139 لطائف التفسير والمعاني
محمد الفاتح و عبدالله كديم
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا)
——-‘——‘——–‘
——-‘——-‘——-‘
لطيفة: رب العزة أمر المؤمنين في القرآن بحسن الخطاب ولينه والإبتعاد عن سيئه. وفاحشه.
———
مقدمة:
قرر القرآن الكريم أثر القول الحسن والقول الفظ الغليظ في محكم كتابه، ومن واقع حياة نبيه المصطفى، عليه الصلاة والسلام، حيث قال سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}، والمعنى أن التفاف الناس حولك وقبول دعوتك والإيمان بك كان بسبب لين القول لهم، ولو لم تكن كذلك بأن استبدلت الفظاظة باللين لما كان معك أحد، لأن الطباع البشرية تأبى أن تقبل الفظ الغليظ، وإن كان على حق وصواب، لما تشعر به من المهانة وسلب العزة، وقد كان منهجه، عليه الصلاة والسلام، العام الذي لا يتخلف، أنه يكره الفحش والتفاحش، فلا يواجه أحداً بما يكره، ويلين القول مع القريب والبعيد، حتى مع أعدائه ومحاربيه، ولا تزيده شدة العداوة إلا ليناً في القول ورحمة بالمدعوين، كما ورد أنه: «لما كسرت رَباعِيَّتُه، صلى الله عليه وسلم، وشُج في جبهته، فجعلت الدماء تسيل على وجهه – بأبي هو وأمي ونفسي التي بين جنبيِّ – قيل: يا رسول الله، ادع الله عليهم، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى لم يبعثني طعاناً ولا لعاناً، ولكن بعثني داعية ورحمة، اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون)»
ويعلمنا رب العزة أدب الخطاب بشكل عام:
يقول الحق سبحانه وتعالى في سورة الإسراء: (وَقُل لعِبَادِي يَقُولُوا التِي هِيَ أَحْسَنُ إِن الشيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِن الشيْطَانَ كَانَ لِلإنسان عَدُوّاً مبِيناً)
بل قيل في تفسير قوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ): إنّ الموعظة الحسنة هي مواعظ القرآن
وقد حث الله الأنبياء في دعوتهم لهذا على الرفق واللين والتلطف والتدرج في بيان الحق لهم، قال تعالى مخبرا عن موسى وهارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}
قال ابن كثير – -: «هذه الآية فيها عبرة عظيمة، وهو أن فرعون في غاية العتو والاستكبار، وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك، ومع هذا أمر ألا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين، كما قال يزيد الرقاشي عند قوله: فقولا له قولا لينا: يا من يتحبب إلى من يعاديه فكيف بمن يتولاه ويناديه
ومن خطاب الرفق واللن قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} ([5]).
بالأخلاق الحسنة من لطف ولين كلام جاءت هذه الآية تدعو إلى الحق, وتحسنه بالأدلة العقلية والنقلية، وترد الباطل بأقرب طريق وأنسب عبارة, وأن لا يكون القصد من ذلك مجرد المجادلة والمغالبة وحب العلو، بل أن يكون القصد بيان الحق، وهداية الخلق.
فخاطب القرآن الكريم أهل الكتاب خطابا راقيا يدعوهم فيه إلى الحق، ذلك الخطاب القائم على مبدأ الحوار والإقناع بالحجة دون إكراه.
وقالَ تَعَالَى: (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا) [الإسراء: 28]، وَهُوَ الْقَوْلُ السَّهْلُ اللَّيِّنُ، الَّذِي فِيهِ مَسَرَّةٌ لِلْمُخَاطَبِينَ، وَجَبْرٌ لِخَاطِرِهِمِ، وَتَيْسِيرٌ لِمُعْسِرِهِمْ.
وقد امتثل النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأخلاق؛ حتى مع الكفار قال ابن مسعود — كأني أنظر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحكي نبيا من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ»
والقرآن الكريم معجز في أعلى درجات البلاغة. فعلّم المؤمنين استعمال الألفاظ الرفيعة في الخطاب وتجنب الألفاظ السيئة. خاصة الدعاة إلى الله، ليعْلَم الناس أنه من عند الواحد الأحد العزيز الحكيم.
وهذا جمع جمعناه من تفسير السعدي يبين أمثلة لأساليب الخطاب في القرآن:
———
أمثلة الخطاب في القرآن:
قال السعدي: قال تعالى:
{يَقُولون سَمِعْنا وعَصَيْنا} أي: سمعنا قولك وعصينا أمرك، وهذا غاية الكفر والعناد والشرود عن الانقياد، وكذلك يخاطبون الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأقبح خطاب وأبعده عن الأدب فيقولون: {اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} قصدهم: اسمع منا غير مسمع ما تحب، بل مسمع ما تكره، {وراعِنا} قصدهم بذلك الرعونة، بالعيب القبيح، ويظنون أن اللفظ -لما كان محتملا لغير ما أرادوا من الأمور- أنه يروج على الله وعلى رسوله، فتوصلوا بذلك اللفظِ الذي يلوون به ألسنتهم إلى الطعن في الدين والعيب للرسول، ويصرحون بذلك فيما بينهم، فلهذا قال: {لَيًّا بِألْسِنَتِهِمْ وطَعْنًا فِي الدِّينِ}.
ثم أرشدهم إلى ما هو خير لهم من ذلك فقال: {ولَوْ أنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وأطَعْنا واسْمَعْ وانْظُرْنا لَكانَ خَيْرًا لَهُمْ وأقْوَمَ} وذلك لما تضمنه هذا الكلام من حسن الخطاب والأدب اللائق في مخاطبة الرسول، والدخول تحت طاعة الله والانقياد لأمره، وحسن التلطف في طلبهم العلم بسماع سؤالهم، والاعتناء بأمرهم، فهذا هو الذي ينبغي لهم سلوكه. ولكن لما كانت طبائعهم غير زكية، أعرضوا عن ذلك، وطردهم الله بكفرهم وعنادهم، ولهذا قال: {ولَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إلا قَلِيلا}.
تفسير السعدي
قال السعدي: قال تعالى:
{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وإنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ * وقاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ويَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإنِ انْتَهَوْا فَإنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وإنْ تَوَلَّوْا فاعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ المَوْلى ونِعْمَ النَّصِيرُ}.سورة الأنفال 38 – 40
هذا من لطفه تعالى بعباده لا يمنعه كفر العباد ولا استمرارهم في العناد، من أن يدعوهم إلى طريق الرشاد والهدى، وينهاهم عما يهلكهم من أسباب الغي والردى، فقال: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا} عن كفرهم وذلك بالإسلام لله وحده لا شريك له.
{يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ} منهم من الجرائم {وإنْ يَعُودُوا} إلى كفرهم وعنادهم {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ} بإهلاك الأمم المكذبة، فلينتظروا ما حل بالمعاندين، فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون، فهذا خطابه للمكذبين، وأما خطابه للمؤمنين عندما أمرهم بمعاملة الكافرين، فقال: {وقاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي: شرك وصد عن سبيل الله، ويذعنوا لأحكام الإسلام، {ويَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} فهذا المقصود من القتال والجهاد لأعداء الدين، أن يدفع شرهم عن الدين، وأن يذب عن دين الله الذي خلق الخلق له، حتى يكون هو العالي على سائر الأديان.
{فَإنِ انْتَهَوْا} عن ما هم عليه من الظلم {فَإنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} لا تخفى عليه منهم خافية.
{وإنْ تَوَلَّوْا} عن الطاعة وأوضعوا في الإضاعة {فاعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ المَوْلى} الذي يتولى عباده المؤمنين، ويوصل إليهم مصالحهم، وييسر لهم منافعهم الدينية والدنيوية. {ونِعْمَ النَّصِيرُ} الذي ينصرهم، فيدفع عنهم كيد الفجار، وتكالب الأشرار.
ومن كان الله مولاه وناصره فلا خوف عليه، ومن كان الله عليه فلا عِزَّ له ولا قائمة له.
تفسير السعدي
قال السعدي: قال تعالى:
{ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم} سورة آل عمران 110 وفي هذا من دعوته بلطف الخطاب ما يدعوهم إلى الإيمان، ولكن لم يؤمن منهم إلا قليل، وأكثرهم الفاسقون الخارجون عن طاعة الله المعادون لأولياء الله بأنواع العداوة، ولكن من لطف الله بعباده المؤمنين أنه رد كيدهم في نحورهم، فليس على المؤمنين منهم ضرر في أديانهم ولا أبدانهم، وإنما غاية ما يصلون إليه من الأذى أذية الكلام التي لا سبيل إلى السلامة منها من كل معادي، فلو قاتلوا المؤمنين لولوا الأدبار فرارا ثم تستمر هزيمتهم ويدوم ذلهم ولا هم ينصرون في وقت من الأوقات، ولهذا أخبر تعالى أنه عاقبهم بالذلة في بواطنهم والمسكنة على ظواهرهم، فلا يستقرون ولا يطمئنون.
قال السعدي:
قال تعالى: (أفلا تذكرون) سورة الصافات 155
وفي هذا من لطف الخطاب، أفَلا تذكرون} {أفلا تَتَّقُونَ} والوعظ بأداة العرض الجاذبة للقلوب
قال السعدي:
قال تعالى:
{يا أبَتِ إنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ العِلْمِ ما لَمْ يَاتِكَ} سورة مريم 43 أي: يا أبت لا تحقرني وتقول: إني ابنك، وإن عندك ما ليس عندي، بل قد أعطاني الله من العلم ما لم يعطك، والمقصود من هذا قوله: {فاتَّبِعْنِي أهْدِكَ صِراطًا سَوِيًّا} أي: مستقيما معتدلا وهو: عبادة الله وحده لا شريك له، وطاعته في جميع الأحوال،. وفي هذا من لطف الخطاب ولينه، ما لا يخفى، فإنه لم يقل: «يا أبت أنا عالم، وأنت جاهل» أو «ليس عندك من العلم شيء» وإنما أتى بصيغة تقتضي أن عندي وعندك علما، وأن الذي وصل إلي لم يصل إليك ولم يأتك، فينبغي لك أن تتبع الحجة وتنقاد لها.
{يا أبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ} لأن من عبد غير الله، فقد عبد الشيطان، كما قال تعالى: {ألَمْ أعْهَدْ إلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}
{إنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} فمن اتبع خطواته، فقد اتخذه وليا وكان عاصيا لله بمنزلة الشيطان. وفي ذكر إضافة العصيان إلى اسم الرحمن، إشارة إلى أن المعاصي تمنع العبد من رحمة الله، وتغلق عليه أبوابها،. كما أن الطاعة أكبر الأسباب لنيل رحمته، ولهذا قال: {يا أبَتِ إنِّي أخافُ أنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} أي: بسبب إصرارك على الكفر، وتماديك في الطغيان {فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ ولِيًّا} أي: في الدنيا والآخرة، فتنزل بمنازله -[(495)]- الذميمة،
وترتع في مراتعه الوخيمة، فتدرج الخليل عليه السلام بدعوة أبيه، بالأسهل فالأسهل، فأخبره بعلمه، وأن ذلك موجب لاتباعك إياي، وأنك إن أطعتني، اهتديت إلى صراط مستقيم، ثم نهاه عن عبادة الشيطان، وأخبره بما فيها من المضار، ثم حذره عقاب الله ونقمته إن أقام على حاله، وأنه يكون وليا للشيطان، فلم ينجع هذا الدعاء بذلك الشقي، وأجاب بجواب جاهل وقال: {أراغِبٌ أنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إبْراهِيمُ}
قال السعدي:
قال تعالى: {اذْهَبْ إلى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغى} سورة طه 24 أي: فانهه عن طغيانه وشركه وعصيانه، بقول لين، وخطاب لطيف، لعله {يتذكر أو يخشى}
{فَقُلْ} له: {هَلْ لَكَ إلى أنْ تَزَكّى} أي: هل لك في خصلة حميدة، ومحمدة جميلة، يتنافس فيها أولو الألباب، وهي أن تزكي نفسك وتطهرها من دنس الكفر والطغيان، إلى الإيمان والعمل الصالح؟
{وأهْدِيَكَ إلى رَبِّكَ} أي: أدلك عليه، وأبين لك مواقع رضاه، من مواقع سخطه. {فَتَخْشى} الله إذا علمت الصراط المستقيم، فامتنع فرعون مما دعاه إليه موسى.
قال السعدي:
والمقصود بهذا الكلام الصادر من ثمود لنبيهم صالح، تكذيبه، ولهذا حكموا عليه بهذا الحكم الجائر، فقالوا: {بَلْ هُوَ كَذّابٌ أشِرٌ} أي: كثير الكذب والشر،
فقبحهم الله ما أسفه أحلامهم وأظلمهم، وأشدهم مقابلة للصادقين الناصحين بالخطاب الشنيع، لا جرم عاقبهم الله حين اشتد طغيانهم
قال السعدي:
قال تعالى: {وقَدْ أحْسَنَ بِي} إحسانا جسيما {إذْ أخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وجاءَ بِكُمْ مِنَ البَدْوِ} وهذا من لطفه وحسن خطابه عليه السلام، حيث ذكر حاله في السجن، ولم يذكر حاله في الجب، لتمام عفوه عن إخوته، وأنه لا يذكر ذلك الذنب، وأن إتيانكم من البادية من إحسان الله إلي.
فلم يقل: جاء بكم من الجوع والنصب، ولا قال: «أحسن بكم» بل قال {أحْسَنَ بِي} جعل الإحسان عائدا إليه، فتبارك من يختص برحمته من يشاء من عباده، ويهب لهم من لدنه رحمة إنه هو الوهاب. {مِن بَعْدِ أنْ نزغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وبَيْنَ إخْوَتِي} فلم يقل «نزغ الشيطان إخوتي» بل كأن الذنب والجهل، صدر من الطرفين، فالحمد لله الذي أخزى الشيطان ودحره، وجمعنا بعد تلك الفرقة الشاقة
{إنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ} يوصل بره وإحسانه إلى العبد من حيث لا يشعر، ويوصله إلى المنازل الرفيعة من أمور يكرهها، {إنَّهُ هُوَ العَلِيمُ} الذي يعلم ظواهر الأمور وبواطنها، وسرائر العباد وضمائرهم، {الحَكِيمُ} في وضعه الأشياء مواضعها، وسوقه -[(406)]- الأمور إلى أوقاتها المقدرة لها.
قال السعدي:
قال تعالى:
{وإذا خاطَبَهُمُ الجاهِلُونَ} سورة الفرقان 63 أي: خطاب جهل بدليل إضافة الفعل وإسناده لهذا الوصف، {قالُوا سَلامًا} أي: خاطبوهم خطابا يسلمون فيه من الإثم ويسلمون من مقابلة الجاهل بجهله. وهذا مدح لهم، بالحلم الكثير ومقابلة المسيء بالإحسان والعفو عن الجاهل ورزانة العقل الذي أوصلهم إلى هذه الحال.
قال السعدي:
قال تعالى: {إذْ قالَ لَهُمْ أخُوهُمْ} سورة الشعراء 124 في النسب {هُودُ} بلطف وحسن خطاب: {ألا تَتَّقُونَ} الله، فتتركون الشرك وعبادة غيره.
قال السعدي:
قال تعالى: {إذْ قالَ لَهُمْ أخُوهُمْ} سورة الشعراء 106 في النسب {نُوحٌ} وإنما ابتعث الله الرسل، من نسب من أرسل إليهم، لئلا يشمئزوا من الانقياد له، ولأنهم يعرفون حقيقته، فلا يحتاجون أن يبحثوا عنه، فقال لهم مخاطبا بألطف خطاب – كما هي طريقة الرسل، صلوات الله وسلامه عليهم -: {ألا تَتَّقُونَ} الله، تعالى، فتتركون ما أنتم مقيمون عليه، من عبادة الأوثان، وتخلصون العبادة لله وحده.
قال السعدي:
قال تعالى: {يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ولا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ} سورة الحجرات 2 وهذا أدب مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، في خطابه، أي: لا يرفع المخاطب له، صوته معه، فوق صوته، ولا يجهر له بالقول، بل يغض الصوت، ويخاطبه بأدب ولين، وتعظيم وتكريم، وإجلال وإعظام، ولا يكون الرسول كأحدهم، بل يميزوه في خطابهم، كما تميز عن غيره، في وجوب حقه على الأمة، ووجوب الإيمان به، والحب الذي لا يتم الإيمان إلا به، فإن في عدم القيام بذلك، محذورًا، وخشية أن يحبط عمل العبد وهو لا يشعر، كما أن الأدب معه، من أسباب [حصول الثواب و] قبول الأعمال.
ثم مدح من غض صوته عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بأن الله امتحن قلوبهم للتقوى، أي: ابتلاها واختبرها، فظهرت نتيجة ذلك، بأن صلحت قلوبهم للتقوى، ثم وعدهم المغفرة لذنوبهم، المتضمنة لزوال الشر والمكروه، والأجر العظيم، الذي لا يعلم وصفه إلا الله تعالى، وفي الأجر العظيم وجود المحبوب وفي هذا، دليل على أن الله يمتحن القلوب، بالأمر والنهي والمحن، فمن لازم أمر الله، واتبع رضاه، وسارع إلى ذلك، وقدمه على هواه، تمحض وتمحص للتقوى، وصار قلبه صالحًا لها ومن لم يكن كذلك، علم أنه لا يصلح للتقوى.
قال السعدي:
فهذا أدبهم في الدخول في بيوته، وأما أدبهم معه في خطاب زوجاته، فإنه، إما أن يحتاج إلى ذلك، أو لا يحتاج إليه، فإن لم يحتج إليه، فلا حاجة إليه، والأدب تركه، وإن احتيج إليه، كأن يسألن متاعًا، أو غيره من أواني البيت أو نحوها، فإنهن يسألن {مِن وراءِ حِجابٍ} أي: يكون بينكم وبينهن ستر، يستر عن النظر، لعدم الحاجة إليه.
فصار النظر إليهن ممنوعًا بكل حال، وكلامهن فيه التفصيل، الذي ذكره الله، ثم ذكر حكمة ذلك بقوله: {ذَلِكُمْ أطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وقُلُوبِهِنَّ} لأنه أبعد عن الريبة، وكلما بعد الإنسان عن الأسباب الداعية إلى الشر، فإنه أسلم له، وأطهر لقلبه.
قال السعدي:
قال تعالى:
ولهذا قال: {فاصْفَحْ عَنْهُمْ وقُلْ سَلامٌ} سورة الزخرف 89 أي: اصفح عنهم ما يأتيك من أذيتهم القولية والفعلية، واعف عنهم، ولا يبدر منك لهم إلا السلام الذي يقابل به أولو الألباب والبصائر الجاهلين، كما قال تعالى عن عباده الصالحين: {وإذا خاطبهم الجاهلون} أي: خطابا بمقتضى جهلهم {قالوا سلاما} فامتثل -صلى الله عليه وسلم-، لأمر ربه، وتلقى ما يصدر إليه من قومه وغيرهم من الأذى، بالعفو والصفح، ولم يقابلهم عليه إلا بالإحسان إليهم والخطاب الجميل.
قال السعدي:
قال: {وبِالوالِدَيْنِ إحْسانًا} أي: أحسنوا إليهم بالقول الكريم والخطاب اللطيف والفعل الجميل بطاعة أمرهما واجتناب نهيهما والإنفاق عليهما وإكرام من له تعلق بهما وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا بهما. وللإحسان ضدان، الإساءةُ وعدمُ الإحسان. وكلاهما منهي عنه.
قال السعدي وهو يعدد فوائد سورة يوسف عليه الصلاة والسلام:
ومنها: التأدب مع المعلم، وخطاب المتعلم إياه ألطف خطاب، لقول موسى عليه السلام:
{هَلْ أتَّبِعُكَ عَلى أنْ تُعَلِّمَنِ مِمّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} فأخرج الكلام بصورة الملاطفة والمشاورة، وأنك هل تأذن لي في ذلك أم لا وإقراره بأنه يتعلم منه، بخلاف ما عليه أهل الجفاء أو الكبر، الذي لا يظهر للمعلم افتقارهم إلى علمه، بل يدعي أنه يتعاون هم وإياه، بل ربما ظن أنه يعلم معلمه، وهو جاهل جدا، فالذل للمعلم، وإظهار الحاجة إلى تعليمه، من أنفع شيء للمتعلم.
قال السعدي:
قال تعالى:
{إنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي ولا أعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ} سورة المائدة 106 فأنت أعلم بما صدر مني و {إنَّكَ أنْتَ عَلامُ الغُيُوبِ} وهذا من كمال أدب المسيح عليه الصلاة والسلام في خطابه لربه، فلم يقل عليه السلام: «لم أقل شيئا من ذلك» وإنما أخبر بكلام ينفي عن نفسه أن يقول كل مقالة تنافي منصبه الشريف، وأن هذا من الأمور المحالة، ونزه ربه عن ذلك أتم تنزيه، ورد العلم إلى عالم الغيب والشهادة.
ثم صرح بذكر ما أمر به بني إسرائيل، فقال: {ما قُلْتُ لَهُمْ إلا ما أمَرْتَنِي بِهِ} فأنا عبد متبع لأمرك، لا متجرئ على عظمتك، {أنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي ورَبَّكُمْ} أي: ما أمرتهم إلا بعبادة الله وحده وإخلاص الدين له، المتضمن للنهي عن اتخاذي وأمي إلهين من دون الله، وبيان أني عبد مربوب، فكما أنه ربكم فهو ربي.
قال السعدي:
فلهذا أرشدهن إلى قطع وسائل المحرم، فقال: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالقَوْلِ} سورة الأحزاب 32 أي: في مخاطبة الرجال، أو بحيث يسمعون فَتَلِنَّ في ذلك، وتتكلمن بكلام رقيق يدعو ويطمع {الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} أي: مرض شهوة الزنا، فإنه مستعد، ينظر أدنى محرك يحركه، لأن قلبه غير صحيح [فإن القلب الصحيح] ليس فيه شهوة لما حرم الله، فإن ذلك لا تكاد تُمِيلُه ولا تحركه الأسباب، لصحة قلبه، وسلامته من المرض.
بخلاف مريض القلب، الذي لا يتحمل ما يتحمل الصحيح، ولا يصبر على ما يصبر عليه، فأدنى سبب يوجد، يدعوه إلى الحرام، يجيب دعوته، ولا يتعاصى عليه، فهذا دليل على أن الوسائل، لها أحكام المقاصد. فإن الخضوع بالقول، واللين فيه، في الأصل مباح، ولكن لما كان وسيلة إلى المحرم، منع منه، ولهذا ينبغي للمرأة في مخاطبة الرجال، أن لا تلِينَ لهم القول.
ولما نهاهن عن الخضوع في القول، فربما توهم أنهن مأمورات بإغلاظ القول، دفع هذا بقوله: {وقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا} أي: غير غليظ، ولا جاف كما أنه ليس بِلَيِّنٍ خاضع.
وتأمل كيف قال: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالقَوْلِ} ولم يقل: {فلا تَلِنَّ بالقول} وذلك لأن المنهي عنه، القول اللين، الذي فيه خضوع المرأة للرجل، وانكسارها عنده، والخاضع، هو الذي يطمع فيه، بخلاف من تكلم كلامًا لينًا، ليس فيه خضوع، بل ربما صار فيه ترفع وقهر للخصم، فإن هذا، لا يطمع فيه خصمه، ولهذا مدح الله رسوله باللين، فقال: {فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} وقال لموسى وهارون: {اذْهَبا إلى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغى فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أوْ يَخْشى}
====
قال السعدي:
قال تعالى
(فَبِمَا رَحْمَة مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)
[سورة آل عمران 159]
قال العلامة ابن سعدي رحمه الله عند تفسير هذه الآية:
أي: برحمة الله لك ولأصحابك، منَّ الله عليك أن ألنت لهم جانبك، وخفضت لهم جناحك، وترققت عليهم، وحسنت لهم خلقك، فاجتمعوا عليك وأحبوك، وامتثلوا أمرك. {ولو كنت فظا} أي: سيئ الخلق {غليظ القلب} أي: قاسيه، {لانفضوا من حولك} لأن هذا ينفرهم ويبغضهم لمن قام به هذا الخلق السيئ. فالأخلاق الحسنة من الرئيس في الدين، تجذب الناس إلى دين الله، وترغبهم فيه، مع ما لصاحبه من المدح والثواب الخاص، والأخلاق السيئة من الرئيس في الدين تنفر الناس عن الدين، وتبغضهم إليه، مع ما لصاحبها من الذم والعقاب الخاص، فهذا الرسول المعصوم يقول الله له ما يقول، فكيف بغيره؟! أليس من أوجب الواجبات، وأهم المهمات، الاقتداء بأخلاقه الكريمة، ومعاملة الناس بما يعاملهم به صلى الله عليه وسلم، من اللين وحسن الخلق والتأليف، امتثالا لأمر الله، وجذبا لعباد الله لدين الله. ثم أمره الله تعالى بأن يعفو عنهم ما صدر منهم من التقصير في حقه صلى الله عليه وسلم، ويستغفر لهم في التقصير في حق الله، فيجمع بين العفو والإحسان. {وشاورهم في الأمر} أي: الأمور التي تحتاج إلى استشارة ونظر وفكر، فإن في الاستشارة من الفوائد والمصالح الدينية والدنيوية ما لا يمكن حصره: منها: أن المشاورة من العبادات المتقرب بها إلى الله. ومنها: أن فيها تسميحا لخواطرهم، وإزالة لما يصير في القلوب عند الحوادث، فإن من له الأمر على الناس -إذا جمع أهل الرأي: والفضل وشاورهم في حادثة من الحوادث- اطمأنت نفوسهم وأحبوه، وعلموا أنه ليس بمستبد عليهم، وإنما ينظر إلى المصلحة الكلية العامة للجميع، فبذلوا جهدهم ومقدورهم في طاعته، لعلمهم بسعيه في مصالح العموم، بخلاف من ليس كذلك، فإنهم لا يكادون يحبونه محبة صادقة، ولا يطيعونه وإن أطاعوه فطاعة غير تامة. ومنها: أن في الاستشارة تنور الأفكار، بسبب إعمالها فيما وضعت له، فصار في ذلك زيادة للعقول.
ومنها: ما تنتجه الاستشارة من الرأي: المصيب، فإن المشاور لا يكاد يخطئ في فعله، وإن أخطأ أو لم يتم له مطلوب، فليس بملوم، فإذا كان الله يقول لرسوله -صلى الله عليه وسلم- وهو أكمل الناس عقلا، وأغزرهم علما، وأفضلهم رأيا-: {وشاورهم في الأمر} فكيف بغيره؟! ثم قال تعالى: {فإذا عزمت} أي: على أمر من الأمور بعد الاستشارة فيه، إن كان يحتاج إلى استشارة {فتوكل على الله} أي: اعتمد على حول الله وقوته، متبرئا من حولك وقوتك، {إن الله يحب المتوكلين} عليه، اللاجئين إليه.
قال السعدي:
قال تعالى: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوّا مُّبِينا)
[سورة الإسراء 53]
وهذا من لطفه بعباده حيث أمرهم بأحسن الأخلاق والأعمال والأقوال الموجبة للسعادة في الدنيا والآخرة فقال: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وهذا أمر بكل كلام يقرب إلى الله من قراءة وذكر وعلم وأمر بمعروف ونهي عن منكر وكلام حسن لطيف مع الخلق على اختلاف مراتبهم ومنازلهم، وأنه إذا دار الأمر بين أمرين حسنين فإنه يأمر بإيثار أحسنهما إن لم يمكن الجمع بينهما. والقول الحسن داع لكل خلق جميل وعمل صالح فإن من ملك لسانه ملك جميع أمره. وقوله: {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} أي: يسعى بين العباد بما يفسد عليهم دينهم ودنياهم. فدواء هذا أن لا يطيعوه في الأقوال غير الحسنة التي يدعوهم إليها، وأن يلينوا فيما بينهم لينقمع الشيطان الذي ينزغ بينهم فإنه عدوهم الحقيقي الذي ينبغي لهم أن يحاربوه فإنه يدعوهم {ليكونوا من أصحاب السعير} وأما إخوانهم فإنهم وإن نزغ الشيطان فيما بينهم وسعى في العداوة فإن الحزم كل الحزم السعي في ضد عدوهم وأن يقمعوا أنفسهم الأمارة بالسوء التي يدخل الشيطان من قبلها فبذلك يطيعون ربهم ويستقيم أمرهم ويهدون لرشدهم.
تفسير السعدي رحمه الله
قال السعدي:
قال تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} ومن القول الحسن أمرهم بالمعروف, ونهيهم عن المنكر, وتعليمهم العلم, وبذل السلام, والبشاشة وغير ذلك من كل كلام طيب. ولما كان الإنسان لا يسع الناس بماله, أمر بأمر يقدر به على الإحسان إلى كل مخلوق, وهو الإحسان بالقول, فيكون في ضمن ذلك النهي عن الكلام القبيح للناس حتى للكفار, ولهذا قال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ومن أدب الإنسان الذي أدب الله به عباده, أن يكون الإنسان نزيها في أقواله وأفعاله, غير فاحش ولا بذيء, ولا شاتم, ولا مخاصم، بل يكون حسن الخلق, واسع الحلم, مجاملا لكل أحد, صبورا على ما يناله من أذى الخلق, امتثالا لأمر الله, ورجاء لثوابه.