128 لطائف التفسير والمعاني
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا)
——-‘——‘——–‘
——-‘——-‘——-‘
——-‘——-‘——-‘
لطيفة:
تساق القصص القرآنية للتحذير أو الاقتداء لذلك تختم بألفاظ فيها عموم وهي المقصودة من سوق القصة
قال ابن عاشور: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ
.. وقوله: {ولا تَتَّبِعِ الهوى} معطوف على التفريع، ولعله المقصود من التفريع. وإنما تقدم عليه أمره بالحكم بالحق ليكون توطئة للنهي عن اتباع الهوى سَدًّا لذريعة الوقوع في خطأ الحق فإن داود ممن حكم بالحق فأمره به باعتبار المستقبل. والتعريف في {الهوى} تعريف الجنس المفيد للاستغراق، فالنهي يعمّ كل ما هو هوى، سواء كان هوى المخاطب أو هوى غيره مثل هوى زوجه وولده وسيده، وصديقه، أو هوى الجمهور: {قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون} [الأعراف: 138].
ومعنى الهوى: المحبة، وأطلق على الشيء المحبوب مبالغة، أي ولو كان هوى شديداً تعلقُ النفس به. والهوى: كناية عن الباطل والجور والظلم لِما هو متعارف من الملازمة بين هذه الأمور وبين هوى النفوس، فإن العدل والإنصاف ثقيل على النفوس فلا تهواه غالباً، ومن صارت له محبة الحق سجية فقد أوتي العلم والحكمة وأيّد بالحِفظ أو العصمة.
والنهي عن اتباع الهوى تحذير له وإيقاظ ليحذّر من جراء الهوى ويتّهم هوى نفسه ويتعقبه فلا ينقاد إليه فيما يدعوه إليه إلا بعد التأمل والتثبت، وقد قال سهل بن حُنيْف رضي الله عنه: «اتهموا الرَّأي»، ذلك أن هوى النفس يكون في الأمور السهلة عليها الرائقة عندها ومعظم الكمالات صعبة على النفس لأنها ترجع إلى تهذيب النفس والارتقاء بها عن حضيض الحيوانية إلى أوج المَلكية، ففي جميعها أو معظمها صرف للنفس عما لاصَقَها من الرغائب الجسمانية الراجع أكثرها إلى طبع الحيوانية لأنها إما مدعوة لِداعي الشهوة أو داعي الغضب فالاسترسال في اتباعها وقوع في الرذائل في الغالب، ولهذا جُعل هنا الضلال عن سبيل الله مسبباً على اتباع الهوى، وهو تسبب أغلبي عرفي، فشبه الهوى بسائرٍ في طريق مهلكة على طريقة المكنية ورمز إليه بلازم ذلك وهو الإضلال عن طريق الرشاد المعبر عنه بسبيل الله، فإن الذي يتبع سائراً غيرَ عَارف بطريق المنازل النافعة لا يلبث أن يجد نفسه وإياه في مهلكة أو مَقطعة طريق.
واتّباع الهوى قد يكون اختياراً، وقد يكون كرهاً. والنهي عن اتباعه يقتضي النهي عن جميع أنواعه؛ فأما الاتّباع الاختياري فالحذر منه ظاهر، وأما الاتباع الاضطراري فالتخلص منه بالانسحاب عما جرّه إلى الإِكراه، ولذلك اشترط العلماء في الخليفة شروطاً كلّها تحوم حول الحيلولة بينه وبين اتباع الهوى وما يوازيه من الوقوع في الباطل، وهي: التكليف، والحُرّية، والعدالة، والذكورة، وأما شرط كونه من قريش عند الجمهور فلئلا يضعف أمام القبائل بغضاضة.
وانتصب {فَيُضِلَّكَ} بعد فاء السببية في جواب النهي. ومعنى جواب النهي جواب المنهي عنه فهو السبب في الضلال وليس النهي سبباً في الضلال. وهذا بخلاف طريقة الجزم في جواب النهي.
و {سبيل الله}: الأعمال التي تحصُل منها مرضاته وهي الأعمال التي أمر الله بها ووعد بالجزاء عليها، شُبّهت بالطريق الموصل إلى الله، أي إلى مرضاته. وجملة: {إنَّ الذين يضلون عن سبيل الله} إلى آخرها يظهر أنها مما خاطب الله به داود، وهي عند أصحاب العدد آية واحدة من قوله: {ياداود إنَّا جعلناك خليفة في الأرض} إلى {يومَ الحِسَابِ}، فهي في موقع العلة للنهي، فكانت (إنّ) مغنية عن فاء التسبب والترتب، فالشيء الذي يفضي إلى العذاب الشديد خليق بأن يُنهى عنه، وإن كانت الجملة كلاماً منفصلاً عن خطاب داود كانت معترضة ومستأنفة استئنافاً بيانياً لبيان خطر الضلال عن سبيل الله.
والعموم الذي في قوله {الذين يضلون عن سبيل الله} يُكسب الجملة وصف التذييل أيضاً وكلا الاعتبارين موجب لعدم عطفها. وجيء بالموصول للإِيماء إلى أن الصلة علة لاستحقاق العذاب. واللام في {لهُم عَذَابٌ} للاختصاص، والباء في {بِما نسُوا يومَ الحِسَابِ} سببية.
و (ما) مصدرية، أي بسبب نسيانهم يوم الحساب، وتتعلق الباء بالاستقرار الذي ناب عنه المجرور في قوله: {لَهُم عَذَابٌ}.
والنسيان: مستعار للإِعراض الشديد لأنه يشبه نسيان المعرض عنه كما في قوله تعالى: {نسوا الله فنسيهم} [التوبة: 67]، وهو مراتب أشدها إنكار البعث والجزاء، قال تعالى: {فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم} [السجدة: 14]. ودونه مراتب كثيرة تكون على وفق مراتب العذاب لأنه إذا كان السبب ذا مراتب كانت المسببات تبعاً لذلك.
والمراد ب {يَوْمَ الحسابِ} ما يقع فيه من الجزاء على الخير والشر، فهو في المعنى على تقدير مضاف، أي جزاء يوم الحساب على حدّ قوله تعالى: {ونسي ما قدمت يداه} [الكهف: 57]، أي لم يفكر في عاقبة ما يقدمه من الأعمال. وفي جعل الضلال عن سبيل الله ونسيان يوم الحساب سببين لاستحقاق العذاب الشديد تنبيه على تلازمهما فإن الضلال عن سبيل الله يفضي إلى الإِعراض عن مراقبة الجزاء. وترجمة داود تقدمت عند قوله تعالى: {ومن ذريته داود} في [الأنعام: 84] وقوله: {وآتينا داود زبوراً} في [النساء: 163].