1330 رياح المسك العطرة بمشاركات الأصحاب المباركة على صحيح البخاري
مجموعة أبي صالح حازم وأحمد بن علي وسيف بن غدير
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
ومراجعة سيف بن غدير
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله. ورفع درجته في عليين وحكام الإمارات ووالديهم ووالدينا)
——–‘——-‘——–‘
صحيح البخاري:
باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور ولما مات الحسن بن الحسن بن علي رضي الله عنهم ضربت امرأته القبة على قبره سنة ثم رفعت فسمعوا صائحا يقول ألا هل وجدوا ما فقدوا فأجابه الآخر بل يئسوا فانقلبوا
1330 – حدثنا عبيد الله بن موسى عن شيبان عن هلال هو الوزان عن عروة عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي مات فيه لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مسجدا قالت ولولا ذلك لأبرزوا قبره غير أني أخشى أن يتخذ مسجدا
——‘——‘——-
فوائد الباب:
1 – قوله (ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور) فيه تقدير محذوف فقد يكون (سبب ما يكره) وقد يكون (بعض ما يكره) وهو أعم من كونه بناءا. قال العيني في عمدة القارئ “لا نسلم أن لفظها يقتضي أن بعض الاتخاذ لا يكره”.
2 – أثر قصة وفاة الحسن بن الحسن أخرجه المحاملي كما في الجزء السادس عشر من حديثه وابن أبي الدنيا في كتاب القبور من طريق المغيرة بن مقسم قال “لما مات الحسن بن الحسن ضربت امرأته فسطاطا فأقامت عليه سنة” فذكر نحوه قاله الحافظ في الفتح وأورده بإسناده في تغليق التعليق من طريق المحاملي به.
3 – فيه كراهية تجصيص القبر والبناء عليه قاله البغوي في شرح السنة.
4 – قوله (فسمعوا صائحا) وهذا المتكلم يجوز أن يكون من مؤمني الجن أو من الملائكة، قالاه موعظة، قاله ابن التين. نقله ابن الملقن في التوضيح.
5 – قوله (ضربت امرأته القبة على قبره) أي الخيمة وقد ورد في رواية بلفظ (الفسطاط).
6 – ومعنى ضرب القبة على الحسن حين ضربت عليه: سكنت وصلي فيها. قاله ابن بطال في شرحه.
7 – عن ابن عون قال حدثني رجل، قال: قدمت أم المؤمنين رضي الله عنها ذا طوى، حين رفعوا أيديهم عن أخيها عبد الرحمن، فعملت يومئذ وتركت، فقالت لها امرأة: يا أم المؤمنين، وأنت تفعلين هذا؟ قالت: «وما رأيتني فعلت؟ إنه ليس لنا أكباد كأكباد الإبل»، وأمرت بفسطاط فضرب على قبره، ووكلت به إنسانا، وارتحلت فجاء ابن عمر، فرأى الفسطاط على القبر، فأمر به فنزع، فقال الرجل: إنهم وكلوني به. فقال: انزعه، وأخبرهم أن ابن عمر قال لك ذلك، ثم قال: «إن عبد الرحمن يظله عمله» أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى -كما في تغليق التعليق لابن حجر- ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق، وأبو عروبة كما في المنتقى من كتاب الطبقات له رقم 11. وأخرجه ابن سعد أيضا من طريق أَيُّوبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يسار مر عبد الله بن عمر فذكره بنحوه. قلت الطريقان يقوي أحدهما الآخر، وعلق البخاري في صحيحه الشطر الثاني منه مختصرا.
8 – إيراد البخاري له في هذا الباب دال على استنكاره له … وذكرُ الهاتف فإنه مُشْعِر بقبح ما صنعت تلك المرأة. قاله صاحب كتاب القبورية في اليمن
9 – قال المهلب: هذا النهى من باب قطع الذريعة، لئلا يعبد قبره الجهال كما فعلت اليهود والنصارى بقبور أنبيائها. نقله ابن بطال في شرحه.
10 – حديث أم المؤمنين أخرجه البخاري ومسلم والنسائي.
11 – قاله صلى الله عليه وسلم في مرضه تحذيرًا مما صنعوه قاله ابن الملقن.
12 – لا يؤخذ من كلام الصائح حكم، لأن مسالك الأحكام: الكتاب والسنة والقياس والإجماع، ولا وحي بعده عليه الصلاة والسلام، وإنما هذا وأمثاله تنبيه على انتزاع الأدلة من مواضعها، واستنباطها من مظانها. قاله القسطلاني في إرشاد الساري.
13 – قوله (قال في مرضه الذي مات فيه) أي لخطره والتحذير من فعله.
14 – قوله (لعن الله اليهود والنصارى) أي أن هذا الفعل من الكبائر، وازداد التغليظ عليهم لأنهم جاءهم الكتاب فنبذوه وراءهم.
15 – قوله (اتخذوا قبور أنبيائهم مسجدا) بالإفراد على إرادة الجنس، (وفي رواية) الكشميهني: مساجد قاله القسطلاني ,وفي رواية (وصالحيهم).
16 – قول أم المؤمنين (ولولا ذلك) أي: خشية اتخاذ قبره مسجدًا قاله القسطلاني في شرحه.
17 – قوله: ((هل وجدوا ما فقدوا؟)) أي هل نفعها ضرب القبة، وإقامتها فيها سنة، بأن عاش الميت؟ فأجاب الآخر: لا، بل يئست، فانقلبت إلي أهلها خائبة. قاله الطيبي في شرح المشكاة.
(18) – الموت حق، وقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى (إنك ميت وإنهم ميتون).
(19) – إن الدعوة إلى التوحيد والتحذير من الشرك ووسائله تبقى إلى الموت، ولا يقال يكفي وقت محدد ولننشغل بمسائل أخرى.
———
قال ابن الملقن في التوضيح:
هذه الزوجة هي فاطمة بنت الحسين بن علي، وهي التي حلفت له بجميع ما تملكه أنها لا تزوج عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان ثم تزوجته، فأولدها محمد الديباج. وهذا المتكلم يجوز أن يكون من مؤمني الجن أو من الملائكة، قالاه موعظة، قاله ابن التين.
ومعنى ضرب القبة على الحسن في هذا الباب: يريد بذلك أن القبة حين ضربت عليه سكنت وصلي فيها فصارت مسجدا على القبر. وأورده دليلا على الكراهية؛ لقول الصائح: ألا هل وجدوا .. القصة. اهـ
قال القسطلاني في إرشاد الساري:
ومطابقة الحديث للترجمة من جهة: أن المقيم في الفسطاط لا يخلو من الصلاة فيه، فيستلزم اتخاذ المسجد عند القبر، وقد يكون القبر في جهة القبلة. فتزداد الكراهة، وإذا أنكر الصائح بناء زائلاً، وهو: الخيمة، فالبناء الثابت أجدر.
قال الإمام محمد بن عبدالوهاب في باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده:
فيه مسائل:
الأولى: ما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم فيمن بنى مسجداً يعبد الله فيه عند قبر رجل صالح، ولو صحت نية الفاعل.
الثانية: النهي عن التماثيل، وغلظ الأمر في ذلك.
الثالثة: العبرة في مبالغته صلى الله عليه وسلم في ذلك. كيف بيّن لهم هذا أولاً، ثم قبل موته بخمس قال ما قال، ثم لما كان في السياق لم يكتف بما تقدم.
الرابعة: نهيه عن فعله عند قبره قبل أن يوجد القبر.
الخامسة: أنه من سنن اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم.
السادسة: لعنه إياهم على ذلك.
السابعة: أن مراده صلى الله عليه وسلم تحذيره إيانا عن قبره.
الثامنة: العلة في عدم إبراز قبره.
التاسعة: في معنى اتخاذها مسجداً.
العاشرة: أنه قرن بين من اتخذها مسجداً وبين من تقوم عليهم الساعة، فذكر الذريعة إلى الشرك قبل وقوعه مع خاتمته.
الحادية عشرة: ذكره في خطبته قبل موته بخمس: الرد على الطائفتين اللتين هما شر أهل البدع، بل أخرجهم بعض السلف من الثنتين والسبعين فرقة، وهم الرافضة والجهمية. وبسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة القبور، وهم أول من بنى عليها المساجد.
قال ابن باز في التعليق على كتاب التوحيد:
1 – التعبد عند القبور وسيلة للشرك الأكبر فالبدع بريد الشرك.
2 – قوله (اتّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ) عند مسلم (وصالحيهم) وقد سقطت عند المؤلف وقد جمع بهذا التحذير من إتخاذ القبور مساجد من ثلاثة أوجه:
أ – الأول ذم من فعل ذلك
ب – الثاني (فَلاَ تَتّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ)
ج – الثالث (إِنّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ)
3 – الصواب أن العلة في النهي عن الصلاة على القبور خوف فتنة بالشرك وليست العلة النجاسة.
4 – الصواب أنه ينهى عن الصلاة في المقبرة ولو لم يكن فيها إلا قبر واحد.
5 – صلاة الجنازة مستثناة من عموم النهي من الصلاة على المقبرة.
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ في شرح كتاب التوحيد:
هذا الحديث من أعظم الأحاديث التي فيها بالتغليظ والنهي عن وسائل الشرك، وبناء المساجد على القبور، واتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد.
واللعنة هي: الطرد والإبعاد من رحمة الله، وذلك يدل على أنهم فعلوا كبيرة من كبائر الذنوب، لأن البناء على القبور، واتخاذ قبور الأنبياء مساجد، هو من وسائل الشرك، وكبيرة من الكبائر.
وقوله: «اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» فيه بيان السبب الذي لأجله استحقوا اللعن، وهو: أنهم اتخذوا قبور الأنبياء مساجد. وفي تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من اتخاذ القبور مساجد، ولعن فاعله وهو في السياق: ما يقوم مقام آخر وصية أوصى بها. ومع ذلك: خالف كثير من هذه الأمة وصيته عليه الصلاة والسلام. واتخاذ القبور مساجد يكون على إحدى صور ثلاث:
الصورة الأولى: أن يسجد على القبر …
الصورة الثانية: أن يصلي إلى القبر …
لصورة الثالثة: أن يتخذ القبر مسجدا، بأن يجعل القبر في داخل بناء، وذلك البناء هو المسجد …
جاء في فتاوى أركان الإسلام للعثيمين:
س217: حكم الصلاة في مسجد فيه قبر؟
الجواب: الصلاة في مسجد فيه قبر على نوعين:
الأول: أن يكون القبر سابقاً على المسجد، بحيث يبنى المسجد على القبر، فالواجب هجر هذا المسجد وعدم الصلاة، وعلى من بناه أن يهدمه، فإن لم يفعل وجب على ولي أمر المسلمين أن يهدمه.
والنوع الثاني: أن يكون المسجد سابقاً على القبر، بحيث يدفن الميت فيه بعد بناء المسجد، فالواجب نبش القبر، وإخراج الميت منه، ودفنه مع الناس.
وأما المسجد فتجوز الصلاة فيه بشرط أن لا يكون القبر أمام المصلي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة إلى القبور.
أما قبر النبي صلى الله عليه وسلم الذي شمله المسجد النبوي فمن المعلوم أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بني قبل موته فلم يبن على القبر، ومن المعلوم أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدفن فيه، وإنما دفن في بيته المنفصل عن المسجد، وفي عهد الوليد بن عبد الملك كتب إلى أميره على المدينة وهو عمر بن عبد العزيز في سنة 88 من الهجرة أن يهدم المسجد النبوي ويضيف إليه حجر زوجات النبي صلى الله عليه وسلم فجمع عمر وجوه الناس والفقهاء وقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين الوليد فشق عليهم ذلك، وقالوا: تركها على حالها أدعى للعبرة، ويحكى أن سعيد بن المسيب أنكر إدخال حجرة عائشة، كأنه خشي أن يتخذ القبر مسجداً، فكتب عمر بذلك إلى الوليد فأرسل الوليد إليه يأمره بالتنفيذ، فلم يكن لعمر بد من ذلك، فأنت ترى أن قبر النبي صلى ا لله عليه وسلم لم يوضع في المسجد، ولم يبن عليه المسجد فلا حجة فيه لمحتج على الدفن في المساجد، أو بنائها على القبور، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) 219، قال ذلك وهو في سباق الموت تحذيراً لأمته مما صنع هؤلاء. ولما ذكرت له أم سلمة رضي الله عنها كنيسة رأتها في أرض الحبشة وما فيها من الصور قال: ((أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح، أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجداً، أولئك شرار الخلق عند الله)) 220. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد)) 221. أخرجه الإمام أحمد بسند جيد. والمؤمن لا يرضى أن يسلك مسلك اليهود والنصارى، ولا أن يكون من شرار الخلق. حرر في 7/ 4/1414هـ.
—–
– النهي عن الصلاة في المقابر ثبتت بأحاديث أخرى راجع رسالة الألباني تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد
ومن ذلك حديث: صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها مقابر.
وسيأتي في بحث منقول .
– هدم القباب وأماكن الباطل مرجعه لولي الأمر. فلا يجوز أن يقوم به أفراد الناس من أجل أنه قد يتسبب لمفسدة أعظم.
فهدم مسجد الضرار، و هم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوت تاركي حضور الجماعة والجمعة وإنما منعه من فيها من النساء والذرية الذين لا تجب عليهم كما أخبر هو عن ذلك. إنما كان بأمره صلى الله عليه وسلم وهو ولي الأمر.
قال الألباني: -: مفهوم هذا أن ذلك لا يجب على غير الإمام ومثله من ينوب عنه وهذا هو الذي يقتضيه النظر الصحيح لأنه لو قام به غيره لترتب على ذلك مفاسد وفتن بين المسلمين قد تكون أكبر من المصلحة التي يراد جلبها. (تحذير الساجد) (ص 49).
و قال العلامة الفوزان حفظه الله: لا يجوز هدم الأضرحة الا بالسلطة .. [المصدر: شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد بتاريخ 6/ 6/ 1434]. و المقطع منشور في الشبكة
—–
سبق نقلنا نقولات في:
مشكل الحديث رقم: {29} فقلنا:
يشكل قوله صلى الله عليه وسلم ”
(اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا) (متفق عليه)
مع ما جاء من دفن النبي ? وصاحبيه أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما في حجرة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
وقلنا:
ورد عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تجعلوها عليكم قبوراً , كما اتخذت اليهود والنصارى في بيوتهم قبوراً وإن البيت ليتلى فيه القرآن فيتراءى لأهل السماء كما تتراءى النجوم لأهل الأرض)
قال ابن تيمية: قال ابن تيمية كما في المجموع ((27) / (399)): مع أن قبره من حين دفن لم يمَكَّن أحد من الدخول إليه لا لزيارة ولا لصلاة ولا لدعاء ولا غير ذلك. ولكن كانت عائشة فيه لأنه بيتها. وكانت ناحية عن القبور؛ لأن القبور في مقدم الحجرة وكانت هي في مؤخر الحجرة. ولم يكن الصحابة يدخلون إلى هناك. وكانت الحجرة على عهد الصحابة خارجة عن المسجد متصلة به وإنما أدخلت فيه في خلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان بعد موت العبادلة: ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وابن عمرو بل بعد موت جميع الصحابة الذين كانوا بالمدينة فإن آخر من مات بها جابر بن عبد الله.
ووللأخ نورس بحث بعنوان تنبيه المسلمين الكرام بعدم جواز الدفن في البيوت و العمران ذكرناه في مشكل الحديث رقم 30
(اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تجعلوها عليكم قبوراً , كما اتخذت اليهود والنصارى في بيوتهم قبوراً وإن البيت ليتلى فيه القرآن فيتراءى لأهل السماء كما تتراءى النجوم لأهل الأرض).
ونقل فيه نقولات منها:
– قال الذهبي – هذا حديث نظيف الإسناد , حسن المتن , فيه النهي عن الدفن في البيوت وله شاهد من طريق آخر , وقد نهى عليه السلام أن يُبنى على القبور ولو اندفن الناس في بيوتهم , لصارت المقبرة و البيوت شيئاً واحداً , والصلاة في المقبرة منهيٌّ عنها نهي كراهية أو نهي تحريم , وقد قال عليه السلام (أفضل صلاة الرجل في بيته إلا المكتوبه) فناسب ذلك ألا تتخذ المساكن قبور
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (ج (1) / (530)): وقد استنبط البخاري الكراهة من قوله صلى الله عليه وسلم (اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ولا تتخذوها قبوراً) أورده في باب كراهية الصلاة في المقابر , من حديث ابن عمر , فقال الحافظ ((ولفظ حديث أبي هريرة عند مسلم أصرح من حديث الباب, وهو قوله صلى الله عليه وسلم لا تجعلوا بيوتكم مقابر))) فإن ظاهره يقتضي النهي عن الدفن في البيوت مطلقاً. اهـ
ونقل نقولات عن ابن حجر وابن قدامة والمناوي في أن السنة الدفن في مقابر المسلمين ونقل ابن قدامة أن أحمد قال هو أعجب الي يعني من الدفن في البيوت. بل سأل مرة عن رجل أوصى أن يدفن في داره فقال: يدفن في مقابر المسلمين.
وقال ابن تيمية بعد أن نقل الأحاديث التي فيها النهي عن الصلاة للقبور: ولا خلاف بين المسلمين أنه لا يشرع أن يقصد الصلاة إلى القبر، بل هذا من البدع المحدثة، وكذلك قصد شئ من القبور، لاسيما قبور الأنبياء والصالحين عند الدعاء. فإذا لم يجز استقباله عند الدعاء لله تعالى فدعاء الميت نفسه أولى أن لا يجوز، كما أنه لا يجوز أن يصلي مستقبله فلأن لا يجوز الصلاة له بطريق الأولى ….. مجموع الفتاوى 1/ 354
ونقلنا في التعليق على الصحيح المسند حديث رقم 1462 في صلاته صلى الله عليه وسلم على امرأة مسكينة من أهل العوالي طال سقمها فامرهم أن ياذنوه اذا ماتت فماتت من الليل فصلوا عليها ودفنوها …. فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل عنها من حضره من جيرانها فأخبروه خبرها وأنهم كرهوا أن يهجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لها فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ولم فعلتم؟ انطلقوا)) فانطلقوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قاموا على قبرها فصفوا وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يصف للصلاة على الجنائز فصلى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبر أربعا كما يكبر على الجنائز.
فنقلنا حديث: أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إنّ الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة)). أخرجه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها رقم (780).
قال بعض أهل العلم: ويتضمن هذا العموم صلاة الجنازة مع أنّه قد ورد التصريح بالنهي عن الصلاة فيها في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: (أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلى على الجنائز بين القبور) أخرجه الطبراني في «المعجم الأوسط» رقم (5631)، من حديث أنس رضي الله عنه. والحديث حسنه الهيثمي في «مجمع الزوائد» (3/ 144)، وصححه الألباني في «أحكام الجنائز» (270)، وفي «صحيح الجامع» (12790).
كذا استدل.
ولو صح الحديث لكان تاصيله جيد فإذ لم يصح الحديث. كما سيأتي التنبيه عليه. فلا بأس من الصلاة على الميت في المقبرة لكن لا يداوم عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما صلى الجنازة على القبور في حالات.
وسئل ابن عثيمين
ما حكم الصلاة في المقبرة والصلاة إلى القبر؟ وذكر أن النهي عن الصلاة على المقابر أنه ذريعة للشرك ثم ذكر صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على الرجل أو المرأة التي تقم المسجد …. وقال: فلو أن أحداً من الناس صلى صلاة فريضة أو صلاة تطوع في مقبرة أو على قبر فصلاته غير صحيحة. أما الصلاة على الجنازة فلا بأس بها، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى على القبر في قصة المرأة أو الرجل الذي كان يقم المسجد، فمات ليلاً فلم يُخبر الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم بموته، فلما أصبح الصبح قال صلى الله عليه وسلم: “دلوني على قبره -أو قبرها-” فصلى عليه صلوات الله وسلامه عليه، فيستثنى من الصلاة في المقبرة الصلاة على القبر، وكذلك الصلاة على الجنازة قبل دفنها، لأن هذه صلاة خاصة تتعلق بالميت، فكما جازت الصلاة على القبر على الميت فإنها تجوز الصلاة عليه قبل الدفن. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى و رسائل الشيخ محمد صالح العثيمين المجلد الثاني عشر – باب اجتناب النجاسة.
تنبيه أما حديث أنس: (أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلى على الجنائز بين القبور) أعله البخاري والدارقطني.
ففي علل الترمذي الكبير:
قال الترمذي: سألت محمدا – يعني البخاري عن -هذا الحديث فقال: حديث الحسن عن أنس خطأ.
وروى ابن عون عن الحسن عن أنس قال: رآني عمر وأنا أصلي إلى قبر. (ترتيب العلل)
وذكر الدارقطني الخلاف وقال: يرويه أشعث بن عبد الملك عن الحسن عن أنس. حدث به عنه حفص بن غياث واختلف عنه:
فرواه ابوهشام الرفاعي وأبو موسى عن حفص بن غياث عن أشعث عن الحسن. وغيرهما يرويه عن حفص عن أشعث عن الحسن مرسلا.
وكذلك رواه معاذ بن معاذ عن أشعث عن الحسن مرسلا. والمرسل أصح علل الدارقطني 2432
وفي بحث لأبي صهيب:
ذكر أن الحديث روي بروايات عن حفص بدون كلمة (الجنائز)
واعلم أنه قد صح عن أبي هريرة وابن عمر إباحة الصلاة على الجنازة في المقبرة
قال ابن المنذر في الأوسط 3051 – أخبرنا الربيع بن سليمان، قال: أخبرنا ابن وهب، عن ابن جريج، قال: قلت لنافع: أتكره أن تصلي بين القبور؟ قال: «لقد صلينا على عائشة، وأم سلمة وسط القبور بالبقيع، والإمام يوم صلينا على عائشة أبو هريرة، وحضر ذلك ابن عمر»
أقول: فكأنهم حملوا أحاديث النهي عن الصلاة في المقبرة على الصلاة ذات الركوع والسجود، ولم يروا فرقاً بين الصلاة على قبرٍ منفرد (كما صح في السنة)، أو الصلاة بين عدة قبور
قال الحافظ في الفتح:” واستدل من رخص في صلاة الجنازة في المقبرة: بأن الصلاة على القبر جائزة بالسنة الصحيحة، فعلم أن الصلاة على الميت في القبور غير منهي عنها ”
وقد لخَّصْت كتاب الشيخ الألباني، تحذير الساجد عن إتخاذ القبور مساجد وهو كتاب قيم ولولا التطويل لنقلت التلخيص؛ لكن لا بأس أن نذكر نبذه عن محتوى الكتاب؛ فقد ذكر الشيخ أحاديث لعن اليهود والنصارى في اتخاذهم قبور صالحيهم مساجد، وأنهم شرار الخلق حيث صوروا في كنائسهم صور الصالحين، ثم ذكر أن معنى اتخاذها مساجد يشمل السجود عليها أو إليها أو البناء عليها وذكر الأدلة على ذلك من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ثم كلام العلماء، ثم بين أن البناء على القبور من الكبائر وذريعه للشرك ونقل أقوال الأئمة، ثم ذكر استغلال الإستعمار لمثل هذه الخرافات، وبين مجرد وجود البناء يعتبر ذريعة للشرك ولو لم يكن أحد مدفون، لأن الناس تتوجه له بالدعاء، ثم ذكر شبه المجيزين وردها فمنها؛ زعمهم أن قوله تعالى (قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا) دليل على جواز البناء على القبور؛ والجواب: أن هذا شرع من قبلنا، أو نقول: لا دليل أن الذين غلبوا كانوا مسلمين، وإذا سلمنا أنهم مسلمون فقد يكونون ممن حرفوا دين أنبيائهم.
ومن شبههم أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد النبوي؛ فالجواب: أنه لم يكن كذلك إنما دفن في غرفة عائشة خشية أن يتخذ مسجدا، وفي الحديث قالت عائشة لما نقلت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لعنة الله على اليهود والنصارى أتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر مما صنعوا ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا)، إنما أدخل الوليد بن عبدالملك الغرف لما أراد توسعة المسجد، ونقل استنكار بعض التابعين، ومع ذلك أحيط بجدران بحيث لا يتمكن أحد من الصلاة إليه. وفضيلة الصلاة في المسجد النبوي ثابته.
ومن شبههم أن قبر إسماعيل في المسجد الحرام، وهذه دعوى لا دليل عليها ولا يصح ذالك، وكذلك أن مسجد الخيف قبر فيه سبعين نبيا؛ لا يصح، ولو صح فهي قبور اندثرت فلا تحرم الصلاة.
وفي آخر كتاب تحذير الساجد ذكر عنوان:
كراهية الصلاة في المساجد المبنية على القبور:
ذكرنا فيما سبق أن النهي عن بناء المساجد على القبور يستلزم النهي عن الصلاة فيها، والنهي في مثل هذا الموضع يقتضي البطلان، وقد قال ببطلان الصلاة فيها الإمام أحمد وغيره. وقال الإمام أحمد أيضاً: (لا يصلي في مسجد بين المقابر إلا الجنائز لأن الجنائز هذه سنتها) وكذلك فعله الصحابه
واعلم أن كراهة الصلاة في المساجد المبنية على القبور مضطردة في كل حال، سواء كان القبر أمامه أو خلفه، يمينه أو يساره. على أن بعض العلماء قالوا بالمنع من الصلاة حول القبر مطلقاً: أي ولو عند قبر ليس عليه مسجد، وهذا هو اللائق بباب سد الذرائع لقوله صلى الله عليه وسلم: ( … فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه …. )
وهذه نقولات من بحث لبعض الأخوة تأيد جواز صلاة الجنازة في المقبرة لكن الأصل هو المصلى.
نقل الباحث الأحاديث الدالة على عدم جواز الصلاة في المقبرة وكذلك نقل كلام لابن القيم:
وقال الباحث:
ليست العلة في النهي عن ذلك هي مجرد نجاسة المكان بل الصحيح أنَّ العلة في ذلك التشبه بأهل الكتاب الذين يعظمون قبور أنبيائهم وصالحيهم وذلك مفضِ إلى الشرك بالله تعالى.
وأما صلاة الجنازة داخل المقبرة فقد جاءت النصوص باستثنائها من ذلك فتجوز في المقبرة لفعله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث حين صلى على المرأة التي كانت تقم المسجد، وهو في الصحيح.
وقال ابن عبد البر في (التمهيد 6/ 261):
وقال الشافعي وأصحابه من فاتته الصلاة على الجنازة صلى على القبر إن شاء الله وهو رأى عبدالله بن وهب ومحمد بن عبدالله بن عبدالحكم وهو قول أحمد ابن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود بن علي وسائر أصحاب الحديث قال أحمد ابن حنبل رويت الصلاة على القبر عن النبي صلى الله عليه و سلم من ستة وجوه حسان كلها وفي كتاب عبدالرزاق عن ابن مسعود ومحمد بن قرظة أن أحدهما صلى على جنازة بعدما دفنت وصلى الآخر عليها بعدما صلي عليها قال وأخبرنا معمر عن أيوب عن ابن أبي مليكة قال توفي عبدالرحمن بن أبي بكر على ستة أميال من مكة فحملناه حتى جئنا به إلى مكة فدفناه فقدمت عائشة علينا بعد ذلك فعابت علينا ذلك ثم قالت أين قبر أخي فدللناها عليه فوضعت في هودجها عند قبره وصلت عليه وأخبرنا عبدالله بن محمد قال حدثنا عبدالحميد بن أحمد الوراق قال حدثنا الخضر بن داود قال حدثنا أحمد بن محمد بن هاناء الطائي الأثرم الوراق قال حدثنا أبو عبدالله أحمد بن حنبل رحمه الله قال حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال حدثنا (أيوب عن) ابن أبي مليكة أن عبدالرحمن بن أبي بكر توفي في منزل له كان فيه! فحملناه على رقابنا ستة أميال إلى مكة وعائشة غائبة فقدمت بعد ذلك فقالت أروني قبر أخي فأروها فصلت عليه.
وقال حماد بن زيد عن أيوب عن ابن أبي مليكة قال قدمت عائشة بعد موت أخيها بشهر فصلت على قبره.
وقال عبدالرزاق حدثنا الحسن بن عمارة عن الحكم بن عتيبة عن حنش بن المعتمر قال جاء ناس من بعد أن صلى (علي) على سهل بن حنيف فأمر (علي) قرظة الأنصاري أن يؤمهم (ويصلي) عليه بعد ما دفن
وعن ابن موسى أنه فعل ذلك وأما الستة وجوه التي ذكر أحمد بن حنبل أنه روى منها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم (صلى) على قبر فهي والله أعلم (حديث) سهل بن حنيف وحديث سعد بن عبادة وحديث أبي هريرة روى من طرق وحديث عامر بن ربيعة وحديث (أنس) (وحديث ابن عباس).
وقال ابن رجب في فتح الباري (قلت: صلاة الجنازة مستثناة من النهي عند الإمام أحمد وغيره)
وقال في “منتهى الإرادات”: ولا تصح الصلاة تعبدا صلاة فرض أو نفل في مقبرة قديمة أو حديثة تقلبت أولا لقوله صلى الله عليه وسلم: لا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك. رواه مسلم. ثم قال: سوى صلاة جنازة في مقبرة، فتصح لصلاته صلى الله عليه وسلم على القبر، فيكون مخصصا للنهي السابق.
وقال العلامة ابن عثيمين
وسئل فضيلته: ورد في الحديث النهي عن الصلاة بين القبور، فما المراد بالصلاة بين القبور علماً بأن الناس يصلون على الجنازة بين القبور إذا فاتتهم في المساجد؟
فأجاب بقوله: المراد بالصلاة بين القبور ما سوى الصلاة على الجنازة، أما الصلاة على الجنازة فلا بأس بها فقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم على قبر من مات وهو يقم المسجد، وأيضاً فإن النهي عن الصلاة بين القبور إنما هو لخوف الفتنة والشرك بأهل القبور، والصلاة على الجنازة أو القبر بعيد من ذلك كل البعد. حرر في 3/ 12/1402 هـ.
ابن باز: س: تكرار الصلاة على الجنازة ما حكمه؟
ج: إن كان هناك سبب فلا بأس مثل أشخاص حضروا بعد الصلاة عليها فإنهم يصلون عليها عند القبر أو بعد الدفن، وهكذا يشرع لمن صلى عليها مع الناس في المصلى أن يصلي عليها مع الناس في المقبرة؛ لأن ذلك من زيادة الخير له وللميت. — نشر في جريدة عكاظ العدد (11678) في 20/ 4/1419هـ.
وفي فتاوى اللجنة الدائمة الفتوى رقم (8210)
س: هل تجوز صلاة الجنازة داخل المقبرة، وما دليلكم في ذلك؟ أفتونا مأجورين.
ج: تجوز الصلاة على الجنازة داخل المقبرة كما تجوز الصلاة عليها بعد الدفن؛ لما ثبت «أن جارية كانت تقم المسجد، فماتت فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها، فقالوا: ماتت، فقال: أفلا كنتم آذنتموني؟ فدلوني على قبرها، فدلوه فصلى عليها ثم قال: إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم» رواه مسلم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
=====
بيان ان الصلاة في القبور كبيرة من الكبائر:
في الصحيح المسند:
1443 عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم لا تجعل قبري وثنا، لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.
——
راجع لبيان اول شرك وقع في الأرض بسبب تعظيم القبور.
فتح الباري لابن رجب. والتمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد
أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر
قال ابن حجر الهيتمي: الكبيرة الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتسعون:: اتخاذ القبور مساجد، وإيقاد السرج عليها واتخاذها أوثاناً، والطواف بها، واستلامها، والصلاة إليها
(الزواجر عن اقتراف الكبائر)) (1/ 120)
ثم ساق بعض الأحاديث المتقدمة وغيرها، ثم قال: (تنبيه): عدّ هذه الستة من الكبائر وقع في كلام بعض الشافعية، … ووجه اتخاذ القبر مسجداً منها واضح، لأنه لعن من فعل ذلك بقبور أنبيائه، وجعل من فعل ذلك بقبور صلحائه شر الخلق عند الله تعالى يوم القيامة، ففيه تحذير لنا كما في رواية: ((يُحذِّر مثل الذي صنعوا)) أي يُحذِّر أمته بقوله لهم ذلك من أن يصنعوا كصنع أولئك، فيلعنوا كما لعنوا، ومن ثم قال أصحابنا: تحرم الصلاة إلى قبور الأنبياء والأولياء تبركاً وإعظاماً، ومثلها الصلاة عليه للتبرك والإعظام، وكون هذا الفعل كبيرة ظاهرة من الأحاديث المذكورة لما علمت،
فقال بعض الحنابلة: قصد الرجل الصلاة عند القبر متبركاً به عين المحادّة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وابتداع دين لم يأذن به الله، للنهي عنها ثم إجماعاً، فإن أعظم المحرمات وأسباب الشرك الصلاة عندها، واتخاذها مساجد، أو بناؤها عليها والقول بالكراهة محمول على غير ذلك، إذ لا يظن بالعلماء تجويز فعل تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم لعن فاعله، ويجب المبادرة لهدمها، وهدم القباب التي على القبور إذ هي أضر من مسجد الضرار، لأنها أسست على معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه نهى عن ذلك، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدم القبور المشرفة، وتجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبر، ولا يصح وقفه ونذره. اهـ. (الزواجر عن اقتراف الكبائر)) (1/ 121).
– قال الإمَام ِ النَّووي – رحمه ُالله ُ تعالى -عند شرحه لمسلم:
{ولما احتاج الصحابة والتابعون إلى الزيادة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كثر المسلمون، وامتدت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أمهات المؤمنين فيه، ومنها حجرة عائشة رضي الله عن مدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بنوا على القبر حيطانا مرتفعة مستديرة حوله، لئلا يظهر في المسجد، فيصلي إليه العوام، ويؤدي إلى المحذور، ثم بنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا، حتى لا يتمكن أحد من استقبال القبر
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى ج 27 ص 326 وما بعدها:
(ولما مات دفن في حجرة عائشة قالت قال رسول الله في مرض موته (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (يحذر ما فعلوا قالت عائشة رضى الله عنها ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره ان يتخذ مسجدا وفى صحيح مسلم أنه قال قبل يموت بخمس (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك (وفى صحيح مسلم أيضا أنه قال (لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها (فنهى عن اتخاذ القبور مساجد وعن الصلاة إليها ولعن اليهود والنصارى لكونهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد لأن هذا كان هو أول أسباب الشرك في قوم نوح قال الله تعالى عنهم وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا قال ابن عباس وغيره من السلف هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم عبدوهم فهو لكمال نصحه لأمته حذرهم أن يقعوا فيما وقع فيه المشركون وأهل الكتاب فنهاهم عن اتخاذ القبور مساجد وعن الصلاة إليها لئلا يتشبهوا بالكفار كما نهاهم عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها لئلا يتشبهوا بالكفار ولهذا لما أدخلت الحجرة في مسجده المفضل في خلافة الوليد بن عبدالملك كما تقدم بنوا عليها حائطا وسنموه وحرفوه لئلا يصلى أحد إلى قبره الكريم وفى موطأ مالك عنه أنه قال (اللهم لا تجعل قبرى وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (وقد استجاب الله دعوته فلم يتخذ ولله الحمد وثنا كما اتخذ قبر غيره بل ولا يتمكن أحد من الدخول إلى حجرته بعد أن بنيت الحجرة وقبل ذلك ما كانوا يمكنون أحدا من أن يدخل إليه ليدعو عنده ولا غير ذلك مما يفعل عند قبر غيره لكن من الجهال من يصلى إلى حجرته أو يرفع صوته أو يتكلم بكلام منهي عنه وهذا إنما يفعل خارجا عن حجرته لا عند قبره وإلا فهو ولله الحمد استجاب الله دعوته فلم يمكن أحد قط أن يدخل إلى قبره فيصلى
عنده أو يدعو أو يشرك به كما فعل بغيره اتخذ قبره وثنا فإنه في حياة عائشة رضى الله عنها ما كان أحد يدخل إلا لأجلها ولم تكن تمكن أحدا أن يفعل عند قبره شيئا مما نهى عنه وبعدها كانت مغلقة إلى أن أدخلت في المسجد فسد بابها وبنى عليها حائط آخر كل ذلك صيانة له صلى الله عليه وسلم أن يتخذ بيته عيدا وقبره وثنا وإلا فمعلوم أن أهل المدينة كلهم مسلمون ولا يأتي إلى هناك إلا مسلم وكلهم معظمون)
قال ابن القيم في نونيته:
ودعا بأن لا يجعل القبر الذي *** قد ضمه وثنا من الأوثان
فأجاب رب العالمين دعائه *** وأحاطه بثلاثة الجدران
حتى اغتدت أرجائه بدعائه *** في عزة وحماية وصيان
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:
“فحرم صلى الله عليه وسلم أن تتخذ قبورهم مساجد بقصد الصلوات فيها، كما تقصد المساجد، وإن كان القاصد لذلك إنما يقصد عبادة الله وحده، لأن ذلك ذريعة إلى أن يقصدوا المسجد لأجل صاحب القبر ودعائه، والدعاء به، والدعاء عنده، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ هذا المكان لعبادة الله وحده لئلا يتخذ ذريعة إلى الشرك بالله، والفعل إذا كان يفضى إلى مفسدة وليس فيه مصلحة راجحة ينهى عنه، كما نهى عن الصلاة في الأوقات الثلاثة لما في ذلك من المفسدة الراجحة، وهو التشبه بالمشركين الذي يفضى إلى الشرك”
وقال في موطن آخر:”إنه نهى عن بناء المساجد على القبور ولعن من فعل ذلك، ونهى عن تكبير القبور وتشريفها وأمر بتسويتها، ونهى عن الصلاة إليها.
مجموع الفتاوى جـ3/ 163، 164.
شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله –
” أن الحجرة لما أدخلت إلى المسجد سُد بابها، وبني عليها حائط آخر، صيانة له صلى الله عليه وسلم أن يتخذ بيته عيداً، وقبره وثناً “.
” الجواب الباهر ” (ق9/ 2) بواسطة تحذير الساجد.
قال القرطبي في معنى الحديث:”وكل ذلك لقطع الذريعة المؤدية إلى عبادة من فيها، كما كان السبب في عبادة الأصنام”، وقال أيضاً:”ولهذا بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر النبي صلى الله عليه وسلم فأعلوا حيطان تربته وسدوا المداخل إليها، وجعلوها محدقة بقبره صلى الله عليه وسلم، ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة إذا كان مستقبل المصلين، فتصور الصلاة إليه بصورة العبادة، فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلثة من ناحية الشمال، حتى لا يمكنوا أحدا من استقبال قبره”
فتح المجيد /239
—-‘——
بحث لبعض العلماء في ردِّ شبهةِ بعض لجان الفتوى
في حصر النهي عن اتِّخاذ القبر مسجدًا في الصلاة عليه أو إليه
ففي مَعْرِضِ فِقْهِ مَعْنَى «اتِّخاذِ القبورِ مساجدَ» أرادَتْ دارُ الإفتاءِ ـ هداها الله ـ أَنْ تحصره في الصلاةِ على القبور بمعنى السجود عليها، وكذا في استقبالها بالصلاة والدعاء، مُسْتنِدةً إلى أنَّ فَهْمَ العُلَماءِ لأحاديثِ النهي محصورٌ في هذين المَعْنَيَيْنِ، وأخرَجَتْ بذلك المسجدَ الذي به ضريحٌ، وقَصْدَ الصلاةِ فيه مِنْ معنى اتِّخاذِ القبر مسجدًا، ثمَّ ناقَضَتْ كلامَها في الأخيرِ عند بيانِها لحكمِ العُلَماء الفحولِ مِنْ أصحابِ المَذاهِبِ الأربعة على الصلاة في مسجدٍ فيه ضريحٌ، حيث قالَتْ ـ هداها الله ـ ما نصُّه:
واستندت بقول جملة من العلماء منهم الشيخ السنديُّ يقول بشأنِ هذا الحديث: «ومُرادُه بذلك أَنْ يُحذِّرَ أُمَّتَه أَنْ يصنعوا بقبرِه ما صَنَعَ اليهودُ والنصارى بقبورِ أنبيائهم مِنِ اتِّخاذِهم تلك القبورَ مَساجدَ: إمَّا بالسجود إليها تعظيمًا أو بجَعْلِها قِبلةً يتوجَّهون في الصلاة نحوَها، قيل: ومجرَّدُ اتِّخاذِ مسجدٍ في جِوارِ صالحٍ تبرُّكًا غيرُ ممنوعٍ» [«حاشية السندي» ((2) / (41))].
وقد نَقَلَ العلَّامةُ ابنُ حجرٍ العسقلانيُّ وغيرُه مِنْ شُرَّاح السُّنن قولَ البيضاويِّ؛ حيث قال: «قال البيضاويُّ: لَمَّا كانَتِ اليهودُ يسجدون لقبورِ الأنبياءِ تعظيمًا لِشأنِهم، ويجعلونها قِبْلةً، ويتوجَّهون في الصلاة نحوَها فاتَّخذوها أوثانًا؛ لَعَنَهم اللهُ، ومَنَعَ المسلمين عن مِثْلِ ذلك ونَهَاهم عنه، أمَّا مَنِ اتَّخذ مسجدًا بجوارِ صالحٍ أو صلَّى في مقبرته وقَصَدَ به الاستظهارَ بروحه، ووصولَ أثرٍ مِنْ آثارِ عبادته إليه، لا التعظيمَ له والتوجُّهَ؛ فلا حَرَجَ عليه، ألا ترى أنَّ مدفن إسماعيلَ في المسجد الحرام عند الحطيم؟ ثمَّ إنَّ ذلك المسجدَ أَفْضَلُ مكانٍ يتحرَّى المصلِّي بصلاته، والنهيُ عن الصلاة في المَقابِرِ مختصٌّ بالمنبوشة لِما فيها مِنَ النجاسة، انتهى»، [«فتح الباري» ((1) / (524))، و «شرح الزرقاني» ((4) / (290))، و «فيض القدير» ((4) / (466))].
وقد نَقَلَ كذلك المباركفوريُّ في شرحِه لجامع الإمام الترمذيِّ قولَ التوربشتي فقال: «قال التوربشتيُّ: هو مخرَّجٌ على الوجهين: أحَدُهما: كانوا يسجدون لقبور الأنبياء تعظيمًا لهم وقَصْدَ العبادةِ في ذلك؛ وثانيهما: أنهم كانوا يتحرَّوْن الصلاةَ في مَدافِنِ الأنبياء، والتوجُّهَ إلى قبورهم في حالةِ الصلاة والعبادةِ لله؛ نظرًا منهم أنَّ ذلك الصنيعَ أَعْظَمُ موقعًا عند الله؛ لاشتماله على الأمرين»، [«تحفة الأحوذي» للمباركفوري ((2) / (226))].
الجواب على الشبهة:
فالجواب على دار الإفتاء ـ هداها الله ـ في حَصْرِها النهيَ عن اتِّخاذ القبر مسجدًا في الصلاة عليه وإليه فقط ما يلي:
(1) ـ تفسيرُ ورودِ الصورة المنهيِّ عنها في حديثِ لَعْنِ اليهود والنصارى في اتِّخاذِ قبورِ أنبيائهم مَساجِدَ على مَنْ يجعل القبرَ نَفْسَه مكانًا للسجود ويسجد عليه الساجدُ لمَنْ في القبر عبادةً له، أو يجعلُ القبرَ قبلةً دون القبلةِ المشروعةِ تفسيرٌ لا شكَّ في صحَّته، وللمعنيَيْن شواهدُ لأحاديثَ عِدَّةٍ ثابتةٍ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لم تُعرِّجْ عليها دارُ الإفتاء ـ هداها الله ـ وسأُورِدُ بعضًا منها على الوجه التالي:
ـ أمَّا المعنى الأوَّل مِنْ مَعاني اتِّخاذِ القبرِ مسجدًا والسجودِ له فإنه يشهد لهذا المعنى:
ـ قولُه?: «لَا تُصَلُّوا إِلَى قَبْرٍ، وَلَا تُصَلُّوا عَلَى قَبْرٍ» ((1)).
ـ نَهْيُهُ? «أَنْ يُبْنَى عَلَى القُبُورِ، أَوْ يُقْعَدَ عَلَيْهَا، أَوْ يُصَلَّى عَلَيْهَا» ((2)).
ـ نَهْيُهُ? «عَنِ الصَّلَاةِ إِلَى القُبُورِ» ((3)).
ـ أمَّا المعنى الثاني مِنْ مَعاني الاتِّخاذ: وهو السجودُ إليها واستقبالُها بالصلاة والدعاءِ فيَشْهَدُ له النهيُ الصريحُ في قوله?: «لَا تَجْلِسُوا عَلَى القُبُورِ، وَلَا تُصَلُّوا إِلَيْهَا» ((4))، ويُؤيِّدُه فَهْمُ الصحابة رضي الله عنهم؛ فقَدْ ثَبَتَ عن أنس بنِ مالكٍ رضي الله عنه قال: «كُنْتُ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنْ قَبْرٍ فَرَأَىنِي عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رضي الله عنه؛ فَقَالَ: «القَبْرَ، القَبْرَ»؛ فَرَفَعْتُ بَصَرِي إِلَى السَّمَاءِ وَأَنَا أَحْسَبُهُ يَقُولُ: القَمَرَ» ((5))، وعند عبد الرزَّاق بزيادةِ: «إِنَّمَا أَقُولُ القَبْرَ: لَا تُصَلِّ إِلَيْهِ» ((6)).
فهذا المعنى والذي قَبْلَه استدلَّتْ لهما دارُ الإفتاء ـ هداها الله ـ بكلام السِّنديِّ والبيضاويِّ وما نَقَلَهُ المُباركفوريُّ مِنْ قول التوربشتيِّ، وهُمَا صحيحان بلا شكٍّ لِدلالةِ النصوص الحديثية والآثارِ عليهما، لكنَّهما لا يُمثِّلان ـ في حقيقة الأمر ـ سوى مفهومين لمعنى اتِّخاذ القبورِ مَساجِدَ، ومفهومُه أَوْسَعُ مِنْ ذلك، قال الصنعانيُّ ـ رحمه الله ـ: «واتِّخاذُ القبورِ مَساجِدَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يكون بمعنى الصلاةِ إليها أو بمعنى الصلاةِ عليها» ((7))، وقال ـ أيضًا ـ: «والمرادُ مِنَ الاتِّخاذِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يكون ابتداعًا أو اتِّباعًا؛ فاليهودُ ابْتَدَعَتْ والنصارى اتَّبَعَتْ» ((8)).
قلت: بل إنَّ الأحاديث الصحيحة المتقدِّمة المتضمِّنة للوعيد الشديد تَشْمَلُ ـ باللزوم ـ معنًى ثالثًا في النهي عن اتِّخاذ القبورِ مَساجِدَ وهو البناءُ عليها، ووجهُ لزومِ بناءِ المَساجِدِ عليها مِنَ السجود إليها على غِرارِ ما يَلْزَمُ مِنْ بناءِ المَساجِدِ عليها السجودُ إليها: أنَّ الشارع «إذا أَمَرَ ببناء المَساجِدِ فهو يأمر ـ ضِمْنًا ـ بالصلاة فيها؛ لأنها هي المقصودةُ بالبناء، وكذلك إذا نَهَى عن بناء المساجد على القبور فهو ينهى ـ ضِمْنًا ـ عن الصلاة فيها؛ لأنها هي المقصودةُ بالبناء أيضًا، وهذا بيِّنٌ لا يخفى على العاقل» ((9))، وقد بيَّنَهُ المُناويُّ ـ رحمه الله ـ في مَعْرِضِ شَرْحِه للحديث حيث قال: «أي: اتَّخَذُوها جِهةَ قبلتِهم مع اعتقادهم الباطل، وأنَّ اتِّخاذَها مَساجِدَ لازمٌ لاتِّخاذِ المساجد عليها كعكسه، وهذا بَيَّنَ به سببَ لَعْنِهم لِما فيه مِنَ المُغالاة في التعظيم» ((10))؛ هذا، وقد تَرْجَمَ الإمامُ البخاريُّ ـ رحمه الله ـ لمَعْنَى هذا الحديثِ بقوله: «بابُ ما يُكْرَهُ مِنِ اتِّخاذ المساجد على القبور» ((11))، قال ابنُ حجرٍ ـ رحمه الله ـ: «قال الكِرمانيُّ: مَفادُ الحديثِ مَنْعُ اتِّخاذِ القبرِ مسجدًا، ومدلولُ الترجمةِ اتِّخاذُ المسجدِ على القبر، ومفهومُهما مُتغايِرٌ، ويُجابُ بأنهما مُتلازِمان وإِنْ تَغايَرَ المفهومُ» ((12)).
وبناءً على تفسيره لمعنى اتِّخاذِ القبر مسجدًا بأَنْ يُجْعَلَ القبرُ مكانًا للسجود فإنه ـ فضلًا عن شموله لبناءِ المسجدِ عليه بطريقِ اللزومِ كما تَقدَّمَ مِنْ أقوال أهل العلم ـ فقَدْ صحَّ ـ عن طريقِ النقل ـ ما يُثْبِتُ النهيَ الصريح لبناءِ المساجد على القبور بالنصوص الحديثية التالية:
أوَّلًا: قولُه?: «إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، ثُمَّ صَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ؛ أُولَئِكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللهِ» ((13))، والحديثُ صريحٌ في أنَّ مِنْ أسبابِ كونهم شِرارَ الخَلْقِ بناءَ المساجد على قبور الصالحين، قال ابنُ رجبٍ ـ رحمه الله ـ: «هذا الحديث يدلُّ على تحريمِ بناءِ المساجد على قبورِ الصالحين» ((14))، وهذا المعنى الذي أشارَتْ إليه عائشةُ رضي الله عنها بقولها: «فَلَوْلَا ذَاكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ خشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا» ((15))، أي: لولا مخافةُ الوقوع في اللعن الذي استحقَّه اليهودُ والنصارى بسببِ اتِّخاذِهم القبورَ مَساجدَ لَجُعِلَ قبرُه
?في أرضٍ بارزةٍ ظاهرةٍ مكشوفةٍ؛ فإنَّ الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا لِيَبْنُوا حولَ قبره مسجدًا، وكُلُّ موضعٍ يُصلَّى فيه يُسمَّى مسجدًا كما قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «جُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» ((16)).
ثانيًا: قولُه?: «لَعَنَ اللهُ زَائِرَاتِ القُبُورِ، وَالمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا المَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ» ((17))، قال ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ: «ويَحْرُمُ الإسراجُ على القبورِ واتِّخاذُ المساجد عليها وبَنْيُها، ويَتعيَّنُ إزالتُها، ولا أَعْلَمُ فيه خلافًا بين العُلَماء المعروفين» ((18)).
ثالثًا: نَهْيُهُ? «أَنْ يُجَصَّصَ القَبْرُ، وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ» ((19))، والحديثُ دلَّ على أنَّ البناء على القبر مَنْهِيٌّ عنه مطلقًا، يسيرًا كان أو كثيرًا، بل الكثير والكبير أَحْرَى بالنهي مِنْ طريقِ فحوى الخطاب؛ لأنَّ البناء اليسير على القبر مَنْهِيٌّ عنه كالقُبَّة مثلًا؛ فيَدْخُلُ في النهي تحريمُ بناءِ الكبير كالمسجد دخولًا أولويًّا.
ولهذا لا يجتمعُ في دينِ الإسلام قبرٌ ومسجدٌ مُطلقًا، ولا فَرْقَ ـ في المحذور ـ بين بناءِ المسجد على القبر أو إدخالِ القبر في المسجد، وضِمْنَ هذا المنظورِ السُّنِّيِّ يقول ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ: «فلا يجتمعُ في دينِ الإسلام مسجدٌ وقبرٌ، بل أيُّهما طَرَأَ على الآخَرِ مُنِعَ منه وكان الحكمُ للسابق؛ فلو وُضِعَا معًا لم يَجُزْ، ولا يصحُّ هذا الوقفُ ولا يجوز، ولا تصحُّ الصلاةُ في هذا المسجدِ لنَهْيِ رسول الله?عن ذلك ولَعْنِه مَنِ اتَّخَذَ القبرَ مسجدًا أو أَوْقَدَ عليه سراجًا؛ فهذا دينُ الإسلامِ الذي بَعَثَ اللهُ به رسولَه ونبيَّه، وغُرْبَتُه بين الناس كما ترى» ((20))، ونَقَلَ المُناويُّ عن الحافظ العراقيِّ في هذا المعنى قولَه: «قال الزينُ العراقيُّ: والظاهرُ أنه لا فَرْقَ؛ فلو بَنَى مسجدًا بقَصْدِ أَنْ يُدْفَنَ في بعضِه دَخَلَ في اللعنة، بل يَحْرُمُ الدفنُ في المسجد، وإِنْ شَرَطَ أَنْ يُدْفَنَ فيه لم يَصِحَّ الشرطُ لمُخالَفتِه لمقتضى وَقْفِه مسجدًا» ((21)).
هذا، وأمَّا ما اسْتَظْهَرَتْ به دارُ الإفتاء ـ هداها الله ـ مِنْ كلام البيضاويِّ بقوله: «أمَّا مَنِ اتَّخذ مسجدًا بجوارِ صالحٍ أو صَلَّى في مقبرته وقَصَدَ به الاستظهارَ بروحه، ووصولَ أثرٍ مِنْ آثار عبادته إليه، لا التعظيمَ له والتوجُّهَ؛ فلا حَرَجَ عليه، ألا ترى أنَّ مدفن إسماعيل في المسجد الحرام عند الحطيم؟ ثمَّ إنَّ ذلك المسجد أَفْضَلُ مكانٍ يتحرَّى المصلِّي بصلاته، والنهيُ عن الصلاة في المَقابِرِ مُخْتَصٌّ بالمنبوشة لِما فيها مِنَ النجاسة».
فجوابُه مِنْ ثلاث جهاتٍ:
الأولى: أنَّ تقرير الجوازِ مُخالِفٌ لعموم الأدلَّة الناهية عن الصلاة في المقبرة وما يُلْحَقُ بها مِنَ المساجد المبنيَّة على القبور، قال الألوسيُّ: «هذا، واسْتُدِلَّ بالآية على جوازِ البناء على قبورِ الصُّلَحاء واتِّخاذِ مسجدٍ عليها وجوازِ الصلاة فيها، وممَّنْ ذَكَرَ ذلك الشهابُ الخَفاجيُّ في حواشيه على البيضاويِّ، وهو قولٌ باطلٌ عاطلٌ فاسدٌ كاسدٌ» ((22))، ثمَّ استدلَّ بالأخبار الصحيحة والآثار الصريحة على فسادِ هذا المُعْتقَدِ.
الثانية: أنَّ تعليل النهيِ عن الصلاة في المَقابِرِ بالنجاسة الحِسِّيَّةِ غيرُ ظاهرٍ مع أنَّ المؤمن لا ينجس حيًّا أو ميِّتًا كما ثَبَتَ في الحديث ((23))، وإنما وَرَدَ النهيُ سدًّا للذريعة خشيةَ أَنْ يُعْبَدَ فيها المقبورُ لقرينةِ خبرِ: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ» ((24))؛ فكان النهيُ لأَجْلِ نجاسةِ الشِّرك اللاحقة بمَنْ عَصَاهُ، وهي نجاسةٌ معنويةٌ، قال الصنعانيُّ ـ رحمه الله ـ متعقِّبًا على البيضاويِّ: «قولُه: «لا لتعظيمٍ له»، يقال: اتِّخاذُ المساجد بقُرْبِه وقَصْدُ التبرُّكِ به تعظيمٌ له، ثمَّ أحاديثُ النهي مطلقةٌ ولا دليلَ على التعليل بما ذَكَرَ، والظاهرُ أنَّ العلَّة سَدُّ الذريعةِ والبعدُ عن التشبُّه بعَبَدةِ الأوثان الذين يعظِّمون الجماداتِ التي لا تسمع ولا تنفع ولا تضرُّ، ولِما في إنفاقِ المال في ذلك مِنَ العبث والتبذير الخالي عن النفع بالكلِّيَّة؛ ولأنه سببٌ لإيقادِ السُّرُج عليها الملعونِ فاعِلُه، ومَفاسِدُ ما يُبْنى على القبور مِنَ المَشاهِدِ والقِبَاب لا تُحْصَرُ» ((25)).
وقال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ: «وبالجملة: فمَنْ له معرفةٌ بالشرك وأسبابِه وذرائعِه، وفَهِمَ عن الرسول
? مَقاصِدَه؛ جَزَمَ جزمًا لا يَحْتَمِل النقيضَ أنَّ هذه المُبالَغةَ منه باللعن والنهي بصيغتَيْه: صيغةِ: «لا تفعلوا»، وصيغةِ: «إنِّي أنهاكم»، ليس لأجلِ النجاسة، بل هو لأجلِ نجاسةِ الشركِ اللاحقة بمَنْ عَصَاهُ، وارتكب ما عنه نَهَاهُ، واتَّبع هواهُ، ولم يَخْشَ ربَّه ومولاهُ، وقلَّ نصيبُه أو عُدِمَ عن تحقيقِ شهادةِ أَنْ لا إله إلَّا الله؛ فإنَّ هذا وأمثالَه مِنَ النبيِّ? صيانةٌ لحِمَى التوحيد أَنْ يلحقه شركٌ ويَغْشاهُ، وتجريدٌ له وغضبٌ لربِّه أَنْ يُعْدَل به سِواهُ» ((26)).
ـ أمَّا قول البيضاويِّ: «ألا ترى أنَّ مدفن إسماعيل في المسجد الحرام عند الحطيم؟».
ـ فجوابُه مِنْ جهةِ عدَمِ التسليم بصحَّةِ الدعوى أوَّلًا، ثمَّ مِنْ جهةِ التسليم ـ جدلًا ـ بصحَّتها ثانيًا على ما يأتي:
الجهة الأولى: أنَّ دعوى وجودِ قبرِ إسماعيل عليه السلام أو غيرِه مِنَ الأنبياء الكِرامِ مدفونِينَ في المسجد الحرام تحتاج إلى نقلٍ صحيحٍ مُؤيَّدٍ يصحُّ الاستدلالُ به، وهو مُفْتَقَرٌ إليه لعدَمِ ثبوت أيِّ خبرٍ مرفوعٍ في الدواوين المعروفة، قال الألبانيُّ ـ رحمه الله ـ: «وذلك مِنْ أَعْظَمِ علاماتِ كونِ الحديثِ ضعيفًا بل موضوعًا عند بعضِ المحقِّقين، وغايةُ ما رُوِي في ذلك آثارٌ مُعْضَلاتٌ بأسانيدَ واهياتٍ موقوفاتٍ، أخرجها الأزرقيُّ في «أخبار مكَّة»؛ فلا يُلْتَفَتُ إليها وإِنْ ساقَهَا بعضُ المُبْتَدِعة مَساقَ المسلَّمات» ((27)).
الجهة الثانية: وعلى فَرْضِ صحَّةِ الآثار ووجودِ قبورِ الأنبياء الكِرامِ فإنَّ العبرة في هذه المسألة بالقبور المُشْرِفة والمُرْتفِعة بأَنْ يُبنى عليها أو تُشْرِف بكِبَرِ الأعلام التي تُوضَعُ عليها وهي «النُّصُبُ» أو «النصائب» أو تُشْرِفَ بالتلوين أو برَفْعِ ترابِ القبر عمَّا حوله؛ فيكون بيِّنًا ظاهرًا كما هو حالُ الأضرحة والقِباب؛ لأنَّ القبور المُشْرِفة يزداد الغُلُوُّ فيها وتَقَعُ مَفاسِدُ الشركيات والوثنيات عندها، وقد جاء في «صحيح مسلم» عن أبي الهيَّاج الأسديِّ قال: قال لي عليٌّ: «أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ
?: أَنْ لَا تَدَعَ صُورَةً إِلَّا طَمَسْتَهَا، وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ» ((28)).
وعليه، فلا يصحُّ الاستدلالُ بهذه الآثارِ على جوازِ اتِّخاذِ المساجد على القبور ـ ولو كانَتْ حقيقيةً ـ لاندراسِها وخفائِها وعدَمِ ظهورها؛ إذ المعلومُ ضرورةً أنَّ الأرض كُلَّها مقبرةُ الأحياء كما قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26)} [المُرْسَلات]، وإذا افترقَتِ الصورتان في معنى الظهور والبروز والإشراف فلا مَجالَ للتسوية بينهما أو نفيِ الفارق عنهما.
وقد وَرَدَ هذا المعنى في جوابِ علي القاري ـ رحمه الله ـ على مَنْ ذَكَرَ أنَّ صورةَ قبرِ إسماعيل عليه السلام في الحِجْر تحت الميزاب، وأنَّ في الحطيم بين الحَجَر الأسود وزمزم قبرَ سبعين نبيًّا حيث قال: «وفيه أنَّ صورة قبرِ إسماعيل عليه السلام وغيرِه مُنْدَرِسةٌ فلا يَصْلُحُ الاستدلالُ به» ((29)).
ـ وأمَّا قولُه: «ثمَّ إنَّ ذلك المسجد أَفْضَلُ مكانٍ يتحرَّى المصلِّي بصلاته».
ـ فجوابُه: أنَّ مِنَ الخطإ البيِّنِ اعتقادَ أنَّ فضيلةَ المسجد الحرامِ على سائِرِ المساجد إنما طَرَأَتْ بدفن إسماعيل عليه السلام، ولو مع فَرْضِ التسليم بصحَّةِ الآثار الواردة بدفنه فيه؛ فلم يَثْبُتْ أيُّ دليلٍ يُفْصِحُ عن حدوثِ فضيلته بالطروء، ولم ينقل ذلك أحَدٌ مِنَ السلف، بل فضيلةُ المسجد الحرامِ مُرْتَبِطةٌ به وأصيلةٌ فيه، ومُؤكَّدةٌ منذ أَنْ رَفَعَ إبراهيمُ وإسماعيلُ عليهما السلام القواعدَ مِنَ البيت كما في قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)} [البقرة]، وقولِه تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)} [البقرة]؛ فشأنُ المسجدِ الحرام في الْتصاقِ الفضيلة به كشأنِ فضيلةِ المسجد النبويِّ؛ فإنَّ أَجْرَ الصلاةِ فيه بألفِ صلاةٍ بإخبارِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ولم يُدْفَنْ فيه أحَدٌ.
هذا، وقد ساقَتْ دارُ الإفتاءِ ـ هداها الله ـ فَهْمَ العلماءِ لمعنى اتِّخاذ القبر مسجدًا بالصلاة عليه أو إليه أي: مِنْ غيرِ أَنْ يفهموا ـ في زَعْمِها ـ مِنْ نصِّ الحديث: «لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» ((30)) النهيَ عن بناء المساجد وقصدِ الصلاة فيها، ثمَّ تَناقَضَتْ في آخِرِ ردِّها عند نَقْلِها عن أئمَّة المَذاهِبِ تحريمَ الصلاةِ في المسجد الذي به قبرٌ أو ضريحٌ، وبطلانَها على مذهب أحمد بنِ حنبلٍ، وكراهتَها عند الأئمَّة الثلاثة؛ فمِنْ أين يأتي التحريمُ والكراهةُ إذا لم يفهموا مِنَ الحديثِ النهيَ عن بناءِ المساجد على القبور يا تُرى؟!!
وقد نَقَلْتُ ـ فيما سَبَقَ ـ تصريحَ عامَّةِ الطوائف والمَذاهِبِ بالنهي عن بناء المساجد عليها مُتابَعةً منهم للسُّنَّة الصحيحة الصريحة مِنْ غيرِ اختلافٍ بين الأئمَّة المعروفين ((31))، وإِنْ أطلقَتْ طائفةٌ منهم لَفْظَ «الكراهة» فإنه ينبغي حَمْلُه على الكراهة التحريمية إحسانًا للظنِّ بالعلماء، ولأنه هو المعنى الشرعيُّ في الاستعمال القرآنيِّ؛ فيُحْمَلُ عليه لا على المعنى الاصطلاحيِّ في الأصول عند المتأخِّرين، ومِنَ الاستعمال القرآنيِّ لِلَفْظِ «الكراهة» بمعنى «التحريم» قولُه تعالى: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحُجُرات: (7)]، كما ذَكَرَ اللهُ تعالى ـ أيضًا ـ بعد النهي عن قَتْلِ الأولاد، وقُرْبانِ الزنا، وقتلِ النفس، وغيرِ ذلك، هذا المعنى في قوله تعالى: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)} [الإسراء]، أي: محرَّمًا؛ لأنَّ هذه المذكوراتِ والتي قبلها كُلَّها محرَّماتٌ، ويُؤيِّدُ ذلك أنَّ الأصل في النهي عند مالكٍ والشافعيِّ وأحمد وغيرِهم أَنْ يُحْمَل على التحريم إلَّا إذا دلَّ دليلٌ يصرف النهيَ إلى التنزيه، ولا صارِفَ استظهروه في الأحاديثِ الناهية عن بناء المساجد على القبور.
وفي هذا المعنى مِنْ حَمْلِ لفظِ «الكراهة» عند الأئمَّةِ المتقدِّمين على «التحريم» عند الإطلاقِ ما ذَكَرَه ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ عن الإمام الشافعيِّ ـ رحمه الله ـ فيمَنْ أراد نسبةَ القولِ إليه بإباحةِ تزوُّجِ الرجلِ مِنْ بنته مِنَ الزِّنا بدعوى تصريحِه بكراهةِ ذلك، وأنَّ الكراهةَ لا تُنافي الجوازَ إذا ما حُمِلَتْ على التنزيه فيقول ـ رحمه الله ـ: «ومِنْ هذا ـ أيضًا ـ أنه نصَّ على كراهةِ تزوُّجِ الرجلِ بنتَه مِنْ ماءِ الزنا، ولم يقل قطُّ إنه مُباحٌ ولا جائزٌ، والذي يَليقُ بجلالَتِه وإمامتِه ومَنْصِبِه الذي أَحَلَّه اللهُ به مِنَ الدِّين أنَّ هذه الكراهةَ منه على وجهِ التحريم، وأَطْلَقَ لَفْظَ «الكراهة» لأنَّ الحرام يَكْرَهُه اللهُ ورسولُه، وقد قال تعالى عَقِبَ ذِكْرِ ما حرَّمه مِنَ المحرَّمات مِنْ عندِ قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: (23)] إلى قوله: {فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: (23)] إلى قوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الإسراء: (31)] إلى قوله: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء: (32)] إلى قوله: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الإسراء: (33)] إلى قوله: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} [الإسراء: (34)] إلى قوله: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: (36)] إلى آخِرِ الآيات، ثمَّ قال: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)} [الإسراء: (38)]، وفي الصحيح: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ كَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ المَالِ» ((32)).
فالسلفُ كانوا يَسْتَعْمِلون «الكراهةَ» في مَعْناها الذي اسْتُعْمِلَتْ فيه في كلام الله ورسوله، أمَّا المتأخِّرون فقَدِ اصطلحوا على تخصيصِ «الكراهة» بما ليس بمُحَرَّمٍ وتَرْكُه أَرْجَحُ مِنْ فِعْلِه، ثمَّ حَمَلَ مَنْ حَمَلَ منهم كلامَ الأئمَّةِ على الاصطلاح الحادث».33
((1)) أخرجه الطبرانيُّ في «المعجم الكبير» ((11) / (376))، مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما. والحديث صحَّحه الألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة» ((3) / (13)).
((2)) أخرجه أبو يعلى في «مسنده» ((2) / (297))، مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه. قال الهيثميُّ في «مَجْمَع الزوائد» ((3) / (191)): «رجالُه ثِقَاتٌ»، وصحَّحه الألبانيُّ في «تحذير الساجد» ((29)).
((3)) أخرجه ابنُ حِبَّان في «صحيحه» ((6) / (93)) مِنْ حديثِ أنسٍ رضي الله عنه. والحديث صحَّحه الألبانيُّ في «صحيح الجامع» ((6893)).
((4)) أخرجه مسلمٌ ((1) / (430)) كتاب «الجنائز»، والنسائيُّ ((760)) كتاب «القِبْلة»، وأحمد ((4) / (135))، مِنْ حديثِ أبي مَرْثَدٍ الغَنَويِّ رضي الله عنه.
((5)) أخرجه البخاريُّ تعليقًا ((1) / (111)) كتاب «الصلاة» باب: هل تُنْبَشُ قبورُ مُشْرِكي الجاهليةِ ويُتَّخَذُ مكانُها مَساجِدَ، قال ابنُ حجرٍ في «فتح الباري» ((1) / (659)): «رويناهُ موصولًا في كتاب «الصلاة» لأبي نُعَيْمٍ شيخِ البخاريِّ … وله طُرُقٌ أخرى بيَّنْتُها في «تغليق التعليق»».
((6)) «المصنَّف» لعبد الرزَّاق الصنعانيِّ ((1) / (404)). والأثرُ صحَّحه الألبانيُّ في «تحذير الساجد» ((35)).
((7)) «سُبُل السلام» للصنعاني ((1) / (317) ـ (318)).
((8)) المصدر السابق نَفْسُه.
((9)) «تحذير الساجد» للألباني ((43)).
((10)) «فيض القدير» للمُناوي ((4) / (466)).
((11)) «صحيح البخاري» بشرح «فتح الباري» ((3) / (200)).
((12)) «فتح الباري» لابن حجر ((3) / (201)).
((13)) أخرجه البخاريُّ ((1) / (112)) كتاب «المساجد» باب الصلاة في البِيعة، ومسلمٌ ((1) / (239)) كتاب «المساجد ومَواضِع الصلاة»، مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها.
((14)) «فتح الباري» لابن رجب ((3) / (197)).
((15)) أخرجه البخاريُّ ((1) / (333)) كتاب «الجنائز» بابُ ما جاء في قبر النبيِّ وأبي بكرٍ وعمر، ومسلمٌ ((1) / (239)) كتاب «المساجد ومواضع الصلاة»، مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها.
((16)) أخرجه البخاريُّ ((1) / (87)) كتاب «التيمُّم» باب التيمُّم، ومسلمٌ ((1) / (236)) كتاب «المساجد ومَواضِعِ الصلاة»، مِنْ حديثِ جابر بنِ عبد الله رضي الله عنهما.
((17)) أخرجه أبو داود ((3) / (362)) كتاب «الجنائز» بابٌ في زيارة النساء القبورَ، والترمذيُّ ((320)) كتاب «الصلاة» بابُ ما جاء في كراهيةِ أَنْ يَتَّخِذَ على القبر مسجدًا، والنسائيُّ ((2043))، وأحمد ((1) / (229))، مِنْ حديثِ أبي صالحٍ عن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما. والحديث بهذا السياقِ ضعيفٌ، قال ابنُ رجبٍ الحنبليُّ في «فتح الباري» ((3) / (201)): «وقال مسلمٌ في كتاب «التفصيل»: هذا الحديث ليس بثابتٍ، وأبو صالحٍ باذامُ قد اتَّقى الناسُ حديثَه، ولا يَثْبُتُ له سماعٌ مِنِ ابنِ عبَّاسٍ». لكِنْ وَرَدَ له شواهدُ تُقَوِّيه في «لعنِ زائرات القبور»، مِثْلَ الحديث الذي أخرجه الترمذيُّ ((1056)) وغيرُه: «لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم زَوَّارَاتِ القُبُورِ»، وأخرى في «اتِّخاذ المساجد على القبور»، وقد تَوَاتَرَ ذلك عنه صلَّى الله عليه وسلَّم؛ انظر: «الإرواء» ((3) / (212)) و «السلسلة الضعيفة» ((1) / (393)) كلاهما للألباني.
((18)) «اختيارات ابنِ تيمية» للبعلي ((81)).
((19)) أخرجه مسلمٌ ((1) / (430)) كتاب «الجنائز»، وأبو داود كتاب «الجنائز» بابٌ في البناء على القبر ((3) / (358))، مِنْ حديثِ جابر بنِ عبد الله رضي الله عنهما.
((20)) «زاد المَعاد» لابن القيِّم ((3) / (572)).
((21)) «فيض القدير» للمُناوي ((5) / (274)).
((22)) «تفسير الألوسي» ((11) / (196)).
((23)) عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لَقِيَهُ فِي بَعْضِ طَرِيقِ المَدِينَةِ وَهُوَ جُنُبٌ؛ فَانْخَنَسَ مِنْهُ فَذَهَبَ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: «أَيْنَ كُنْتَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟» قَالَ: «كُنْتُ جُنُبًا؛ فَكَرِهْتُ أَنْ أُجَالِسَكَ وَأَنَا عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ»، فَقَالَ: «سُبْحَانَ اللهِ، إِنَّ المُسْلِمَ لَا يَنْجُسُ» [أخرجه البخاريُّ ((1) / (75))، ومسلمٌ ((1) / (175))]، وقال ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما: «المُسْلِمُ لَا يَنْجُسُ حَيًّا وَلَا مَيِّتًا» [أخرجه البخاريُّ معلَّقًا ((1) / (300))، ووَصَله ابنُ أبي شيبة ((2) / (469)). قال الألبانيُّ في «الضعيفة» ((13) / (667))]: «وهذا إسنادٌ صحيحٌ على شرط الشيخين»، وانظر: «فتح الباري» لابن حجر ((1) / (33))].
((24)) أخرجه أحمد ((2) / (246))، وأبو يعلى في «مسنده» ((1) / (312))، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه. وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تحقيقه ل «مسند أحمد» ((13) / (88))، والألبانيُّ في «تحذير الساجد» ((22)).
((25)) «سُبُل السلام» للصنعاني ((1) / (318)).
((26)) «إغاثة اللهفان» لابن القيِّم ((1) / (189)).
((27)) «تحذير الساجد» للألباني ((109) ـ (110)).
((28)) أخرجه مسلمٌ ((1) / (429)) كتاب «الجنائز»، وأحمد ((1) / (96))، مِنْ حديثِ عليٍّ رضي الله عنه.
((29)) «مرقاة المفاتيح» للقاري ((2) / (416)).
((30)) أخرجه البخاريُّ ((1) / (333)) كتاب «الجنائز» بابُ ما جاء في قبر النبيِّ وأبي بكرٍ وعمر، ومسلمٌ ((1) / (239)) كتاب «المساجد ومواضع الصلاة»، مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها.
((31)) انظر: تصريحَ عامَّةِ الطوائف والمَذاهِبِ بالنهي عن بناء المساجد عليها، في المقال الموسوم بـ: «في رد شبهة دار الإفتاء المصرية في الاستدلال بآية: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا (21)} [الكهف]».
((32)) أخرجه البخاريُّ ((1) / (357)) كتاب «الزكاة» بابُ قول الله تعالى: {لَا يَسْـئَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: (273)]، ومسلمٌ ((2) / (820)) كتاب «الأقضية»، مِنْ حديثِ المُغيرةِ بنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه.
((33)) «إعلام الموقِّعين» لابن القيِّم ((1) / (42) ـ (43)).