15 – بَابُ رَحْمَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصِّبْيَانَ وَالْعِيَالَ وَتَوَاضُعِهِ وَفَضْلِ ذَلِكَ
62 – (2315) حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ، وَشَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، كِلَاهُمَا عَنْ سُلَيْمَانَ، – وَاللَّفْظُ لِشَيْبَانَ – حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وُلِدَ لِي اللَّيْلَةَ غُلَامٌ، فَسَمَّيْتُهُ بِاسْمِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ» ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَى أُمِّ سَيْفٍ، امْرَأَةِ قَيْنٍ يُقَالُ لَهُ أَبُو سَيْفٍ، فَانْطَلَقَ يَأْتِيهِ وَاتَّبَعْتُهُ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى أَبِي سَيْفٍ وَهُوَ يَنْفُخُ بِكِيرِهِ، قَدِ امْتَلَأَ الْبَيْتُ دُخَانًا، فَأَسْرَعْتُ الْمَشْيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا سَيْفٍ أَمْسِكْ، جَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمْسَكَ فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّبِيِّ، فَضَمَّهُ إِلَيْهِ، وَقَالَ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَقُولَ، فَقَالَ أَنَسٌ: لَقَدْ رَأَيْتُهُ وَهُوَ يَكِيدُ بِنَفْسِهِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَمَعَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «تَدْمَعُ الْعَيْنُ وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبَّنَا، وَاللهِ يَا إِبْرَاهِيمُ إِنَّا بِكَ لَمَحْزُونُونَ»
__________
[شرح محمد فؤاد عبد الباقي]
[ ش (قين) القين الحداد (يكيد بنفسه) أي يجود بها ومعناه وهو في النزع]
63 – (2316) حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ – وَاللَّفْظُ لِزُهَيْرٍ – قَالَا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ وَهُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»، قَالَ: «كَانَ إِبْرَاهِيمُ مُسْتَرْضِعًا لَهُ فِي عَوَالِي الْمَدِينَةِ، فَكَانَ يَنْطَلِقُ وَنَحْنُ مَعَهُ فَيَدْخُلُ الْبَيْتَ وَإِنَّهُ لَيُدَّخَنُ، وَكَانَ ظِئْرُهُ قَيْنًا، فَيَأْخُذُهُ فَيُقَبِّلُهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ»
قَالَ عَمْرٌو: فَلَمَّا تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ ابْنِي وَإِنَّهُ مَاتَ فِي الثَّدْيِ وَإِنَّ لَهُ لَظِئْرَيْنِ تُكَمِّلَانِ رَضَاعَهُ فِي الْجَنَّةِ»
__________
[شرح محمد فؤاد عبد الباقي]
[ ش (عوالي المدينة) هي القرى التي عند المدينة (مات في الثدي) معناه مات وهو في سن رضاع الثدي أو في حال تغذيه بلبن الثدي (لظئرين) الظئر هي المرضعة ولد غيرها وزوجها ظئر لذلك الرضيع فلفظة ظئر تقع على الأنثى والذكر (يكملان رضاعه) أي يتمانه سنتين]
64 – (2317) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَدِمَ نَاسٌ مِنَ الْأَعْرَابِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: أَتُقَبِّلُونَ صِبْيَانَكُمْ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، فَقَالُوا: لَكِنَّا وَاللهِ مَا نُقَبِّلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَمْلِكُ إِنْ كَانَ اللهُ نَزَعَ مِنْكُمُ الرَّحْمَةَ» وقَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: «مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ»
65 – (2318) وحَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، جَمِيعًا عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: عَمْرٌو، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ، أَبْصَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُ الْحَسَنَ فَقَالَ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ وَاحِدًا مِنْهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُ مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ»
65 – حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِهِ
66 – (2319) حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، كِلَاهُمَا عَنْ جَرِيرٍ، ح وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، ح وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، ح وَحَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ يَعْنِي ابْنَ غِيَاثٍ، كُلُّهُمْ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، وَأَبِي ظِبْيَانَ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَا يَرْحَمِ النَّاسَ، لَا يَرْحَمْهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ»
66 – وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ح وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ، قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ
الفوائد
———-
مشاركة أحمد بن علي:
قال القرطبي في المفهم:
وقوله: ((إن له لظئرين يكملان رضاعه في الجنة))؛ هذا يدل على أن حكمه حكم الشهيد؛ فإن الله تعالى قد أجرى عليه رزقه بعد موته.
قال الملا القاري في مرقاة المفاتيح:
(فلما توفي إبراهيم قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: ” إن إبراهيم ابني “) محط فائدة فائدته التقرير لأن أمه جارية، وهي مارية القبطية، أهداها المقوقس القبطي، صاحب مصر والإسكندرية، وولدت إبراهيم في ذي الحجة سنة ثمان (” وأنه مات في الثدي “). وقال الطيبي أي: في سن رضاع الثدي، أو في حالة تغذيه بلبن الثدي، (” وإن له لظئرين “) أي: لمرضعتين (” تكملان رضاعه “): مدة رضاعه وهي الحولان، فإنه توفي وله ستة عشر شهرا (” في الجنة “). قال صاحب التحرير: وهذا الإتمام، رضاع إبراهيم، يكون عقيب موته فيدخل الجنة متصلا بموته، فيتم فيها رضاعه كرامة له ولأبيه – صلى الله عليه وسلم. اهـ
قلت (سيف): وراجع شرح النووي على مسلم.
———-
جواب سيف بن غدير النعيمي:
{معنى الشَّفَقَة لغةً واصطلاحًا}
معنى الشَّفَقَة لغةً: رِقَّة مِنْ نُصْحٍ أو حُبٍّ، يؤدِّي إلى خوفٍ
معنى الشَّفَقَة اصطلاحًا:
قال الرَّاغب: (الإشْفَاق عناية مختلطة بخوف).
{الفرق بين الشَّفَقَة وبعض الصِّفات}
{الفرق بين الشَّفَقَة والخَشْيَة:}
قال أبو هلال: (إنَّ الشَّفَقَة ضرب من الرِّقَّة وضعف القلب، قال تعالى: إنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ [المؤمنون:57]، ولو كانت الخَشْيَة هي الشَّفَقَة، لما حَسُن أن يقول ذلك، كما لا يَحْسُن أن يقول: يَخْشَون من خَشْيَة ربِّهم.
ومن هذا الأصل قولهم: ثوبٌ شَفَقٌ، إذا كان رقيقًا … فقولك: أَشْفَقت من كذا، معناه: ضَعُف قلبي عن احتماله).
((الفروق اللغوية)) (ص 300).
{الفرق بين الشَّفَقَة والرِّقَّة:}
قال أبو هلال: (إنَّه قد يرِقُّ الإنسان لمن لا يُشْفِق عليه، كالذي يَئِد الموْؤُدَة، فيَرِقُّ لها -لا محالة-؛ لأنَّ طبع الإنسانيَّة يوجب ذلك، ولا يُشْفِق عليها، لأنَّه لو أَشْفَق عليها ما وَأَدَها).
((الفروق اللغوية)) (ص 300).
{التَّرغيب في الشَّفَقَة من السنة النبوية
– عن ابن عمر رضي الله عنه، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه … )).
رواه البخاري (2442) ومسلم (2580).
ورواه التِّرمذي بلفظ آخر وقال في تبويبه له: (ما جاء في شَفَقَة المسلم على المسلم).
((سنن الترمذي)) (4/ 324)
– وعن النُّعمان بن بَشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم، مَثَلُ الجسد … )).
رواه البخاري (6011)، ومسلم (2586)
قال ابن حبان: (وفيه مَثَّل النَّبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بما يجب أن يكونوا عليه من الشَّفَقَة والرَّأفة).
انظر: ((صحيح ابن حبان)) (1/ 496).
– وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أمَّ أحدكم النَّاس فليُخَفِّف … )) رواه البخاري (703)، ومسلم (467).
قال ابن عثيمين: (ومن الشَّفَقَة والرَّحمة لا ينبغي له أن يُطِيل عليهم في الصَّلاة … والمراد بالتَّخفيف: ما وافق سُنَّة النَّبي صلى الله عليه وسلم). ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (2/ 555).
– وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال: لما جاء نعي جعفر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اصنعوا لآل جعفر طعامًا، فقد أتاهم ما يشغلهم، أو أمر يشغلهم)).
((صحيح سنن ابن ماجه)) (1316).
فوائد الشَّفَقَة:
1 – أنَّ المتَحَلِّي بها يتحلَّى بخُلُق تحلَّى به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2 – أنَّ أهلها مخصوصون برحمة الله، جزاءً لشَفَقَتهم ورحمتهم بخَلْقه.
3 – أنَّ من ثمارها: محبَّة الله للعبد، ومن ثمَّ محبَّة النَّاس له.
4 – أنها ركيزة تؤسس مجتمع مسلم متماسك، يُشفق بعضه على بعض.
الشفقة المذمومة:
الشَّفَقَة المذمومة: وهو ما يحصل بسببها تعطيل لشرع الله، أو تهاون في تطبيق حدوده وأوامره
روى البخاري معلقًا بصيغة الجزم قبل حديث (644).
قال الحسن: (إن منعته أُمُّه عن العشاء في الجماعة -شفقةً- لم يُطِعها).
قلت (سيف الكعبي): كما تركت أم سعد الطعام، لكي يترك سعد الإسلام، فلم يطعها.
وعن عامر بن سعد، أنَّ أسامة بن زيد رضي الله عنه أخبر والده سعد بن أبي وقاص: ((أنَّ رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنِّي أَعْزِل عن امرأتي.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لِمَ تفعل ذلك؟
فقال الرَّجل: أُشفِق على ولدها، أو على أولادها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كان ذلك ضارًّا، ضرَّ فارس والرُّوم)).
رواه مسلم (1443).
وقال زهير في روايته: (إن كان لذلك فلا، ما ضارَّ ذلك فارس ولا الرُّوم).
{درجات الشَّفَقَة}
للشَّفَقَة ثلاث درجات، كما في ((منازل السائرين)):
(الدَّرجة الأولى: إشْفَاق على النَّفس أن تَجْمَح إلى العِناد، وإشْفَاق على العمل أن يصير إلى الضَّياع، وإشْفَاق على الخليقة لمعرفة معاذيرها).
قال ابن القيِّم في شرحه للدَّرجة: (إشْفَاق على النَّفس أن تَجْمَح إلى العِناد: أي: تُسرع وتذهب إلى طريق الهوى والعصيان، ومعاندة العبوديَّة.
وإشْفَاق على العمل أن يصير إلى الضَّياع: أي: يخاف على عمله أن يكون من الأعمال التي قال الله فيها: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً
مَّنثُورًا [الفرقان:23]، وهي الأعمال التي كانت لغير الله، وعلى غير أمره وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويخاف -أيضًا- أن يَضِيع عمله في المستقبل، إمَّا بتركه، وإمَّا بمعاصي تفرِّقه وتُحبِطه، فيذهب ضائعًا … قال: وإشْفَاق على الخليقة لمعرفة معاذيرها: هذا قد يوهم نوع تناقض، فإنَّه كيف يُشفِق مع معرفة العُذر؟! وليس بمتناقض، فإنَّ الإشْفَاق -كما تقدَّم- خوف مقرون برحمة، فيُشفِق عليهم من جهة مخالفة الأمر والنَّهي، مع نوع رحمة، بملاحظة جَرَيان القدر عليهم).
(الدَّرجة الثَّانية: إشْفَاقٌ على الوقت أن يشوبه تفرُّقٌ، وعلى القلب أن يزاحمه عارض، وعلى اليقين أن يُداخله سبب).
قال ابن القيِّم: (الدَّرجة الثَّانية: إشْفَاق على الوقت أن يشوبه تفرُّق، أي: يحذر على وقته أن يخالطه ما يفرِّقه عن الحضور مع الله عزَّ وجلَّ. قال: وعلى القلب أن يزاحمه عارض، والعارض المزاحم: إمَّا فَتْرة، وإما شُبْهة، وإمَّا شهوة، وكلُّ سبب يعوق السَّالك. قال: وعلى اليقين أن يُداخله سبب، هو الطُّمأنينة إلى من بيده الأسباب كلُّها، فمتى داخل يقينه ركونٌ إلى سبب وتعلُّق به، واطمأنَّ إليه، قدح ذلك في يقينه، وليس المراد قطع الأسباب عن أن تكون أسبابًا، والإعراض عنها، فإنَّ هذا زندقة وكُفر ومُحَال … ولكن الذي يريد أن يُحْذَر منه: إضافة يقينه إلى سبب غير الله، ولا يتعلَّق بالأسباب، بل يَفْنَى بالمسبِّب عنها).
(الدَّرجة الثَّالثة: إشْفَاق يصون سعيه من العُجب، ويكُفُّ صاحبه عن مخاصمة الخَلْق، ويحمل المريد على حفظ الجِدِّ).
قال ابن القيِّم: (الدَّرجة الثَّالثة: إشْفَاقٌ يصون سعيه عن العُجب، ويكُفُّ صاحبه عن مخاصمة الخَلْق، ويحمل المريد على حفظ الجِدِّ.
الأوَّل: يتعلَّق بالعمل،
والثَّاني: بالخَلْق،
والثَّالث: بالإرادة، وكلٌّ منها له ما يُفسده.
فالعُجب: يُفسد العمل، كما يُفسده الرِّياء، فيُشفِق على سعيه من هذا المفْسِد شَفَقَةً تصونه عنه.
والمخاصمة للخَلْق مُفْسِدة للخُلُق، فيُشفِق على خُلُقه من هذا المفْسِد شَفَقَةً تصونه عنه.
والإرادة يُفْسِدها عدم الجِدِّ، وهو الهزل واللَّعب، فيُشْفق على إرادته مما يُفسدها.
فإذا صحَّ له عمله وخُلُقه وإرادته، استقام سلوكه وقلبه وحاله).
{صور الشَّفَقَة}
أ- شَفَقَة الإمام على المأمومين، وتجنُّب ما يشق عليهم:
1 – عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((أَعْتم النَّبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، حتى ذهب عامَّة اللَّيل، وحتى نام أهل المسجد، ثمَّ خرج فصلَّى، فقال: إنَّه لوقتها لولا أن أشقَّ على أمَّتي)).
رواه مسلم (638).
ب-الشَّفَقَة على الأبناء، والعطف عليهم، والحُزن إذا أصابهم مكروه:
– عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: ((كانت امرأتان معهما ابناهما، جاء الذِّئب، فذهب بابن إحداهما، فقالت صاحبتها: إنَّما ذهب بابنك.
وقالت الأخرى: إنَّما ذهب بابنك. فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكُبرى، فخرجتا على سليمان بن داود فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسِّكين، أشقُّه بينهما. فقالت الصُّغرى: لا تفعل -يرحمك الله-، هو ابنها. فقضى به للصُّغرى)).
رواه البخاري (3427) واللَّفظ له، ومسلم (1720)
قال ابن القيِّم: (ولم يكن سليمان ليفعل، ولكن أوهمهما ذلك … ولم تطِبْ نفس الصُّغرى بذلك، بل أدركتها شَفَقَة الأمِّ، ورحمتها، فناشدته أن لا يفعل، استرواحًا إلى بقاء الولد، ومشاهدته حيًّا، وإن اتَّصل إلى الأخرى).
((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/ 67).
6 – عن أسيد بن حضير رضي الله عنه قال: ((بينما هو يقرأ من اللَّيل سورة البقرة، وفرسه مربوط عنده، إذ جالت الفرس، فسكت فسكتت، فقرأ، فجالت الفرس، فسكت …. اقرأ يا ابن حضير. قال: فأشْفَقت -يا رسول الله- أن تطأ يحيى … )).
رواه البخاري (5018)
ج – الشَّفَقَة على النِّساء.
عن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- قالت: (تزوَّجني الزُّبير، وما له في الأرض من مال ولا مملوك ولا شيء، غير نَاضِح وغير فرسه، فكنت أَعْلِف فرسه …. فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من الأنصار، فدعاني، ثمَّ قال: إخ إخ. ليحملني خلفه، فاستحييت أن أسير مع الرِّجال … ).
رواه البخاري (5224) واللَّفظ له، ومسلم (2182).
{الوسائل المعينة على اكتساب الشَّفَقَة}
1 – عدم الشِّبَع:
قال أبو سليمان الدَّاراني: (من شَبِع دخل عليه ستُّ آفات: فَقَد حلاوة المنَاجاة، وتعذَّر حفظ الحِكْمة، وحرمان الشَّفَقَة على الخَلْق، وثُقْل العبادة، وزيادة الشَّهوات).
2 – عدم الحسد:
وحسد المسلمين من قلَّة الشَّفَقَة عليهم.
3 – الاختلاط بالضُّعفاء.
فإنَّه ممَّا يُرَقِّق القلب، ويدعو إلى الرَّحمة والشَّفَقَة بهؤلاء وغيرهم.
4 – مَسْحُ رأس اليتيم:
((عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رجلًا شكا إلى رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم قسوةَ قلبِه فقال امسَحْ رأسَ اليتيمِ وأطعِمِ المسكينَ)).
رواه أحمد (2/ 387) (9006).
وقال الوادعي في ((أحاديث معلة)) (419): سنده رجال الصحيح، ولكنه منقطع.
مشاركة أحمد بن علي:
قال السعدي في بهجة قلوب الأبرار:
فرحمة العبد للخلق من أكبر الأسباب التي تنال بها رحمة الله، التي من آثارها خيرات الدنيا، وخيرات الآخرة، وفقدها من أكبر القواطع والموانع لرحمة الله، والعبد في غاية الضرورة والافتقار إلى رحمة الله، لا يستغني عنها طرفة عين، وكل ما هو فيه من النعم واندفاع النقم، من رحمة الله.
فمتى أراد أن يستبقيها ويستزيد منها، فليعمل جميع الأسباب التي تنال بها رحمته، وتجتمع كلها في قوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56] , وهم المحسنون في عبادة الله، المحسنون إلى عباد الله. والإحسان إلى الخلق أثر من آثار رحمة العبد بهم.
والرحمة التي يتصف بها العبد نوعان:
النوع الأول: رحمة غريزية، قد جبل الله بعض العباد عليها، وجعل في قلوبهم الرأفة والرحمة والحنان على الخلق، ففعلوا بمقتضى هذه الرحمة جميع ما يقدرون عليه من نفعهم، بحسب استطاعتهم. فهم محمودون مثابون على ما قاموا به، معذورون على ما عجزوا عنه، وربما كتب الله لهم بنياتهم الصادقة ما عجزت عنه قواهم.
والنوع الثاني: رحمة يكتسبها العبد بسلوكه كل طريق ووسيلة، تجعل قلبه على هذا الوصف، فيعلم العبد أن هذا الوصف من أجلِّ مكارم الأخلاق وأكملها، فيجاهد نفسه على الاتصاف به، ويعلم ما رتب الله عليه من الثواب، وما في فواته من حرمان الثواب؛ فيرغب في فضل ربه، ويسعى بالسبب الذي ينال به ذلك. ويعلم أن الجزاء من جنس العمل. ويعلم أن الأخوة الدينية والمحبة الإيمانية، قد عقدها الله وربطها بين المؤمنين، وأمرهم أن يكونوا إخواناً متحابين، وأن ينبذوا كل ما ينافي ذلك: من البغضاء، والعداوات، والتدابر.
فلا يزال العبد يتعرف الأسباب التي يدرك بها هذا الوصف الجليل ويجتهد في التحقق به، حتى يمتلئ قلبه من الرحمة، والحنان على الخلق. ويا حبذا هذا الخلق الفاضل، والوصف الجليل الكامل.
وهذه الرحمة التي في القلوب، تظهر آثارها على الجوارح واللسان، في السعي في إيصال البر والخير والمنافع إلى الناس، وإزالة الأضرار والمكاره عنهم.
وعلامة الرحمة الموجودة في قلب العبد: أن يكون محباً لوصول الخير لكافة الخلق عموماً، وللمؤمنين خصوصاً، كارهاً حصول الشر والضرر عليهم. فبقدر هذه المحبة والكراهة تكون رحمته.
ومن أصيب حبيبه بموت أو غيره من المصائب، فإن كان حزنه عليه لرحمة، فهو محمود، ولا ينافي الصبر والرضى؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم لما بكى لموت ولد ابنته، قال له سعد: “ما هذا يا رسول الله؟ ” فأتبع ذلك بعبرة أخرى، وقال: “هذه رحمة يجعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء” وقال عند موت ابنه إبراهيم: “القلب يحزن، والعين تدمع، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا. وإنَّا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون”.
وكذلك رحمة الأطفال الصغار والرقة عليهم، وإدخال السرور عليهم من الرحمة، وأما عدم المبالاة بهم، وعدم الرقة عليهم، فمن الجفاء والغلظة والقسوة.
ومن الرحمة: رحمة المرأة البغي حين سقت الكلب، الذي كان يأكل الثرى من العطش. فغفر الله لها بسبب تلك الرحمة. اهـ
قلت (سيف): سبق شرح حديث رحمة البغي للكلب في باب فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها.
قال العثيمين في شرح رياض الصالحين:
ففي هذا دليلٌ على أنه ينبغي للإنسان أن يستعمل الرحمة في معاملة الصغار ونحوهم، وأنه ينبغي للإنسان أن يقبّل أبناءه، وأبناء بناته، وأبناء أبنائه، يقبلهم رحمة بهم، واقتداءً برسل الله صلى الله عليه وسلم، أما ما يفعله بعض الناس من الجفاء والغلظة بالنسبة للصبيان، فتجده لا يمكن صبيه من أن يحضر على مجلسه، ولا يمكِّن صبيه من أن يطلب منه شيئاً، وإذا رآه عند الرجال انتهره، فهذا خلاف السنة وخلاف الرحمة.
بنت بنته ” أمامة”، كان النبي صلى الله عليه وسلم يحملها وهو يصلي بالناس؛ الآن لو يجد الإنسان صبِيَّه في المسجد أخرجها.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام ساجداً فجاءه الحسن أو الحسين فركب عليه – وأطال السجود قال: ” إن أبني ارتحلني وإني كرهت أن أقٌوم حتى يقضي نهمته”.
وكان صلى الله عليه وسم ليخطب الناس يوماً على المنبر، فأقبل الحسن والحسين وعليهما ثوبان جديدان يعثران بهما، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم وحملهما بين يديه وقال: صدق الله (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) (التغابن: 15)، نظرت إلى هذين الصبيين يعثران فلم أصبر” انتهى مختصرا
وقال ابن حجر:
قال ابن بطال: فيه الحض على استعمال الرحمة لجميع الخلق فيدخل المؤمن والكافر والبهائم ويدخل في الرحمة التعاهد بالإطعام والسقي والتخفيف في الحمل وترك التعدي بالضرب …. اه ملخصا
بمناسبة ذكر اسم الرحمة؛ جاء في فتاوى العثيمين:
موقف أهل السنة في أسماء الله تبارك وتعالى:
فهم يثبتون الأسماء على أنها أسماء لله، ويثبتون أيضا ما تضمنته هذه الأسماء من الصفات،
ويثبتون كذلك ما دل عليه الاسم من الأثر إن كان الاسم مشتقا من مصدر متعدٍّ، فمثلا ” الرحيم ” من أسماء الله، يؤمنون بالرحيم على أنه اسم من أسمائه، ويؤمنون بما تضمنه من صفة الرحمة، وأن الرحمة صفة حقيقية ثابتة لله دل عليها اسم الرحيم، وليست إرادة الإحسان ولا الإحسان نفسه، وإنما إرادة الإحسان والإحسان نفسه من آثار هذه الرحمة، كذلك يؤمنون بأثر هذه الرحمة، والأثر أنه يرحم بهذه الرحمة من يستحقها كما قال الله تعالى: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ}. أهـ مختصرا
————
مشاركة حسين البلوشي:
الاسباب الجالبة لرحمة الله:
1 – الإحسان في عبادة الله والإحسان مع الناس
قال تعالى: (إن رحمة الله قريب من المحسنين).
2 – تقوى الله تعالى وطاعته بفعل أوامره واجتناب نواهيه
قال تعالى: (ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون. الذين يتبعون الرسول النبي الأمي ….. ).
3 – رحمة مخلوقاته من الآدميين والبهائم، قال صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) رواه أبو داود
4 – إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم: كما قال تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون)
5 – دعاء الله بحصولها باسمه الرحمن الرحيم أو غيره من أسمائه الحسنى: كأن تقول: يا رحمن ارحمني
قال تعالى: (وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين).
6 – اتباع القرآن الكريم والعمل به
قال تعالى (وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون)
7 – طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم: قال تعالى: (وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون)، وفي المقابل فإن معصية الله ومعصية رسوله من أعظم موانع رحمة الله
8 – الاستماع والإنصات للقرآن الكريم: قال تعالى: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون).
9 – الاستغفار وطلب المغفرة من الله: قال تعالى:
(قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون).
———-
مشاركة عبدالله الديني:
?قال العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه ” عدة الصابرين “:
الباب الثامن عشر: في ذكر أمور تتعلق بالمصيبة من البكاء والندب وشق الثياب ودعوى الجاهلية ونحوها
فمنها البكاء على الميت ومذهب أحمد وأبى حنيفة أجازاه قبل الموت وبعده واختاره أبو اسحاق الشيرازي وكرهه الشافعي وكثير من أصحابه بعد الموت ورخصوا فيه قبل خروج الروح واحتجوا بحديث جابر بن عتيك: ” أن رسول الله جاء يعود عبد الله بن ثابت فوجده قد غلب فصاح به فلم يجب فاسترجع وقال غلبنا عليك يا أبا الربيع فصاح النسوة وبكين فجعل ابن عتيك يسكتهن فقال رسول الله دعهن فاذا وجب فلا تبكين باكية قالوا وما الوجوب يا رسول الله قال الموت” رواه أبو داود والنسائي (صححه الألباني)
قالوا وفي الصحيحين من حديث ابن عمر أن رسول الله قال: “ان الميت ليعذب ببكاء أهله عليه ” وهذا انما هو بعد الموت وأما قبله فلا يسمى ميتا وعن ابن عمر: ” أن رسول الله لما قدم من أحد سمع نساء بنى عبد الاشهل يبكين على هلكاهن فقال لكن حمزة لا بواكى له فجئن نساء الانصار فبكين على حمزة عنده فاستيقظ فقال ويحهن أتين هاهنا يبكين حتى الآن مروهن فليرجعن ولا يبكين على هالك بعد اليوم” رواه الامام أحمد (حسنه الألباني) وهذا صريح في نسخ الاباحة المتقدمة
والفرق بين ما قبل الموت وبعده أنه قبل الموت يرجى فيكون البكاء عليه حذرا فاذا مات انقطع الرجاء وأبرم القضاء فلا ينفع البكاء.
قال المجوزون قال جابر بن عبدالله: “أصيب أبى يوم أحد فجعلت أبكى فجعلوا ينهونني ورسول الله لا ينهاني فجعلت عمتي فاطمة تبكى فقال النبي تبكين أو لا تبكين ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعوه” متفق عليه وفي الصحيحين أيضا عن ابن عمر قال: ” اشتكى سعد بن عبادة شكوى له فأتاه النبي يعوده مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن ابى وقاص وعبد الله بن مسعود فلما دخل عليه وجده في غشية فقال قد قضى قالوا لا يا رسول الله فبكى رسول الله فلما رأى القوم بكاءه بكوا فقال ألا تسمعون ان الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا وأشار إلى لسانه أو يرحم”
وفي الصحيحين أيضا من حديث أسامه بن زيد: “أن رسول الله انطلق إلى إحدى بناته ولها صبى في الموت فرفع اليه الصبى ونفسه تقعقع كأنها في شنة ففاضت عيناه فقال سعد ما هذا يا رسول الله قال هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده وانما يرحم الله من عباده الرحماء “.
وفي مسند الامام أحمد من حديث بن عباس قال ماتت رقية ابنة رسول الله فبكت النساء فجعل عمر يضربهن بسوطه فقال النبي: “دعهن يا عمر يبكين وإياكن ونعيق الشيطان ثم قال انه مهما كان من العين ومن القلب فمن الله ومن الرحمة وما كان من اليد ومن اللسان فمن الشيطان ” (الضعيفة 1715) وفي المسند أيضا عن عائشة أن سعد بن معاذ لما مات حضره رسول الله وأبو بكر وعمر قالت فو الذى نفسى بيده انى لأعرف بكاء أبى بكر من بكاء عمر وأنا في حجرتي (حسنه الألباني في التعليقات الحسان 6989) وفي المسند أيضا عن أبى هريرة قال مر على النبي بجنازة يبكى عليها وأنا معه ومعه عمر بن الخطاب فانتهر عمر اللاتي يبكين عليها فقال النبي: “دعهن يا ابن الخطاب فان النفس مصابة وان العين دامعة والعهد قريب”. (ضعفه محققو المسند 14/ 128)
وفي جامع الترمذي عن جابر بن عبدالله قال أخذ النبي بيد عبد الرحمن بن عوف فانطلق إلى ابنه ابراهيم فوجده يجود بنفسه فأخذه
النبي فوضعه في حجره فبكى فقال له أتبكى أو لم تكن نهيت عن البكاء قال لا ولكن نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين صوت عند مصيبة خمش الوجه وشق الجيوب ورثة الشيطان قال الترمذي هذا حديث حسن (الصحيحة 2157) وقد صح عنه أنه زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله وقد صح عنه أنه قبَّل عثمان بن مظعون حتى سالت دموعه على وجهه وصح عنه أنه نعى جعفر وأصحابه وعيناه تذرفان وصح عن أبى بكر الصديق رضى الله عنه أنه قبل النبي وهو ميت وبكى
فهذه اثنا عشرة حجة تدل على عدم كراهة البكاء فتعين حمل أحاديث النهى على البكاء الذى معه ندب ونياحة ولهذا جاء في بعض ألفاظ حديث عمر: “الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه” وفي بعضها ” يعذب بما ينح عليه ” وقال البخاري في صحيحه قال عمر دعهن يبكين على أبى سليمان يعنى خالد بن الوليد ما لم يكن نقع أو لقلقة والنقع حث التراب واللقلقة الصوت
وأما دعوى النسخ في حديث حمزة فلا يصح اذ معناه لا يبكين على هالك بعد اليوم من قتلى أحد
ويدل على ذلك أن نصوص الاباحة أكثرها متأخرة عن غزوة أحد منها حديث أبى هريرة إذ اسلامه وصحبته كانا في السنة السابعة ومنها البكاء على جعفر وأصحابه وكان استشهادهم في السنة الثامنة ومنها البكاء على زينب وكان موتها في السنة الثامنة أيضا ومنها البكاء على سعد بن معاذ وكان موته في الخامسة ومنها البكاء عند قبر أمه وكان عام الفتح في الثامنة
وقولهم انما جاز قبل الموت حذرا بخلاف ما بعد الموت جوابه أن الباكي قبل الموت يبكى حزنا وحزنه بعد الموت أشد فهو أولى برخصة البكاء من الحالة التي يرجى فيها وقد أشار النبي إلى ذلك بقوله: “تدمع
العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب وانا بك يا ابراهيم لمحزونون”.
فصل: وأما الندب والنياحة فنص أحمد على تحريمها قال في رواية حنبل النياحة معصية وقال أصحاب الشافعي وغيرهم النوح حرام وقال ابن عبد البر أجمع العلماء على أن النياحة لا تجوز للرجال ولا للنساء وقال بعض المتأخرين من أصحاب أحمد يكره تنزيها وهذا لفظ أبى الخطاب في الهداية قال ويكره الندب والنياحة وخمش الوجوه وشق الجيوب والتحفي والصواب القول بالتحريم لما في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود أن النبي قال: “ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعى بدعوى الجاهلية ” وفي الصحيحين أيضا عن أبى بردة قال وجع أبو موسى وجعا فغشى عليه ورأسه في حجر امرأة من أهله فصاحت امرأة من أهله فلم يستطع أن يرد عليها شيئا فلما أفاق قال أنا بريء مما يريء منه رسول الله فان رسول الله برئ من الصالقة والحالقة والشاقة وفي الصحيحين أيضا عن المغيرة بن شعبة قال سمعت رسول الله يقول: ” إن من ينح عليه يعذب بما نيح عليه ” وفي الصحيحين أيضا أم عطية قالت أخذ علينا رسول الله في البيعة ألا ننوح فما وفت منا امرأة الا خمس نسوة
وفي صحيح البخاري عن ابن عمر أن النبي قال: “الميت يعذب في قبره بما ينح عليه ” وفي صحيح مسلم عن أبى مالك الأشعري أن النبي قال أربع في أمتى من أمر الجاهلية لا يتركونهن “الفخر بالأحساب والطعن في الانساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة” وقال “النائحة اذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب”
وفي سنن ابى داود عن أسيد بن أبي أسيد عن امرأة من المبايعات قالت كان فيما أخذ علينا رسول الله في المعروف الذى أخذ علينا أن لا نعصيه فيه أن لا نخمش وجها ولا ندعو ويلا ولا نشق جيبا ولا ننفش شعرا. (صححه الالباني في ” احكام الجنائز “) وفي المسند عن انس قال: “أخذ النبي على النساء حين بايعهن أن لا ينحن فقلن يا رسول الله ان نساء أسعدتنا في الجاهلية أفنسعدهن في الاسلام فقال لا إسعاد في الاسلام” _ صحيح النسائي 1852، أحاديث معلة 14) وقد تقدم قوله: “ما كان من اليد واللسان فمن الشيطان ” وقوله “نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين صوت عند مصيبة خمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان”
وفي مسند الامام أحمد من حديث أبى موسى أن رسول الله قال: “الميت يعذب ببكاء الحى اذا قالت النائحة واعضداه واناصراه واكاسياه جبذ الميت وقيل له أنت عضدها أنت ناصرها أنت كاسيها ” (الضعيفة 3151) وفي صحيح البخارى عن النعمان ابن بشير قال أغمى على عبد الله بن رواحة فجعلت أخته عمرة تبكى وتقول واجبلاه واكذا واكذا تعدد عليه فقال حين أفاق ما قلت لي شيئا إلا قيل لى أنت كذا فلما مات لم تبك عليه.
وكيف لا تكون هذه الخصال محرمة وهى مشتملة على التسخط على الرب وفعل ما يناقض الصبر والاضرار بالنفس من لطم الوجه وحلق الشعر ونتفه والدعاء عليها بالويل والثبور والتظلم من الله سبحانه وإتلاف المال بشق الثياب وتمزيقها وذكر الميت بما ليس فيه ولا ريب أن التحريم الشديد يثبت ببعض هذا
وقال المبيحون لمجرد الندب والنياحة مع كراهتهم له قد روى حرب عن وائلة بن الأسقع وأبى وائل أنهما كانا يسمعان النوح ويسكتان
قالوا وفي الصحيحين عن أم عطية قالت لما نزلت هذه الآية {يا أيها النبي اذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا} إلى قوله {ولا يعصينك في معروف} كان منه النياحة فقلت:
يا رسول الله “الا آل فلان” فإنهم كانوا أسعدوني في الجاهلية فلا بد لي من أن أسعدهم فقال الا آل فلان وفي رواية لهما أنها قالت بايعنا رسول الله فقرأ علينا {أن لا يشركن بالله شيئا} ونهانا عن النياحة فقبضت منا امرأة يدها فقالت فلانة أسعدتني فأنا أريد أن أجزيها قالت فما قال لها شيئا فذهبت فانطلقت ثم رجعت فبايعها قالوا وهذا الاذن لبعضهن في فعله يدل على أن النهى عنه تنزيه لا تحريم ويتعين حمله على المجرد من تلك المفاسد جمعا بين الأدلة
قال المحرمون لا تعارض سنة رسول الله بأحد من الناس كائنا من كان ولا نضرب سننه بعضها ببعض وما ذكرنا من النصوص صحيحة صريحة لا تحتمل تأويلا وقد انعقد عليها الإجماع وأما المرأة التي قال لها الا آل فلان والمرأة التي سكت عنها فذلك خاص بهما لوجهين
أحدهما أنه قال لغيرهما لما سألته ذلك لا إسعاد في الإسلام
والثاني أنه أطلق لهما ذلك وهما حديثا عهد بالإسلام وهما لم يميزا بين الجائز من ذلك وبين المحرم وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز فعلم أن الحكم لا يعدوهما إلى غيرهما وأما الكلمة اليسيرة اذا كانت صدقا لا على وجه النوح والتسخط فلا تحرم ولا تنافي الصبر الواجب نص عليه أحمد في مسنده من حديث أنس أن أبا بكر رضى الله عنه دخل على النبي بعد وفاته فوضع فمه بين عينيه ووضع يده على صدغيه وقال وانبياه واخليلاه واصفياه
وفي صحيح البخاري عن أنس أيضا قال: لما ثقل على النبي جعل يتغشاه الكرب فقالت فاطمة: واكرب أبتاه فقال ليس على أبيك كرب بعد اليوم فلما مات قالت يا أبتاه أجاب ربا دعاه يا أبتاه جنة الفردوس مأواه يا أبتاه إلى جبريل أنعاه فلما دفن قالت فاطمة يا أنس أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله التراب وقال النبي: “وانا بك يا ابراهيم لمحزنون ” وهذا ونحوه من القول الذى ليس فيه تظلم للمقدور ولا تسخط على الرب ولا اسخاط له فهو كمجرد البكاء.