1561 التعليق على الصحيح المسند
مجموعة ابراهيم البلوشي وأبي عيسى البلوشي وفيصل الشامسي وفيصل البلوشي
وهشام السوري وعبدالله المشجري
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان رحمه الله ووالديهم)
————
الصحيح المسند
1561 – قال الإمام أحمد رحمه الله: ثنا حسين بن على عن زائدة عن عبد العزيز بن رفيع عن عكرمة وبن أبى مليكة عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر بالقدر فيأخذ العرق فيصيب منه ثم يصلي ولم يتوضأ ولم يمس ماء.
قال الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله: هذا حديث صحيح.
————————
أولاً: ما يتعلق بسند الحديث:
* صحح الحديث الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 3028 وقال رحمه الله: وهذا إسناد صحيح غاية، وعلى شرط الشيخين، والعجب كيف لم يخرجه الحاكم مستدركاً إياه على الشيخين؟!.
وللحديث بهذه الرواية شاهد من حديث ابن عباس قال: ” رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يأكل عرقاً من شاة، ثم صلى ولم يتمضمض ولم يمس ماءً “.
أخرجه ابن حبان (2/ 236/115)، وأحمد (1/ 253 و 281) من طريقين عن محمد بن عمرو بن عطاء عنه.
ومحمد هذا- وهو العامري القرشي- ثقة من رجال الشيخين، وكذلك سائر الرواة، فالسند صحيح، والحمد الله.
وهو في “الصحيحين ” وغيرهما من طرق أخرى عن ابن عباس مختصراً دون
ذكر المضمضة، وهو مخرج في “صحيح أبي داود” (182 و 184 و5 18).
* قال محققو المسند (42/ 168): إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين غير عكرمة، وهو مولى ابن عباس، فقد روى له مسلم مقرونا، ثم أنه لم يسمع هذا الحديث من عائشة، كما هو ظاهر إسناد مكرره رقم (26297)، وقد توبع.
ثانياً: ما يتعلق بمتن الحديث وفقهه:
* قال السندي: قولها: فيأخذ العرق، بفتح فسكون، أي: العظم الذي بقي عليه شيء من اللحم.
* في هذا الحديث دليل على ترك الوضوء مما مست النار.
وقد سبق بحثه في مجموعة السلام في مختلف الحديث برقم 25 أنقله هنا كما هو:
مختلف الحديث: رقـ ((25)) ـــــم.
-كيف التوفيق بين حديث ميمونة –
أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أكَل عِندَها كَتِفًا، ثم صلَّى ولم يتوَضَّا.
البخاري 1/ 373 حديث (210) ومسلم 1/ 274 (356).أحمد في المسند 6/ 331
وحديث: [توضَّؤوا ممَّا مسَّتِ النَّارُ]
رواه مسلم (353). أحمد في المسند 6/ 321.
،،،،،،،،،،،
يمكن الجمع بين الحديثين بالآتي:
1. النسخ ..
قال ابن رشد في بداية المجتهد: اختلف الصدر الأول في إيجاب الوضوء من أكل ما مسته النار لاختلاف الآثار الواردة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم و اتفق جمهور فقهاء الأمصار بعد الصدر الأول إذ صح عندهم أنه عمل الخلفاء الأربعة، و لما ورد في حديث جابر أنه قال كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار.
2. القول باستحباب الوضوء لوجود الأمر النبوي و وجود ما يخالفه من الفعل النبوي فيصرف الأمر الذي أصله للوجوب إلى الإستحباب للقرينة المذكورة.
3. القول بوجوب الوضوء للقاعدة التي دائما ما يذكرها الشوكاني رحمه الله تعالى في النيل: أن فعله صلى الله عليه وسلم لا يعارض القول الخاص بالأمة و هذا يقال ان لم نقل بثبوت حديث جابر و أنه دليل على النسخ.
المصادر:
بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد.
نيل الأوطار الشوكاني رحمه الله في باب:
باب الوضوء من لحوم الإبل.
باب أستحباب الوضوء مما مسته النار و الرخصة في تركه.
——————
من كتاب الاستذكار لابن عبدالبر:
وذكر حديث عائشة في الوضوء مما مست النار، ونقل عن الزهري أنه لو كان منسوخا ما خفي على عائشة لكن نقل عن أم سلمه عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه وأنها ناولت النبي صلى الله عليه وسلم لحما أو كتفا ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ
وذكر حديث -عن ابن عباس قال أكل النبي صلى الله عليه وسلم كتفا ثم مسح يديه بمسح كان تحته ثم قام إلى الصلاة فصلى).
قال ابن عبدالبر بعد أن نقل أحاديث وآثار عن الخلفاء في ترك الوضوء مما مست النار: فأعلم الناظر في موطئة – يعني مالكا – أن عمل الخلفاء الراشدين بترك الوضوء مما مست النار دليل أنه منسوخ.
،،،،،،،،،،،،،،
قال ابن حجر رحمه الله في الفتح: قال النووي كان الخلاف فيه معروفا بين الصحابة والتابعين ثم استقر الإجماع على أنه لا وضوء مما مست النار الا ما تقدم استثناؤه من لحوم الإبل وجمع الخطابي بوجه آخر وهو أن أحاديث الأمر محمولة على الاستحباب لا على الوجوب والله أعلم …
وقال النووي رحمه الله في شرح مسلم: وقد اختلف العلماء في قوله صلى الله عليه و سلم توضؤوا مما مست النار فذهب جماهير العلماء من السلف والخلف إلى انه لاينتقض الوضوء بأكل ما مسته النار ممن ذهب إليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن ابي طالب وعبد الله بن مسعود وأبو الدرداء وبن عباس وعبد الله بن عمر وأنس بن مالك وجابر بن سمرة وزيد بن ثابت وأبو موسى وأبو هريرة وابي بن كعب وأبو طلحة وعامر بن ربيعة وأبو أمامة وعائشة رضي الله عنهم أجمعين وهؤلاء كلهم صحابة وذهب إليه جماهير التابعين وهو مذهب مالك وابي حنيفة والشافعي وأحمد واسحاق بن راهويه ويحيى بن يحيى وأبي ثور وابي خيثمة رحمهم الله وذهب طائفة إلى وجوب الوضوء الشرعي وضوء الصلاة بأكل ما مسته النار وهو مروي عن عمر بن عبد العزيز والحسن البصري والزهري وابي قلابة وأبي مجلز واحتج هؤلاء بحديث توضؤوا مما مسته النار واحتج الجمهور بالاحاديث الواردة بترك الوضوء مما مسته النار وقد ذكر مسلم هنا منها جملة وباقيها في كتب أئمة الحديث المشهورة وأجابوا عن حديث الوضوء مما مست النار بجوابين أحدهما أنه منسوخ بحديث جابر رضي الله عنه قال كان آخر الامرين من رسول الله صلى الله عليه و سلم ترك الوضوء مما مست النار وهو حديث صحيح رواه أبو داود والنسائي وغيرهما من أهل السنن باسانيدهم الصحيحة والجواب الثاني أن المراد بالوضوء غسل الفم والكفين ثم أن هذا الخلاف الذي حكيناه كان في الصدر الاول ثم أجمع العلماء بعد ذلك على أنه لايجب الوضوء بأكل ما مسته النار والله أعلم ..
قال ابن باز رحمه الله في فتاوي نور على الدرب؛
الحاصل أن ترك الوضوء مما مست النار أمرٌ عام يعم الإبل والبقر والغنم وغير ذلك فجاءت أحاديث لحم الإبل تستثني يدل على أنه ما أراده – صلى الله عليه وسلم – إنما أراد البقر والغنم والخيول ونحو ذلك، أما الإبل فهو باقي ولهذا جمع بينهما، لما سئل عن لحم الإبل قال توضأ، وعن لحم الغنم قال إن شئت، فدل هذا على أنه ما جاء نسخ وجوب الوضوء مما مست النار.
==============
جواب أبي صالح:
حديث (توضئوا مما مست النار) يشبه أن يكون منسوخا؛ فعن محمد بن عمرو بن عطاء قال: كنت مع ابن عباس رضي الله عنهما في بيت ميمونة زوج النبي – صلى الله عليه وسلم- في المسجد فجعل يعجب ممن يزعم أن الوضوء مما مست النار، ويضرب فيه الأمثال ويقول إنا نستحم بالماء المسخن ونتوضأ به، وندهن بالدهن المطبوخ، وذكر أشياء مما يصيب الناس مما قد مست النار، ثم قال: لقد رأيتني في هذا البيت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد توضأ، ثم لبس ثيابه، فجاءه المؤذن، فخرج إلى الص ة، حتى إذا كان في الحجرة خارجا من البيت، لقيته هدية عضو من شاة، فأكل منها لقمة، أو لقمتين ثم صلى وما مس ماء.
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى من طريق أحمد بن عبد الحميد الحارثي ثنا أبو أسامة عن الوليد بن كثير به، ورواه مسلم في الصحيح عن أبي كريب عن أبي أسامة ولم يسق لفظه قال البيهقي عقبه: وفيه د لة على أن ابن عباس شهد ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم نقل عن الشافعي رحمه الله تعالى قوله
وإنما قلنا لا يتوضأ منه لأنه عندنا منسوخ ألا ترى أن عبد الله بن عباس وإنما صحبه بعد الفتح يروي عنه أنه رآه-
قلت: وقال الإمام مسلم359 في هذا الحديث (وفيه أن ابن عباس شهد ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم- يأكل من كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ)، وهذا عندنا من أبين الدلالات على أن الوضوء منه منسوخ، أو أن أمره بالوضوء منه بالغسل للتنظيف، والثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يتوضأ منه، ثم عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن عباس، وعامر بن ربيعة، وأبي بن كعب، وأبي طلحة كل هؤلاء لم يتوضئوا منه. انتهى
قلت إسناد البيهقي صحيح فيه أحمد بن عبد الحميد الحارثي وثقه الدارقطني كما في سؤالات الحاكم له، وأورده ابن حبان في ثقاته، وذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء ووصفه بالمحدث الصدوق أبو جعفر … توفي سنة تسع وستين ومائتين.
قلت تابعه على أصله سفيان عن عمرو أخبرني من سمع ابن عباس، وعبد الله بن عمرو القاري يماريه يقول أخبرني أبو أيوب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال الوضوء مما مست النار. قال ابن عباس أتوضأ من الدهن! أتوضأ من الحميم! والله ما حلت النار شيئا ولا حرمته. انتهى
أخرجه أبو يعلى في مسنده قال البوصيري في الاتحاف هذا إسناد ضعيف، لجهالة التابعي. قلت يصلح في المتابعات
ونحو هذه المناظرة جرت بين أبي هريرة وابن عباس- وفيها فائدة لا مجال لذكرها الآن- أخرجها الترمذي وحسنها الألباني
ثم قال الترمذي والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والتابعين، ومن بعدهم مثل سفيان الثوري، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحق، رأوا ترك الوضوء مما مست النار، وهذا آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأن هذا الحديث ناسخ للحديث الأول حديث الوضوء مما مست النار
قلت أما الوضوء من لحوم الإبل فلعلة أخرى غير كونها مستها النار فتأمل.
—————–
نقل صاحب كتاب منحة الملك: القول بالنسخ، والاستحباب ورجح الثاني؛ لأن فيه الجمع بين الأدلة.
وراجع منحة الملك الجليل شرح صحيح محمد بن إسماعيل (1/ 478)
وسئل الألباني فقال: جابر حينما روى كان آخر الأمرين من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ترك الوضوء مما مست النار، هذا كلام عام،، لكن الرسول – عليه السلام – فرق بين لحوم الإبل وبين لحوم الغنم، وفي ذلك حديثان اثنان: حديث جابر بن سمرة في صحيح مسلم، وحديث البراء بن عازب في مسند الإمام أحمد وغيره، وفيه أنتوضأ من لحم الغنم، قال: (إن شئتم) ولحم الإبل قال: (توضئوا) انتهى
—————
قال الزرقاني: وقد أومأ مسلم إلى النسخ فروى أولا أحاديث زيد وأبي هريرة وعائشة ثم عقبها بحديث ابن عباس. انتهى
تنبيه: حديث جابر كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما غيرت النار
قال أبو داود في السنن 192:هذا اختصار من الحديث الأول.
يقصد حديث جابر: (قرَّبتُ للنبي صلى الله عليه وسلم خبزا ولحما فأكل ثم دعا بوضوء فتوضأ به ثم صلى الظهر ثم دعا بفضل طعامه فأكل ثم قام إلى الصلاة ولم يتوضأ).
=======
وهذه فتوى لابن تيمية: في أن الوضوء من لحوم الإبل باق:
قد ثبت في صحيح مسلم: عن جابر بن سمرة – رضي الله عنه – «أن رجلا سأل النبي – صلى الله عليه وسلم -: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ. قال: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم توضأ من لحوم الإبل قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم. قال: أصلي في مبارك الإبل؟ قال: لا»، وثبت ذلك في السنن من حديث البراء بن عازب. قال أحمد: فيه حديثان صحيحان، حديث البراء، وحديث جابر بن سمرة.
وله شواهد من وجوه أخر. منها: ما رواه ابن ماجه عن عبد الله بن عمر: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «توضئوا من لحوم الغنم، وصلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في معاطن الإبل». وروي ذلك من غير وجه، وهذا باتفاق أهل المعرفة بالحديث أصح وأبعد عن المعارض من أحاديث مس الذكر، وأحاديث القهقهة
، وقد قال بعض الناس: إنه منسوخ بقول جابر «كان آخر الأمرين من النبي – صلى الله عليه وسلم – ترك الوضوء مما مست النار»، لم يفرق بين لحم الإبل والغنم، إذ كلاهما في مس النار سواء، فلما فرق بينهما فأمر بالوضوء من هذا، وخير في الوضوء من الآخر، علم بطلان هذا التعليل. وإذا لم تكن العلة مس النار فنسخ التوضؤ من ذلك الأمر، لا يوجب نسخ التوضؤ من جهة أخرى، بل يقال: كانت لحوم الإبل أولا يتوضأ منها كما يتوضأ من لحوم الغنم وغيرها، ثم نسخ هذا الأمر العام المشترك.
فأما ما يختص به لحم الإبل، فلو كان قبل النسخ لم يكن منسوخا، فكيف وذلك غير معلوم؟ يؤيد ذلك ” الوجه الثاني ” وهو أن الحديث كان بعد نسخ الوضوء مما مست النار، فإنه يبين فيه أنه لا يجب الوضوء من لحوم الغنم، وقد أمر فيه بالوضوء من لحوم الإبل، فعلم أن الأمر بذلك بعد النسخ. الثالث: أنه فرق بينهما في الوضوء وفي الصلاة في المعاطن أيضا، وهذا التفريق ثابت محكم لم يأت عنه نص بالتسوية بينهما في الوضوء والصلاة، فدعوى النسخ باطل، بل عمل المسلمين بهذا الحديث في الصلاة يوجب العمل فيه بالوضوء، إذ لا فرق بينهما.
الرابع: أنه أمر بالوضوء من لحم الإبل، وذلك يقتضي الوضوء منه نيا ومطبوخا، وذلك يمنع كونه منسوخا.
الخامس: أنه لو أتى عن النبي – صلى الله عليه وسلم – نص عام بقوله: «لا وضوء مما مست النار»، لم يجز جعله ناسخا لهذا الحديث من وجهين. أحدهما: أنه لا يعلم أنه قبله، وإذا تعارض العام والخاص، ولم يعلم التاريخ، فلم يقل أحد من العلماء أنه ينسخه، بل إما أن يقال الخاص هو المقدم، كما هو المشهور من مذهب مالك، والشافعي، وأحمد في المشهور عنه، وإما أن يتوقف، بل لو علم أن العام بعد الخاص لكان الخاص مقدما.
والثاني: أنه قد بينا أن هذا الخاص بعد العام، فإن كان نسخ كان الخاص ناسخا، وقد اتفق العلماء على أن الخاص المتأخر هو المقدم على العام المتقدم، فعلم باتفاق المسلمين على: أنه لا يجوز تقديم مثل هذا العام على الخاص لو كان هنا لفظ عام، كيف ولم يرد عن النبي – صلى الله عليه وسلم – حديث عام ينسخ الوضوء من كل ما مسته النار.
وإنما ثبت في الصحيح: «أنه أكل كتف شاة، ثم صلى ولم يتوضأ، وكذلك أتى بالسويق فأكل منه، ثم لم يتوضأ»، وهذا فعل لا عموم له، فإن التوضؤ من لحم الغنم لا يجب باتفاق الأئمة المتبوعين، والحديث المتقدم دليل ذلك، وأما جابر فإنما نقل «عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: أن آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار»، وهذا نقل لفعله لا لقوله. فإذا شاهدوه قد أكل لحم غنم، ثم صلى ولم يتوضأ بعد أن كان يتوضأ منه، صح أن يقال: الترك آخر الأمرين، والترك العام لا يحاط به إلا بدوام معاشرته، وليس في حديث جابر ما يدل على ذلك، بل المنقول عنه الترك في قضية معينة.
ثم ترك الوضوء مما مست النار لا يوجب تركه من جهة أخرى، ولحم الإبل لم يتوضأ منه لأجل مس النار كما تقدم، بل المعنى يختص به ويتناوله نيا ومطبوخا، فبين الوضوء من لحم الإبل والوضوء مما مست النار عموم وخصوص، هذا أعم من وجه، وهذا أخص من وجه.
وقد يتفق الوجهان، فيكون للحكم علتان، وقد ينفرد أحدهما من الآخر بمنزلة التوضؤ من خروج النجاسة مع الوضوء من القبلة، فإنه قد يقبل فيمذي، وقد يقبل فلا يمذي، وقد يمذي من غير مباشرة. فإذا قدر أنه لا وضوء من مس النساء لم ينف الوضوء من المذي. وكذلك بالعكس، وهذا بين. وأضعف من ذلك قول بعضهم أن المراد بذلك الوضوء اللغوي، وهو غسل اليد، أو اليد والفم، فإن هذا باطل من وجوه. أحدها: أن الوضوء في كلام رسولنا – صلى الله عليه وسلم – لم يرد به قط إلا وضوء الصلاة، وإنما ورد بذلك المعنى في لغة اليهود، كما روي «أن سلمان قال يا رسول الله، إنه في التوراة: من بركة الطعام الوضوء قبله. فقال: من بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده».
فهذا الحديث قد تنوزع في صحته، وإذا كان صحيحا فقد أجاب سلمان باللغة التي خاطبه بها لغة أهل التوراة، وأما اللغة التي خاطب الرسول – صلى الله عليه وسلم – بها أهل القرآن، فلم يرد فيها الوضوء إلا في الوضوء الذي يعرفه المسلمون. الثاني: أنه قد فرق بين اللحمين، ومعلوم أن غسل اليد، والفم من الغمر مشروع مطلقا، بل قد ثبت عنه «أنه تمضمض من لبن ثم شربه. وقال: إن له دسما». وقال: «من بات وبيده غمر، فأصابه شيء، فلا يلومن إلا نفسه».
فإذا كان قد شرع ذلك من اللبن والغمر، فكيف لا يشرعه من لحم الغنم؟ الثالث: أن الأمر بالتوضؤ من لحم الإبل، إن كان أمر إيجاب امتنع حمله على غسل اليد والفم، وإن كان أمر استحباب امتنع رفع الاستحباب عن لحم الغنم، والحديث فيه أنه رفع عن لحم الغنم ما أثبته للحم الإبل، وهذا يبطل كونه غسل اليد، سواء كان حكم الحديث إيجابا أو استحبابا. الرابع: أنه قد قرنه بالصلاة في مباركها مفرقا بين ذلك وهذا مما يفهم منه وضوء الصلاة قطعا، والله أعلم.
الفتاوى الكبرى لابن تيمية