فإن كان سمعه منه فالحديث حسن، وإلا فهو صحيح كما تقدم”.
* قال الهيثمي: ” رجاله رجال الصحيح ” [مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: (10/ 251)]
* قال محققو المسند: ” إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين، وقد اختُلف فيه على شقيق بن سلمة: فرواه الأعمش- كما في هذه الرواية، والرواية الآتية برقم (26621) و (26694) – عنه، عن أم سَلَمة، به. وخالفه عاصم ابنُ بَهْدَلَة – كما سيرد في الرواية (26549) و (26659) – فرواه عنه، عن مسروق، عن أم سَلَمة. أدخل بينهما مسروقاً، والأعمشُ أحفظُ من عاصم” مسند أحمد ط الرسالة (44/ 93).
ثانياً: دراسة الحديث درايةً:
* قال السندي: ” قوله (وَلَنْ أُبْلِيَ أَحَدًا بَعْدَكَ) من الإبلاء أي: لا أخبر أحدًا بعدك. مسند الإمام أحمد بحاشية السندي (24/ 446).
* قال ابن الأثير في النهاية ” وَلَنْ أُبْلِيَ أَحَدًا بَعْدَكَ ” أَيْ لَا أُخْبِرُ بَعْدَكَ أَحَدًا. وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ أَبْلَيْتُ فُلَانًا يَمِينًا، إِذَا حَلَفْتَ لَهُ بِيَمِينٍ طَيَّبْتَ بِهَا نَفْسَهُ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: أَبْلَى بِمَعْنَى أَخْبَرَ وَفِيهِ: وَتَبْقَى حُثَالَةٌ لَا يُبَالِيهِمُ اللَّهُ بَالَةً وَفِي رِوَايَةٍ لَا يُبَالِي بِهِمُ اللَّهُ بَالَةً، أَيْ لَا يَرْفَعُ لَهُمْ قَدْرًا وَلَا يُقِيمُ لَهُمْ وَزْنًا. وَأَصْلُ بَالَةٍ بَالِيَةٌ، مِثْلُ عَافَاهُ اللَّهُ عَافِيَةً، فَحَذَفُوا الْيَاءَ مِنْهَا تَخْفِيفًا كَمَا حَذَفُوا أَلِفَ لَمْ أُبَلْ، يُقَالُ مَا بَالَيْتُهُ وَمَا بَالَيْتُ بِهِ، أَيْ لَمْ أَكْتَرِثْ بِهِ.
* وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: ” هَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي، وَهَؤُلَاءِ فِي النَّارِ وَلَا أُبَالِي ” حَكَى الْأَزْهَرِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَعْنَاهُ لَا أَكْرَهُ.
(س) وَمِنْهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: ” مَا أُبَالِيهِ بَالَةً “.
(س) وَفِي حَدِيثِ الرَّجُلِ مَعَ عَمَلِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ: ” قَالَ هُوَ أَقَلُّهُمْ بِهِ بَالَةً ” أَيْ مُبَالَاةً.
[هـ] وَفِي حَدِيثِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ” أَمَّا وَابْنُ الْخَطَّابِ حَيٌّ فَلَا، وَلَكِنْ إِذَا كَانَ النَّاسُ بِذِي بِلِيٍّ وَذِي بَلَّى ” وَفِي رِوَايَةٍ بِذِي بِلِيَّانَ، أَيْ إِذَا كَانُوا طَوَائِفَ وَفِرَقًا مِنْ غَيْرِ إِمَامٍ، وَكُلُّ مَنْ بَعُدَ عَنْكَ حَتَّى لَا تَعْرِفَ مَوْضِعَهُ فَهُوَ بِذِي بِلِيٍّ، وَهُوَ مِنْ بَلَّ فِي الْأَرْضِ إِذَا ذَهَبَ، أَرَادَ ضَيَاعَ أُمُورِ النَّاسِ بَعْدَهُ.
* وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: ” كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَعْقِرُونَ عِنْدَ الْقَبْرِ بَقَرَةً أَوْ نَاقَةً أَوْ شَاةً وَيُسَمُّونَ الْعَقِيرَةَ الْبَلِيَّةَ “، كَانَ إِذَا مَاتَ لَهُمْ مَنْ يَعِزُّ عَلَيْهِمْ أَخَذُوا نَاقَةً فَعَقَلُوهَا عِنْدَ قَبْرِهِ فَلَا تُعْلَفُ وَلَا تُسْقَى إِلَى أَنْ تَمُوتَ، وَرُبَّمَا حَفَرُوا لَهَا حَفِيرَةً وَتَرَكُوهَا فِيهَا إِلَى أَنْ تَمُوتَ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ النَّاسَ يُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رُكْبَانًا عَلَى الْبَلَايَا إِذَا عُقِلَتْ مَطَايَاهُمْ عِنْدَ قُبُورِهِمْ، هَذَا عِنْدَ مَنْ كَانَ يُقِرُّ مِنْهُمْ بِالْبَعْثِ.
(هـ) وَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ” لَتَبْتَلُنَّ لَهَا إِمَامًا وَلَتُصَلُّنَّ وُحْدَانًا ” أَيْ لَتَخْتَارُنَّ [1/ 157] هَكَذَا أَوْرَدَهُ الْهَرَوِيُّ فِي هَذَا الْحَرْفِ، وَجَعَلَ أَصْلَهُ مِنَ الِابْتِلَاءِ: الِاخْتِبَارُ، وَغَيْرُهُ ذَكَرَهُ فِي الْبَاءِ وَالتَّاءِ وَاللَّامِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَكَأَنَّهُ أَشْبَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. “.
وفي الحديثِ: الحضُّ على الإنفاقِ والبَذلِ في سَبيلِ اللهِ.
وفيه: فَضيلةٌ ظاهرةٌ لعُمرَ رضِيَ اللهُ عنه.
وفيه معرفة الشر خوف الوقوع فيه.
واختص بعض الصحابة بمعرفة بعض من يتغير حاله وأكثر من يعرف أهل النفاق:
حذيفة صاحب سرِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم:
قال الذهبي في تاريخ الإسلام:
وحُذيْفة أحدُ أصحاب النّبيّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – الأربعة عشر النُّجباء، كان النّبيّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أسرّ إليه أسماء المنافقين، وحفِظ عَنْهُ الْفِتَنَ التي تكون بين يدي السّاعة، وناشده عُمَر بالله: ” أنا من المنافقين؟ ” فقال: اللَّهُمَّ لَا، ولا أزكّي أحدًا بعدك.
===
===
*هذه فصول من كتاب “إغاثة اللهفان” لابن القيم -رحمه الله- فيها كلام بديع يتعلق بمحاسبة النفس، حقيق أن يقرأ:*
فصل
وأما اللوّامة فاختُلِف في اشتقاق هذه اللفظة: هل هو من التلوُّم؛ وهو التلوُّن والتردد؟ أو من اللوم؟ وعبارات السلف تدور على هذين المعنيين.
قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: ما اللوامة؟ قال: “هي النفس اللَّؤوم”
وقال مجاهد: “هي التي تَنْدَم على ما فات، وتلوم عليه”
وقال قتادة: “هي الفاجرة”
وقال عكرمة: “تلوم على الخير والشر”
وقال عطاء عن ابن عباس: “كل نفس تلوم نفسها يوم القيامة: يلوم المحسنُ نفسَه أن لا يكون ازداد إحسانًا، ويلوم المسيءُ نفسَه أن لا يكون رجع عن إساءته”
وقال الحسن: “إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسَه على كل حالاته، يستقصرها في كل ما يفعل؛ فيندم ويلوم نفسه، وإن الفاجر ليَمضي قُدُمًا، لا يُعاتِب نفسَه”
فهذه عباراتُ من ذَهب إلى أنها من اللَّوْم.
وأما من جعلها من التلوُّم فكثرة ترددها وتلؤُمها، وأنها لا تستقر على حال واحدة.
والأول أظهر؛ فإن هذا المعنى لو أُريد لقيل: المتلوِّمة، كما يقال: المتلونة والمترددة، ولكن هو من لوازم القول الأول؛ فإنها لتلُّومِها وعدم ثباتها تفعل الشيء ثم تلوم عليه، فالتلوّم من لوازم اللوم.
والنفس قد تكون تارة أمّارةً، وتارة لوامةً، وتارة مطمئنةً، بل في اليوم الواحد والساعة الواحدة يحصل فيها هذا وهذا وهذا، والحكم للغالب عليها من أحوالها، فكونها مطمئنةً وصفُ مدحٍ لها، وكونها أمّارةً بالسوء وصفُ ذمٍّ لها، وكونها لوامةً ينقسم إلى المدح والذم، بحسب ما تلوم عليه.
والمقصود ذكر علاج مرض القلب باستيلاء النفس الأمارة عليه، وله علاجان: محاسبتها، ومخالفتها.
وهلاك القلب من إهمال محاسبتها، ومن موافقتها واتباع هواها، وفي الحديث الذي رواه أحمد وغيره من حديث شدّاد بن أوس، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “الكَيّس من دان نفسَه، وعمِلَ لما بعد الموت، والعاجز من أتبعَ نفسَه هواها، وتمنّى على الله”، دان نفسه أي: حاسبها
وذكر الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه قال: “حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنوا أنفسكم قبل 1؛ فإنه أهون عليكم في الحساب غدًا أن تحُاسِبوا أنفسَكم اليومَ، وَتَزَيّنوا للعرض الأكبر؛ يومئذٍ تُعرَضون لا تخفى منكم خافية”
وذكر أيضًا عن الحسن، قال: “لا يُلفَى المؤمنُ إلا يُحاسِبُ نفسه: ما أردتُ بكلمتي؟ وماذا أردتُ بأكلتي؟ وماذا أردت بشَرْبتي؟ والفاجر يمضي قُدُمًا، لا يحُاسِب نفسَه”
وقال قتادة في قوله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]: “أضاع نفسَه وغُبِن، مع ذلك تراه حافظًا لمالِه مضيِّعًا لدينه”
وقال الحسن: “إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظٌ من نفسه، وكانت المحاسبة من همَّته”.
وقال ميمون بن مِهران: “لا يكون العبد تقيًّا حتى يكون لنفسه أشدَّ محاسبةً من الشريك لشريكه”، ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوّان، إن لم تحاسبه ذهب بمالك.
وقال ميمون بن مهران أيضًا: “إنّ المتقي أشدُّ محاسبةً لنفسه من سلطان عَاصٍ، ومن شريك شحيح”
وذكر الإمام أحمد عن وهب قال: “مكتوبٌ في حكمة آل داود: حقٌّ على العاقل أن لا يَغفُل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربَّه، وساعة يحُاسب فيها نفسَه، وساعة يخلو فيها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويَصْدُقونه عن نفسه، وساعة يتخلى فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل؛ فإن في هذه الساعة عونًا على تلك الساعات، وإجمامًا للقلوب”
وقد رُوي هذا مرفوعًا من كلام النبي – صلى الله عليه وسلم -، رواه أبو حاتم ابنُ حبان وغيره.
وكان الأحنف بن قيس يجيء إلى المصباح، فيضع إصبعه فيه، ثم يقول: حَسِّ يا حُنَيفُ! ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ”
وكتب عمر بن الخطاب إلى بعض عُمَّاله: “حاسِبْ نفسَك في الرخاء قبل حساب الشدة؛ فإن من حاسب نفسه في الرخاءِ قبل حساب الشدة عاد أمره إلى الرضا والغبطة، ومن ألهْتهُ حياتُه وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والحسرة”
وقال الحسن: “المؤمن قوّامٌ على نفسه، يحُاسِب نفسَه لله، وإنما خفّ الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شقّ الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة، إن المؤمن يَفْجؤه الشيء ويعجبه، فيقول: والله إني لأشتهيك، وإنك لمن حاجتي، ولكن والله ما من صلة إليك، هيهات! حِيْلَ بيني وبينك. ويَفرُط منه الشيء، فيرجع إلى نفسه، فيقول: ما أردتُ إلى هذا ما لي ولهذا؟ والله لا أعود إلى هذا أبدًا. إن المؤمنين قوم أوقفهم القرآن، وحال بينهم وبين هَلَكَتِهم، إن المؤمن أسيرٌ في الدنيا يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئًا حتى يَلقى الله، يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه، وفي بصره، وفي لسانه، وفي جوارحه، مأخوذ عليه في ذلك كله”
وقال مالك بن دينار: “رحم الله عبدًا قال لنفسه: ألستِ صاحبةَ كذا؟ ألستِ صاحبةَ كذا؟! ثم زَمَّها، ثم خَطَمَها، ثم ألزمها كتابَ الله عز وجل، فكان لها قائدًا”
وقد مُثِّلَتِ النفسُ مع صاحبها بالشريك في المال، فكما أنه لا يتم مقصود الشركة من الربح إلا بالمشارطة على ما يفعل الشريك أولًا، ثم بمطالعة ما يعمل، والإشراف عليه ومراقبته ثانيًا، ثم بمحاسبته ثالثًا، ثم يمنعه من الخيانة إن اطلع عليه رابعًا، … فكذلك النفس؛ يُشارطها أولًا على حفظ الجوارح السبعة التي حِفْظُها هو رأس المال؛ والربح بعد ذلك، فمن ليس له رأس مال؛ فكيف يطمع في الربح؟
وهذه الجوارح السبعة -وهي العين، والأذن، والفم، واللسان، والفرج، واليد، والرِّجل- هي مركب العَطَب والنجاة، فمنها عطب مَنْ عطب بإهمالها وعدمِ حفظها، ونجا من نجا بحفظها ومراعاتها، فحِفْظُها أساس كل خير، وإهمالها أساس كل شر؛ قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30]، وقال: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء: 37] وقال: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36] وقال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 53] وَقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18].
فإذا شارطها على حفظ هذه الجوارح انتقل منها إلى مطالعتها والإشراف عليها ومراقبتها، فلا يهُملها، فإنه إن أهملها لحظة وقعتْ (3) في الخيانة ولا بدَّ، فإن تمادى على الإهمال تمادت في الخيانة، حتى يذْهَبَ رأس المال كلُّه، فمتى أحسّ بالنقصان انتقل إلى المحاسبة؛ فحينئذٍ يتبيَّنُ له حقيقة الربح والخسران، فإذا أحس بالخسران وتيقَّنه استدرك منها ما يستدركه الشريك من شريكه، من الرجوع عليه بما مضى، والقيام بالحفظ والمراقبة في المستقبل، ولا مطمع له في فسخ عقد الشركة مع هذا الخائن والاستبدال بغيره؛ فإنه لا بدَّ له منه، فليجتهد في مراقبته ومحاسبته، وليحذر من إهماله.
ويُعينه على هذه المراقبة والمحاسبةِ معرفتُه أنه كما اجتهد فيها اليوم استراح منها غذا إذا صار الحساب إلى غيره، وكلما أهملها اليوم اشتد عليه الحساب غدًا.
ويعينه عليها أيضًا معرفتُه أن ربح هذه التجارة سُكْنى الفردوس، والنظر إلى وجه الرب سبحانه، وخسارتها دخول النار، والحجاب عن الرب تعالي، فإذا تيقن هذا هان عليه الحساب اليوم.
فحقٌّ على الحازم المؤمن بالله واليوم الآخر: أن لا يغفُلَ عن محاسبة نفسه، والتضييق عليها في حركاتها، وسكناتها، وخطراتها، وخطواتها، فكل نَفَسٍ من أنفاس العمر جوهرة نفيسة لا خَطَرَ لها، يمكن أن يُشترى به كنز من الكنوز لا يتناهى نعيمه أبدَ الآباد، فإضاعة هذه الأنفاس، أو اشتراء صاحبها بها ما يَجلِب هلاكَه: خسران عظيم، لا يَسمح بمثله إلا أجهلُ الناس وأحمقهم وأقلهم عقلًا، وإنما يظهر له حقيقة هذا الخسران يوم التغابن: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: 30].
فصل
ومحاسبة النفس نوعان: نوع قبل العمل، ونوع بعده.
فأما النوع الأول: فهو أن يقف عند أول همته وإرادته، ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحانه على تركه.
قال الحسن: “رحم الله عبداً وقف عند همِّه، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر”
وشرح هذا بعضهم، فقال: إذا تحركت النفس لعمل من الأعمال وهَمَّ به العبدُ وقف أولاً، ونظر: هل ذلك العمل مقدور له أم غير مقدور ولا مستطاع؟ فإن لم يكن مقدوراً لم يُقْدِم عليه، وإن كان مقدوراً وقف وقفة أُخرى ونظر: هل فعلُه خير من ترْكه، أو تركه خير من فعله؟
فإن كان الثاني تركه ولم يُقْدِم عليه، وإن كان الأول وقف وقفة ثالثة، ونظر: هل الباعث عليه إرادة وجه الله وثوابه، أم إرادة الجاه والثناء والمال من المخلوق؟ فإن كان الثاني لم يُقدمِ عليه وإن أفضى به إلى مطلوبه؟ لئلا تعتاد النفس الشرك، ويخف عليها العمل لغير الله، فبقدر ما يَخِف عليها ذلك يثقل عليها العمل لله، حتى يصير أثقل شيء عليها، وإن كان الأول وقف وقفة أخرى، ونظر: هل هو مُعانٌ عليه، وله أعوان يساعدونه وينصرونه إذا كان العمل محتاجاً إلى ذلك؛ أم لا؟ فإن لم يكن له أعوان أمسك عنه، كما أمسك النبي – صلى الله عليه وسلم – عن الجهاد بمكة حتى صار له شوكة وأنصار، وإن وجده مُعاناً عليه فليُقْدِم عليه فإنه منصور، ولا يفوت النجاح إلا من فوات خصلةٍ من هذه الخصال، وإلا فمع اجتماعها لا يفوته النجاح.
فهذه أربع مقامات، يحتاج إلى محاسبة نفسه عليها قبل الفعل؛ فلا كلُّ ما يريد العبد فعله يكون مقدوراً له، ولا كلُّ ما يكون مقدوراً له يكون فعله خيراً له من تركه، ولا كلُّ ما يكون فعله خيراً له من تركه [25 ب] يفعله لله، ولاكلُّ ما يفعله لله يكون مُعاناً عليه، فإذا حاسب نفسه على ذلك تبين له ما يُقدم عليه، وما يحُجِم عنه.
فصل
النوع الثاني: محاسبة النفس بعد العمل، وهو ثلاثة أنواع:
أحدها: محاسبتها على طاعة قصّرت فيها من حق الله؛ فلم تُوقِعها على الوجه الذي ينبغي.
وحق الله في الطاعة بمراعاة ستة أمور قد تقدّمت، وهي: الإخلاص في العمل، والنصيحة لله فيه، ومتابعة الرسول فيه، وشهود مشهد الإحسان فيه، وشهود مِنّة الله عليه فيه، وشهود تقصيره فيه بعد ذلك كله. فيحاسب نفسَه: هل وَفَّى هذه المقامات حقَّها؟ وهل أتى بها في هذه الطاعة؟
الثاني: أن يحاسب نفسه على عمل كان تركُه خيراً له من فعله.
الثالث: أن يحاسب نفسه على أمر مباح أو معتاد: لِمَ فعله؟ وهل أراد به الله والدار الآخرة؛ فيكون رابحاً فيه، أو أراد به الدنيا وعاجلها؟ فيخسر ذلك الربح ويفوته الظَّفَرُ به.
فصل
وأضرّ ما عليه: الإهمالُ، وتركُ المحاسبة، والاسترسالُ، وتسهيلُ الأمور، وتمشيتُها؛ فإن هذا يؤول به إلي الهلاك، وهذه حال أهل الغرور: يُغمِض عينيه عن العواقب، ويُمشِّي الحال، ويتكل على العفو؛ فيهمل محاسبة نفسه والنظر في العاقبة، وإذا فعل ذلك سهل عليه مواقعة الذنوب، وأنِس بها، وعَسُر عليه فطامها، ولو حضره رشده لعلم أن الحِمْية أسهل من الفطام وتركِ المألوف والمعتاد.
قال ابن أبي الدنيا: حدثني رجل من قريش ذكر أنه من ولد طلحة بن عبيد الله، قال: كان توبة بن الصمَّة بالرقة، وكان محاسباً لنفسه، فحسب يوماً، فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيامها، فإذا هي أحد وعشرون ألف يوم وخمس مائة يوم، فصرخ، وقال: يا ويلتا! ألقى ربي بأحد وعشرين ألف ذنب؟ كيف وفي كل يوم آلاف من الذنوب؟ ثمَّ خرَّ مغشيَّاً عليه، فإذا هو ميت، فسمعوا قائلاً يقول: “يا لكِ ركضةً إلى الفردوس الأعلى”
وجِمَاع ذلك: أن يحاسب نفسه أولاً على الفرائض، فإن تذكَّر فيها نقصاً تداركه، إما بقضاء أو إصلاح، ثمَّ يحاسبها على المناهي؛ فإن عرف أنه ارتكب منها شيئاً تداركه بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية، ثم يحاسب نفسه على الغفلة، فإن كان قد غفل عما خُلِق له تداركه بالذِّكْر والإقبال على الله، ثمَّ يحاسبها بما تكلم به، أو مشت إليه رجلاه، أو بطشته يداه، أو سمعته أذناه: ماذا أردتِ بهذا؟ ولمن فعلتيه؟ وعلى أي وجه فعلتيه؟ ويعلم أنه لا بد أن يُنشر لكل حركة وكلمة منه ديوانان: ديوان لمن فعلته؟ وديوان: كيف فعلته؟
فالأول: سؤال عن الإخلاص، والثاني: سؤال عن المتابعة، قال تعالي: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92، 93]، وقال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف: 6، 7] وقال تعالى: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} [الأحزاب: 8]
فإذا سُئل الصادقون وحوسبوا على صدقهم فما الظن بالكاذبين؟
قال مقاتل: “يقول تعالي: أخذنا ميثاقهم؛ لكي يسأل الله الصادقين -يعني به النبيين- عن تبليغ الرسالة”.
وقال مجاهد: “يسأل المبلِّغين المؤدِّين عن الرسل”، يعني: هل بلَّغوا عنهم كما يسأل الرسلَ: هل بلَّغوا عن الله؟
والتحقيق: [26 أ]، أن الآية تتناول هذا وهذا، فالصادقون هم الرسل والمبلغون عنهم، فيسأل الرسل عن تبليغ رسالاته، ويسأل المبلِّغين عنهم عن تبليغ ما بلَّغتهم الرسل، ثمَّ يسأل الذين بَلَغتهم الرسالة: ماذا أجابوا المرسلين؟ كما قال تعالي: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 65].
قال قتادة: كلمتان يُسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ فيُسأل عن المعبود وعن العبادة
وقال تعالي: {ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8].
قال محمد بن جرير: “يقول تعالى: ثم ليسألنكم الله عز وجل عن النعيم الذي كنتم فيه في الدنيا: ماذا عملتم فيه؟ ومن أين وصلتم إليه؟ وفيمَ أصبتموه؟ وماذا عملتم به؟ ”
وقال قتادة: “إن الله سائل كل عبد عما استودعه من نعمته وحقه”
والنعيم المسؤول عنه نوعان:
نوع أُخذ من حِلِّه وصُرف في حقه، فيُسأل عن شُكره.
ونوع أُخذ بغير حِلِّه، وصُرف في غير حقه، فيُسأل عن مُسْتخرجه ومصرفه.
فإذا كان العبد مسؤولاً، ومحاسباً على كل شيء، حتى على سمعه وبصره وقلبه، كما قال تعالي: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء: 36] فهو حقيق أن يحاسب نفسه قبل أن يُناقش الحساب.
وقد دلَّ على وجوب محاسبة النفس قوله تعالي: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَد} [الحشر: 18]، يقول تعالي: لينظر أحدكم ما قدم ليوم القيامة من الأعمال: من الصالحات التي تُنجِيه، أم من السيئات التي تُوبِقه؟
قال قتادة: “ما زال ربُّكم يُقرِّب الساعة حتى جعلها كغدٍ”
والمقصود أن صلاح القلب بمحاسبة النفس، وفساده بإهمالها والاسترسال معها.
فصل
وفي محاسبة النفس عدة مصالح:
منها: الاطلاع على عيوبها، ومن لم يطلع على عيب نفسه لم يمكنه إزالته، فإذا اطلع على عيبها مَقَتها في ذات الله.
وقد روى الإمام أحمد عن أبي الدرداء، قال: “لا يفقه الرجل كلَّ الفقه حتى يَمقُت الناسَ في جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه؛ فيكون لها أشدَّ مقتاً”
وقال مُطَرِّف بن عبد الله: “لولا ما أعلم من نفسي لقَليتُ الناس”
وقال مُطرِّفٌ في دعائه بعرفة: “اللهم لا تَرُدَّ الناس لأجلي”
وقال بكرُ بن عبد الله المُزني: “لما نظرت إلى أهل عرفات ظننت أنهم قد غُفِر لهم، لولا أني كنت فيهم”
وقال أيوب السختياني: “إذا ذُكر الصالحون كنتُ عنهم بمعْزِل”
ولما احتُضِر سفيان الثوري دخل عليه أبو الأشهب وحماد بن سلمة، فقال له حماد: يا أبا عبد الله” أليس قد أمنت مما كنت تخافه؟ وتقدمُ على مَنْ ترجوه، وهو أرحم الراحمين؟ فقال: يا أبا سلمة! أتطمع لمثلي أن ينجو من النار؟ قال: إي والله، إني لأرجو ذلك.
وذكر ابن زيد عن مسلم بن سعيد الواسطي، قال: أخبرني حمّاد بن جعفر بن زيد، أن أباه أخبره، قال: خرجنا في غزوة إلي كابُل، وفي الجيش صِلة بن أشيَم، فنزل الناس عند العتمة، فصلّوا ثم اضطجع، فقلت: لأرمُقَنّ عمله، فالتمس غفلة الناس، حتى إذا قلت: هدأت العيون، وثب فدخل غيضةً قريباً منا، فدخلتُ على إثره، فتوضأ، ثم قام يصلي، وجاء أسدٌ حتى دنا منه، فصعدت في شجرةٍ، فتراهُ التفت أو عدّهُ جرواً! فلما سجد قلت: الآن يفترسه، فجلس ثم سلم، ثم قال: أيها السبع! اطلب الرزق من مكان آخر، فولىّ وإن له لزئيراً، أقول: تصدّع الجبال منه، قال: فما زال كذلك يصلي؛ حتى [26 ب] كان عند الصبح جلس، فحمد الله بمحامد لم أسمع بمثلها، ثم قال: اللهم إني أسألك أن تجُيرني من النار، ومثلي يجترئ أن يسألك الجنة، قال: ثم رجع وأصبح كأنه بات على الحشايا، وأصبحتُ وبي من الفترة شيءٌ الله به عالم.
وقال يونس بن عبيد: “إني لأجد مئة خصلة من خصال الخير؛ ما أعلم أن في نفسي منها واحدةً.
وقال محمد بن واسع: “لو كان للذنوب ريح ما قَدَرَ أحد أن يجلس إليّ”
وذكر ابن أبي الدنيا عن الجَلْدِ بن أيوب، قال: “كان راهب في بني إسرائيل في صومعة منذ ستين سنة، فأُتي في منامه، فقيل له: إن فلاناً الإسكاف خير منك – ليلة بعد ليلة – فأتى الإسكاف، فسأله عن عمله، فقال: إني رجل لا يكاد يمر بي أحد إلا ظننته أنه في الجنة وأنا في النار، ففُضِّل على الراهب بإزرائه على نفسه”
وذُكر داود الطائي عند بعض الأمراء، فأثنوا عليه، فقال: “لو يعلم الناس بعض ما نحن عليه ما ذلّ لنا لسانٌ بذكر خير أبداً”
وقال أبو حفص: من لم يَتَّهِمْ نفسه على دوام الأوقات، ولم يخالفها في جميع الأحوال، ولم يجرَّها إلى مكروهها في سائر أوقاته، كان مغروراً، ومن نظر إليها باستحسان شيء منها فقد أهلكها”
فالنفس داعية إلى المهالك، مُعينةٌ للأعداء، طامحة إلى كل قبيح، متَّبعة لكل سوء؛ فهي تجري بطبعها في ميدان المخالفة.
فالنعمة التي لا خَطَر لها: الخروج منها، والتخلصُ من رِقِّها، فإنها أعظم حجاب بين العبد وبين الله، وأعرفُ الناس بها أشدُّهم إزراءً عليها، ومقتاً لها.
قال ابن أبي حاتم في “تفسيره”: حدثنا علي بن الحسن، حدثنا المُقَدَّمي، حدثنا عامر بن صالح عن أبيه، عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب قال: اللهم اغفر لي ظلمي وكفري، فقال قائل: يا أمير المؤمنين! هذا الظلم، فما بال الكفر؟ قال: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}.
قال: وحدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود، عن الصلت بن دينار، حدثنا بقية بن صُهبان الهُنائي، قال: سألت عائشة عن قول الله عز وجل: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} الآية [فاطر: 32] فقالت: يا بني! هؤلاء في الجنة، أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، شهد له رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالجنة والرزق، وأما المقتصد فمن تبع أثره من أصحابه حتى لحق به، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم”؛ فجعلت نفسها معنا.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، حدثنا شَرِيكٌ، عن عاصم، عن أبي وائل عن مسروق، قال: دخل عبد الرحمن على أم سلمة، فقالت: سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: “إِنَّ مِنْ أصْحابي لمَنْ لا يَرَانِى بَعْدَ أَنْ أَمُوتَ أَبداً”، فخرج عبد الرّحمن من عندها مذعوراً، حتّى دخل على عمر، فقال له: اسمع ما تقول أمّك! فقام عمر حتّى أتاها؛ فدخل عليها فسألها ثمّ قال: أنشدك بالله، أمنهم أنا؟ قالت: لا، ولن أبرّئ بعدك أحدًا.
فسمعت شيخنا يقول: إنما أرادت أني لا أفتح عليَّ هذا الباب، ولم تُرِدْ أنك وحدك البريء من ذلك دون سائر الصحابة.
ومَقْتُ النفس في ذات الله من صفات الصدِّيقين، ويدنو العبد به من الله سبحانه في لحظة واحدة أضعافَ أضعافِ ما يدنو بالعمل.
ذكر ابن أبي الدنيا عن مالك بن دينار، قال: “إن قوماً من بني إسرائيل كانوا في مسجد لهم في يوم عيد، فجاء شاب حتى قام على باب المسجد، فقال: ليس مثلي يدخل معكم، أنا صاحب كذا، أنا صاحب كذا؛ يزري على نفسه، فأوحى الله إلى نبيهم أنّ فلاناً صدِّيق”
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن الحسن بن أَتَش، حدثنا منذر، عن وهب: “أن رجلاً عبَدَ الله عز وجل سبعين سنة، ثم خرج يوماً، فقلَّلَ عمله، وشكا إلى الله منه، واعترف بذنبه، فأتاه آتٍ من الله فقال: إن مجلسك هذا أحب إليّ من عملك فيما مضى من عمرك”.
قال أحمد: وحدثنا عبد الصمد، حدثنا أبو هلال، حدثنا قتادة، قال: قال عيسى ابن مريم: “سلوني، فإني ليِّن القلب، صغير عند نفسي”
وذكر أحمد أيضاً عن عبد الله بن رباح الأنصاري، قال: “كان داود ينظر أَغمص حلقةٍ في بني إسرائيل، فيجلس بين ظهرانيهم، ثم يقول: يا ربِّ! مسكين بين ظهراني مساكين”
وذُكر عن عمران بن مُسْلِم القصير، قال: قال موسى: “يا رب! أين أبغيك! قال: ابْغِني عند المنكسرة قلوبهُم؛ فإني أدنو منهم كل يوم باعاً، ولولا ذلك انهدموا”
وفي كتاب “الزهد” للإمام أحمد: “أن رجلاً من بني إسرائيل تعبَّد ستين سنة في طلب حاجة، فلم يظفر بها، فقال في نفسه: والله لو كان فيكَ خير لظفرتَ بحاجتك، فأُتي في منامه، فقيل له: أرأيت إزراءك على نفسِك تلك الساعة؟ فإنه خير من عبادتك تلك السنين”.
ومن فوائد محاسبة النفس: أنه يعرف بذلك حق الله عليه. ومن لم يعرف حق الله عليه فإن عبادته لا تكاد تُجدي عليه، وهي قليلة المنفعة جدًّا.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، حدثنا جرير بن حازم، عن وهب، قال: “بلغني أن نبي الله موسى – صلى الله عليه وسلم – مرَّ برجل يدعو ويتضرع، فقال: يا رب! ارحمه فإني قد رحمته، فأوحى الله إليه: لو دعاني حتى ينقطع قواه ما استجبتُ له حتى ينظر في حقِّي عليه”
فمِن أنفع ما للقلب: النظر في حق الله على العبد؛ فإن ذلك يُورِثه مقتَ نفسِه، والإزراء عليها، ويخُلِّصه من العُجب ورؤية العمل، ويفتح له باب الخضوع والذل والانكسار بين يدي ربه، واليأس من نفسه، وأن النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته؛ فإن من حقه أن يُطاع ولا يُعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر.
فمَن نظر في هذا الحق الذي لربه عليه عَلِم عِلْمَ اليقين أنه غير مؤدٍّ له كما ينبغي، وأنه لا يسعه إلا العفو والمغفرة، وأنه إن أُحيل على عمله هلك.
فهذا محل نظر أهل المعرفة بالله وبنفوسهم، وهذا الذي أيأسَهم من أنفسهم، وعلَّق رجاءهم كله بعفو الله ورحمته.
وإذا تأمَّلت حال أكثر الناس وجدتهم بضد ذلك، ينظرون في حقهم على الله، ولا ينظرون في حق الله عليهم، ومن ها هنا انقطعوا عن الله، وحُجبت قلوبهم عن معرفته ومحبته، والشوق إلي لقائه، والتنعم بذكره، وهذا غاية جهل الإنسان بربه وبنفسه.
فمحاسبة النفس هو نظر العبد في حق الله عليه أولاً، ثم نظره هل قام به كما ينبغي ثانياً؟ وأفضل الفكر الفكرُ في ذلك؛ فإنه يسيِّر القلب إلى الله، ويطرحه بين يديه ذليلاً خاضعاً، منكسراً كَسْراً فيه جَبْرُهُ، ومفتقراً فقراً فيه غناه، وذليلاً ذلَّاً فيه عِزُّه، ولو عمل من الأعمال ما عساه أن يعمل، فإذا فاته هذا فالذي فاته من البر أفضل من الذي أتى به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن القاسم: حدثنا صالح المُرِّيُّ، عن أبي عمران الجَوْني، عن أبي الجَلد: أن الله تعالي أوحى إلي موسى: “إذا ذكرتني فاذكرني وأنت تنتفض أعضاؤك، وكن عند ذكري خاشعاً مطمئنًّا, وإذا ذكرتني فاجعل لسانك من وراء قلبك، وإذا قمت بين يديّ فقم مقام العبد الحقير الذليل، وذُمَّ [27 ب] نفسك فهي أولى بالذم، وناجِني حين تناجيني بقلب وَجِلٍ ولسان صادق”.
ومن فوائد نظر العبد في حق الله عليه: أنه لا يتركه ذلك يُدِلُّ بعمل أصلاً، كائناً ما كان، ومَنْ أدلّ بعمله لم يصعد إلى الله، كما ذكر الإمام أحمد عن بعض أهل العلم بالله، أنه قال له رجل: إني لأقوم في صلاتي؛ فأبكي حتى يكاد ينبت البَقْل من دموعي، فقال له: إنك إن تضحك وأنت تعترف لله بخطيئتك، خيرٌ من أن تبكي وأنت تُدِلُّ بعملك؛ فإن صلاة المُدلِّ لا تصعد فوقه، فقال له: أوصني، قال: عليك بالزهد في الدنيا، وأن لا تنازعها أهلَها، وأن تكون كالنّحلة، إن أكلت أكلت طيبا، وإن وضعت وضعت طيباً، وإن وقعت على عود لم تضرَّه ولم تكسره، وأوصيك بالنصح لله عز وجل نُصْح الكلب لأهله؛ فإنهم يجُيعونه ويطردونه؛ ويأبى إلا أن يحوطَهم وينصحهم”
ومن ها هنا أخذ الشاطبي قوله:
وَقَدْ قِيلَ كُنْ كالكَلْبِ يُقْصِيهِ أَهْلُهُ … وَلا يَاتلِي في نُصْحِهِمْ مُتبَذِّلَا
وقال الإمام أحمد: حدثنا سيّار، حدثنا جعفر، حدثنا الجريرى، قال: “بلغني أن رجلاً من بني إسرائيل كانت له إلى الله تعالى حاجة، فتعبد واجتهد، ثم طلب إلى الله حاجته، فلم ير نجاحاً، فبات ليلةً مُزرياً على نفسه، وقال: يا نفس! مالك لا تُقضَى حاجتك؟ فبات محزوناً قد أزرى على نفسه، وألزم الملامةَ نفسه، فقال: أما والله ما من قِبَل ربي أُتِيتُ، ولكن من قِبَل نفسي أُتيتُ، فبات ليلةً مزرياً على نفسها، وألزم الملامة نفسه، فقُضيت حاجته”.