131 فتح الاحد الصمد شرح الصحيح المسند
مشاركة عبدالله المشجري وعبدالملك وأحمد بن علي وناجي الصيعري وعلي الكربي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى ، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا )
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
مسند البراء بن عازب رضي الله عنهما
131 – قال الإمام أحمد رحمه الله (ج 4 ص 281): حدثنا سليمان بن داود الهاشمي قال أخبرنا أبو بكر عن أبي إسحاق قال: قلت للبراء الرجل يحمل على المشركين أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة قال لا لأن الله عز وجل بعث رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال {فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك} (1) إنما ذاك في النفقة.
قال الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله: هذا حديث صحيحٌ. وأبو بكر هو ابن عياش.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أولاً: دراسة الحديث رواية:
* راجع الصحيح المسند 315، والصحيح المسند من أسباب النزول ص27 قول الله تعالى: {وأنفقوا في سبيل الله} الآية 195
* بوب عليه في مقبل في الجامع الصحيح :
ترك النفقة في سبيل الله هلكة
التحذير من الإخلاد إلى الدنيا
الإقبال على المال وترك الجهاد هلكة
قوله تعالى: {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين}
* الحديث في غاية المقصد في زوائد المسند (1/3588).
* قال الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (5/ 328): ” رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ غَيْرَ سُلَيْمَانِ بْنِ دَاوُدَ الْهَاشِمِيِّ، وَهُوَ ثِقَةٌ “.
* قال محققو المسند (30/427): ” سبب نزول الآية صحيح من حديث حذيفة، وهذا إسناد اختلف في متنه على أبي إسحاق السبيعي، فرواه أبو بكر بن عياش عنه، بهذا اللفظ، وأبو بكر بن عياش ليس بذاك القوي في أبي إسحاق- كما قال أبو حاتم في “العلل” 1/35- وقد خالف الثقات عن أبي إسحاق في متنه، فقف أخرجه الطبري في “التفسير” (3167) و (3169) و (3171) من طريق أبي الأحوص وسفيان والحسين بن واقد، وأخرجه الطبري كذلك (3170) ، والحاكم في “المستدرك” 2/275-276 من طريق إسرائيل، وأخرجه الطحاوي في “شرح مشكل الآثار” (4687) ، والبيهقي في “السنن” 9/45 من طريق شعبة، خمستهم، عن أبي إسحاق، عن البراء في قوله: (ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة) [البقرة: 195]
قال: هو الرجل يُصيب الذنوب فيلقي بيده إلى التهلكة، يقول: لا توبة لي.
وذكر الحافظ في “الفتح” 8/185 أن طريق أبي بكر بن عياش إن كان محفوظاً، فلعل للبراء فيه جوابين، ثم رجح الحافظ رواية الثوري وإسرائيل وأبي الأحوص، قال: وكل منهم أتقن من أبي بكر، فكيف مع اجتماعهم وانفراده!
قلنا: قد رواه الجراح بن مليح عن أبي إسحاق السبيعي عند الطبري في “التفسير” (3172) بلفظ أبي بكر بن عياش، لكن دون قوله: إنما ذاك في النفقة، وما صح من حديث البراء في سبب نزول الآية هو غير ما قاله حذيفة في سبب نزولها فيما أخرجه البخاري برقم (4516) قال: نزلت في النفقة.
قال الحافظ في “الفتح” 8/185: وهذا الذي قاله حذيفة جاء مفسراً في حديث أبي أيوب الأنصاري الذي أخرجه مسلم (لم نجده فيه) ، وأبو داود (2512) ، والترمذي (2972) ، [والطبري (3180) ] ، وابن حبان (4711) ، [والطبراني (4060) ] ، والحاكم 2/275، [والبيهقي 9/99] من طريق أسلم ابن عمران قال- واللفظ لابن حبان -: كنا بمدينة الروم، فأخرجوا إلينا صفًّا عظيماً من الروم، وخرج مثله أو أكثر، وعلى أهل مصر عُقبة بنُ عامر صاحبُ رسول الله صلي الله عليه وسلم فحمل رجلٌ من المسلمين على صفِّ الروم حتى دخل فيهم، فصاح به الناس، وقالوا: سبحان َ الله! تُلْقِي بيدك إلى التَّهلُكَة؟! فقام أبو أيوب الأنصاري، فقال: أيها الناس، إنكم تتأولون هذه الآية على هذا التأويل، إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، إنَّا لما أعزَ اللهُ الإسلام، وكثَّر ناصريه، قلنا
بعضُنا لبعض سرًّا من رسول الله صلي الله عليه وسلم: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز
الإسلام، وكثََّر ناصريه، فلو أقمنا في أموالنا، فأصْلَحْنا ما ضاع منا، فأنزل الله على نبيه صلي الله عليه وسلم يردُّ علينا ما قلنا: (وأنفقوا في سبيل الله ولا تُلقوا بأيديكم إلى التَّهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) فكانت التَّهلكةُ الإقامةَ في أموالنا وإصلاحَها، وتَرَكْنا الغَزْوَ. قال: وما زال أبو أيوب شاخصاً في سبيل الله حتى دُفن بأرض الروم. وإسناده صحيح.
وفي الباب أيضاً عن ابن عباس عند الطبري (3147) في تفسير هذه الآية:
قال: تنفق في سبيل الله، وإن لم يكن لك إلا مِشْقَصٌ، أو سهم.
وعنه أيضاً- عند الطبري (3148) – قال: في النفقة.
قال السندي: قوله: يحمل على المشركين، أي: وحدهُ.
ألقى بيده، أي: ألقى نفسه باختياره في الهلاك، وهو مما نُهي عنه.
(لا تُكلَفُ إلا نَفْسَك) ، التكليف يتعدّى إلى مفعولين، فنصب نفسَك، على أنه مفعول ثان، يُريد أنه من لازم خصوص تكليف القتال بنفسه أن يقاتل وحده، ومعنى هذا الخصوص أنه ليس عليه الإثم إن تركوا القتال، لا أنهم ما كلفوا به، وأن القتال غير واجب عليهم.
في النفقة، أي: هو أن لا ينفق فيؤدي ذلك إلى الهلاك، أو هو أن يُسرف في الإنفاق، فيؤدي ذاك إلى الهلاك. ”
ثانيًا: دراسة الحديث دراية:
1- شرح الحديث:
* قال ابن حجر في فتح الباري (8/ 185): ” وصح عن بن عباس وجماعة من التابعين نحو ذلك في تأويل الآية وروى بن أبي حاتم من طريق زيد بن أسلم أنها كانت نزلت في ناس كانوا يغزون بغير نفقه فيلزم على قوله اختلاف المأمورين فالذين قيل لهم أنفقوا وأحسنوا أصحاب الأموال والذين قيل لهم ولا تلقوا الغزاة بغير نفقة ولا يخفى ما فيه ومن طريق الضحاك بن أبي جبيرة كان الأنصار يتصدقون فأصابتهم سنة فامسكوا فنزلت وروى بن جرير وبن المنذر بإسناد صحيح عن مدرك بن عوف قال إني لعند عمر فقلت إن لي جارا رمى بنفسه في الحرب فقتل فقال ناس ألقى بيده إلى التهلكة فقال عمر كذبوا لكنه اشترى الآخرة بالدنيا وجاء عن البراء بن عازب في الآية تأويل آخر أخرجه بن جرير وبن المنذر وغيرهما عنه بإسناد صحيح عن أبي إسحاق قال قلت للبراء أرأيت قول الله عز و جل ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة هو الرجل يحمل على الكتيبة فيها ألف قال لا ولكنه الرجل يذنب فيلقى بيده فيقول لا توبة لي وعن النعمان بن بشير نحوه والأول أظهر لتصدير الآية بذكر النفقة فهو المعتمد في نزولها وأما قصرها عليه ففيه نظر لأن العبرة بعموم اللفظ على أن أحمد أخرج الحديث المذكور من طريق أبي بكر وهو بن عياش عن أبي إسحاق بلفظ آخر قال قلت للبراء الرجل يحمل على المشركين أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة قال لا لأن الله تعالى قد بعث محمدا فقال فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك فإنما ذلك في النفقة فإن كان محفوظا فلعل للبراء فيه جوابين والأول من رواية الثوري وإسرائيل وأبي الأحوص ونحوهم وكل منهم أتقن من أبي بكر فكيف مع اجتماعهم وانفراده أنتهى
وأما مسألة حمل الواحد على العدد الكثير من العدو فصرح الجمهور بأنه إن كان لفرط شجاعته وظنه أنه يرهب العدو بذلك أو يجرئ المسلمين عليهم أو نحو ذلك من المقاصد الصحيحة فهو حسن ومتى كان مجرد تهور فممنوع ولا سيما إن ترتب على ذلك وهن في المسلمين والله أعلم “.
* فسر العلامة السعدي – رحمه الله تعالى- الآية الكريمة بقوله: “يأمر تعالى عباده بالنفقة في سبيله، وهو إخراج الأموال في الطرق الموصلة إلى الله، وهي كل طرق الخير، من صدقة على مسكين، أو قريب، أو إنفاق على من تجب مؤنته.
وأعظم ذلك وأول ما دخل في ذلك الإنفاق في الجهاد في سبيل الله، فإن النفقة فيه جهاد بالمال، وهو فرض كالجهاد بالبدن، وفيها من المصالح العظيمة، الإعانة على تقوية المسلمين، وعلى توهية الشرك وأهله، وعلى إقامة دين الله وإعزازه، فالجهاد في سبيل الله لا يقوم إلا على ساق النفقة، فالنفقة له كالروح، لا يمكن وجوده بدونها، وفي ترك الإنفاق في سبيل الله، إبطال للجهاد، وتسليط للأعداء، وشدة تكالبهم، فيكون قوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} كالتعليل لذلك، والإلقاء باليد إلى التهلكة يرجع إلى أمرين: ترك ما أمر به العبد، إذا كان تركه موجبا أو مقاربا لهلاك البدن أو الروح، وفعل ما هو سبب موصل إلى تلف النفس أو الروح، فيدخل تحت ذلك أمور كثيرة، فمن ذلك، ترك الجهاد في سبيل الله، أو النفقة فيه، الموجب لتسلط الأعداء، ومن ذلك تغرير الإنسان بنفسه في مقاتلة أو سفر مخوف، أو محل مسبعة أو حيات، أو يصعد شجرا أو بنيانا خطرا، أو يدخل تحت شيء فيه خطر ونحو ذلك، فهذا ونحوه، ممن ألقى بيده إلى التهلكة.
ومن الإلقاء باليد إلى التهلكة الإقامة على معاصي الله، واليأس من التوبة، ومنها ترك ما أمر الله به من الفرائض، التي في تركها هلاك للروح والدين.
ولما كانت النفقة في سبيل الله نوعا من أنواع الإحسان، أمر بالإحسان عموما فقال: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وهذا يشمل جميع أنواع الإحسان، لأنه لم يقيده بشيء دون شيء، فيدخل فيه الإحسان بالمال كما تقدم.
ويدخل فيه الإحسان بالجاه، بالشفاعات ونحو ذلك، ويدخل في ذلك، الإحسان بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتعليم العلم النافع، ويدخل في ذلك قضاء حوائج الناس، من تفريج كرباتهم وإزالة شداتهم، وعيادة مرضاهم، وتشييع جنائزهم، وإرشاد ضالهم، وإعانة من يعمل عملا والعمل لمن لا يحسن العمل ونحو ذلك، مما هو من الإحسان الذي أمر الله به، ويدخل في الإحسان أيضا، الإحسان في عبادة الله تعالى، وهو كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك ”
فمن اتصف بهذه الصفات، كان من الذين قال الله فيهم: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} وكان الله معه يسدده ويرشده ويعينه على كل أموره.”
مسألة الانغماس في العدو :
واختلف أهل العلم في حمل الرجل وحده على الجيش؛ والعدد الكثير من العدو؛ فأقول [الكلام لمصنف الإنجاد]: أحوال الذي يحمل وحده ثلاث:
حال اضطرار، وذلك حيث يحيط به العدو، فهو يخاف تغلبهم عليه وأسرهم إياه، فذلك جائز أن يحمل عليهم باتفاق.
وحال يكون فيها في صف المسلمين ومنعتهم، فيحمل إرادة السمعة والاتصاف بالشجاعة، فهذا حرام باتفاق.
وحال يكون كذلك مع المسلمين، فيحمل غضبا لله، محتسبا نفسه عند الله، ففي هذا اختلف أهل العلم، فمنهم من كره حمله وحده، ورآه مما نهى الله عنه من الإلقاء باليد إلى التهلكة، ومنهم من أجاز ذلك واستحسنه؛ إذا كانت به قوة، وفي فعله ذلك منفعة، إما لنكاية العدو أو تجرئة المسلمين -حتى يفعلوا مثل ما فعل- أو إرهاب العدو؛ ليعلموا صلابة المسلمين في الدين
وبالجملة، فكل من بذل نفسه لإعزاز الدين، وتوهين أهل الكفر؛ فهو المقام الشريف الذي تتوجه إليه مدحة الله -تعالى-، وكريم وعده في قوله -سبحانه-: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا} ، وقال -تعالى-: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله} .
قلت: والراجح: جواز حمل الرجل وحده على جيش العدو حال الاضطرار، إذا أحاط به العدو، لخوفه تغلبهم عليه وأسرهم إياه. ويجوز في حال يكون في صف المسلمين ويجد في نفسه القوة فيحمل غضبا لله، محتسبا نفسه لله، يفعله لنكاية العدو أو إرهابه، أو ليجرئ المسلمين، ويفعلوا مثل ما فعل، إذا ترجح لديه الظن أن في هذا منفعة المسلمين. ولا يجوز هذا الحمل إرادة السمعة والاتصاف بالشجاعة، والله تعالى -أعلم-.
أقول: والأصل في هذا؛ التشاور والرجوع للقائد، فقد أمر ربنا -تبارك وتعالى- رسوله – صلى الله عليه وسلم – بالمشاورة؛ فقد قال -سبحانه-: {وشاورهم في الأمر} ، وقال -سبحانه-: {وأمرهم شورى بينهم}
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وجاء في التعليق في كتاب الانجاد: تكاد تجمع كلمة الفقهاء على جواز ذلك، بل حكى ابن أبي زمنين في “قدوة الغازي” (ص 198) الإجماع عليه، ونص عبارته: “قال ابن حبيب: ولا بأس أن يحمل الرجل وحده على الكتيبة، وعلى الجيش؛ إذا كان ذلك منه لله، وكانت فيه شجاعة وجلد وقوة على ذلك، وذلك حسن جميل لم يكرهه أحد من أهل العلم، وليس ذلك من التهلكة، وإذا كان ذلك منه للفخر والذكر فلا يفعل -وإن كانت به عليه قوة- وإذا لم يكن به عليه قوة فلا يفعل وإن أراد به الله؛ لأنه حيئذ يلقي بيده إلى التهلكة” …
وجاء في “البيان والتحصيل” (2/ 564) ما يلي: “قال أشهب: وسئل مالك عن رجل من المسلمين يحمل على الجيش من العدو وحده، قال: قال الله -تعالى-: {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا} فجعل كل رجل برجلين؛ بعد أن كان كل رجل بعشرة، فأخاف هذا يلقي بيده إلى التهلكة، وليس ذلك بسواء أن يكون الرجل في الجيش الكثيف فيحمل وحده على الجيش، وأن يكون الرجل قد خلفه أصحابه بأرض الروم، أحاطوه فتركوه بين ظهراني الروم، فهو يخاف الأسر فيستقتل فيحمل عليهم، فهذا عندي خفيف، والأول عندي في كثف وقوة، وليس إلى ذلك بمضطر، يختلف أن يكون الرجل يحمل احتسابا بنفسه على الله، كما قال عمر بن الخطاب: الشهيد من احتسب نفسه على الله، أو يكون يريد بذلك السمعة والشجاعة.
قال محمد بن رشد: أما إذا فعل ذلك إرادة السمعة والشجاعة، فلا إشكال ولا اختلاف في أن ذلك من الفعل المكروه، وأما إن اضطر إلى ذلك بإحاطة العدو به، ففعله مخافة الأسر؛ فلا اختلاف في أن ذلك من الفعل الجائز، إن شاء أن يستأسر، وإن شاء أن يحمل على العدو، ويحتسب نفسه على الله، وأما إذا كان في صف المسلمين، وأراد أن يحمل على الجيش من العدو وحده؛ محتسبا بنفسه على الله ليقوي بذلك نفوس المسلمين، ويلقي الرعب في قلوب المشركين، فمن أهل العلم من كرهه ورآه مما نهى الله عنه من الإلقاء إلى التهلكة؛ لقوله- عز وجل-: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}، وممن روى ذلك عمرو بن العاص، ومنهم من أجازه واستحبه لمن كانت به قوة عليه، وهو الصحيح” …
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في “قاعدة في الانغماس في العدو، وهل يباح … ” (ص 24): “والرجل ينهزم أصحابه، فيقاتل وحده، أو هو وطائفة معه العدو، وفي ذلك نكاية في العدو، ولكن يظنون أنهم يقتلون، فهذا كله جائز عند عامة علماء الإسلام؛ من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم، وليس في ذلك إلا خلاف شاذ.
وأما الأئمة المتبوعون كالشافعي وأحمد وغيرهما؛ فقد نصوا على جواز ذلك، وكذلك هو مذهب أيى حنيفة ومالك وغيرهما”، ودلل عليه بتطويل من الكتاب والسنة وإجماع السلف، ونحوه في “مجموع الفتاوى” (28/ 540) له.
وقال الشافعي -رحمه الله- في “الأم” (4/ 92): “لا أرى ضيقا على الرجل أن يحمل على الجماعة حاسرا، أو يبادر الرجل، وإن كان الأغلب أنه مقتول؛ لأنه قد بودر بين يدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وحمل رجل من الأنصار حاسرا على جماعة من المشركين يوم بدر، بعد إعلام النبي – صلى الله عليه وسلم – بما في ذلك من الخير فقتل”. وانظر: “الأوسط” (11/ 306 – 307). وكلام الإمام أحمد في “مسائل صالح” (2/ 469) قال: “قلت: الأسير يجد السيف أو السلاح فيحمل عليهم؛ وهو لا يعلم أنه لا ينجو، أعان على نفسه؟ قال: أما سمعت قول عمر حين سأله الرجل فقال: إن أبي أو خالي ألقى بيده إلى التهلكة؟ فقال عمر: “ذلك اشترى الآخرة بالدنيا”.
وقال أبو داود في “مسائله” (247): “سمعت أحمد بن حنبل يقول: إذا علم أنه يؤسر فليقاتل حتى يقتل أحب إلي”. وقال: “لا يستأسر، الأسر شديد”. وقال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل سئل عن الأسير إذا أسر؛ له أن يقاتلهم؟ قال: “إذا علم أنه يقوى بهم”
وراجع «الموسوعة الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة» (7/ 137)
والصحابة لما فسروا الآية بالنفقة وذكروا سبب للنزول لا يقصدون انحصار الآية في السبب لأن العبرة بعموم الحكم لا بخصوص السبب
لذا ابن عثيمين قسم التهلكة إلى تهلكة حسية ومعنوية
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في تفسير سورة البقرة:
” ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: { ﻭﻻ ﺗﻠﻘﻮا ﺑﺄﻳﺪﻳﻜﻢ ﺇﻟﻰ اﻟﺘﻬﻠﻜﺔ }
ﺑﻌﻀﻬﻢ ﻳﻘﻮﻝ: ﺇﻥ اﻟﺒﺎء ﻫﻨﺎ ﺯاﺋﺪﺓ؛ ﺃﻱ ﻻ ﺗﻠﻘﻮا ﺃﻳﺪﻳﻜﻢ ﺇﻟﻰ اﻟﺘﻬﻠﻜﺔ؛ ﻭاﻟﺼﻮاﺏ ﺃﻧﻬﺎ ﺃﺻﻠﻴﺔ، ﻭﻟﻴﺴﺖ ﺑﺰاﺋﺪﺓ؛ ﻭﻟﻜﻦ ﺿﻤﻨﺖ ﻣﻌﻨﻰ اﻟﻔﻌﻞ «اﻹﻓﻀﺎء» ﺃﻱ ﻻ ﺗﻔﻀﻮا ﺑﺄﻳﺪﻳﻜﻢ ﺇﻟﻰ اﻟﺘﻬﻠﻜﺔ؛ ﻭ{ اﻟﺘﻬﻠﻜﺔ }
: ﻣﻦ اﻟﻬﻼﻙ؛ ﻭاﻟﻤﻌﻨﻰ ﻻ ﺗﻠﻘﻮﻫﺎ ﺇﻟﻰ ﻣﺎ ﻳﻬﻠﻜﻜﻢ، ﻭﻳﺸﻤﻞ اﻟﻬﻼﻙ اﻟﺤﺴﻲ ﻭاﻟﻤﻌﻨﻮﻱ، ﻓﺎﻟﻤﻌﻨﻮﻱ ﻣﺜﻞ ﺃﻥ ﻳﺪﻉ اﻟﺠﻬﺎﺩ ﻓﻲ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﻠﻪ، ﺃﻭ اﻹﻧﻔﺎﻕ ﻓﻴﻪ؛ ﻭاﻟﺤﺴﻲ ﺃﻥ ﻳﻌﺮﺽ ﻧﻔﺴﻪ ﻟﻠﻤﺨﺎﻃﺮ، ﻣﺜﻞ ﺃﻥ ﻳﻠﻘﻲ ﻧﻔﺴﻪ ﻓﻲ ﻧﺎﺭ، ﺃﻭ ﻓﻲ ﻣﺎء ﻳﻐﺮﻗﻪ، ﺃﻭ ﻳﻨﺎﻡ ﺗﺤﺖ ﺟﺪاﺭ ﻣﺎﺋﻞ ﻟﻠﺴﻘﻮﻁ، ﺃﻭ ﻣﺎ ﺃﺷﺒﻪ ﺫﻟﻚ.
ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: { ﻭﺃﺣﺴﻨﻮا }
ﺃﻱ اﻓﻌﻠﻮا اﻹﺣﺴﺎﻥ ﻓﻲ ﻋﺒﺎﺩﺓ اﻟﺨﺎﻟﻖ؛ ﻭﻓﻲ ﻣﻌﺎﻣﻠﺔ اﻟﻤﺨﻠﻮﻕ؛ ﺃﻣﺎ اﻹﺣﺴﺎﻥ ﻓﻲ ﻋﺒﺎﺩﺓ اﻟﺨﺎﻟﻖ ﻓﻘﺪ ﻓﺴﺮﻩ اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﺑﻘﻮﻟﻪ: «ﺃﻥ ﺗﻌﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﻛﺄﻧﻚ ﺗﺮاﻩ ﻓﺈﻥ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﺗﺮاﻩ ﻓﺈﻧﻪ ﻳﺮاﻙ»؛ ﻭﺃﻣﺎ اﻹﺣﺴﺎﻥ ﻓﻲ ﻣﻌﺎﻣﻠﺔ اﻟﺨﻠﻖ: ﻓﺄﻥ ﺗﻌﺎﻣﻠﻬﻢ ﺑﻤﺎ ﺗﺤﺐ ﺃﻥ ﻳﻌﺎﻣﻠﻮﻙ ﺑﻪ ﻣﻦ ﺑﺬﻝ اﻟﻤﻌﺮﻭﻑ، ﻭﻛﻒ اﻷﺫﻯ.
ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: { ﺇﻥ اﻟﻠﻪ ﻳﺤﺐ اﻟﻤﺤﺴﻨﻴﻦ }
ﺗﻌﻠﻴﻞ ﻟﻷﻣﺮ ﺑﺎﻹﺣﺴﺎﻥ؛ ﻭﻟﻮ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻣﻦ اﻹﺣﺴﺎﻥ ﺇﻻ ﻫﺬا ﻟﻜﺎﻥ ﻛﺎﻓﻴﺎ ﻟﻠﻤﺆﻣﻦ ﺃﻥ ﻳﻘﻮﻡ ﺑﺎﻹﺣﺴﺎﻥ.
اﻟﻔﻮاﺋﺪ:
ــــ ﻣﻦ ﻓﻮاﺋﺪ اﻵﻳﺔ
ــــ ﻭﻣﻨﻬﺎ: اﻹﺷﺎﺭﺓ ﺇﻟﻰ اﻹﺧﻼﺹ ﻓﻲ اﻟﻌﻤﻞ؛ ﻟﻘﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: { ﻓﻲ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﻠﻪ }
؛ ﻭﻳﺪﺧﻞ ﻓﻲ ﻫﺬا: اﻟﻘﺼﺪ، ﻭاﻟﺘﻨﻔﻴﺬ ــــ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ اﻟﻘﺼﺪ ﻟﻠﻪ ــــ، ﻭﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ اﻟﺘﻨﻔﻴﺬ ﻋﻠﻰ ﺣﺴﺐ ﺷﺮﻳﻌﺔ اﻟﻠﻪ، ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻝ ﺗﻌﺎﻟﻰ: {ﻭاﻟﺬﻳﻦ ﺇﺫا ﺃﻧﻔﻘﻮا ﻟﻢ ﻳﺴﺮﻓﻮا ﻭﻟﻢ ﻳﻘﺘﺮﻭا ﻭﻛﺎﻥ ﺑﻴﻦ ﺫﻟﻚ ﻗﻮاﻣﺎ} [ اﻟﻔﺮﻗﺎﻥ: 67] .
ــــ ﻭﻣﻨﻬﺎ: ﺗﺤﺮﻳﻢ اﻹﻟﻘﺎء ﺑﺎﻟﻴﺪ ﺇﻟﻰ اﻟﺘﻬﻠﻜﺔ؛ ﻟﻘﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: { ﻭﻻ ﺗﻠﻘﻮا ﺑﺄﻳﺪﻳﻜﻢ ﺇﻟﻰ اﻟﺘﻬﻠﻜﺔ }
؛ ﻭاﻹﻟﻘﺎء ﺑﺎﻟﻴﺪ ﺇﻟﻰ اﻟﺘﻬﻠﻜﺔ ﻳﺸﻤﻞ اﻟﺘﻔﺮﻳﻂ ﻓﻲ اﻟﻮاﺟﺐ، ﻭﻓﻌﻞ اﻟﻤﺤﺮﻡ؛ ﺃﻭ ﺑﻌﺒﺎﺭﺓ ﺃﻋﻢ: ﻳﺘﻨﺎﻭﻝ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻓﻴﻪ ﻫﻼﻙ اﻹﻧﺴﺎﻥ، ﻭﺧﻄﺮ ﻓﻲ ﺩﻳﻨﻪ، ﺃﻭ ﺩﻧﻴﺎﻩ.
ــــ ﻭﻣﻨﻬﺎ: ﺃﻥ ﻣﺎ ﻛﺎﻥ ﺳﺒﺒﺎ ﻟﻠﻀﺮﺭ ﻓﺈﻧﻪ ﻣﻨﻬﻲ ﻋﻨﻪ؛ ﻭﻣﻦ ﺃﺟﻞ ﻫﺬﻩ اﻟﻘﺎﻋﺪﺓ ﻋﺮﻓﻨﺎ ﺃﻥ اﻟﺪﺧﺎﻥ ﺣﺮاﻡ؛ ﻷﻧﻪ ﻳﻀﺮ ﺑﺎﺗﻔﺎﻕ اﻷﻃﺒﺎء، ﻛﻤﺎ ﺃﻥ ﻓﻴﻪ ﺿﻴﺎﻋﺎ ﻟﻠﻤﺎﻝ ﺃﻳﻀﺎ؛ ﻭﻗﺪ ﻧﻬﻰ (صلى الله عليه وسلم) ﻋﻦ ﺇﺿﺎﻋﺔ اﻟﻤﺎﻝ
ثم ذكر الشيخ ابن عثيمين فوائد حول فضيلة الإنفاق في الجهاد والإحسان وإثبات صفة المحبة لله
وذكر الألباني في الصحيحة ١٢ أن الركون إلى الزرع المنهي عنه؛ إنما هو الاستكثار للجمع بين النصوص . وقال إن حديث ابن مسعود يوضحه . ولفظه : نهى عن التبقر في الأهل والمال . والتبقر هو التكثر
فائدة :
* مما ورد في ذم البخل:
قوله تبارك وتعالى:وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [آل عمران: 180].
وقال تعالى: وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا [النساء: 36-37].
قال ابن تيمية: (قَدْ تُؤُوِّلَتْ في البُخْل بالمال والمنع والبخل بالعلم ونحوه، وهي تَعُمُّ البخل بكلِّ ما ينفع في الدِّين والدُّنيا مِن علم ومال وغير ذلك) ((مجموع الفتاوى)) (14/212)..