1458 التعليق على الصحيح المسند
مجموعة عبدالله الديني
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
————–
مسند أحمد:
1458 – قال الإمام أحمد رحمه الله: ثنا إسماعيل ثنا الجريري عن أبي العلاء بن الشخير قال صلى الله عليه وسلم كنت مع مطرف في سوق الإبل فجاءه إعرابي معه قطعة أديم أو جراب فقال من يقرأ أو فيكم من يقرأ قلت نعم فأخذته فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم لبني زهير بن أقيش حي من عكل إنهم إن شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وفارقوا المشركين وأقروا بالخمس في غنائمهم وسهم النبي صلى الله عليه و سلم وصفيه فإنهم آمنون بأمان الله ورسوله فقال له بعض القوم هل سمعت من رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئا تحدثناه قال نعم قالوا فحدثنا رحمك الله قال سمعته يقول من سره أن يذهب كثير من وحر صدره فليصم شهر الصبر أو ثلاثة أيام من كل شهر فقال له القوم أو بعضهم أأنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال ألا أراكم تتهمونى أن أكذب على رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال إسماعيل مرة تخافون والله لا حدثتكم حديثا سائر اليوم ثم انطلق.
ثنا سفيان بن عيينة عن هارون بن رئاب عن بن الشخير عن رجل من بنى أقيش قال معه كتاب النبي صلى الله عليه و سلم قال صلى الله عليه وسلم صيام ثلاثة أيام من الشهر يذهب وحر الصدر.
ثنا روح بن عبادة ثنا قرة بن خالد قال سمعت زيد بن عبد الله بن الشخير فذكر نحوه.
هذا حديث صحيح.
* وقال الإمام عبدالزراق رحمه الله: أخبرنا عبد الرزاق قال اخبرنا معمر عن سعيد الجريري عن أبي العلاء بن عبد الله بن الشخير قال جاءنا أعرابي ونحن بالمربد فقال هل فيكم قارئ يقرأ هذه الرقعة قلنا كلنا نقرأ قال فاقرؤوها لي قال هذا كتاب كتبه لي محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم لبني زهير بن أقيش حي من عكل إنكم إن شهدتم لا إله الا الله وأن محمد رسول الله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأخرجتم الخمس من الغنيمة وسهم النبي صلى الله عليه و سلم وصفيه فإنكم آمنون بأمان الله قال قلنا إن رسول الله صلى الله عليه و سلم كتب لكم هذا الكتاب قال نعم أتروني أكذب على رسول الله صلى الله عليه و سلم وغضب فضرب بيده على الكتاب فأخذه قال فأتبعناه فقلنا حدثنا يا أبا عبد الله عن شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم قال سمعته يقول إن مما يذهب كثيرا من وحر الصدر صوم شهر الصبر وصوم ثلاثة أيام من كل شهر.
هذا حديث صحيح.
* وقال الإمام أبو داود رحمه الله: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا قرة قال سمعت يزيد بن عبد الله قال
كنا بالمربد فجاء رجل أشعث الرأس بيده قطعة أديم أحمر فقلنا كأنك من أهل البادية فقال أجل قلنا ناولنا هذه القطعة الأديم التي في يدك فناولناها فقرأناها فإذا فيها من محمد رسول الله إلى بني زهير بن أقيش إنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأديتم الخمس من المغنم وسهم النبي صلى الله عليه وسلم الصفي أنتم آمنون بأمان الله ورسوله فقلنا من كتب لك هذا الكتاب؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا حديث صحيح على شرط الشيخين.
…………………………………
وصححه الألباني في الصحيحة (2857)
قال الحافظ المنذريّ: ورواه بعضهم عن يزيد بن عبد اللَّه، وسمّى الرجل النَّمِر بن تَوْلَب، الشاعر، صاحب رسول اللَّه – صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، ويقال: إنه ما مدح أحدًا، ولا هجا أحدًا، وكان جوادًا، لا يكاد يُمسك شيئًا، وأدرك الإسلام، وهو كبير.
ذكر هذا الحديث عند ترجمته من الإصابة واسد الغابة والأستيعاب قال الحافظ في التهذيب روى حديثه يزيد بن الشخير رواه أبو دواد والنسائي ولم يسميا النمر في روايتهما وسماه غيرهما في هذا الحديث.
وقال في التقريب صحابي له حديث في السنن ولم يسم فيه وسماه فيه محمد بن سلام في طبقات الشعراء وهو غير النمر بن تولب الشاعر المشهور أ هـ.
(عكل) وقال الحازمي رحمه الله في ” عجلة المبتدي ” ص 94: ” العكلي: منسوب إلى عكل وهي امرأة حضنت ولد عوف بن إياس بن قيس بن عوف بن عبد مناة بن أد بن طابخة، فنسبوا إليها.
قبيل، منهم: الحارث بن زهير بن أقيش.
وجماعة سواه، أكثرهم بالبصرة ” (الأنساب للسمعاني)
(سعيد الجريريّ) -بضمّ الجيم- ابن إياس، أبو مسعود البصريّ، ثقة، تغيّر قبل موته بثلاث سنين، لكن روى عنه جماعة منهم معمر عند عبدالرزاق ومعمر ممن سمع منه قبل الإختلاط.
(بِالْمِرْبَدِ) بكسر الميم، وسكون الراء، وفتح الموحّدة- وزان مِنبر: المحبسُ، والجرينُ، وموضع بالبصرة. والمراد به هنا موضع بالبصرة.
(قطعة أديم أو جراب) هو الجلد المدبوغ.
(وَفَارَقُوا الْمُشْرِكينَ) أي فارقوا دينهم، وعاداتهم (وَأَقَرُوا بِالخُمُسِ فِي غَنَائِمِهِمْ، وَسَهْمِ النَّبِيِّ – صلى اللَّه عليه وسلم -) قال السنديّ: ظاهره أن سهمه – صلى اللَّه تعالى عليه وسلم – زائدٌ على الخمس. انتهى.
وقال المنذريّ -رحمه اللَّه تعالى-: قوله: “وسهم النبيّ – صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -“: السهم في الأصل واحد السهام التي يُضرب بها في الميسر، وهي القداح، ثم سُمّي ما يفوز به الغالب سهما، ثم كثُر حتى سُمّي كلّ نصيب سهمًا. انتهى (2).
(وَصَفِيَّهِ) أي ما يختاره – صلى اللَّه تعالى عليه وسلم – من الغنيمة قبل القسمة، وقد تقدّم البحث عنه قريبًا.
وقال الخطّابيّ -رحمه اللَّه تعالى-: أما سهم النبيّ – صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، فإنه كان كسهم رجل ممن يشهد الوقعة، حضرها رسول اللَّه – صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، أو غاب عنها. وأما الصفي، فهو ما يصطفيه من عُرْض الغنيمة، من شيء قبل أن يخمس، عبد، أو جارية، أو فرس، أو سيف، أو غيرها، كان النبيّ – صلى اللَّه تعالى عليه وسلم – مخصوصًا بذلك مع الخمس الذي له خاصّة. انتهى
قال ابن عبد البر (التمهيد): قد أجمع العلماء على أن سهم الصفي ليس لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم فارتفع القول في ذلك إلا أن أبا ثور حكي عنه ما يخالف هذا الإجماع قال يؤخذ الصفي ويجري مجرى سهم النبي صلى الله عليه وسلم …
وقال: وأما سهم النبي صلى الله عليه وسلم فللعلماء في سهم النبي صلى الله عليه وسلم من الخمس أقوال منها أنه يرد إلى من سمي في الآية قال ذلك طائفة من أهل العلم ورأوا أن يقسم الخمس أرباعا وقال آخرون هو إلى الخليفة بعده يصرفه فيما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف فيه وقال آخرون يجعل في الخيل والعدة في سبيل الله وممن قال هذا قتادة وبه قال أحمد بن حنبل وقال الشافعي يضع الإمام سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل أمر ينفع الإسلام من سد ثغر وكراع وسلاح وإعطاء أهل العناء والبلاء في الإسلام والنفل عند الحرب وأما أبو حنيفة فقال سهم الرسول وسهم ذي القربى سقطا بموت النبي صلى الله عليه وسلم قال ويقسم الخمس على ثلاثة أسهم لليتامى والمساكين وابن السبيل وأما مالك رحمه الله فقال يجعل الخمس في بيت المال ويجتهد الإمام في قسمه إلا أنه لم يسقط سهم ذي القربى وقال يعطيهم الإمام ويجتهد في ذلك.
(فَإِنَّهُمْ آمِنُون بِأَمَانِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) أي بسبب إعطاء اللَّه تعالى، ورسوله – صلى اللَّه تعالى عليه وسلم – الأمان لهم، فأما أمان اللَّه، فبقوله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5]، وقوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} الآية. وأما أمانه – صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، فبكتابته لهم الكتاب المذكور؛ عملاً بما أمره اللَّه تعالى في كلامه المذكور.
(ألا أُخْبِرُكُمْ بِمَا يُذْهِبُ وَحَرَ الصَّدْرِ) – بفتحتين- قيل: غَشّه، ووساوسه. وقيل: الحقد والغيظ. وقيل: العداوة. وقيل: أشدّ الغضب. وقيل: ما يحصل في القلب من الكدورات، والقسوة، وينبغي أن يراد ههنا الحاصلة بالاعتياد على الأكل والشرب، فإن الصوم إنما شُرع لتصقيل القلب، كما قال اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ-: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، فكأنه أشار إلى أن هذا القدر يكفي في ذلك. ويحتمل أن يقال: طالب العبادة لا يطمئن قلبه بلا عبادة، فأشار إلى أن القدر الكافي في الاطمئنان هذا القدر، والباقي زائد عليه. واللَّه تعالى أعلم. قاله السنديّ (شرح الاثيوبي لسنن النسائي)
قال الشيخ الالباني رحمه الله في الصحيحة: في هذا الحديث بعض الأحكام التي تتعلق بدعوة الكفار إلى الإسلام، من ذلك: أن لهم الأمان إذا قاموا بما فرض الله عليهم، و منها: أن يفارقوا المشركين و يهاجروا إلى بلاد المسلمين. و في هذا أحاديث كثيرة، يلتقي
كلها على حض من أسلم على المفارقة، كقوله صلى الله عليه وسلم: ” أنا بريء من
كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، لا تتراءى نارهما “، و في بعضها أن النبي
صلى الله عليه وسلم اشترط على بعضهم في البيعة أن يفارق المشرك. و في بعضها
قوله صلى الله عليه وسلم: ” لا يقبل الله عز وجل من مشرك بعد ما أسلم عملا،
أو يفارق المشركين إلى المسلمين “. إلى غير ذلك من الأحاديث، و قد خرجت بعضها
في ” الإرواء ” (5/ 29 – 33) و فيما تقدم برقم (636). و إن مما يؤسف له
أشد الأسف أن الذين يسلمون في العصر الحاضر – مع كثرتهم و الحمد لله – لا
يتجاوبون مع هذا الحكم من المفارقة، و هجرتهم إلى بلاد الإسلام، إلا القليل
منهم، و أنا أعزو ذلك إلى أمرين اثنين: الأول: تكالبهم على الدنيا، و تيسر
وسائل العيش و الرفاهية في بلادهم بحكم كونهم يعيشون حياة مادية ممتعة، لا روح
فيها، كما هو معلوم، فيصعب عليهم عادة أن ينتقلوا إلى بلد إسلامي قد لا تتوفر
لهم فيه وسائل الحياة الكريمة في وجهة نظرهم. و الآخر – و هو الأهم -: جهلهم
بهذا الحكم، و هم في ذلك معذورون، لأنهم لم يسمعوا به من أحد من الدعاة الذين
تذاع كلماتهم مترجمة ببعض اللغات الأجنبية، أو من الذين يذهبون إليهم باسم
الدعوة لأن أكثرهم ليسوا فقهاء … بل إنهم ليزدادون
لصوقا ببلادهم، حينما يرون كثيرا من المسلمين قد عكسوا الحكم بتركهم لبلادهم
إلى بلاد الكفار! فمن أين لأولئك الذين هداهم الله إلى الإسلام أن يعرفوا مثل
هذا الحكم و المسلمون أنفسهم مخالفون له؟! ألا فليعلم هؤلاء و هؤلاء أن الهجرة
ماضيه كالجهاد، فقد قال صلى الله عليه وسلم: ” لا تنقطع الهجرة ما دام العدو
يقاتل “، و في حديث آخر: ” لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، و لا تنقطع
التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها ” و هو مخرج في ” الإرواء ” (1208). و مما
ينبغي أن يعلم أن الهجرة أنواع و لأسباب عدة، و لبيانها مجال آخر، و المهم
هنا الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام مهما كان الحكام فيها منحرفين عن
الإسلام، أو مقصرين في تطبيق أحكامه، فهي على كل حال خير بما لا يوصف من بلاد
الكفر أخلاقا و تدينا و سلوكا، و ليس الأمر – بداهة – كما زعم أحد الجهلة
الحمقى الهوج من الخطباء: ” والله لو خيرت أن أعيش في القدس تحت احتلال اليهود
و بين أن أعيش في أي عاصمة عربية لاخترت أن أعيش في القدس تحت احتلال اليهود ”
! و زاد على ذلك فقال ما نصه: ” ما أرى إلا أن الهجرة واجبة من الجزائر إلى (
تل أبيب) “!! كذا قال فض فوه، فإن بطلانه لا يخفى على مسلم مهما كان غبيا!
و لتقريب ما ذكرت من الخيرية إلى أذهان القراء المحبين للحق الحريصين على
معرفته و اتباعه، الذين لا يهولهم جعجعة الصائحين، و صراخ الممثلين، و
اضطراب الموتورين من الحاسدين و الحاقدين من الخطباء و الكاتبين: أقول لأولئك
المحبين: تذكروا على الأقل حديثين اثنين لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
أحدهما: ” إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى حجرها “. أخرجه
البخاري و مسلم و غيرهما. و الآخر: ” لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق
حتى يأتيهم أمر الله و هم ظاهرون “، و هو حديث صحيح متواتر رواه جماعة من
الصحابة، و تقدم تخريجه عن جمع منهم برقم (270 و 1108 و 1955 و 1956)، و ”
صحيح أبي داود ” (1245)، و في بعضها أنهم ” أهل المغرب ” أي الشام، و جاء
ذلك مفسرا عند البخاري و غيره عن معاذ، و عند الترمذي و غيره مرفوعا بلفظ: ”
إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم، و لا تزال طائفة من أمتي .. ” الحديث. و في
هذه الأحاديث إشارة قوية إلى أن العبرة في البلاد إنما هي بالسكان و ليس
بالحيطان. و قد أفصح عن هذه الحقيقة سلمان الفارسي رضي الله عنه حين كتب أبو
الدرداء إليه: أن هلم إلى الأرض المقدسة، فكتب إليه سلمان: إن الأرض المقدسة
لا تقدس أحدا، و إنما يقدس الإنسان عمله. (موطأ مالك 2/ 235). و لذلك فمن
الجهل المميت و الحماقة المتناهية – إن لم أقل و قلة الدين – أن يختار خطيب
أخرق الإقامة تحت الاحتلال اليهودي، و يوجب على الجزائريين المضطهدين أن
يهاجروا إلى (تل أبيب)، دون بلده المسلم (عمان) مثلا، بل و دون مكة و
المدينة، متجاهلا ما نشره اليهود في فلسطين بعامة، و (تل أبيب) و (حيفا)
و (يافا) بخاصة من الفسق و الفجور و الخلاعة حتى سرى ذلك بين كثير من
المسلمين و المسلمات بحكم المجاورة و العدوى، مما لا يخفى على من ساكنهم ثم
نجاه الله منهم، أو يتردد على أهله هناك لزيارتهم في بعض الأحيان. و ليس بخاف
على أحد أوتي شيئا من العلم ما في ذاك الاختيار من المخالفة لصريح قوله تعالى
* (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا: فيم كنتم؟ قالوا: كنا
مستضعفين في الأرض، قالوا: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟! فأولئك
مأواهم جهنم و ساءت مصيرا. إلا المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان لا
يستطيعون حيلة و لا يهتدون سبيلا. فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم و كان الله
عفوا غفورا، و من يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما (أي تحولا) كثيرا
و سعة، و من يخرج من بيته مهاجرا إلى الله و رسوله ثم يدركه الموت فقد وقع
أجره على الله و كان الله غفورا رحيما) * (النساء 97 – 100). قال الحافظ ابن
كثير في ” تفسيره ” (1/ 542): ” نزلت هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام
بين ظهراني المشركين، و هو قادر على الهجرة، و ليس متمكنا من إقامة الدين،
فهو ظالم لنفسه، مرتكب حراما بالإجماع، و بنص هذه الآية “. و إن مما لا يشك
فيه العالم الفقيه أن الآية بعمومها تدل على أكثر من الهجرة من بلاد الكفر، و
قد صرح بذلك الإمام القرطبي، فقال في ” تفسيره ” (5/ 346): ” و في هذه
الآية دليل على هجران الأرض التي يعمل فيها بالمعاصي، و قال سعيد ابن جبير:
إذا عمل بالمعاصي في أرض فاخرج منها، و تلا: * (ألم تكن أرض الله واسعة
فتهاجروا فيها؟) * “. و هذا الأثر رواه ابن أبي حاتم في ” تفسيره ” (2/ 174
/ 1) بسند صحيح عن سعيد. و أشار إليه الحافظ في ” الفتح ” فقال (8/ 263):
” و استنبط سعيد بن جبير من هذه الآية وجوب الهجرة من الأرض التي يعمل فيها
بالمعصية “. و قد يظن بعض الجهلة من الخطباء و الدكاترة و الأساتذة، أن قوله
صلى الله عليه وسلم: ” لا هجرة بعد الفتح ” <1> ناسخ للهجرة مطلقا، و هو جهل
فاضح بالكتاب و السنة و أقوال الأئمة، و قد سمعت ذلك من بعض مدعي العلم من
الأساتذة في مناقشة جرت بيني و بينه بمناسبة الفتنة التي أثارها علي ذلك الخطيب
المشار إليه آنفا، فلما ذكرته بالحديث الصريح في عدم انقطاع التوبة المتقدم
بلفظ: ” لا تنقطع الهجرة .. ” إلخ .. لم يحر جوابا! و بهذه المناسبة أنقل إلى
القراء الكرام ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في الحديثين المذكورين، و أنه لا
تعارض بينهما، فقال في ” مجموع الفتاوى ” (18/ 281): ” و كلاهما حق،
فالأول أراد به الهجرة المعهودة في زمانه، و هي الهجرة إلى المدينة من مكة و
غيرها من أرض العرب، فإن هذه الهجرة كانت مشروعة لما كانت مكة و غيرها دار كفر
و حرب، و كان الإيمان بالمدينة، فكانت الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام
واجبة لمن قدر عليها، فلما فتحت مكة و صارت دار الإسلام و دخلت العرب في
الإسلام صارت هذه الأرض كلها دار الإسلام، فقال: ” لا هجرة بعد الفتح “، و
كون الأرض دار كفر و دار إيمان، أو دار فاسقين ليست صفة لازمة لها: بل هي صفة
عارضة بحسب سكانها …