145 لطائف التفسير والمعاني
لطائف التفسير والمعاني
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
استعمال لفظة مفردة بدل المثنى أو الجمع لمعنى دقيق. ننقله من كلام ابن القيم ثم ننقل بحث فيه أغراض العدول عن بعض الألفاظ لألفاظ أخرى
قال ابن القيم:
” قَالَ الْفراء إِنَّمَا قَالَ {إِمَامًا} وَلم يقل أَئِمَّة على نَحْو قَوْله {إِنَّا رَسُول رب الْعَالمين} وَلم يقل رَسُولا وَهُوَ من الْوَاحِد المُرَاد بِهِ الْجمع … وَهَذَا أحسن الْأَقْوَال غير أَنه يحْتَاج إِلَى مزِيد بَيَان وَهُوَ أَن الْمُتَّقِينَ كلهم على طَرِيق وَاحِد ومعبودهم وَاحِد وَأَتْبَاع كتاب وَاحِد وَنَبِي وَاحِد وَعبيد رب وَاحِد فدينهم وَاحِد ونبيهم وَاحِد وكتابهم وَاحِد ومعبودهم وَاحِد فكأنهم كلهم إِمَام وَاحِد لمن بعدهمْ ليسو كالأئمة الْمُخْتَلِفين الَّذين قد اخْتلفت طرائقهم ومذاهبهم وعقائدهم فالائتمام إِنَّمَا هُوَ بماهم عَلَيْهِ وَهُوَ شَيْء وَاحِد وَهُوَ الإِمَام فِي الْحَقِيقَة” (رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه)
—-
وهناك بحوث حول العدول عن بعض الألفاظ لاغراض بلاغية: لكن لفت انتباهي هذه البحث وهو
التلوين الصوتي بالعدول في النص القرآني
دكتور
أسامة عبد العزيز جاب الله
كلية الآداب – جامعة كفر الشيخ
تنبيه: ينتبه من بعض التفاسير التي حذر العلماء منها وانها تؤصل لبعض البدع مثل تفسير الزمخشري
قال المؤلف:
تتعدد المصطلحات البلاغية الدالة على كسر النسق التعبيري، ومخالفة السياق الكلامي إلى نسق آخر رغبة في قصدية ما. فالموروث البلاغي يحوي طائفة من المصطلحات الدالة على هذا الشكل من التعبير، مثلما نجد في سياقات المصطلحات الآتية مثل: (الصّرْف) و (العُدول) و (الانصراف) و (التَّلَوُّن) و (مخالفة مقتضى الظاهر) و (شجاعة العربية) (). وهي تشترك جميعاً في التحول أو الانحراف عن المألوف من أنساق التعبير، وهذا التحول في خالص أمره ظاهرة أسلوبية تحقق مبدأي الانزياح والاختيار، وكسر أفق التوقعات المعتادة ().
وأهل البلاغة رغم إيمانهم بوجود مستويين من مستويات التعبير لأي نمط إبداعي يتمثلان في؛ المستوى الأصلي (المثالي) أو ما يطلق عليه حديثاً (البنية العميقة Deep structure) ، والمستوى السطحي (الفني) أو ما يطلق عليه (البنية السطحية Surface Structure ) ، إلا أنهم لا يعطون البنية المثالية أي أهمية إلا من حيث كونها نقطة انطلاق لدراساتهم التحليلية لتحولات البنية في الأشكال البلاغية عن القواعد المثالية إلى الصورة العدولية، فتصبح القاعدة المثالية اصل محايد يبرز جماليات الشكل البلاغي، ويوّجه مرتكزاته السياقية والدلالية في إطار خطابه للمتلقي حين يستحضر الأصل المثالي ويقارنه بالناتج الصياغي النهائي.
يقول ابن أبي الإصبع: ” العرب متى أرادت المبالغة التامة في شيء، قلبت الكلام فيه عن وجهه، ليتنبه السامع عندما يرد على سمعه كلام قد خولف فيه عادة أهل اللسان، إلى أن هذا إنما ورد لفائدة، فينتظر فيرى حصول زيادة الكلام مبالغة، ولو لم يقلب لم تحصل “.
ويمدح ابن الأثير مثل هذا الانزياح التعبيري للصيغ في العربية، ويجعله أمارة دالة على مدى بلاغة المبدِع، وثراء اللغة، لأن هذا الانزياح يكسب النص جمالاً فنياً ينبع من غموض المعنى الذي هو لبّ الفن والأدب. يقول ابن الأثير: ” اعلم أيها المتوشح لمعرفة علم البيان أن العدول عن صيغة من الألفاظ إلى صيغة أخرى، لا يكون إلا لنوع خصوصيته اقتضت ذلك. وهو لا يتوخاه في كلامه إلا العارف برموز الفصاحة والبلاغة، الذي اطلع على أسرارها، وفتّش عن دفائنها. ولا تجد ذلك في كلام فإنه من أشكل ضروب علم البيان، وأدقها فهماً، وأغمضها طريقاً “.
وهذا العدول الجمالي لون من فنيات التلوين الصوتي والدلالي في اللغة، بل هو أعلاها جمالية، وأسماها نصية. يقول الإمام عبد القاهر: ” إن صور المعاني لا تتغير بنقلها من لفظ إلى لفظ، حتى يكون هناك اتساع ومجاز، وحتى لا يراد من الألفاظ ظواهر ما وُضِعت له ف اللغة، ولكن يشار بمعانيها إلى معانٍ أخر “.
وبمعاودة النظر في القرآن الكريم لوحظ توظيف القرآن الكريم لألوان متنوعة من العدول في سياقاته، تكتسب هذه الألوان الكثير من الجماليات في هذه السياقات القرآنية، مما يوجب علينا أن نتعرض لمثل هذه التلوينات من العدول في هذه السياقات، ومحاولة تثوير الدلالات فيها، والغوص على نصيات المقام في مراميها، رغبة في استكناه هذا اللون من الإعجاز التوظيفي للنص القرآني.
ا – العدول عن نظائر المفردة:
لا شك أن ألفاظ القرآن الكريم تمكن في أماكنها، ولا يمكن أن يحل محلّ أي لفظ في القرآن غيره، غذ هو الذي يراد هنا لا غيره. واختيار اللفظ القرآني يخضع – كما قلنا من قبل – لمحددات عديدة، كما يخضع لسياق السورة التي ورد فيها، و روحها، ويخضع للسياق النصي القريب والبعيد، ويخضع للتناسب الدلالي، والتناسق التعبيري.
والنص القرآني حين اختار المفردة إنما انتقاها من بين نظائرها المتعددة التي تؤدي معناها، بل عن بعضها يزيد عن معناها في غير القرآن الكريم. لكن التوظيف القرآني لهذه المفردة دون نظائرها أمر مقصود ومراد، لا يُنْظَر إليه في وضعها المفرد، بل لا بد من الإحاطة بالصورة الكلية التي وظفت المفردة في إطارها.
* فمثلاً قوله تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَاخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ. فإن لفظ (ليأخذوه) هنا موظف دلالياً بمعنى (ليقتلوه)، لكن لمَ لمْ يوظف هذا المرادف الدال على المعنى، وعدل إلى لفظ مناظر دون اللفظ الأصل؟ يقول الباقلاني: ” هل تقع موقع (ليأخذوه) كلمة؟ وهل تقوم مقامه في الجزالة لفظة؟ وهل يسد مسده في الأصالة نكتة؟ لو وُضِعَ موضع ذلك (ليقتلوه) أو (ليرجموه) أو (ليطردوه) أو (ليهلكوه) أو (ليذلوه) أو نحو هذا، ما كان ذلك بديعاً، ولا بارعاً ولا عجيباً ولا بالغاً … فانْقُد موضع الكلمة تعلم بها ما نذهب عليه من تخيُّر الكلام، وانتقاء الألفاظ، والاهتداء إلى المعاني “.
ولعلّ وقوف الباقلاني أمام لفظة (ليأخذوه) في الآية الكريمة مسوّغه أن النص القرآني قد اختار لفظة تحمل في دلالاتها الواسعة كل معاني المفردات التي عددها، وهذا مما يتناسب مع نية كل أمة لا تؤمن برسولها، إذ تتنوع النوايا السيئة بين المعاني التي عددها الباقلاني من قتل أو نفي أو طرد أو إهلاك أو إيذاء. ولا تجد لفظة تحمل شحنات هذه الدلالات مجتمعة بشمولها وعموميتها سوى ما عبّر به القرآن الكريم في لفظة (ليأخذوه).
* ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: ( اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَاخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ). إذ نجد التعبير (بين أيديهم) يمكن أن يستدعي في الذهن الظرف (أمامهم) لمناسبة الظرف اللاحق وهو (خلفهم)، فيمكن أن يكون أصل الكلام – في غير القرآن-: (يعلم ما أمامهم وما خلفهم)، ولكن ذلك لم يتم التعبير به فلمَ حدث هذا؟
ومن فرائد التوظيف أن القرآن الكريم يجمع بين التعبير بظرف المكان (بين) – كلمة (اليد) في تجاور دلالي مع الظرف (خلفهم) في (15 خمس عشرة آية)، مما يجعل من التركيب الظرفي (بين – اليد) مساوياً في المعنى لكلمة (أمام) التي هي أيضا ظرف، وذلك ليتم إيجاد نوع من التناسب اللفظي في سياق هذه الآيات، لكن ذلك لم يتم! يقول الزمخشري: ” يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ، ما كان قبلهم، وما يكون بعدهم. والضمير لما في السماوات والأرض لأن فيهم العقلاء “.
فقد جعل الظرفين هنا غير متعيّنين للمكان بل هما للزمان، إذ دلّا دلالة شاملة على استغراق الزمن الماضي والزمن الآتي، وهذا مما يتسق مع علم المولى عز وجل فهو العليم الحكيم. غير أن الزمخشري جعل من التصاق الضمائر بهذين الظرفين إضماراً لأهل السماوات والأرض، لكونهم أشد تعلقاً بما يحدث من أحداث في هذا الزمن.
ونجد عند أبي حيان لمحة تفصيلية أكبر إذ يقول: ” ضمر الجمع عائد على ما وهم الخلق، غلب على من يعقل، فجمع الضمير جمع من يعقل. وهو عائد على من يعقل من الأنبياء والملائكة مراعاة لقوله مَن ذَا الَّذِي. قال ابن عباس: (ما بين أيديهم) أمر الآخرة، و (ما خلفهم) أمر الدنيا. والذي يظهر أن هذا كناية عن إحاطة علمه تعالى بسائر المخلوقات من جميع الجهات. وكنى بهاتين الجهتين عن سائر الجهات لأحوال المعلومات، والإحاطة تقتضي الحفوف بالشيء من جميع جهاته “.
فقد أبان هنا عن المعنى الذي من أجله جاء التعبير (بين أيديهم) وهو إفادة الإحاطة الزمنية لا المكانية، ولو عبّر بالظرف (أمام) لالتبس الأمر هنا بالمكان لا الزمان. كذلك لو عبّر بالظرف (أمامهم) لتطرق الذهن إلى تشخيص الجهات مما لم يذكر هنا، وهذا بالطبع محال في علم الله، إذ علمه محيط شامل.
هكذا نرى في عدول النص القرآني عن نظائر المفردة تلويناً دلالياً أكثر شمولاً واتساعاً من الحصر في نطاق دلالة معينة، لأن مناط التوظيف هنا هو الاتساق مع السياق.
هذا وقد لمسنا في القرآن الكريم بعض المواضع التي عدل فيها عن نظائر المفردة إلى مفردة بعينها يجملها الجدول التالي:
م السورة رقم الآية الآية النظائر
1 – البقرة 61 الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ أعلى- أفضل
2 – **** 66 نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا أمامها
3 – **** 88 وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ محجوبة – مستورة – ممنوعة
4 – **** 97 مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ قبله – أمامه
5 – **** 184 وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ يستطيعونه – يتحملونه
6 – **** 220 وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ أتعبكم- شدّد عليكم
7 – **** 255 يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ أمامهم
8 – النساء 2 إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً ظلما- جورا -حيفا – إجحافا
9 – **** 3 فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء تيسّر
10 – **** 3 ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا تظلموا – تجوروا
11 – **** 4 وَآتُوا النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً هبة – فريضة – عطية
12 – **** 100 يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً مُهَاجرا
13 – المائدة 12 وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ عظّمتموهم
14 – **** 14 فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء هيّجنا – أجرينا
15 – الأنعام 70 وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ تُحْبس- تُمنَع – تُرهَن
16 – النور 50 يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ يجور- يظلم
17 – لقمان 32 وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ غدّار
18 – سبا 52 وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ التأخير
19 – الصافات 14 وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ يسخرون
20 – الشورى 34 أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ يهلكهن
21 – الزخرف 55 فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ أغضبونا
22 – الأحقاف 22 قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَافِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا لتصرفنا
23 – محمد 35 وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ يظلمكم
24 – الحجرات 14 لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً ينقصكم
25 – الحشر 5 مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً نخلة
26 – القلم 25 وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ حقد – غضب
جدول رقم (8)
وذكرنا لهذه المواضع التي تم فيها العدول عن نظائر المفردة إلى التعبير بها هو من باب التدليل على فرادة التوظيف في النص القرآني، وليس ذلك طلباً للغريب من الألفاظ فيه، إذ لهذا مواضعه من كتب الغريب، وإنما الأمر فقط على تحري جمالية التوظيف لمثل هذه الأساليب العدولية في سياقاته الكريمة.
ب: العدول عن الملائم إلى المجاور:
يلجأ النص القرآني في توظيفه للمفردة إلى إيراد بعض الألفاظ المجاورة لها في المعنى بعيداً عن الترادف، وهذا التجاور في حقيقة أمره عدول سياقي عن ألفاظ أكثر مناسبة – في غير القرآن – لهذه المفردة من هذا المجاور الدلالي. فعلى سبيل المثال نلمس في الآيات التالية:
1 – قوله تعالى: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ. عدول عن اللفظ الملائم للفعل (كفروا) وهو لفظ (الكافرين) إلى مجاور دلالي هو لفظ (الفاسقين).
2 – قوله تعالى: وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ، عدول عن اللفظ الملائم للفعل (كفروا) وهو لفظ (كافرين) إلى مجاور دلالي هو لفظ (فاسقين).
3 – قوله تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَاتِهِمْ تَاوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ، عدول عن الملائم للفعل (كذب) وهو (الكاذبين) إلى مجاور دلالي هو لفظ (الظالمين).
4 – قوله تعالى: وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ، عدول عن اللفظ الملائم للفعل (توكلوا) وهو لفظ (متوكلين) إلى مجاور دلالي هو لفظ (مسلمين).
5 – قوله تعالى: مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ، عدول عن اللفظ الملائم للفعل (يضلل) وهو لفظ (الضالون) إلى مجاور دلالي هو لفظ (الخاسرون).
6 – قوله تعالى: إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّاتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَعلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، عدول عن اللفظ الملائم للفعل (يتوكل) وهو لفظ (المتوكلون) إلى مجاور دلالي هو لفظ (المؤمنون).
وهذه الألوان من العدول عن الملائم إلى المجاور الدلالي تجمل شحنات سياقية ونصية فريدة. فمثلاً ما نلمسه في قوله تعالى في سورة (إبراهيم: 11): إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّاتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَعلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ. تم العدول عن كلمة (المتوكلون) كفاصلة للآية، وملائمة في الوقت نفسه للفعل (يتوكل) قبلها، إلى التعبير بكلمة مجاورة في الدلالة هي كلمة (المؤمنون)، فلم تم هذا العدول؟
نلاحظ أن هذا العدول تم في إطار الحفاظ على النسق الإيقاعي للفاصلة، وتجنب تكرارها مرة أخرى، إذ أن الفاصلة في الآية التالية لهذه الآية مبنية على كلمة (المتوكلون) في قوله تعالى: وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ، فعدل إلى لفظة أعمّ تحمل في دلالاتها صفة التوكل، وهي كلمة (المؤمنون)، فأفاد بذلك الحفاظ على نسق الفواصل بعدم تكرارها، والتعبير بالأعم الذي يضم الأخص في جنباته.
أما بخصوص السياق في كل آية، فالمعنى في الآية الأولى يدور على دلالة المناجاة والجدل من جانب أنبياء الله لأقوامهم، وكيف أن هذه النبوة ليست اجتهاداً من عند أنفسهم، بل هي منة من الله عليهم، وليس في مقدور أي نبي أن يعدكم بأي سلطان أو ملك إلا بإذن الله. ولذا فإن الموعود بهذه النعم والخيرات إنما هو من اتبع هذا السبيل فآمن، وتوكل على الله، فعندئذ يكون له من الله كل الخير والثواب، ولن يحظ بهذا كله إلا المؤمنون المتوكلون على الله.
والسياق في الآية الثانية على تفصيل معنى التوكل على الله وتفويض الأمر إليه من جانب هؤلاء المرسلين، فهو الذي هداهم لهذا الطريق، واصطفاهم للنبوة، فحري بهم الصبر على كل الأذى من جانب هؤلاء الكفار، والاستمرار في الدعوة إلى سبيل الله مهما كانت الصعوبات والعراقيل، ثقة به وفي الله، لأن من توكل عليه أفلح ونجا.
فالآية الأولى تدور على توكيد معنى الإيمان أولاً، فناسب ذلك أن تكون فاصلتها معقودة بكلمة (المؤمنون)، أما الآية الثانية فالمعنى فيها على توكيد معنى التوكل، فناسب ذلك ذكر الفاصلة مبنية على كلمة (المتوكلون)، رعاية لسياق المعنى في كل آية. يقول الأنصاري: ” قوله: وَعلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ قال ذلك هنا، وقال بعد ذلك: وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ لأن الإيمان سابق على التوكل “.
وهذا يتسق مع ما ذكرناه هنا في سياق التحليل.
* ومن ذلك قوله تعالى: مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ، إذ تم العدول عن اللفظ الملائم للفعل (يضلل) وهو لفظ (الضالون) إلى مجاور دلالي هو لفظ (الخاسرون). يقول الزمخشري: ” فَهُوَ الْمُهْتَدِي حمْل على اللفظ، و فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ حمْل على المعنى “.
فهذا حُمِلَ على اللفظ إذ قال (يهدي) فجاء اللفظ مناسباً لمعنى الفعل أي (المهتَدي). أما اللفظ الآخر فجاء مناسباً للمعنى لا اللفظ لما قال (يضلل)، فناسبه بالمجاور المعنوي للضلال وهي كلمة (الخاسرون).
أما البيضاوي فينظر من زاوية التعبير بالمفرد في جانب الهداية، والتعبير بالجمع في جانب الضلال، وذلك مناسبة لسياقات سابقة في السورة. يقول: ” هذا تصريح بأن الهدى والضلال من الله، وأن هداية الله تختص ببعض دون بعض، وأنها مستلزمة للاهتداء والإفراد في الأول، والجمع في الثاني باعتبار اللفظ، والمعنى على أن المهتدين كواحد لاتحاد طريقهم بخلاف الضالين. والاقتصار عمن هاده الله (بالمهتدي) تعظيم لشأن الاهتداء، وتنبيه على أنه في نفسه كمال جسيم، ونفع عظيم، لو لم يحصل له غيره لكفاه، وأنه المستلزم للفوز بالنعم الآجلة والعنوان لها “.
فقد جعل هنا أهل الهداية فرداً واحداً لاتحاد طريقهم الإيماني، لأن صراط الله المستقيم واحد، فناسب ذلك الإفراد في جانب الهداية، وناسب بالجمع في جانب الإضلال والخسران لأنه متشعب الطرق، مختلف السبل. يقول أبو حيان: ” ناسب الإفراد هناك لأن المهتدي قليل، وناسب الجمع في الثانية لأن الضالين كثير “.
غير أن هؤلاء الأعلام عبروا بالكناية فقد عن سبب العدول عن لفظة (الضالون) إلى لفظة (الخاسرون)، فدار حديثهم عن الثواب العظيم لأهل الهداية، وما ينتظرهم من ثواب ونعيم مقيم، فيهم هنا على سبيل التضمين والكناية ما ينتظر الفئة الضالة من عقاب وعذاب أليم. وباستقراء الأمر نجد أن المولى – عز وجل – يجعل التعبير في الآية بلفظ (الخاسرون) وتوكيده بالضمير (هم) بعد اسم الإشارة (أولئك)، كل ذلك يتم في سياق التعبير بالمآل لا الوصف للحال. فلو كان المراد الوصف للحال لجاء اللفظ مناسباً للفعل (يضلل) فقال (هم الضالون)، لكن السياق المقامي يقتضي تبيان المآل والعاقبة، فلذا جاء توظيف لفظ (الخاسرون) مناسباً لسياق التعبير بالفعل (يضلل) مسنداً إلى لفظ الجلالة (الله)، كيف يستقيم أن يضل الله أحداً فيكون (ضالاً) فقط، ثم يقبل المنطق العقلي (تخيّلاً) أنه قد يهتدي فيما بعد. لكن الأمر عندما يكون من الله فلا هداية مطلقاً فقد أضله الله فخسر وخسر، ولذا عبر بالاسم الثابت الدلالة (الخاسرون)، فالأمر هنا على ثبوت الحكم قطعياً لا ظنياً.
وهكذا فإن العدول عن الملائم هنا إلى المجاور كان أكثر مناسبة للمعنى، وأكثر إثراءً للسياق النصي، وأكثر تعضيداً للجمالية الدلالية المبنية على التوازي والتوازن معاً.
ج – العدول عن الاسمية إلى الفعلية والعكس:
يوظف القرآن بنية الكلمة في حالات الاسمية والفعلية بما يخدم سياق الآيات، ويحفظ رونق التعبير. إذ من المعلوم أن التعبير بالفعل يدل على التجدد والاستمرار، في حين أن التعبير بالاسم يقتضي التأكيد على معنى الثبات والدوام. يقول عبد القاهر: ” إن موضوع الاسم على أن يثبت به المعنى للشيء من غير أ يقتضي تجدده شيئاً بعد شيء. وأما الفعل فموضوعه على أن يقتضي تجدد المعنى المثبت به شيئاً بعد شيء “.
وعلى هذا التأسيس البلاغي يكون طرح الأمثلة القرآنية التي وظفها النص القرآني في سياق عدول يتراوح توظيفياً بين الاسمية والفعلية لبعض الكلمات.
* فمن ذلك قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ. فقد وظف في الآية الفعل (يُخْرِج) مع حالة الخلق، ووظف الاسم بصيغة اسم الفاعل (مُخْرِج) مع الإفناء. فلم هذا العدول التوظيفي لبنية لغوية واحدة تعود إلى مادة (خرج)، تنوعت هنا بين الاسمية والفعلية؟
يقول د. فاضل السامرائي: ” استعمل الفعل مع الحي فقال (يُخْرِج)، واستعمل الاسم مع الميّت فقال (مُخْرِج)، وذلك لأن أبرز صفات الحيّ الحركة والتجدد، فجاء معه بالصيغة الفعلية الدالة على الحركة والتجدد. ولأن الميّت في حالة همود وسكون وثبات جاء معه الصيغة الاسمية الدالة على الثبات ” ().
فاقتضاء التوازي الإيقاعي في الآية يوجب أن يكون شكل الجمل – في غير القرآن – كما يلي:
يُخْرِجُ الحيّ من الميّت ـــــــــــ يُخْرِجُ الميّت من الحيّ
فكُسِرَ هذا النسق التعبيري إرادة للدلالات المبتغاة من التعبير بالفعل في حالة الإيجاد الحياتي لاستلزام ذلك الحركة، وتجدد الفعل والحدث دلالة على قدرة الخالق. واستلزم التعبير بالاسم من الصيغة ذاتها حين وصف عملية الإفناء، للتأكيد على ثبوت هذا المعنى في حقه سبحانه وتعالى وحده.
غير أننا نجد في القرآن الكريم ما يستوي فيه الطرفان في التعبير بالفعلية مثلما نجد في:
* قوله تعالى: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَاب.
* وقوله تعالى: قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ.
* وقوله تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ.
فلمَ عدل في هذه الآيات عن التعبير بالاسمية، واعتمد التعبير بالفعلية في صيغة الفعل (خَرَجَ) في الطرفين بخلاف آية سورة الأنعام؟ والإجابة عن هذا العدول نجد ظلالها عن الإمام الأنصاري إذ يقول: ” قوله يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ قال ذلك هنا، وقال في آل عمران ويونس والروم وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ بالفعل لأن ما هنا وقع بعد اسم فاعل وهو (فالق). وقيل اسمي فاعل هما (فالق) و (جاعل)، فناسب ذكر (مُخْرِج) لكونه اسم فاعل، وخُصّ بالاسم لتكرار الاسمين بعده، وخص (يُخْرِج الحيّ) قبله بالفعل إذ لم يتقدمه إلا اسم واحد. وما في بقية السور لم يقع قبله إلا أفعال فناسب ذكره بالفعل “.
فما ورد في سورة آل عمران من التعبير بالاسم (مُخْرِج) لأنه وقع بين اسمي فاعل هما (فالق الحبَّ) و (فالق الإصباح)، واسم الفاعل يشبه الاسم من وجهٍ؛ فيدخله الألف واللام والتنوين والجار. ويشبه الفعل من وجهٍ، فيعمل عمل الفعل، ولهذا جاز العطف عليه بالاسم، وجاز العطف عليه بالفعل. وعلى ضوء قاعدة العمل بالشبيهين بالنسبة لاسم الفاعل، ناسب بذكر الاسم ما قبله من أسماء، وناسب بذكر الفعل ما قبله وبعده من أفعال.
وهكذا يكون تفسير هذا العدول الجمالي من الفعلية إلى الاسمية، في سياق الآيات القرآنية متصلاً بالسياقات القبلية والبعدية لهذه الآيات.
* ومنه قوله تعالى: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ. فعدل عن التعبير بالفعلية في جانب المصطفى إلى التعبير بالاسم بقوله (تابع) بدلاً من بالفعل (تبعت)، فلمَ تمّ هذا العدول؟
بدايةً: المعنى في الآية القرآنية يدور حول فكرة تسلية الرسول عن عدم متابعة أهل الكتاب له، وعدم الإيمان به، والإخبار ببراءته عليه من اتباع قبلة هؤلاء اليهود. وعلى هذا المعنى يمكننا التأسيس والتفسير لهذا العدول. فالمعنى على إرادة التجدد لحدوث الفعل في جانب اليهود بأنهم لم يتّبعوا ولن يتّبعوا الرسول في هذا الوقت، لكن إرادة التجدد يمكن أن تشمل هؤلاء اليهود فيؤمنوا فيما بعد. فالأمر هنا مستفاد من التعبير بالفعلية في جانب اليهود، وإمكانية تغيّر هذا الموقف فيما بعد.
أما التعبير بالاسمية بكلمة (تابع) اسم الفاعل في جانب الرسول صلى الله عليه وسلم، فالدلالة فيه على الثبات في الاستمرارية لهذه الصفة، فهي لن تتغير لاستحالة أن يُغَيِّر المصطفى دينه، ويتبع دين اليهود، فهذا مما لا سبيل إليه على الإطلاق. فناسب التعبير بالاسمية هنا في هذا الموقف، وجاء العدول ملائماً للسياق النصي لهذه الآية.
* والقرآن الكريم يوظف الصيغ الاسمية في سياقات قرآنية متعددة رغم دلالتها على حدث لم يحدث بعد، يعني أنه متجدد ومستمر في الحدوث، وهذا أيضاً من العدول التوظيفي إذ يجعل الأمر الذي لم يحدث بعد بمنزلة الحادث فعلاً، والمستقر الثابت في حدوثه. فمن ذلك قوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ. فالأمر في الآية أنه لم يجعل هذا الخليفة وقت هذا الكلام، فكيف يُعَبِّر بالاسم (جاعل) للدلالة على سياق حدث متجدد حتى حدوثه؟ وهذا يتم لأن الأمر على صفة الحدوث المؤكَّد، لذا ورد بصيغة اسم الفاعل (جاعِل) دون الفعل (سأَجْعَل)، فالأمر حادث لا محالة، فكأنه تمّ واستقر وثَبَت.
ويندرج في الإطار ذاته قوله تعالى: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ. إذ عَدَلَ عن التعبير بصيغة الفعل (سيغرقون) إلى التعبير بصيغة اسم المفعول (مُغْرَقون) في وصف حدث لم يحدث بعد، لكنه صادر عن الله سبحانه وتعالى، فكأنه تمّ واستقر.
وكذلك قوله تعالى: وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ. إذ عَدَلَ عن التعبير بصيغة الفعل (سنهلك) إلى التعبير بصيغة اسم الفاعل للجمع (مهلِكُو) في وصف حدث لم يحدث بعد، لكنه معنى ثبوت الحدث، فكأنه تمّ واستقر وانتهى.
وهذا التوظيف العدولي للصيغ يُعَدّ من تفردات النص القرآني في توظيف الكلمة القرآنية في إطارات وتشكيلات لغوية فريدة، وما نتج عنها من جماليات إذا ما وظفت في السياق القرآني.
* أما العدول عن الاسمية إلى الفعلية فقد تلمسناه في النص القرآني في قوله تعالى: وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَاكُلُونَ. فقد عدل عن التعبير بصيغة الاسم (مأكلهم) إلى الصيغة الفعلية (يَاكُلون)، وهذا العدول على معنى التجدد والاستمرار في الحدث وهو (الأكل)، وذلك أن هذه الأنعام خُلِقَت أولاً من أجل مهمة محددة وهي (توفير الراحلة)، ثم تأتي مهمة كونها طعاماً وزاداً لهم ثانية لا أولى.
ولذا فإنه لمّا عبّر بالاسم (رَكُوب) إنما أراد ثبات هذه الصفة ودوامها / فالأنعام خُلِقَت من أجل هذا الغرض أولاً، ولذا فإن الأمر يقتضي هنا التأكيد على ثبات واستقرار هذه الصفة. أما التعبير بالفعل في (يأكلون) إفادة للتجدد والاستمرار في هذا الفعل، ولو عبَّر بالاسمية فيه فقال – في غير القرآن – (مأكلهم) لاستلزم ذلك أن الأنعام جميعها بلا استثناء أهل للمأكَل، وهذا مما تنقضه العادة، ويكذبه الواقع. ولذا فإن جمالية التعبير بالفعلية هنا ملمَح ذكي في هذا الانتقاء للمفردة، وتأكيد فنية الاختيار والانتقاء لما يأكَل من هذه الأنعام.
* ومن هذا أيضاً قوله تعالى: أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ. فقد تمّ العدول عن التعبير بالاسمية إلى الفعلية في كلمة (يَحِلُّون). وهذا العدول الذي تم كان سياق – في غير القرآن – (لا هنّ حلُ لهم ولا هم حلُّ لهنّ، فلمَ تم هذا العدول؟
فالآية تدور على معنى دلالي واحد وهو الحديث عن المؤمنات من أهل مكة اللائي هاجرن دون أزواجهنّ الكفرة، وكيفية التأكد من صدق إيمانهنّ، والأمر بعدم إرجاعهنّ لأزواجهنّ الكفار. يقول الزمخشري: ” فلا تردوهنّ إلى أزواجهنّ المشركين، لأنه لا حلّ بين المؤمنة والمشرك “.
فالتعبير هنا منقسم قسمين هما:
الأول: (لا هنّ حلّ لهم)، أي أن هؤلاء المؤمنات أصبحن في حرمة على أزواجهنّ المشركين، لأنه لا يجوز لمؤمنة أن تكون زوجة لمشرك بعد إسلامها. فعبّرَ بالصيغة الاسمية (حلّ) تأكيداً على هذا المعنى، وتثبيتاً لهذه الصفة التي لا يمكن أن يُغَيِّرها أي شيء لأنها من أحكام الإسلام.
والقسم الثاني: (لا هم يحلون لهنّ) أي أن هؤلاء المشركين انتفت عنهم صفة الزوجية من هؤلاء المسلمات بإسلامهنّ. ولكن الرحمة الإلهية عَدَلَت عن التعبير بالاسمية في كلمة (حل) إلى التعبير بالفعلية لإمكانية أن يُدرِك هؤلاء المشركون الإسلام فيعودون إلى أزواجهم مرة أخرى. فأفاد التعبير بالفعلية هنا على معنى الرحمة في التشريع، وفتح الباب أما هؤلاء لتجديد الفعل بالإسلام، واسترجاع الحلّة مرة أخرى. ولو عبّر بالصيغة الاسمية لامتنعت عودة هؤلاء الأزواج إلى نسائهم المؤمنات، وذلك بإفادة التعبير بالاسم معنى الثبات والاستقرار، وهذا ما لم يتم.
هكذا يكون النسق التعبيري في القرآن الكريم حين يتعامل مع العدول بين صيغ الكلمة في اسميتها وفعليتها رعاية لمقاصد جمالية، ومرادات سياقية في هذه الآيات.
د – العدول عن توظيف المفردة إلى توظيف التركيب والعكس:
من فرائد التعبير في النص القرآني في إطار السياق العدولي، تبني القرآن الكريم لفنية العدول عن التعبير بالكلمة المفردة إلى التعبير بالتركيب، وعن التعبير بالتركيب إلى التعبير بالكلمة المفردة، وذلك في إطار تبادلي فريد.
* فمن ذلك قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ. فالتوازن الإيقاعي كان يستلزم أن يكون التعبير – في غير القرآن -: (جعل لكم الليل لتسكنوا والنهار لتبصروا فيه). لكن تم العدول عن التعبير بالتركيب (لتبصروا فيه) إلى التعبير بكلمة مفردة هي (مبصراً)، فلمَ تمّ هذا العدول التعبيري مع أن الاستعمال الحقيقي والواقعي للغة يقتضي أن النهار مما يُبْصَرُ فيه وليس مما يُبْصِر؟
والأمر في الآية الكريمة على نهج الجمع بين الحقيقة والمجاز في حيّز دلالي واحد، ولو جعلهما بصورة تعبيرية واحدة أي بصيغة (التركيب) لفاتت المزية الفنية. فلو عبّر بالاسمية في جانب الليل تحقيقاً لمبدأ توازي الجمل إيقاعياً فقال – في غير القرآن -: (هو الذي جعل الليل ساكناً) لانتفت الدلالة على نعمة الله على الخلق من ناحية، ولأصبح موقع (لكم) على الزيادة، كما أن المجازية هنا تنتفي لأن الليل يصح أن يُوصَف بالسكون فنقول: (ليل ساكن). فالعدول إلى الصيغة الاسمية في جانب الليل – لو تمّ – لما كلن له أي فائدة دلالية أو قيمة فنية جمالية، أو تذكير العباد بما أنعم الله عليهم بأن جعل لهم الليل ليسكنوا فيه.
وتحقيقاً للفنية الدلالية أيضاً عدل في جانب النهار عن التعبير بالتركيب الجملي (لتبصروا فيه) إلى التعبير بالكلمة المفردة (مُبْصِراً)، فجمع بين الحقيقة والمجاز، ذلك أن النهار لا يُبْصِر هو، بل يُبْصَر فيه ز فدلّ على المقصد الأهم وهو الدلالة على نعمة الله على عباده. كما أنه حقق الجمالية الفنية في التعبير بالجمع بين الحقيقة والمجاز. ولم تم إعمال مبدأ توازن الجمل وتوازنها لاختل هذا النظم الفريد، إذ كيف يكون شكل التعبير لو قلنا – في غير القرآن: (الليل لتسكنوا فيه والنهار لتبصروا فيه)، أو قلنا: (الليل ساكناً والنهار مبصراً)، فلو تم هذا العدول لفاتت الدلالة على النعمة، ولانتفى القصد الجمالي بتوظيف المجاز في الآية.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَا يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ. فقد عدل في الآية عن التعبير بالمفردة (يهديه) إلى التعبير بالتركيب الجملي (يجعله على صراط مستقيم)، فكيف يفسَّر هذا العدول؟
المعنى في الآية الكريمة يدور على ذمّ أهل الجهل المعاندين لدعوة الهداية، والمكذبين للرسالة، وكيف أن الله وحده بيده مقاليد الأمور في الهداية والإضلال. يقول أبو السعود (ت 951 هـ): ” (مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ) تحقيق للحق، وتقرير لما سبق ممن حالهم ببيان أنهم من أهل الطبع لا يتأتى منهم الإيمان أصلاً. فمن مبتدأ خبره ما بدعه، ومفعول المشيئة محذوف على القاعدة المستمرة من وقوعها شرطاً، وكونها مفعول مضمن الجزاء، وانتفاء الغرابة في تعلقها به، أي: من يشأ الله إضلاله، أي يخلق فيه الضلال … وقس عليه قوله تعالى: (وَمَن يَشَا يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)، لا يضلّ من ذهب إليه، ولا يزل من ثبت قدمه عليه ” ().
والتوازي الإيقاعي الحادث في الآية بين فعلي الله تعالى في جانبي الهداية والإضلال يمكن تمثيله بالشكل التالي: هداية ـــــــــــ الله ــــــــــــ خسران
يجعله على صراط مستقيم ————– يضلله
فالفاعل واحد هو، لكن موضوع الفعل متنوع:
فالفعل الأول (يُضْلِله): من يشأ الله يُضْلله.
والفعل الثاني (يهديه): من يشأ الله يجعله على صراط مستقيم.
والمعنى على تقدير فعل قبل فعل الجزاء، فيصير شكل الجملتين – في غير القرآن – كما يلي:
– من يشأ الله أن يُضلّه (يُضلله) ــــــــــــــــ نتيجة فورية (آنية).
– من يشأ الله أن يهديه (يجعله على صراط مستقيم) ـــــــــــــ (بيان الطرق).
فالجملة الأولى تضمنت التعبير بكلمة فعلية هي (يضلله) على معنى تجدد الفعل والحدث، لا على الحكم القطعي. والجملة الثانية عدلت إلى اصطفاء التركيب (يجعله على صراط مستقيم) لمناظرة ما قبلها في الحكم، ذلك لأن الهداية أمر نهائي لا بد من سلوك الطريق إليها، ولذا بين المولى هذا الطريق لمن أراد هدايته بأن يهديه فيجعله على صراط مستقيم. ولعل لنا من قوله تعالى: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ شاهد ودليل على هذا المعنى. يقول السمرقندي (ت 396 هـ): ” (من يشأ الله يُضْلله) يعني يخذله فيموت على الكفر، (و من يشأ الله يجعله على صراط مستقيم) يعني يستنقذه من الكفر فيرفقه للإسلام “. وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه من تحليل للعدول في الآية.
* ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ. فقد عدل عن التعبير بالتركيب الجملي المحقق لبنية التوازن الإيقاعي في الآية وهو (الذين كذبوا) إلى التعبير بكلمة مفردة دالة على معنى هذا التركيب وهي (الكاذبين). فما دلالة هذا العدول؟
والمعنى في الآية الكريمة على معاتبة الرسول صلى الله عليه وسلم في إذنه لهؤلاء المرتابين في إيمانهم لمّا أرادوا التخلف عن الجهاد في سبيل الله. يقول ابن كثير: ” قال مجاهد: نزلت هذه الآية في أناس قالوا: استأذنوا رسول الله فإن أذن لكم فاقعدوا، وإن لم يأذن لكم فاقعدوا. ولهذا قال تعالى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا أي: في إبداء الأعذار “.
ومن جميل التأويل ما لمحه أبو السعود في الآية بقوله: ” وتغيير الأسلوب بأن عبّر عن الفريق الأول بالموصول الذي صلته فعل دال على الحدوث، وعن الفريق الثاني باسم الفاعل المفيد للدوام، للإيذان بأن ما ظهر من الأولين صدق حادث في أمر خاص غير مصحح لنظمهم في سلك الصادقين، وأن ما صدر من الآخرين وإن كان كذباً حادثاً بأمر خاص، لكنه أمر جار على عادتهم المستمرة، ناشئ عن رسوخهم في الكذب “.
وهذا التحليل الدقيق للإمام أبي السعود يصيب الهدف ويربو على ذلك، فقد لمح في التعبير بالصيغة الفعلية (صدقوا) تجدداً حادثاً لهذا الفعل، وإن كان هذا الصدق منظور إليه بحذر. وهذا واضح من سياق الآية؛ إذ عبّر قبل هذا الفعل بفعل آخر اشد في التحري هو (يتَبَيَّن)، وليس التبيّن هنا هو صدق العذر أو كذبه، بل مدار الأمر على تبيّن مدلول الخبر عموماً لا الخبر ذاته.
أما التعبير بالكلمة المفردة (الكاذبين) بعد العدول عن التعبير بالتركيب الجملي (الذين كذبوا)، فقد ورد في سياق الذين كذبوا في أعذارهم، فذلك من باب التأكيد على هذه الصفة الثابتة فيهم الملازمة لهم؛ وهي صفة الكذب. فجاء بالكلمة المفردة (اسم الفاعل للجمع) تأكيداً على هذه الصفة الخبيثة، ولذا جاء بالفعل (تعلم) أي: المعرفة اليقينية بهذه الفئة، بخلاف الفرقة الأولى إذ قال في جانبها (يتبيّن)، حفاظاً على هذه الدلالة.
هـ – العدول في توظيف الصيغ الاشتقاقية:
من أشكال التوظيف القرآني لألوان العدول ما نلمسه في توظيف الصيغ الاشتقاقية كاسم الفاعل واسم المفعول وصيغة المبالغة وغيرها، من تنوع هذا التوظيف، وتعدد استعمالاته. فقد يستعمل النص القرآني صيغة اشتقاقية في مكان ما تمكن في مكانها، ثم يعدل عنها في موضع آخر بتوظيف صيغة أخرى، وذلك مراعاة لمقتضيات السياق.
* فمن ذلك قوله تعالى: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً، فقد تم العدول في هذه الآية عن صيغة اسم الفاعل في كلمة (كافورا) إلى توظيف صيغة المبالغة تحقيقاً للمبالغة ذاتها في جنب الجحود والنكران من جانب الإنسان. وهذا العدول يحقق غايتين هما:
الأولى: الحفاظ على التوازن الإيقاعي بين فواصل الآيات في السورة، إذ قبل هذه الآية وبعدها فواصل مبنية على روي (الراء) المتلوَّة بألف الإطلاق، والمردفة بالمدّ الواوي أو اليائي مثل (مذكورا، و بصيرا، وسعيرا). ولم تم العدول عن صيغة المبالغة إلى توظيف صيغة اسم الفاعل لافتقِد الردف الذي تتوازن به فاصلة الآية مع قريناتها في السياق.
والثانية: معنى المبالغة المتولد من توظيف صيغة المبالغة. إذ تُبْرِز الآية معنى إقبال الإنسان على الكفر والنكران بكثرة، وقلة الإقبال على الشكر والامتنان. يقول أبو السعود: ” إيراد الكفور لمراعاة الفواصل، والإشعار بأن الإنسان قلّما يخلو من كفران، وإنما المؤاخذ عليه الكفر المفرط “.
إذن تم العدول هنا رعاية للفاصلة، وحفاظاً على دلالة المبالغة الموصوف بها الإنسان في جانب كفرانه لنعم الله، وعدم شكره على هذه النعم.
* ومن ذلك قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً. فقد تم العدول هنا عن توظيف صيغة اسم الفاعل (مُنْذِراً) إلى توظيف صيغة المبالغة (نذيراً)، فلمَتمّ هذا العدول في الآية الكريمة مع أن السياق النصي في الآية يعتمد التعبير باسم الفاعل في سياق الآية كلها مثل (شاهداً، ومبشِّراً)، وكذلك في سياق الآية التالية (داعياً)، فلم تم هذا العدول؟
والآية الكريمة واردة في سياق مدح النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الأوصاف من ربه، وذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتسرية له عما أصابه من عنت المعاندين، وجحود الكافرين. والبلاغيون يعرضون لهذه الآية في سياق الحديث عن النظم وأثره الجمالي في الكلام، ويدرجونها تحت باب (تنسيق الصفات)، وكذلك في باب (المدح والذمّ) بلا إشارة إلى ما تم من عدول بين الصيغ هنا.
ونلاحظ أن هذا العدول تم في إطار الحفاظ على جانبين هما:
الأول: الإيقاع الصوتي المتمثِّل في ورود الفاصلة القرآنية متسقة مع سياقات الآيات بعدها من حيث البناء على روي (الراء) المتلوَّة بألف الإطلاق، المتلوة بالمد اليائي مثل (منيراً، و كبيراً).
والثاني: إرادة المبالغة في هذه الصفة وهي (الإنذار)، غذ لو عبّر بصيغة اسم الفاعل (مُنْذِراً) لما شعرنا بأهمية التأكيد على هذا الإنذار، ذلك أن جانب الإنذار في الدعوة أهم من البشارة التي تأتي دوماً لاحقة في المرتبة الدعوية.
ونلمح في سياق القرآن الكريم أن مادة البشارة إذا وردت على صيغة اسم الفاعل أو صيغة المبالغة تكون سابقة على مادة الإنذار دوماً، وهذا ممثل في النص القرآني في (14 أربعة عشر موضعاً) ما عدا موضعين تقدمت فيهما مادة (الإنذار) هما: قوله تعالى: قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. وقوله تعالى: أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ. وهما في سياق الخطاب المباشر الذي يقتضي تقديم (الإنذار) للترهيب على (البشارة).
ونلمح أيضاً أن اسم الفاعل من مادة (أَنْذَرَ) لم يرد في حالة الإفراد مقترناً باسم الفاعل (مُبَشِّر) على الإطلاق في السياق القرآني، وإذا ما اقترنا فإن ذلك يكون فقط في حالة جمع الصيغتين مثلما نجد في قوله تعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ، وقوله تعالى: وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ.
وإذا وظف اسم الفاعل من (أَنْذَرَ) في صورة المفرد فإنه لا يقترن باسم الفاعل أو صيغة المبالغة من مادة (بَشَّر)، بل يوظف منفردا مثلما نجد في قوله تعالى: إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا.
وعلى هذا النهج يمكننا فهم العدول الذي تم في سياقات آية سورة الأحزاب من حيث عدم التعبير بصيغة اسم الفاعل، واختيار صيغة المبالغة لما سبق تقريره من دلالات.
* ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَاتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ. فقد تم العدول في هذه الآية عن التعبير بصيغة اسم الفاعل (مُرْتَقِب) إلى التعبير بصيغة المبالغة (رقيب)، وتفسير ذلك العدول كما يلي:
والآية تدور على معنى الحوار الذي تم بين نبي الله شعيب وقومه من المعاندين له، وكيف أن الله سينصره في نهاية الأمر، فاعملوا ما أنتم عاملون، فالنهاية قريبة، وكلنا سيرى تلك النهاية ويرقبها.
لكن ما تفسير العدول هنا؟ إن اقتضاء المقام – في غير القرآن – يوجب أن المشتق من الفعل (ارتَقَبَ) هو اسم الفاعل (مُرْتَقِب) وليس صيغة المبالغة (رقيب)، لكن الذي وظف في الآية هو صيغة المبالغة وليس اسم الفاعل. يقول أبو السعود في تفسير هذا العدول الصيغي: ” (إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) منتظِر، فعيل بمعنى الرَّاقب كالصريم، أو المُرَاقِب كالعشير، أو المُرْتَقِب كالرفيع “.
فقد فسّر صيغة المبالغة (رقيب) في الآية بأنها على معانٍ هي:
1 – اسم الفاعل من الثلاثي (رَقَبَ) فهو (رَاقِب)، مثل (الصّرِيم) بمعنى (الصَّارِم).
2 – اسم الفاعل من الرباعي (رَاقَبَ) فهو (مُرَاقِب)، مثل (العشير) بمعنى (المُعَاشِر).
3 – اسم الفاعل من الرباعي (ارْتَقَبَ) فهو (مُرْتَقِب)، مثل (الرفيع) بمعنى (المُرْتَفِع).
وهذا التوجيه الجميل يفيد أن الصيغة هنا على شمول كل تلك الصيغ في معناها الأعم، وليست مقصورة على الدلالة الخاصة للفظ هنا. فالصيغة هنا شملت معنيين هما (الفاعلية الثابتة المستقرة – المبالغة في تلك الفاعلية). أي أن الأمر هنا جدير بالمراقبة والارتقاب لأنه يدور على رؤية عقاب الله لمن عصاه. فقد عبّر باللفظ الدال على كل صيغ الفاعلية من الفعل (رقب) وزياداته، وهذا لون من الإعجاز التوظيفي، إذ يدل باللفظ الواحد على كل معانيه في مختلف أحواله.
هكذا يتم العدول بين الصيغ الاشتقاقية في سياق النص القرآني، بما يراد من وراء هذا العدول من مقاصد جمالية، وتلوينات سياقية هي في مجملها إحدى نواتج التوظيف القرآني لمثل هذه الألوان من العدول.
المراجع:
– ينظر: ابن وهب، البرهان في وجوه البيان، تحقيق: د. حفني شرف، دار نهضة مصر، القاهرة، 1978،103.
– السجلماسي، المنزع البديع، 446.
– العلوي، الطراز، 2/ 131.
– د. حسن طبل، أسلوب الالتفات، 11.
– ينظر: د. أسامة البحيري، تحولات البنية في البلاغة العربية، دار الحضارة للطباعة، طنطا، 2000، 38.
– ابن أبي الإصبع، بديع القرآن، 153.
– ابن الأثير، المثل السائر، 2/ 180.
– عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، 265.
– الباقلاني، إعجاز القرآن، 198.
– الأنصاري، فتح الرحمن، 171. وينظر: – الكرماني، البرهان في توجيه متشابه القرآن، 212.
– البيضاوي، أنوار التنزيل، 2/ 344.
– أبو حيان، النهر الماد، 1/ 888.
– عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، 133.
– الرازي، نهاية الإيجاز، 156.
– د. فاضل صالح السامرائي، التعبير القرآني، دار عمار، الأردن، 1998، 23.
– الإسكافي، درة التنزيل، 2/ 528. – الكرماني، البرهان، 156. – الرازي، مفاتيح الغيب، 13/ 98.
– ابن كثير، تفسير القرآن، 2/ 133. –
– أبو السعود، إرشاد العقل السليم، 2/ 35.
– د. محمد الحسناوي، الفاصلة في القرآن، 242.
– ابن النقيب، مقدمة تفسير ابن النقيب، 400.