1408 التعليق على الصحيح المسند
بالتعاون مع مجموعات السلام 1،2،3 والمدارسة والاستفادة.
بإشراف سيف بن دورة الكعبي
مجموعة حسين البلوشي وشارك ابو تيسير طارق في بحث الميثاق.
-_-_-_-_-_-_-_-_-_
1408 – قال الإمام الترمذي رحمه الله: حدثنا عبد بن حميد حدثنا أبو نعيم حدثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصا من نور ثم عرضهم على آدم فقال أي رب من هؤلاء قال هؤلاء ذريتك فرأى رجلا منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه فقال أي رب من هذا فقال هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له داود فقال رب كم جعلت عمره قال ستين سنة قال أي رب زده من عمري أربعين سنة فلما قضي عمر آدم جاءه ملك الموت فقال أولم يبق من عمري أربعون سنة قال أولم تعطها ابنك داود قال فجحد آدم فجحدت ذريته ونسي آدم فنسيت ذريته وخطئ آدم فخطئت ذريته.
قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبو عبدالرحمن: هذا حديث حسن.
* وقال الحاكم رحمه الله: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا بكار بن قتيبة القاضي، بمصر، ثنا صفوان بن عيسى القاضي، ثنا الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: («لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس، فقال: الحمد لله، فحمد الله بإذن الله، فقال له ربه: رحمك الله ربك يا آدم، وقال له: يا آدم، اذهب إلى أولئك الملائكة إلى ملأ منهم جلوس، فقل: السلام عليكم، فذهب فقالوا: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، ثم رجع إلى ربه، فقال: هذه تحيتك وتحية بنيك وبنيهم)، فقال الله له ويداه مقبوضتان: اختر أيهما شئت، فقال: اخترت يمين ربي وكلتا يدي ربي يمين مباركة، ثم بسطها، فإذا فيها آدم وذريته، فقال: أي رب ما هؤلاء؟ قال: ذريتك، فإذا كل إنسان مكتوب عمره بين عينيه، وإذا فيهم رجل أضوؤهم – أو قال: من أضوئهم – لم يكتب له إلا أربعين سنة، قال: يا رب زد في عمره، قال: ذاك الذي كتب له، قال: فإني قد جعلت له من عمري ستين سنة، قال: أنت وذاك، قال: ثم أسكن الجنة ما شاء الله، ثم أهبط منها آدم يعد لنفسه، فأتاه ملك الموت، فقال له آدم: قد عجلت قد كتب لي ألف سنة، قال: بلى، ولكنك جعلت لابنك داود منها ستين سنة، فجحد فجحدت ذريته، ونسي فنسيت ذريته، فيومئذ أمرنا بالكتاب والشهود».
«هذا حديث صحيح على شرط مسلم فقد احتج بالحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب، وقد رواه عنه غير صفوان، وإنما خرجته من حديث صفوان لأني علوت فيه». اهـ
وما بين القوسين في الصحيحين.
-_-_-_—_-_-_-_
قلت سيف: طريق الحاكم رجح الإمام أحمد والنسائي أنها معلة والصواب أنها عن عبدالله بن سلام قوله. وراجع كتابنا الذيل على أحاديث.
شرح مجموعة حسين البلوشي:
الفوائد:
1 – فيه إثبات القدر وأن كل شيء مقدر.
2 – فيه إثبات اليمين لله عز وجل وأنه مسح بها.
3 – فيه إثبات اليدين لله عز وجل وأنه سبحانه يقبضهما
4 – فيه أن كلتا يدي ربي يمين وأما رواية الشمال شاذة
5 – فيه إثبات صفة الكلام لله عز وجل وأنه متعلق بمشيئته سبحانه.
6 – فإن قيل: ما الحكمة من مسح ظهر آدم؟ فإننا نقول: الله تعالى أعلم
7 – فيه تعليم الله عز وجل لعباده.
• التعليق على الحديث.
قال القاضي أبو يعلى في إبطال التأويلات:
أَمَّا قَوْلُهُ: ” نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ ” فَقَدْ أَطْلَقَ ذِكْرَ الرُّوحِ هَهُنَا وَقَدْ أَضَافَهَا إِلَى نَفْسِهِ فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَمَعْنَى إِضَافَتِهِ إِلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَلْكِ وَالْفِعْلِ، وَأَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ لِتَشْرِيفِ شَانِهِ وَالرِّفْعَةِ مِنْ حَالِهِ، كَمَا خَصَّ بَعْضَ الْبُيُوتِ بِالإِضَافَةِ إِلَى نَفْسِهِ اهـ.
وقال رحمه الله: وَأَمَّا قَوْلُهُ: ” رَحِمَكَ رَبُّكَ ” حِينَ عَطَسَ آدَمُ عَلَيْهِ
السَّلامُ، فَإِنَّهُ يُفِيدُ مُخَاطَبَتَهُ لَهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ وَلا تَرْجُمَانٍ، تَشْرِيفًا لَهُ وَتَعْظِيمًا عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمُكَلَّمِينَ وَأَمَّا قَوْلُهُ: ” ثُمَّ رَجَعَ إِلَى رَبِّهِ، فَقَالَ: هَذِهِ تَحِيَّتُكَ ” ظَاهِرَةٌ يَقْتِضي رُجُوعًا إِلَى الْمَكَانِ، وَقَدْ حَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْخِطَابِ وَالْمُسَائَلَةِ، وَلَيْسَ فِي حَمْلِهِ عَلَى الْمَكَانِ مَا يُحَيِّرُ الصِّفَاتِ وأما قوله: ” اخترت يمين ربي ” فقد تقدم الكلام فِيهِ، وقلنا: لا يمتنع إطلاق صفة اليمين عَلَيْهِ كَمَا جاز إطلاق اليدين اهـ.
قال الطيبي لما وفقه تعالى لقيام الشكر على نعمه السابغة وأوقفه على قدرته الكاملة علمه كيفية المعاشرة مع الخلق حتى يفوز بحسن الخلق مع الخلق بعد تعظيم الحق وأما تخصيص السلام بالذكر فإنه فتح باب المودات وتأليف قلوب الإخوان المؤدي إلى استكمال الإيمان فقال أي فذهب آدم إليهم فقال السلام عليكم وفي بعض النسخ هذه الجملة محذوفة للعلم بها فقالوا عليك السلام ورحمة الله ثم رجع إلى ربه أي إلى مكان كلمه ربه فيه تبركا به وتيمنا بمقامه ولما في العادة أن يرجع المأمور إلى حيث أمره الآمر وينتظر بيان حكمة الأمر فقال أي الرب سبحانه هذه أي الكلمات المذكورة تحيتك وتحية بنيك فيه تغليب أي ذريتك بينهم أي فيما بينهم عند ملاقاتهم فهذه سنة قديمة ومنه جسيمة اهـ (مرقاة المفاتيح)
(فأتاه ملك الموت)
قال صاحب التحفة الأحوذي:
أي امتحانا بعد تمام تسعمائة وأربعين سنة (قد عجلت) بكسر الجيم أي استعجلت وجئت قبل أوانه (فجحد) أي أنكر آدم (فجحدت ذريته) أي بناء على أن الولد من سر أبيه
(ونسي فنسيت ذريته) لأن الولد من طينة أبيه والظاهر أن معناه أن آدم نسي هذه القضية فجحد فيكون اعتذارا له إذا يبعد منه عليه السلام أن ينكر مع التذكر (قال) أي النبي صلى الله عليه و سلم (أمر) بصيغة المجهول أي أمر الناس أو الغائب (بالكتاب والشهود) أي بكتابة القضايا والشهود فيها
• مسألة هل الأجل يزيد وينقص؟
الله سبحانه وتعالى قدر آجال الخلائق، بحيث إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون
قال تعالى: {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون}
وقال تعالى: {وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا}
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: قالت أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها: اللهم أمتعني بزوجي رسول الله وبأبي سفيان وبأخي معاوية قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم [قد سألت الله لآجال مضروبة وأيام معدودة وأرزاق مقسومة لن يعجل شيئا قبل أجله ولن يؤخر شيئا عن أجله …. ]
فالمقتول ميت بأجله، فعلم الله تعالى وقدّر وقضى أن هذا يموت بسبب المرض وهذا بسبب القتل وهذا بسبب الهدم وهذا بسبب الحرق وهذا بالغرق إلى غير ذلك من الأسباب.
وعلى هذا يخرج قوله صلى الله عليه وسلم: ”صلة الرحم تزيد في العمر“ أي: سبب طول العمر وقد قدّر الله أن هذا يصل رحمه فيعيش بهذا السبب إلى هذه الغاية ولولا ذلك السبب لم يصل إلى هذه الغاية ولكن قدر هذا السبب وقضاه وكذلك قدر أن هذا يقطع رحمه فيعيش إلى كذا كما قلنا في القتل وعدمه.
والتفصيل يقال:
أن الله يكتب للعبد أجلاً في صحف الملائكة فإذا وصل رحمه زاد في ذلك المكتوب، وإن عمل ما يوجب النقص نقص من ذلك المكتوب
ونظير هذا ما في الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم ”أن آدم لما طلب من الله أن يريه صورة الأنبياء من ذريته فأراه إياهم فرأى فيهم رجلا له بصيص فقال من هذا يا رب؟ فقال: ابنك داود، قال: فكم عمره؟ قال أربعون سنة، قال: وكم عمري؟ قال: ألف سنة، قال فقد وهبت له من عمري ستين سنة، فكتب عليه كتاب وشهدت عليه الملائكة فلما حضرته الوفاة قال قد بقي من عمري ستون سنة، قالوا: وهبتها لابنك داود، فأنكر ذلك فأخرجوا الكتاب“، قال النبي صلى الله عليه وسل: ”فنسي آدم فنسيت ذريته وجحد آدم فجحدت ذريته“ وروي أنه كمل لآدم عمره ولداود عمره، فهذا داود كان عمره المكتوب أربعين سنة ثم جعله ستين وهذا معنى ما روي عن عمر أنه قال: اللهم إن كنت كتبتني شقيا فامحني واكتبني سعيدا فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، والله سبحانه عالم بما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، فهو يعلم ما كتبه له وما يزيده إياه بعد ذلك، والملائكة لا علم لهم إلا ما علمهم الله والله يعلم الأشياء قبل كونها وبعد كونها، فلهذا قال العلماء: إن المحو والإثبات في صحف الملائكة، وأما علم الله سبحانه فلا يختلف ولا يبدو له ما لم يكن عالما به فلا محو فيه ولا إثبات، وأما اللوح المحفوظ فهل فيه محو وإثبات؟ على قولين. ملخص كلام ابن تيمية وابن أبي العز.
(وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) فاطر/11.
يقول ابن عباس في تفسير هذه الآية:
” ليس أحد قضيت له طول الحياة والعمر إلا هو بالغ ما قدرت له من العمر، قد قضيت ذلك، فإنما ينتهي إلى الكتاب الذي قدرت له، لا يزاد عليه، ليس أحد قضيت له أنه قصير العمر ببالغ العمر، ولكن ينتهي إلى الكتاب الذي كتبت له، فذلك قوله: (ولا ينقص من عمره إلا في كتاب)، يقول: كل ذلك في كتاب عنده ” انتهى.
رواه البيهقي في “القضاء والقدر” (1/ 218)
يقول البيهقي رحمه الله:
” والمعنى في هذا أن الله جل ثناؤه قد كتب ما يصيب عبدا من عباده من البلاء والحرمان والموت وغير ذلك، وأنه إن دعا الله تعالى أو أطاعه في صلة الرحم وغيرها، لم يصبه ذلك البلاء، ورزقه كثيرا، وعمّره طويلا، وكتب في أم الكتاب ما هو كائن من الأمرين ” انتهى.
“القضاء والقدر” (1/ 211)
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
” إن الله أمر الملك أن يكتب أجلاً، وقال: إن وصل رحمه زدته كذا وكذا، والملك لا يعلم أيزداد أم لا، لكن الله يعلم ما يستقر عليه الأمر، فإذا جاء الأجل لا يتقدم ولا يتأخر ” انتهى.
“مجموع الفتاوى” (8/ 517)
• الإحتاج بالقدر على المعاصي.
جاء في رواية: (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ خَلَقْتُ هَؤُلاَءِ لِلْجَنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ خَلَقْتُ هَؤُلاَءِ لِلنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ، فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَفِيمَ الْعَمَلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُدْخِلَهُ بِهِ الْجَنَّةَ وَإِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَيُدْخِلَهُ بِهِ النَّارَ)
فيقول المحتج بالقدر بما أني خلقت وكل أمر مقدر لي فلن أعمل
والجواب:
فنقول لهم:
1_ يلزمكم أن تعرضوا عن كل ظالم للناس في دمائهم وأعراضهم وأموالهم فلا تغضبوا على من سفك الدماء وأخذ الأموال بالغصب والسرقة .. بل يجب يجب عندكم كف اللسان عن كل مفسد معتد على الخلق بل عليك أن تسهل سبيل الكاذبين على ربهم وتعتذر لهم بل وجادل عن أئمة الكفر كفرعون وقارون وهامان وكل مشرك وكافر كعاد وثمود ونمرود وقوم لوط ..
بل على قولكم عليك أن تخاصم جميع الرسل والأنبياء حيث جاهدوا الناس على الإيمان وعاقبوا أهل الجرائم لأن الخلق كلهم في جميع حركاتهم وسكناتهم ولفظاتهم ولحظاتهم تحت أقدار الله
2_ لو فرض أنكم عذرتم كل ذي فعل قبيح بحجة أن ذلك بقدر الله فهل يمكن أن تطرد هذا الأمر في جميع الشؤون والأحوال؟ وأن تعذر جميع الناس إذا أساؤوا في حق الله أو في حقوق العباد؟
3_ أن الإتفاق قائم على أنه ليس لأحد أن يحتج بالقدر على فعل المعاصي قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
وليس لأحد أن يحتج بالقدر على الذنب باتفاق المسلمين وسائر أهل الملل وسائر العقلاء اهـ.
4_ قال الله تعالى: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون} فهؤلاء المشركون احتجوا بالقدر على شركهم ولو كان احتجاجهم مقبولا صحيحا ما أذاقهم الله بأسه.
5_ قال تعالى: {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} فلو كان الاحتجاج بالقدر على المعاصي سائغا لما كان هناك داعٍ لإرسال الرسل.
6_ أن الله أمر العبد ونهاه ولم يكلفه إلا ما يستطيع قال تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} وقال: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} ولو كان العبد مجبرا على الفعل لكان مكلفا بما لا يستطيع الخلاص منه وهو باطل ولذلك إذا وقعت منه المعصية بجهل أو نسيان أو إكراه فلا إثم عليه لأنه معذور.
7_ أن القدر سر مكتوم لا يعلمه أحد من الخلق إلا بعد وقوعه
وإرادة العبد لما يفعله سابقة لفعله فتكون إرادته للفعل غير مبنية على علم بقدر الله فادعاؤه أن الله قدر عليه كذا وكذا ادعاء باطل لأنه ادعاء لعلم الغيب والغيب لا يعلمه إلا الله.
8_ لو كان الاحتجاج بالقدر على هذا النحو حجة لقُبل من إبليس الذي قال الله عنه {فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم}.
9_ الاحتجاج بالقدر على الذنوب تصحيح لمذهب الكفار وهذا لازم لهذا المحتج لا ينفك عنه.
10_ ومما يرد هذا القول أننا نرى الإنسان يحرص على ما يلائمه في أمور دنياه حتى يدركه ولا يعدل عنه إلى ما لا يلائمه ثم يحتج على عدوله بالقدر؟!
وإليك مثالا يوضح ذلك: لو أراد إنسان السفر إلى بلد وهذا البلد له طريقان أحدهما آمن مطمئن والآخر كله فوضى واضطراب وقتل وسلب فأيهما سيسلك؟ لا شك أنه سيسلك الطريق الأول فلماذا لا يسلك في أمر الآخرة طريق الجنة دون طريق النار؟!.
11_ ومما يمكن أن يرد به على المحتج بناء على مذهبه أن يقال له: لا تأكل ولا تشرب فإن قدر الله لك شبعا ورياً فسيكون وإلا فلن وإذا هاجمك سبع ضار فلا تفر منه فإن قدر الله لك النجاة فستنجو وإن لم يقدرها لك فلن ينفعك الفرار فهل سيوافقنا على هذا القول أم لا؟ إن وافقنا علمنا فساد عقله وإن خالفنا علمنا فساد قوله وبطلانه.
• إثبات صفة اليدين لله عز وجل.
الأدلة من الكتاب في إثبات صفة اليدين
1_ قال الله تعالى لإبليس ” مامنعك أن تسجد لما خلقت بيدىّ ” (ص:75)
قال أبو الحسن الأشعري في «الإبانة»: «فإن سئلنا: أتقولون إن لله يدين؟ قيل: نقول ذلك، وقد دل عليه قوله عز وجل: [يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: الآية 10]، وقوله عز وجل: {لِمَا خَلَقْتُ بَيَدَيَّ} [ص: الآية 75}
2_ قال تعالى: {وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء}
قال الإمام أبو بكر بن خزيمة رحمه الله في (باب ذكر إثبات اليد للخالق البارئ جل وعلا): «والبيان أن الله تعالى له يدان، كما أعلمنا في محكم تنزيله أنه خلق آدم عليه السلام بيديه، قال عز وجل لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}} ص: الآية 75} وقال جل وعلا تكذيبًا لليهود حين قالوا: {يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ} فكذَّبهم في مقالتهم، وقال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ} [المائدة: الآية 64]، وأعلمنا أن: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: الآية 67} {يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: الآية 10}
وقال رحمه الله: وزعمت الجهمية المعطلة أن معنى قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتانِ} [المائدة: الآية 64]، أي: نعمتاه، وهذا تبديل لا تأويل.
والدليل على نقض دعواه هذه أنَّ نعم الله كثيرة لا يُحصيها إلا الخالق البارئ، ولله يدان لا أكثر منهما، كما قال لإبليس عليه لعنة الله: {ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: الآية 75]، فأعلمنا جل وعلا أنه خلق آدم بيديه، فمن زعم أنه خلق آدم بنعمته، كان مبدِّلاً لكلام الله.
وقال أبو الحسن الأشعري رحمه الله (جملة ما عليه أهل الحديث والسنة الإقرار … ثم قال وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يردون من ذلك شيئاً …. … وأن له يدين بلا كيف، كما قال {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [صّ: من الآية75]، وكما قال {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: من الآية64] (مقالات الإسلاميين للأشعري:290)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
ووصف نفسه ببسط اليدين فقال: {وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء} ووصف بعض خلقه ببسط اليد في قوله: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط} وليس اليد كاليد ولا البسط كالبسط ; وإذا كان المراد بالبسط الإعطاء والجود: فليس إعطاء الله كإعطاء خلقه ولا جوده كجودهم ونظائر هذا كثيرة (التدمرية:11)
قال الشيخ عبد الرزاق البدر:
قال الله عز وجل: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} ”
وهذا جزء من آية في سياق الرد على إفك اليهود وافترائهم على الله سبحانه وتعالى، إذ زعموا أن يد الله مغلولة ـ غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا ـ ومرادهم بذلك: أنَّ الله بخيل ـ تعالى الله عز وجل عما يقول هؤلاء الظالمون المعتدون علواً كبيراً ـ، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} فاليهود يثبتون لله يداً، ولكنهم يصفونها بأنها مغلولة ـ مع أنهم أبخل الناس …. والجهمية الذين لا يثبتون لله عز وجل يداً ـ إمعاناً منهم في الضلال ـ ادَّعوا أنَّ الرد هنا على اليهود لإثباتهم اليد لله، ويريدون أن يتوصلوا بذلك إلى نفي اليد عن الله عز وجل، وأنه جل وعلا لا يوصف بها.
وكيف يستقيم استدلالهم، ولم ينكر الله عز وجل على اليهود إثبات اليد، بل أكد ثبوتها له سبحانه وتعالى، وذكر أن له يدين؟!
أيمكن أن يرد على من يصف الله بصفة ليست ثابتة له بتأكيدها؟!، فقال سبحانه: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} فأثبت جل وعلا لنفسه اليدين، ووصفهما بأنهما مبسوطتان خلافاً لما يدعيه هؤلاء.
ومن دلالات هذه الآية أن لله عز وجل يدين كما أخبر، فالمقام هنا مقام إثبات وثناء وتمجيد وتعظيم وتنزيه لله عز وجل عن افتراء اليهود.
وفي الآية وصف اليدين بالبسط، والبسط هو كثرة الإنفاق والعطاء والجود، ولهذا جاء في الحديث الصحيح:”إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها” (تذكرة المؤتسي شرح عقيدة الحافظ عبد الغني المقدسي:135)
اليهود يثبتون اليد مع قولهم أنه بخيل وأنها لا تنفق بل محبوسة عن الإنفاق وليس المقصود أن اليد هنا نعمة أو القدرة
لأن حكى الله جل وعلا قول اليهود، فقال: {وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ}، فقال الله عز وجل ردًّا عليهم: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ}، وقال: {بَلْ يَداهُ مَبْسوطَتانِ} [المائدة: الآية 64]، وبيقين يعلم كل مؤمن أن الله لم يرد بقوله: {غُلَّتْ أَيْدِيْهِم}؛ أي: غُلَّت نعمهم، لا، ولا اليهود [أرادوا] أن نعم الله مغلولة، وإنما رد الله عليهم مقالتهم وكذبهم في قولهم: {يَدُ اللهِ مَغْلولَةٌ}، وأعلم المؤمنين أن يديه مبسوطتان ينفق كيف يشاء
3_ قال تعالى {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}
الأدلة من السنة في إثبات صفة اليدين
1_ حديث عبد الله بن عمر رضى الله عنه ” إن الله عز وجل خلق ثلاثة أشياء بيده: خلق آدم بيده , وكتب التوراة بيده , وغرس جنة عدن بيده ” أخرجه الحاكم فى المستدرك والبيهقى فى الاسماء والصفات بسند صحيح
2_ حديث أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ” يد الله ملأى لايغيضها نفقة سحاء الليل والنهار , وقال: أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض مافى يديه , قال عرشه على الماء وبيده الأخرى الميزان يخفض ويرفع ” أخرجه البخارى فى التوحيد ومسلم فى الزكاة واللفظ للبخارى رحمه الله
3_ حديث عبيد الله بن مقسم أنه نظر الى عبد الله بن عمر كيف يحكى رسول الله صلى الله عليه وسلم , قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” يأخذ الله عز وجل سماواته وأراضيه بيديه , فيقول: أنا الله , ويقبض أصابعه ويبسطها ” أنا الملك “؟ حتى نظرت الى المنبر يتحرك من أسفل شاء منه حتى إنى لأقول: أساقطٌ هو برسول الله صلى الله عليه وسلم ” أخرجه مسلم
4_ عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال ” جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يامحمد , إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع والأرضين على إصبع , والشجر على إصبع , والماء على اصبع والثرى على إصبع , وسائر الخلق على إصبع , فيقول: أنا الملك , فضحك النبى صلى الله عليه حتى بدت نواجذه تصديقًا لقول الحبر , ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ” وماقدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة … الأيات ” (الزمر:67) أخرجه البخارى فى التفسير ومسلم فى صفة القيامة واللفظ للبخارى وفى مسلم (ثم يهزهن ويقول أنا الملك)
الإجماع
1_ قال القيرواني رحمه الله في كتابه الجامع في السنن و الآداب و المغازي و التاريخ ص 107:فمما أجمعت عليه الأمة من أمور الديانة …… و أن يديه مبسوطتان و الأرض جميعا قبضته يوم القيامة و السماوات مطويات بيمينه. اهـ
2_ وفي “الإقناع في مسائل الإجماع” للحافظ علي بن محمد بن عبدالملك الفاسي المكنى بأبي الحسن ويلقب بابن القطان:89 وأجمعوا أن لله يدين مبسوطتين
90 وأجمعوا ان الأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه من غير أن تكون جوارح. اهـ
قلت حسين: تنبيه: قوله: (من غير أن تكون جوارح)
هذا مما لم نكلف به بل نقول يد حقيقية ونسكت.
3_ قال الإمام أبو بكر بن أبي داود السجستاني في منظومته الحائية: وَقَدْ يُنكِرُ الجَهْمِيُّ أَيضًا يَمِيْنَهُ * وَكِلْتَا يَدَيْهِ بالفواضِلِ تَنْضَحُ.
بعد ان اتم الآجري القصيدة نقلا عن أبي بكر قال: ثم قال لنا أبو بكر ابن أبي داود: هذا قولي، وقول أبي، وقول أحمد بن حنبل، وقول من أدركنا من أهل العلم ومن لم ندرك ممّن بلغنا عنه. فمن قال علي غير هذا فقد كذب.
وقال ابن شاهين: قال أبو بكر ابن أبي داود رحمه الله: هذا قولي، وقول أبي، وقول أحمد بن حنبل رحمه الله، وقول من أدركنا من أهل العلم وقول ممن لم ندرك ممن بلغنا قوله. فمن قال علي غير هذا فقد كذب.
وقال ابن البناء: قال أبو بكر بن أبي داود السجستاني: هذا مذهب أحمد بن حنبل ومذهبي ومذهب أبي رحمهم الله وإيانا.
وقال ابن أبي يعلى: قال ابن بطة: قال أبو بكر بن أبي داود: هذا قولي، وقول أبي، وقول أحمد بن حنبل، وقول من أدركنا من أهل العلم، ومن لم ندرك ممن بلغنا عنه، فمن قال غير هذا فقد كذب
4_ قال الأشعري:
(أجمعوا على أنه عز وجل يسمع ويرى، وأن له تعالى يدين مبسوطتين، وأن الأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه. [(رسالة الثغر) ص (72)
5_ وقرره الإسماعيلي في عقيدة أهل الحديث حيث قال [ص (51)]: (وخلق آدم عليه السلام بيده، ويداه مبسوطتان ينفق
كيف يشاء بلا اعتقاد كيف يداه إذ لم ينطق كتاب الله تعالى فيه بكيف).
6_ قال الإمام السجزي في «رسالته لأهل زبيد» (ص 173): «وأهل السنة متفقون على أن لله سبحانه يدين، بذلك ورد النص في الكتاب والأثر، قال الله تعال: [لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: الآية 75] وقال النبي صلى الله عليه وسلم [وكلتا يدي الرحمن يمين].
اليد هي التي يقبض بها وإلخ*
ومما ينبه عليه أن عقيدة أهل السنة والجماعة أن صفة اليد صفة حقيقية قائمة بالذات يفعل بها ما يشاء كالقبض والبسط والخلق والكتابة وإلخ.
وهي ليست القدرة أو النعمة أو العلم إنما هي يد حقيقة لله عز وجل
هي صفة ذاتية لله عز وجل يفعل بها ما يشاء كالقبض والبسط فهذا يخرج عن مذهب المفوضة لكن ما هي هيئة اليد وكيفيتها نقول الله العالم لا ندري
فاليدين هي اللتين بهما يفعل
كالخلق قال تعالى: {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} {ص: 75}.
والقبض {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعًا قبضته يوم القيامة} [الزمر: 67]
وبهما يأخذ، فإن الله تعالى يأخذ الصدقة فيربيها كما يربي الإنسان فلوه.
وبها يكتب عن عبد الله بن عمر رضى الله عنه ” إن الله عز وجل خلق ثلاثة أشياء بيده: خلق آدم بيده , وكتب التوراة بيده , وغرس جنة عدن بيده ” أخرجه الحاكم فى المستدرك والبيهقى فى الاسماء والصفات بسند صحيح
ويبسطهما سبحانه وتعالى عن ابن عمر رضي الله عنهما يحكي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يأخذ الرب عز وجل سماواته وأرضه بيديه، وجعل يقبض يديه ويبسطهما، ويقول: أنا الرحمن) رواه مسلم.
وله الكف سبحانه وتعالى في الحديث ما تصدق أحد بصدقة من طيِّب، ولا يقبل الله إلا الطيب؛ إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرة، فتربو في كفِّ الرحمن، حتى تكون أعظم من الجبل، كما يربيِّ أحدكم فَلُوَّه أو فصيله)). رواه مسلم (1014)
قال قَوَّام السُّنَّة الأصبهاني في ((الحجة)) (2/ 259) بعد سرده لجملة من أحاديث الصفات: ((وقوله: ((إنَّ أحدكم يأتي بصدقته فيضعها في كف الرحمن))، وقوله: ((يضع السماوات على إصبع و الأرضين على إصبع)). وأمثال هذه الأحاديث، فإذا تدبَّره متدبر، ولم يتعصب؛ بان له صحة ذلك، وأنَّ الإيمان به واجب، وأنَّ البحث عن كيفية ذلك باطل)) اهـ.
ثم قال (ص 262) وكذلك قوله: ((حتى يضع الجبار فيها قدمه))، وقوله: ((حتى يضعه في كفِّ الرحمن))، وللقدم معان، وللكف معان، وليس يحتمل الحديث شيئاً من ذلك؛ إلا ما هو معروف في كلام العرب؛ فهو معلوم بالحديث، مجهول الكيفية))
وقال صديق حسن خان في ((قطف الثمر)) (ص 66): ((ومن صفاته سبحانه: اليد، واليمين، والكف، والإصبع .. ))
فاليد هي من صفات الله الذاتية، يفعل بها؛ يقبض ويبسط ويطوي ويخلق ويكتب , ولها أصابع وكف وكل ذلك جاءت في السنة لكن كيفية اليد كيف هي هيئة اليد لا نعلمها لأن الله عز وجل أخبرنا بأن له يد ولم يخبرنا سبحانه بكيفيتها
هل نثبت لله شمال*
وهذه المسألة اختلف أهل السنة والجماعة فيها على قولين مع (اتفاقهم في إثبات صفة اليدين لله عز وجل)
وهنا نذكر الأقوال وأدلتهم.
القول الأول وهو إثبات الشمال:
1_ الإمام عثمان الدارمي رحمه الله
قال الإمام أبو سعيد الدارمي في ((رده على بشر المريسي)) (ص 155)؛ ((وأعجب من هذا قول الثلجي الجاهل فيما ادعى تأويل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المقسطون يوم القيامة على منابر من نور عن يَمِين الرحمن وكلتا يديه يَمِين))، فادعى الثلجي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم تأول كلتا يديه يَمِين؛ أنه خرج من تأويل الغلوليين أنها يَمِين الأيدي، وخرج من معنى اليدين إلى النعم؛ يعني بالغلوليين: أهل السنة؛ يعني أنه لا يكون لأحد يَمِينان، فلا يوصف أحد بيَمِينين، ولكن يَمِين وشمال بزعمه.
قال أبو سعيد: ويلك أيها المعارض! إنما عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد أطلق على التي في مقابلة اليَمِين الشِّمال، ولكن تأويله: ((وكلتا يديه يَمِين))؛ أي: مُنَزَّه على النقص والضعف؛ كما في أيدينا الشِّمال من النقص وعدم البطش، فقال: ((كِلتا يدي الرحمن يَمِين))؛ إجلالاً لله، وتعظيماً أن يوصف بالشِّمال، وقد وصفت يداه بالشِّمال واليسار، وكذلك لو لم يجز إطلاق الشِّمال واليسار؛ لما أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو لم يجز أن يُقال: كلتا يدي الرحمن يَمِين؛ لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا قد جوزه الناس في الخلق؛ فكيف لا يجوز ابن الثلجي في يدي الله أنهما جميعاً يَمِينان، وقد سُمِّي من الناس ذا الشِّمالين، فجاز نفي دعوى ابن الثلجي أيضاً، ويخرج ذو الشِّمالين من معنى أصحاب الأيدي))
2_ قول أبو يعلى الفراء رحمه الله
قال أبو يعلى الفراء في ((إبطال التأويلات)) (ص 176) بعد أن ذكر حديث أبي الدرداء رضي الله عنه: ((واعلم أنَّ هذا الخبر يفيد جواز إطلاق القبضة عليه، واليَمِين واليسار والمسح، وذلك غير ممتنع؛ لما بيَّنا فيما قبل من أنَّهُ لا يحيل صفاته؛ فهو بمثابة اليدين والوَجْه وغيرهما))
3_ قول المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في آخر باب من ((كتاب التوحيد)) في المسألة السادسة: ((التصريح بتسميتها الشِّمال))؛ يعني: حديث ابن عمر رضي الله عنه عند مسلم
4_ قول الشيخ صديق حسن رحمه الله
قال الشيخ صديق حسن خان في كتابه ((قطف الثمار)) (ص 66): ((ومن صفاته سبحانه: اليد، واليَمِين، والكف، والإصبع، والشِّمال))
5_ قول الشيخ محمد خليل هراس رحمه الله
قال الشيخ محمد خليل هرَّاس في تعليقه على ((كتاب التوحيد)) لابن خزيمة (ص:66) يظهر أنَّ المنع من إطلاق اليسار على الله عَزَّ وجَلَّ إنما هو على جهة التأدب فقط؛ فإنَّ إثبات اليَمِين وإسناد بعض الشؤون إليها كما في قوله تعالى: لاوَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ، وكما في قوله عليه السلام: ((إنَّ يَمِين الله ملأى سحاء الليل والنهار؛ يدل على أنَّ اليد الأخرى المقابلة لها ليست يَمِيناً))
أدلة أصحاب هذا القول:
1_ ما رواه مسلم في ((صحيحه)) (2788) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه مرفوعاً: ((يطوي الله عَزَّ وجَلَّ السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك! أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله .. ))
ففي الحديث تصريح بأن الله عز وجل يطوي الأرضين بشماله سبحانه وتعالى.
2_ حديث أبي الدرداء رضي الله عنه مرفوعاً: ((خلق الله آدم حين خلقه، فضرب كتفه اليَمِين فأخرج ذرية بيضاء كأنهم الذر، وضرب كتفه اليسرى فأخرج ذرية سوداء كأنهم الحُمم، فقال للتي في يَمِينه: إلى الجنة ولا أبالي، وقال للتي في يساره: إلى النار ولا أبالي)). رواه: عبد الله ابن الإمام أحمد في ((السنة)) (1059)، والبزار في ((مسنده)) (2144 – كشف)، وقال: ((إسناده حسن))
3_ ومن أدلتهم وصف إحدى اليدين باليَمِين؛ كما في الأحاديث السابقة، وأنَّ هذا يقتضي أنَّ الأخرى ليست يَمِيناً، فتكون شمالاً، وفي بعض الأحاديث تذكر اليَمِين، ويذكر مقابلها: ((بيده الأخرى))، وهذا يعني أنَّ الأخرى ليست اليَمِين، فتكون الشِّمال.
القول الثاني وهو أن ليس لله عز وجل شمال.
1_ قول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله
وقال الإمام أحمد بن حنبل – كما في ((طبقات الحنابلة)) لأبي يعلى (1/ 313) وكما صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((وكلتا يديه يَمِين))، الإيمان بذلك، فمن لم يؤمن بذلك، ويعلم أنَّ ذلك حق كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو مُكَذِّبٌ برسول الله صلى الله عليه وسلم))
2_ قول الإمام ابن خزيمة رحمه الله
قال ابن خزيمة في ((كتاب التوحيد)) (1/ 159): ((باب: ذكر سنة ثامنة تبين وتوضح أنَّ لخالقنا جلَّ وعلا يدين، كلتاهما يَمِينان، لا يسار لخالقنا عَزَّ وجَلَّ؛ إذ اليسار من صفة المخلوقين، فَجَلَّ ربنا عن أن يكون له يسار))
وقال أيضاً (1/ 197): ((بل الأرض جميعاً قبضةُ ربنا جَلَّ وعلا، بإحدى يديه يوم القيامة، والسماوات مطويات بيَمِينه، وهي اليد الأخرى، وكلتا يدي ربنا يَمِين، لا شمال فيهما، جل ربنا وعز عن أن يكون له يسار؛ إذ كون إحدى اليدين يساراً إنما يكون من علامات المخلوقين، جل ربنا وعز عن شبه خلقه)) اهـ
3_ قول المحدث محمد بن ناصر الدين الألباني رحمه الله
سئل الشيخ الألباني-رحمه الله- في ((مجلة الأصالة)) (ع4، ص 68)
كيف نوفِّق بين رواية: ((بشماله)) الواردة في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في ((صحيح مسلم)) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((وكلتا يديه يَمِين))؟
جواب: لا تعارض بين الحديثين بادئ بدء؛ فقوله صلى الله عليه وسلم: ((وكلتا يديه يَمِين))
تأكيد لقوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ؛ فهذا الوصف الذي أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم تأكيدٌ للتنْزيه، فيدُ الله ليست كيدِ البشر: شمال ويَمِين، ولكن كلتا يديه سبحانه يَمِين.
وأمر آخر؛ أنَّ رواية: ((بشماله)): شاذة؛ كما بيَّنتها في ((تخريج المصطلحات الأربعة الواردة في القرآن)) (رقم 1) للمودودي.
ويؤكد هذا أنَّ أبا داود رواه وقال: ((بيده الأخرى))، بدل: ((بشماله))، وهو الموافق لقوله صلى الله عليه وسلم: ((وكلتا يديه يَمِين))، والله أعلم))
أدلة أصحاب القول الثاني:
1_ الدليل الأول ما رواه مسلم في ((صحيحه)) (1827) من حديث عبد الله بن عمرو ابن العاص رضي الله عنهما مرفوعاً: ((إنَّ المقسطين عند الله على منابر من نور عن يَمِين الرحمن عَزَّ وجَلَّ، وكلتا يديه يَمِين))
2_ حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما مرفوعاً: ((أول ما خلق الله تعالى القلم، فأخذه بيَمِينه، وكلتا يديه يَمِين)). رواه: ابن أبي عاصم في ((السنة)) (106)، والآجري في ((الشريعة)). وصحَّحَه الألباني.
3_ حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((لما خلق الله آدم، ونفخ فيه من روحه؛ قال بيده وهما مقبوضتان: خذ أيها شئت يا آدم، فقال: اخترت يَمِين ربي، وكلتا يداه يَمِين مباركة، ثم بسطها)). رواه: ابن أبي عاصم في السنة (206)، وابن حبان (6167)، والحاكم (1/ 64) وصحَّحَه، وعنه البيهقي في ((الأسماء والصفات)) (2/ 56). والحديث حسَّنه الألباني في تخريجه لـ ((السنة))
المناقشة:
أدلة القول الأول:
1_ حديث عبدالله بن عمر عند مسلم وفيه لفظة (الشِّمال)
قال الحافظ البيهقي في ((الأسماء والصفات)) (2/ 55): ((ذكر (الشِّمال) فيه، تفرد به عمر بن حمزة عن سالم، وقد روى هذا الحديث نافع وعبيد الله بن مقسم عن ابن عمر؛ لم يذكرا فيه الشِّمال. وروى ذكر الشِّمال في حديث آخر في غير هذه القصة؛ إلا أنه ضعيف بمرة، تفرد بأحدهما: جعفر بن الزبير، وبالآخر: يزيد الرقاشي. وهما متروكان، وكيف ذلك؟! وصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمَّى كلتي يديه يَمِيناً))
عمر بن حمزة ضعيف وقد تفرد بهذه اللفظة وخالفه الثقات فذكروا الحديث من غير هذه اللفظة كما في البخاري: (7412) ومسلم: (2788)
2_ حديث أبي الدرداء رضي الله عنه المتقدم، وفيه: ((وقال للتي في يساره إلى النار ولا أبالي)). رواه عبد الله ابن الإمام أحمد والبَزَّار، روى هذا الحديث أحمد في ((المسند)) (6/ 441)، ورواه أيضاً ابن عساكر في ((تاريخ دمشق))؛ كما أفاده الشيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله- في ((الصحيحة)) (49) وعندهما: ((وقال للذي في كتفه اليسرى إلى النار ولا أبالي))، والضمير هنا يعود على آدم عليه السلام، وإسنادهم واحد، صححه الألباني.
3_ قولهم: ((إنَّ ذكر اليَمِين يدل على أنَّ الأخرى شمال)): قول صحيح لو لم يرد ما يدل على أنَّ كلتا يدي الله يَمِين.
أدلة القول الثاني:
وصفُ اليدين بأنَّ كلتيهما يَمِين لا يعني عند العرب أنَّ الأخرى ليست يَسَاراً، بل قد يوصف الإنسان بأنَّ يديه كلتاهما يَمِين كما قال المرَّار:
((وإِنَّ عَلَى الأمانَةِ مِنْ عَقِيلٍ فَتىً كِلْتَا اليدَيْنِ لَهُ يَمِينَ))
ولا يعني أن لا شمال له، بل هو من كرمه وعطائه شماله كيَمِينه.
انظر البيت في: ((مختلف تأويل الحديث)) لابن قتيبة رحمه الله (ص 247)
كما أنَّ العرب تسمى الرجل ذا الشِّمالَين، وقد سمي عمير بن عبد عمرو بن نضلة رضي الله عنه بذلك، وقيل: بل هو ذو اليدين. راجع: ((الإصابة))
ولا يعنون بذي الشِّمالَين؛ أي: لا يَمِين له
الترجيح
نحن نسلم أن العرب تطلق ذلك كما ذكره أصحاب القول الأول ولكن مع ترجيح ضعف الحديث الذي فيه لفظة (شماله) لا يمكن أن نثبت لله عز وجل شمال لأن باب الأسماء والصفات توقيفي فلابد من دليل صحيح في هذا الباب لذلك الصحيح هو ما ذهب إليه أصحاب القول الثاني.
———-
هذا بحث بخصوص الإشهاد هل هو حقيقي أم المقصود الفطرة:
وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا) هذا الإقرار في الدنيا لا في عالم الذر؛ فالفطرة من لوازم خلق الثقلين، وليست مكتسبة
من أقوال شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن كثير، وابن أبي العز، وابن القيم في قوله تعالى:
(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ
وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا
أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)
قال ابن تيمية:
من المعروف عند السلف والخلف أن جميع الجن والإنس معترفون بالخالق مقرون به، مع أن جمهور الخلق لا يعرفون النظر الذي يذكره هؤلاء، فعلم أن أصل الإقرار بالصانع والاعتراف به مستقر في قلوب جميع الإنس والجن، وأنه من لوازم خلقهم، ضروري فيهم، وإن قدر أنه حصل بسبب، كما أن اغتذاءهم بالطعام والشراب هو من لوازم خلقهم، وذلك ضروري فيهم.
وهذه هو الإقرار والشهادة المذكورة في قوله: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين * أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون}.
فإن هذه الآية فيها قولان: من الناس من يقول: هذا الإشهاد كان لما استخرجوا من صلب آدم، كما نقل ذلك عن طائفة من السلف، ورواه بعضهم مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكره الحاكم، لكن رفعه ضعيف.
وإنما المرفوع الذي في السنن، كأبي داود، والترمذي، وموطأ مالك، من حديث أبي هريرة ومن حديث عمر: هو أنهم استخرجهم، ليس في هذه الكتب أنهم نطقوا ولا تكلموا. ولكن في حديث أبي هريرة أنه أراهم آدم.
وفي حديث عمر وغيره أنه قال: هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار.
ففيها إثبات القدر وأن الله علم ما سيكون قبل أن يكون، وعلم الشقي والسعيد من ذرية آدم، وسواء كان ما استخرجه فرآه آدم هي وأمثالهم أو أعيانهم.
فأما نطقهم فليس في شيء من الأحاديث المرفوعة الثابتة، ولا يدل عليه القرآن، فإن القرآن يقول فيه: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم}، فذكر الأخذ من ظهور بني آدم – لا من نفس آدم – وذرياتهم يتناول كل من ولده، وإن كان كثيراً، كما قال تمام الآية: {أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم}.
وقال تعالى: {إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين * ذرية بعضها من بعض}، وقال: {ذرية من حملنا مع نوح}، وقال: {ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون}، إلى قوله: {وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس}، فاسم الذرية يتناول الكبار.
وقوله: {وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى}، فشهادة المرء على نفسه في القرآن يراد بها: إقراره.
فمن أقر بحق عليه فقد شهد به على نفسه.
قال تعالى: {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين}، وهذا مما احتج به الفقهاء على قبول الإقرار.
وفي حديث ماعز بن مالك: فلما شهد على نفسه أربع مرات رجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي أقر أربع مرات.
ومنه قوله تعالى: {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر}، فإنهم كانوا مقرين لما هو كفر، فكان ذلك شهادتهم على أنفسهم.
وقال تعالى: {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين}، فشهادتهم على أنفسهم هو إقرارهم، وهو إذاً الشهادة على أنفسهم.
ولفظ شهد فلان وأشهدته: يراد به تحمل الشهادة، ويراد به أداؤها،
فالأول كقوله: {فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم}، والثاني كقوله: {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم}.
وقوله: {وأشهدهم على أنفسهم}، من هذا الثاني، ليس المراد أنه جعلهم يتحملون شهادة على أنفسهم يؤدونها في وقت آخر، فإنه سبحانه في مثل ذلك إنما يشهد على الرجل غيره.
كما في قصة آدم لما أشهد عليه الملائكة، وكما في شهادة الملائكة وشهادة الجوراح على أصحابها،
ولما ظن بعض المفسرين هذا قال: المراد أشهد بعضهم على بعض.
لكن هذا اللفظ حيث جاء في القرآن، إنما يراد به شهادة الرجل على نفسه، بمعنى أداء الشهادة على نفسه، وهو إقراره على نفسه، فالشهادة هنا خبر.
وقولهم: {بلى شهدنا}، هو إقرارهم بأنه ربهم، ومن أخبر بأمر عن نفسه فقد شهد به على نفسه، ولهذا قال في الآية: {وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى}، فقولهم: بلى، معناه: أنت ربنا.
وهذا إقرار بربوبيته لهم، وهذا الإقرار هو شهادة على أنفسهم، أي إنطاقهم بالإقرار بربوبيته، وجعلهم شهداء على أنفسهم بما أقروا به من ربوبيته.
وقوله: (أشهدهم) يقتضي أنه هو الذي جعلهم شاهدين على أنفسهم بأنه ربهم، وهذا الإشهاد مقرون بأخذهم من ظهور آباؤهم، وهذا الأخذ المعلوم المشهود الذي لا ريب فيه هو أخذ المني من أصلاب الآباء ونزوله في أرحام الأمهات.
لكن لم يذكر هنا الأمهات لقوله فيما بعد: {أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم}، وهم كانوا متبعين لدين آبائهم، لا لدين الأمهات، كما قالوا: {إنا وجدنا آباءنا على أمة}.
ولهذا قال: {قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم}، فهو يقول: اذكر حين أخذوا من أصلاب الآباء فخلقوا حين ولدوا على الفطرة مقرين بالخالق شاهدين على أنفسهم بأن الله ربهم، فهذا الإقرار حجة لله عليهم يوم القيامة، فهو يذكر أخذه لهم، وإشهاده إياهم على أنفسهم، إذ كان سبحانه خلق فسوى، وقدر فهدى.
فالأخذ يتضمن خلقهم، والإشهاد يتضمن هداه لهم إلى هذا الإقرار، فإنه قال: {أشهدهم} أي جعلهم شاهدين.
وقد ذكرنا أن الإشهاد يراد به تحميل الشهادة، كقوله: {وأشهدوا ذوي عدل منكم}، أي احملوا هذه الشهادة على هؤلاء المشهود عليهم.
وهنا لم يقل: أشهدوا على أنفسهم بما أنطقهم به، فيكون هذا إقرار مشهوداً به غير الشهادة،
سواء كان شهادة بعضهم على بعض، كما قاله بعضهم
أو كان شهادتهم على أنفسهم بما أقروا به، بل شهادتهم على أنفسهم هو إقرارهم.
فالشهادة هي الإقرار، كما قال: {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم}، وكما قيل لماعز: شهد على نفسه أربعاً.
فإشهادهم على أنفسهم جعلهم شاهدين على أنفسهم، أي مقرين له بربوبيته، كما قال في تمام الكلام: {ألست بربكم قالوا بلى شهدنا}، فقولهم: بلى شهدنا، هو إقرارهم بربوبيته، وهو شهادتهم على أنفسهم بأنه ربهم وهم مخلوقون به، فشهدوا على أنفسهم بأنهم عبيده.
كما يقول المملوك: هذا سيدي، فيشهد على نفسه بأنه مملوك لسيده، وذلك يقتضي أن هذا الإشهاد من لوازم الإنسان، فكل إنسان قد جعله الله مقراً بربوبيته، شاهداً على نفسه بأنه مخلوق والله خالقه.
ولهذا جميع بنى آدم مقرون بهذا شاهدون به على أنفسهم.
وهذا أمر ضروري لهم لا ينفك عنه مخلوق، وهو مما خلقوا عليه وجبلوا عليه، وجعل علماً ضرورياً لهم، لا يمكن أحداً جحده.
ثم قال بعد ذلك: {أن تقولوا} أي كراهة أن تقولوا، ولئلا تقولوا: إنا كنا عن هذا غافلين: عن الإقرار لله بالربوبية، وعلى نفوسنا بالعبودية، فإنهم كانوا غافلين عن هذا،
بل كان هذا من العلوم الضرورية اللازمة لهم، التي لم يخل منها بشر قط، بخلاف كثير من العلوم التي قد تكون ضرورية، ولكن قد يغفل عنها كثير من بني آدم، من علوم العدد والحساب وغير ذلك، فإنها إذا تصورت كانت علوماً ضرورية، لكن كثير من الناس غافل عنها.
وأما الاعتراف بالخالق فإنه علم ضروري لازم للإنسان، لا يغفل عنه أحد بحيث لا يعرفه، بل لا بد أن يكون قد عرفه، وإن قدر أنه نسيه، ولهذا يسمى التعريف بذلك تذكيراً، فإنه تذكير بعلوم فطرية ضرورية قد ينساها العبد.
كما قال تعالى: {ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم}، وفي الحديث الصحيح: «يقول الله للكافر: فاليوم أنساك كما نسيتني».
ثم قال: {أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون}، ذكر لهم حجتين يدفعهما هذا الإشهاد.
إحداهما: {أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين}.
فبين أن هذا علم فطري ضروري، لا بد لكل بشر من معرفته، وذلك يتضمن حجة الله في إبطال التعطيل، وأن القول بإثبات الصانع علم فطري ضروري، وهو حجة على نفي التعطيل.
والثاني: {أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم}، فهذا حجة لدفع الشرك، كما أن الأول حجة لدفع التعطيل. فالتعطيل مثل كفر فرعون ونحوه، والشرك مثل شرك المشركين من جميع الأمم.
وقوله: {أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون}: وهم آباؤنا المشركون، وتعاقبنا بذنوب غيرنا؟ وذلك لأنه قدر أنهم لم يكونوا عارفين بأن الله ربهم، ووجدوا آباءهم مشركين، وهم ذرية من بعدهم، ومقتضى الطبيعة العادية أن يحتذى الرجل حذو أبيه حتى في الصناعات والمساكن والملابس والمطاعم، إذ كان هو الذي رباه، ولهذا كان أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ويشركانه، فإذا كان هذا مقتضى العادة الطبيعية، ولم يكن في فطرتهم وعقولهم ما يناقض ذلك، قالوا: نحن معذورون، وآباؤنا هم الذين أشركوا، ونحن كنا ذرية لهم بعدهم، اتبعناهم بموجب الطبيعة المعتادة، ولم يكن عندنا ما يبين خطأهم.
فإذا كان في فطرتهم ما شهدوا به من أن الله وحده هو ربهم، كان معهم ما يبين بطلان هذا الشرك، وهو التوحيد الذي شهدوا به على أنفسهم، فإذا احتجوا بالعادة الطبيعية من اتباع الآباء، كانت الحجة عليهم الفطرة الطبيعية العقلية السابقة لهذه العادة الأبوية.
كما قال صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه»، فكانت الفطرة الموجبة للإسلام سابقة للتربية التي يحتجون بها.
وهذا يقتضي أن نفس العقل الذي به يعرفون التوحيد، حجة في بطلان الشرك، لا يحتاج ذلك إلى رسول، فإنه جعل ما تقدم حجة عليهم بدون هذا.
وهذا لا يناقض قوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}، فإن الرسول يدعو إلى التوحيد، لكن إن لم يكن في الفطرة دليل عقلي يعلم به إثبات الصانع، لم يكن في مجرد الرسالة حجة عليهم، فهذه الشهادة على أنفسهم التي تتضمن إقرارهم بأن الله ربهم. ومعرفتهم بذلك، وأن هذه المعرفة والشهادة أمر لازم لكل بني آدم، به تقوم حجة الله تعالى في تصديق رسله، فلا يمكن أحداً أن يقول يوم القيامة: إني كنت عن هذا غافلاً، ولا أن الذنب كان لأبي المشرك دوني، لأنه عارف بأن الله ربه لا شريك له، فلم يكن معذوراً في التعطيل ولا الإشراك، بل قام به ما يستحق به العذاب.
ثم إن الله بكمال رحمته وإحسانه لا يعذب أحداً إلا بعد إرسال رسول إليهم، وإن كانوا فاعلين لما يستحقون به الذم والعقاب، كما كان مشركو العرب وغيرهم ممن بعث إليهم رسول، فاعلين للسيئات والقبائح التي هي سبب الذم والعقاب، والرب تعالى مع هذا لم يكن معذباً لهم حتى يبعث إليهم رسولاً. “درء تعارض العقل والنقل”
——————–
وقال ابن كثير:
قال قائلون من السلف والخلف: إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد … وقد فسر الحسن البصري الآية بذلك، قالوا: ولهذا قال: (وإذ أخذ ربك من بني آدم) ولم يقل: من آدم، (من ظهورهم) ولم يقل: من ظهره، (ذرياتهم) أي: جعل نسلهم جيلا بعد جيل، وقرنا بعد قرن، كما قال تعالى: (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض)
ثم قال: (وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى) أي: أوجدهم شاهدين بذلك، قائلين له حالا وقالا.
والشهادة تارة تكون بالقول، كما قال [تعالى] (قالوا شهدنا على أنفسنا)
، وتارة تكون حالا كما قال تعالى: (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر)،أي: حالهم شاهد عليهم بذلك لا أنهم قائلون ذلك، وكذلك قوله تعالى: (وإنه على ذلك لشهيد)
كما أن السؤال تارة يكون بالقال، وتارة يكون بالحال، كما في قوله: (وآتاكم من كل ما سألتموه) قالوا: ومما يدل على أن المراد بهذا هذا، أن جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في الإشراك، فلو كان قد وقع هذا كما قاله من قال لكان كل أحد يذكره، ليكون حجة عليه.
فإن قيل: إخبار الرسول به كاف في وجوده، فالجواب: أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره. وهذا جعل حجة مستقلة عليهم، فدل على أنه الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد ; ولهذا قال: (أن يقولوا) أي: لئلا يقولوا يوم القيامة: (إنا كنا عن هذا) أي: [عن] التوحيد (غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا).
——————-
وجاء في شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز:
وأقوى ما يشهد لصحة القول الأول: حديث أنس المخرج في الصحيحين الذي فيه: ((قد أردت منك ما هو أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي)). ولكن قد روي من طريق أخرى: قد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل، فيرد إلى النار. وليس فيه: في ظهر آدم. وليس في الرواية الأولى إخراجهم من ظهر آدم على الصفة التي ذكرها أصحاب القول الأول.
بل القول الأول متضمن لأمرين عجيبين:
أحدهما: كون الناس تكلموا حينئذ وأقروا بالإيمان وأنه بهذا تقوم الحجة عليهم يوم القيامة.
والثاني: أن الآية دلت على ذلك، والآية لا تدل عليه لوجوه:
أحدها: أنه قال: {مِنْ بَنِي آدَمَ}، ولم يقل: من آدم.
الثاني: أنه قال: من ظهورهم، ولم يقل: من ظهره، وهذا بدل بعض، أو بدل اشتمال، وهو أحسن.
الثالث: أنه قال: ذرياتهم ولم يقل: ذريته.
الرابع: أنه قال: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ}، ولا بد أن يكون الشاهد ذاكراً لما شهد به، وهو إنما يذكر شهادته بعد خروجه إلى هذه الدار- لا يذكر شهادة قبله.
الخامس: أنه سبحانه أخبر أن حكمة هذا الإشهاد إقامة للحجة عليهم، لئلا يقولوا يوم القيامة: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} والحجة إنما قامت عليهم بالرسل والفطرة التي فطروا عليها، كما قال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً}.
السادس: تذكيرهم بذلك، لئلا يقولوا يوم القيامة: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}، ومعلوم أنهم غافلون عن الإخراج لهم من صلب آدم كلهم وإشهادهم جميعاً ذلك الوقت، فهذا لا يذكره أحد منهم.
السابع: قوله تعالى: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} فذكر حكمتين في هذا الإشهاد: لئلا
يدعوا الغفلة، أو يدعوا التقليد، فالغافل لا شعور له، والمقلد متبع في تقليده لغيره. ولا تترتب هاتان الحكمتان إلا على ما قامت به الحجة من الرسل والفطرة.
الثامن: قوله: {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ}، أي توعدهم بجحودهم وشركهم لما قالوا ذلك، وهو سبحانه إنما يهلكهم بمخالفة رسله وتكذيبهم، وقد أخبر سبحانه أنه لم يكن ليهلك القرى بظلم وأهلها غافلون، وإنما يهلكهم بعد الإعذار والإنذار بإرسال الرسل.
التاسع: أنه سبحانه أشهد كل واحد على نفسه أنه ربه وخالقه، واحتج عليه بهذا في غير موضع من كتابه، كقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [17]، فهذه هي الحجة التي أشهدهم على أنفسهم بمضمونها، وذكرتهم بها رسله، بقولهم: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض}.
العاشر: أنه جعل هذا آية، وهي الدلالة الواضحة البينة المستلزمة لمدلولها، وهذا شأن آيات الرب تعالى، فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، وإنما ذلك بالفطرة التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، فما من مولود إلا يولد على الفطرة، لا يولد مولود على غير هذه الفطرة، هذا أمر مفروغ منه، لا تبديل ولا تغيير. وقد تقدمت الإشارة إلى هذا. والله أعلم.
وقد تفطن لهذا ابن عطية وغيره، ولكن هابوا مخالفة ظاهر تلك الأحاديث التي فيها التصريح بأن الله أخرجهم وأشهدهم على أنفسهم ثم أعادهم. وكذلك حكى القولين الشيخ أبو منصور الماتريدي في شرح التأويلات ورجح القول الثاني، وتكلم عليه ومال إليه.
ولا شك أن الإقرار بالربوبية أمر فطري، والشرك حادث طاراء، والأبناء تقلدوه عن الآباء، فإذا احتجوا يوم القيامة بأن الآباء أشركوا ونحن جرينا على عادتهم كما يجري الناس على عادة آبائهم في المطاعم والملابس والمساكن، يقال لهم: أنتم كنتم معترفين بالصانع، مقرين بأن الله ربكم لا شريك له، وقد شهدتم بذلك على أنفسكم، فإن شهادة المرء على نفسه هي إقراره بالشيء ليس إلا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ}.
وليس المراد أن يقول: أشهد على نفسي بكذا، بل من أقر بشيء فقد شهد على نفسه به، فلم عدلتم عن هذه المعرفة والإقرار الذي شهدتم به على أنفسكم إلى الشرك؟ بل عدلتم عن المعلوم المتيقن إلى ما لا يعلم له حقيقة، تقليداً لمن لا حجة معه، بخلاف اتباعهم في العادات الدنيوية، فإن تلك لم يكن عندكم ما يعلم به فسادها، وفيه مصلحة لكم، بخلاف الشرك، فإنه كان عندكم من المعرفة والشهادة على أنفسكم ما يبين فساده وعدولكم فيه عن الصواب.
فإن الدين الذي يأخذه الصبي عن أبويه هو: دين التربيه والعادة، وهو لأجل مصلحة الدنيا، فإن الطفل لا بد له من كافل، وأحق الناس به أبواه، ولهذا جاءت الشريعة بأن الطفل مع أبويه على دينهما في أحكام الدنيا الظاهرة، وهذا الدين لا يعاقبه الله عليه – على الصحيح -حتى يبلغ ويعقل وتقوم عليه الحجة …
[و] توحيد الربوبية لا يحتاج إلى دليل، فإنه مركوز في الفطر. وأقرب ما ينظر فيه المرء أمر نفسه لما كان نطفة، وقد خرج من بين الصلب والترائب والترائب: عظام الصدر، ثم صارت تلك النطفة في قرار مكين، في ظلمات ثلاث، وانقطع عنها تدبير الأبوين وسائر الخلائق، ولو كانت موضوعة على لوح أو طبق، واجتمع حكماء العالم على أن يصوروا منها شيئاً لم يقدروا. ومحال توهم عمل الطبائع فيها، لأنها موات عاجزة، ولا توصف بحياة، ولن يتأتى من الموات فعل وتدبير، فإذا تفكر في ذلك وانتقال هذه النطفة من حال الى حال، علم بذلك توحيد الربوبية، فانتقل منه إلى توحيد الإلهية. فإنه إذا علم بالعقل أن له ربا أوجده، كيف يليق به أن يعبد غيره؟ وكلما تفكر وتدبر ازداد يقيناً وتوحيداً، والله الموفق، لا رب غيره، ولا إله سواه.
قال ابن القيم في كتاب “الروح”:
أن الآثار المذكورة لا تدل على سبق الأرواح الأجساد سبقا مستقرا ثابتا
وغايتها أن تدل بعد صحتها وثبوتها على أن بارئها وفاطرها سبحانه صور النسم وقدر خلقها وآجالها وأعمالها
واستخرج تلك الصور من مادتها ثم أعادها إليها
وقدر خروج كل فرد من أفرادها في وقته المقدر له
ولا تدل على أنها خلقت خلقا مستقرا ثم استمرت موجودة حية عالمة ناطقة كلها في موضع واحد، ثم ترسل منها إلى الأبدان جملة بعد جملة، كما قاله أبو محمد بن حزم فهل تحمل الآثار مالا طاقة لنا به
نعم الرب سبحانه يخلق منها جملة بعد جملة على الوجه الذى سبق به التقدير أولا فيجاء الخلق الخارجي مطابقا للتقدير السابق كشأنه تعالى في جميع مخلوقاته فانه قدر لها أقدارا وآجالا وصفات وهيئات ثم أبرزها إلى الوجود مطابقة لذلك التقدير الذى قدره لها لا تزيد عليه ولا تنقص منه
فالآثار المذكورة إنما تدل على إثبات القدر السابق
وبعضها يدل على أنه سبحانه استخرج أمثالهم وصورهم وميز أهل السعادة من أهل الشقاوة
وأما مخاطبتهم واستنطاقهم وإقرارهم له بالربوبية وشهادتهم على أنفسهم بالعبودية!
فمن قاله من السلف فإنما هو بناء منه على فهم الآية، والآية لم تدل على هذا بل دلت على خلافه
إلى أن قال:
وأما حديث أبى بن كعب هو عن النبي وغايته لو صح ولم يصح أن يكون من كلام أبى وهذا الإسناد يروى به أشياء منكرة جدا مرفوعة وموقوفة … ومما ينكر من هذا الحديث قوله فكان روح عيسى من تلك الأرواح التي أخذ عليها الميثاق فأرسل ذلك الروح إلى مريم حين انتبذت من أهلها مكانا شرقيا فدخل في فيها
ومعلوم إن الروح الذى أرسل إلى مريم ليس هو روح المسيح بل ذلك الروح نفخ فيها فحملت بالمسيح قال تعالى فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا فروح المسيح لا يخاطبها عن نفسه بهذه المخاطبة قطعا وفي بعض طرق حديث أبى جعفر هذا أن روح المسيح هو الذى خطابها وهو الذى أرسل إليها ….
قال الحسن بن يحيى الجرجاني فإن اعتراض معترض في هذا الفصل بحديث يروى عن النبي أنه قال أن الله مسح ظهر آدم فأخرج منه ذريته وأخذ عليهم العهد ثم ردهم في ظهره، وقال إن هذا مانع من جواز التأويل الذي ذهبت إليه لامتناع ردهم في الظهر
(فصل وأما الدليل على أن خلق الأرواح متأخر عن خلق أبدانها فمن وجوه)
القرآن والحديث والآثار تدل على أنه سبحانه نفخ فيه من روحه -اي ادم- بعد خلق جسده فمن تلك النفخة حدثت فيه الروح ولو كانت روحه مخلوقة قبل بدنه مع جملة أرواح ذريته لما عجبت الملائكة من خلقه ولما تعجبت من خلق النار وقالت لأي شيء خلقتها وهي ترى أرواح بني آدم فيهم المؤمن والكافر والطيب والخبيث
ولما كانت أرواح الكفار كلها تبعا لإبليس بل كانت الأرواح الكافرة مخلوقة قبل كفره فإن الله سبحانه إنما حكم عليه بالكفر بعد خلق بدن آدم وروحه ولم يكن قبل ذلك كافرا فكيف تكون الأرواح قبله كافرة ومؤمنة وهو لم يكن كافرا إذ ذاك وهل حصل الكفر للأرواح إلا بتزيينه وإغوائه فالأرواح الكافرة إنما حدثت بعد كفره إلا أن يقال كانت كلها مؤمنة ثم ارتدت بسببه والذي احتجوا به على تقديم خلق الأرواح يخالف ذلك
وفي حديث أبى هريرة في تخليق العالم الأخبار عن خلق أجناس العالم تأخر خلق آدم إلى يوم الجمعة ولو كانت الأرواح مخلوقة قبل الأجساد لكانت من جملة العالم المخلوق في ستة أيام فلما لم يخبر عن خلقها في هذه الأيام علم أن خلقها تابع لخلق الذرية وأن خلق آدم وحده هو الذي وقع في تلك الأيام الستة وأما خلق ذريته فعلى الوجه المشاهد المعاين
ولو كان للروح وجود قبل البدن وهي حية عالمة ناطقة لكانت ذاكرة لذلك في هذا العالم شاعرة به ولو بوجه ما
ومن الممتنع أن تكون حية عالمة ناطقة عارفة بربها وهي بين ملأ من الأرواح ثم تنتقل إلى هذا البدن ولا تشعر بحالها قبل ذلك بوجه ما
وإذا كانت بعد المفارقة تشعر بحالها وهي في البدن على التفصيل وتعلم ما كانت عليه ها هنا مع أنها اكتسبت بالبدن أمورا عاقتها عن كثير من كمالها فلان تشعر بحالها الأول وهي غير معوقة هناك بطريق الأولى
إلا أن يقال تعلقها بالبدن واشتغالها بتدبيره منعها من شعورها بحالها الأول فيقال هب أنه منعها من شعورها به على التفصيل والكمال فهل يمنعها عن أدنى شعور بوجه ما مما كانت عليه قبل تعلقها بالبدن ومعلوم أن تعلقها بالبدن لم يمنعها عن الشعور بأول أحوالها وهي في البدن فكيف يمنعها من الشعور بما كان قبل ذلك
وأيضا فإنها لو كانت موجودة قبل البدن لكانت عالمة حية ناطقة عاقلة فلما تعلقت بالبدن سلبت ذلك كله ثم حدث لها الشعور والعلم والعقل شيئا فشيئا وهذا لو كان لكان أعجب الأمور أن تكون الروح كاملة عاقلة ثم تعود ناقصة ضعيفة جاهلة ثم تعود بعد ذلك إلى عقلها وقوتها فأين في العقل والنقل والفطرة ما يدل على هذا وقد قال تعالى والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون
فهذه الحال التي أخرجنا عليها هي حالنا الأصلية والعلم والعقل والمعرفة والقوة طاراء علينا حادث فينا بعد أن لم يكن ولم نكن نعلم قبل ذلك شيئا البتة إذ لم يكن لنا وجود نعلم ونعقل به
وأيضا فلو كانت مخلوقة قبل الأجساد وهي على ما هي الآن من طيب وخبث وكفر وإيمان وخير وشر لكان ذلك ثابتا لها قبل الأعمال وهي إنما اكتسبت هذه الصفات والهيئات من أعمالها التي سعت في طلبها واستعانت عليها بالبدن فلم تكن لتصف بتلك الهيئات والصفات قبل قيامها بالأبدان التي بها عملت تلك الأعمال
وإن كان قدر لها قبل إيجادها ذلك ثم خرجت إلى هذه الدار على ما قدر لها فنحن لا ننكر الكتاب والقدر السابق لها من الله ولو دل دليل على أنها خلقت جملة ثم أودعت في مكان حية عالمة ناطقة ثم كل وقت تبرز إلى أبدانها شيئا فشيئا لكنا أول قائل به فالله سبحانه على كل شيء قدير
ولكن لا نخبر عنه خلقا وأمرا إلا بما أخبر به عن نفسه على لسان رسوله ومعلوم أن الرسول لم يخبر عنه بذلك وإنما أخبر بما في الحديث الصحيح أن خلق ابن آدم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقه مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح فالملك وحده يرسل إليه فينفخ فيه فإذا نفخ فيه كان ذلك سبب حدوث الروح فيه
ولم يقل يرسل الملك إليه بالروح فيدخلها في بدنه وإنما أرسل إليه الملك فأحدث فيه الروح بنفخته فيه لا أن الله سبحانه أرسل إليه الروح التي كانت موجودة قبل ذلك بالزمان الطويل مع الملك ففرق بين أن يرسل إليه ملك ينفخ فيه الروح وبين أن يرسل إليه روح مخلوقة قائمة بنفسها مع الملك وتأمل ما دل عليه النص من هذين المعنيين وبالله التوفيق
وممن قال بالقول الأول الشيخ الألباني حيث قال في “السلسة الصحيحة”:
“و جملة القول أن الحديث صحيح، بل هو متواتر المعنى كما سبق، و أنه لا تعارض بينه و بين آية أخذ الميثاق، فالواجب ضمه إليها، و أخذ الحقيقة من مجموعها و قد تجلت لك إن شاء الله مما نقلته لك من كلام العلماء، و بذلك ننجو من مشكلتين بل مفسدتين كبيرتين:
الأولى: رد الحديث بزعم معارضته للآية.
و الأخرى: تأويلها تأويلا يبطل معناها”
وقال الحكمي في “معارج القبول”:
قلت: ليس بين التفسيرين منافاة ولا مضادة ولا معارضة, فإن هذه المواثيق كلها ثابتة بالكتاب والسنة.
الأول الميثاق الذي أخذه الله تعالى عليهم حين أخرجهم من ظهر أبيهم آدم عليه السلام وأشهدهم على أنفسهم {ألست بربكم قالوا بلى} الآيات وهو الذي قاله جمهور المفسرين رحمهم الله في هذه الآيات, وهو نص الأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما.
الميثاق الثاني: ميثاق الفطرة وهو أنه تبارك وتعالى فطرهم شاهدين بما أخذه عليهم في الميثاق الأول كما قال تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} وهو الثابت في حديث أبي هريرة وعياض بن حمار والأسود بن سريع رضي الله عنهم وغيرها من الأحاديث في الصحيحين وغيرهما.
الميثاق الثالث: هو ما جاءت به الرسل وأنزلت به الكتب تجديدا للميثاق الأول وتذكيرا به {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما} فمن أدرك هذا الميثاق وهو باق على فطرته التي هي شاهدة بما ثبت في الميثاق الأول فإنه يقبل ذلك من أول مرة ولا يتوقف؛ لأنه جاء موافقا لما في فطرته وما جبله الله عليه فيزداد بذلك يقينه ويقوى إيمانه فلا يتلعثم ولا يتردد ومن أدركه وقد تغيرت فطرته عما جبله الله عليه من الإقرار بما ثبت في الميثاق الأول بأن كان قد اجتالته الشياطين عن دينه وهوده أبواه أو نصراه أو مجساه فهذا إن تداركه الله تعالى برحمته فرجع إلى فطرته وصدق بما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب نفعه الميثاق الأول والثاني, وإن كذب بهذا الميثاق كان مكذبا بالأول فلم ينفعه إقراره به يوم أخذه الله عليه حيث قال {بلى} جوابا لقوله تعالى: {ألست بربكم} وقامت عليه حجة الله وغلبت عليه الشقوة وحق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء.
ومن لم يدرك هذا الميثاق بأن مات صغيرا قبل التكليف مات على الميثاق الأول على الفطرة فإن كان من أولاد المسلمين فهم مع آبائهم وإن كان من أولاد المشركين فالله أعلم بما كان عاملا لو أدركه كما في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سئل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن أولاد المشركين فقال صلى الله عليه وسلم: الله تعالى إذ خلقهم أعلم بما كانوا عاملين.
قال صاحبنا ابوصالح:
موضع المعركة حديث ابن عباس رضي الله عنهما روي مرفوعا وموقوفا
فمن أوقفه كأنه يقول ليس له حكم الرفع لانه قد يكون من الاسرائيليات.