(1250) (مكرر بتوسع) فتح الاحد الصمد شرح الصحيح المسند
مجموعة: عبد الله المشجري، وعبد الله الديني
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا).
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
قال الإمام الوادعي رحمه الله في الصحيح المسند [2/ رقم (1250)]:
مسند أبي هريرة رضي الله عنه
قال الإمام النسائي رحمه الله (ج (2) ص (167)): أخبرنا عبيد الله بن سعيد قال حدثنا عبد الله بن الحارث عن الضحاك بن عثمان عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن سليمان بن يسار عن أبي هريرة، قال: ما صليت وراء أحد أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من فلان، فصلينا وراء ذلك الإنسان، وكان يطيل الأوليين من الظهر، ويخفف في الأخريين، ويخفف في العصر، ويقرأ في المغرب بقصار المفصل، ويقرأ في العشاء بالشمس وضحاها، وأشباهها، ويقرأ في الصبح بسورتين طويلتين.
قال الشيخ مقبل الوادعي رحمه اللهُ: هذا حديث حسنٌ.
* قال الإمام النسائي رحمه الله (ج (2) ص (167)): أخبرنا هارون بن عبد الله قال حدثنا ابن أبي فديك عن الضحاك بن عثمان عن بكير بن عبد الله عن سليمان بن يسار، عن أبي هريرة قال: ما صليت وراء أحد أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من فلان. قال سليمان: كان يطيل الركعتين الأوليين من الظهر، ويخفف الأخريين، ويخفف العصر، ويقرأ في المغرب بقصار المفصل، ويقرأ في العشاء بوسط المفصل، ويقرأ في الصبح بطوال المفصل.
قال الشيخ مقبل الوادعي رحمه اللهُ: هذا حديث حسنٌ.
* وقال الإمام أحمد رحمه الله ((7978)): حدثنا محمد بن إسماعيل بن [ص (305)] أبي فديك حدثنا الضحاك بن عثمان عن بكير بن عبد الله عن سليمان بن يسار عن أبي هريرة أنه قال: ما صليت وراء أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من فلان. قال سليمان: كان يطيل الركعتين الأوليين من الظهر ويخفف الأخريين، ويخفف العصر، ويقرأ في المغرب بقصار المفصل، ويقرأ في العشاء بوسط المفصل، ويقرأ في الصبح بطوال المفصل.
قال الشيخ مقبل الوادعي رحمه اللهُ: هذا حديث حسن، رجاله رجال الصحيح.
———————-
الحديث سيكون من وجوه:
أولًا: عدد الأحاديث في مسند أبي هريرة ((203)) حديثًا.
ثانيًا: ما يتعلق بسند الحديث:
* هذا الحديث له شاهد في البخاري ومسلم، عن جابر بن سمرة: قال عمر لسعد رضي الله عنهم: (شكاكَ الناس في كل شيء حتى في الصلاة) فقال سعد: (أما أنا فأمُدُّ في الأوليين وأحذف في الأخريين، ولا آلو ما اقتديت به من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم) فقال عمر: (ذاك الظن بك أو ظني بك).
* الرواية الأولى والثانية التي في الباب صححها العلاَّمة الألباني في صحيح النسائي «(983)» و «(982)»
وأما الرواية التي مسند أحمد: قال محققو المسند ((13) / (371)) إسناده قوي على شرط مسلم، رجاله ثقات رجال الشيخين غير الضحاك بن عثمان فمن رجال مسلم وهو صدوق.
* ومن الأحاديث التي يتحدث عنها أهل العلم في الباب، وقد أوردهما الحافظ في بلوغ المرام:
” (275) – وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: «كان رسول الله ? يصلي بنا، فيقرأ في الظهر والعصر -في الركعتين الأوليين- بفاتحة الكتاب وسورتين، ويسمعنا الآية أحيانًا، ويطول الركعة الأولى، ويقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب». متفق عليه.
(276) – وعن أبي سعيد الخدري رضي اله عنه قال: «كنا نحرز قيام رسول الله ? في الظهر والعصر، فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر: {الّم ((1)) تَنزِيلُ} السجدة، وفي الأخريين قدر النصف من ذلك، وفي الأوليين من العصر على قدر الأخريين من الظهر، والأخريين على النصف من ذلك». رواه مسلم”.
* والحديث أورده الإمام الوادعي في الجامع: (4) – كتاب الصلاة، (72) – صفة الصلاة، ((912)).
ومنه أيضًا في (96) – القراءة في المغرب والعشاء والفجر، ((950)).
ثالثًا: معنى الحديث وفقهه:
* قوله: (ما صليتُ وراء أحدٍ أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من فلان)
رجَّح الأثيوبي أنّ المقصود به هو عمر بن عبدالعزيز رحمه الله.
ويدل لذلك ما جاء في رواية في مسند أحمد «(102)) / ((14)»: (من فلانٍ لإمام كان بالمدينة)
وفي رواية: قال الضحاك: وحدثني من سمع أنس بن مالك، يقول: وما رأيت أحدًا أشبه صلاةً بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى – يعني: عمر بن عبدالعزيز -، قال الضحاك: فصليتُ خلف عمر بن عبدالعزيز وكان يصنع مثل ما قال سليمان بن يسار.
* قوله: ((وكان يطيل الأوليين من الظهر، ويخفف في الأخريين)).
وجاء في صحيح مسلم عَنْ أبِي قَتادَةَ رضي الله عنه ((وكانَ يُطَوِّلُ الرَّكْعَةَ الأُولى مِنَ الظُّهْرِ، ويُقَصِّرُ الثّانِيَةَ))، “وإنما طوّل في الأولى؛ إعانةً للناس على إدراك صلاة الجماعة كاملةً بإدراك الركعة الأولى؛ امتثالًا لقوله تعالى: {وتَعاوَنُوا عَلى البِرِّ والتَّقْوى} [المائدة (2)] الآية.
ويؤيّد هذا ما رَواه عبد الرزاق، عن معمر، عن يحيى في آخر هذا الحديث: «فظننا أنه يريد بذلك أن يُدرِك الناس الركعة»، ولأبي داود، وابن خزيمة نحوه، من رواية أبي خالد، عن سفيان، عن معمر.
ورَوى عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: إني لأحب أن يُطَوِّل الإمام الركعة الأولى من كل صلاة، حتى يكثر الناس.
وقال الشيخ تقيّ الدين -رَحِمَهُ اللَّهُ-: كأن السبب في ذلك أن النشاط في الأولى يكون أكثر، فناسب التخفيف في الثانية حذرًا من الملل. انتهى.
[ورواية مسلم] يدلّ على استحباب تطويل الأولى على الثانية، ولا يعارضه حديث سعد بن أبي وقّاص -رضي اللَّه عنه-[في مسلم] حيث قال: «أمُدّ في الأوليين»؛ لأن المراد تطويلهما على الأخريين، لا التسوية بينهما في الطول، وقال مَن استحبّ استواءهما: إنما طالت الأولى بدعاء الافتتاح والتعوذ، وأما في القراءة فهما سواء.
لكن يعارض ما ذكر في حديث أبي سعيد -رضي اللَّه عنه-: «كان يقرأ في الظهر في الأوليين، في كل ركعة قدر ثلاثين آية»، وفي رواية لابن ماجه: أن الذين حَزَرُوا ذلك كانوا ثلاثين من الصحابة، فإنه ظاهر في استواء الأوليين.
وقد جمع ابنُ حبان: بأن الأولى إنما طالت على الثانية بالزيادة في الترتيل فيها، مع استواء المقروء فيهما. انتهى.
قال الإتيوبي عفا اللَّه عنه: ما قاله ابن حبّان -رَحِمَهُ اللَّهُ- هو الوجه عندي في الجمع بين حديث أبي قتادة، وحديث أبي سعيد المذكور، وإلا فالتعارض حاصل، اللهم إلا أن يُحْمَل على أوقات مختلفة، لكن الأول هو الظاهر.
ومما يؤيّد ما قاله ابن حبّان ما رواه [مسلم] من حديث حفصة -رضي اللَّه عنها- أنه ? «كان يُرَتِّل السورة حتى تكون أطول من أطول منها»، واللَّه تعالى أعلم.
قال الإمام ابن حبّان -رَحِمَهُ اللَّهُ- في «صحيحه» -بعد إخراجه الحديث بلفظ: «فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين قدر ثلاثين آيةً» – ما نصّه: قول أبي سعيد -رَحِمَهُ اللَّهُ-: «فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين قدر ثلاثين آية» يُضادّ في الظاهر قول أبي قتادة -رضي اللَّه عنه-: «ويطيل في الأولى، ويقصر في الثانية»، وليس بحمد اللَّه ومَنِّهِ كذلك؛ لأن الركعة الأولى كان يقرأ ? فيها ثلاثين آية بالترسيل والترتيل والترجيع، والركعة الثانية كان يقرأ فيها مثل قراءته في الأولى بلا ترسيل ولا ترجيع، فتكون القراءتان واحدة، والأولى أطول من الثانية. انتهى. [«الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان» (5) / (167) – (168)].
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في الجمع بين حديث أبي قتادة وأبي سعيد رضي الله عنهما: أن طول القراءة بالركعتين الأوليين على حد سواء؛ لأنه قال: في الركعتين الأوليين قدر {الّم ((1)) تَنزِيلُ} السجدة، وهذا يعارض حديث أبي قتادة؛ لأن حديث أبي قتادة: «كان يطول في الأولى ويقصر في الثانية» فبأيهما نأخذ؟ هل نأخذ بما يدل عليه حديث أبي قتادة؛ لأنه يقين، ما قال: إنه ظن، بل جزم به فهو متيقن له، ونقول: إن الخرص قد يخطئ، فقد يظن الظان أن الثانية كالأولى وهي أقل منها وهذا وارد، أو نقول: يمكن الجمع بين الحديثين، فالأغلب أن النبي ? كان يجعل الأولى أطول من الثانية، وأحيانًا تكون الأولى والثانية متساويتين، فيكون يفعل هذا أحيانًا وهذا أحيانًا، أحيانًا تكون الثانية أطول من الأولى كما في سورتي الجمعة والمنافقون، أو سبح والغاشية، أيهما أطول الجمعة والمنافقون أو سبح والغاشية؟ إذن نقول: الغالب من فعل النبي ? أنه يجعل الركعة الأولى أطول من الثانية وربما جعلهما متساويتين، وربما زاد في الركعة الثانية على الأولى، لكن لا تكون زيادة الثانية على الأولى زيادة بينة كزيادة النصف مثلًا بل زيادة يسيرة بل قال بعض أهل العلم: نقدم حديث أبي قتادة، وعلل ذلك بأن حديث أبي قتادة مبني على يقين، وحديث أبي سعيد مبني على ظن، والظان قد يتوهم، وأيضًا حديث أبي سعيد انفرد به مسلم، وحديث أبي قتادة أخرجه الشيخان، فهو أقوى سندًا وأقوى دلالة، وعلى هذا حكم أصحابنا فقهاء الحنابلة – رحمهم الله – في هذه المسألة، وقالوا: إنه يطيل في الأولى ويقصر في الثانية بدون تفصيل، والأمر في هذا واسع – والحمد لله – إذا زاد إذا تساوت الركعتان، وإن طالت الأولى فهو المفضل لما ذكرنا من الوجهين من حيث الثبوت ومن حيث الدلالة. [فتح ذي الجلال والإكرام ط المكتبة الإسلامية (2/ 87)].
[تنبيه]: لم يقع في حديث أبي قتادة -رضي اللَّه عنه- ذكر القراءة في الأخريين، فتمسك به بعض الحنفية على إسقاطها فيهما، وهذا استدلال باطلٌ؛ لأنه ثبت في حديثه في التي فيها: «ويقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب».
والحاصل أن القراءة في كلّ ركعة فرض، كما تقدّم تحقيقه في محلّه، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. [البحر المحيط الثجاج، بتصرف يسير].
* قوله: ( … ويقرأ في الصبح بسورتين)، سُمّيت السورة سورةً؛ لانفصالها عن أختها، وقيل: لشرفها وارتفاعها، كما يقال لما ارتفع من الأرض: سورة، وقيل: لأنها قطعة من القرآن، فعلى هذا يكون أصلها الهمز، ثم خُفّفت، وأُبدلت واوًا؛ لضمّ ما قبلها، وقيل: لتمامها وكمالها، من قولهم للناقة التامّة: سورة، قاله ابن الملقّن [«الإعلام بفوائد عمدة الأحكام» (3) / (193)]،
وجمع السُّورة سُوَر بفتح الواو، مثل غُرْفة وغُرَف، ويجمع على سُورات بضمّ، فسكون، وسُوَرات بضم، ففتح. [راجع: «المصباح» (1) / (295)، و «الإعلام» (3) / (193)]. [البحر المحيط الثجاج].
رابعًا: وأما عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في القراءة في الصلوات الخمس فهي كالتالي:
*القراءة في «صلاة الظهر والعصر»
فقد دل حديث الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطيل في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر ويخفف في الأخريين، ويخفف القراءة في صلاة العصر.
وجاء في صحيح مسلم ((460)) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الظهر بسبح اسم ربك الأعلى وفي العصر نحو ذلك.
وورد بسند حسن عن جابر بن سمرة عند الترمذي ((307)) أنه كان يقرأ في الظهر والعصر {والسماء ذات البروج} و {والسماء والطارق} وشبههما.
وجاء في الصحيح المسند ((71)) عن أنس أنه كان يقرأ في الظهر والعصر ب {سبح اسم ربك الأعلى} و {هل أتاك حديث الغاشية}
وورد أيضًا في الصحيح المسند ((140)) عن البراء قال: كنا نصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم الظهر، فنسمع منه الآيات من سورة لقمان والذاريات.
وورد في مسلم ((452)) أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وفي الأخريين قدر خمسة عشر آية أو قال: نصف ذلك، وفي العصر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر قراءة خمس عشر آية، وفي الأخريين قدر نصف ذلك) وفي رواية قدر (الم) السجدة بدل ثلاثين آية.
لذا قال بعض الباحثين: الأولى فعلُ هذا مرة وهذا مرة حتى يصيب السنة.
وقد تبين من الأحاديث السابقة أن القراءة في صلاة العصر على النصف من صلاة الظهر.
* القراءة في «صلاة المغرب»
قال ابن رجب: (أكثر العلماء على استحباب التقصير)
وحكى الترمذي أن العمل عند أهل العلم على قراءة قصار المفصَّل في صلاة المغرب.
ويدل لذلك حديث الباب.
وحديث أبي هريرة المتفق عليه (كنا نصلي المغرب مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم ينصرف أحدنا وإنه ليبصر مواقع نبله)
أما ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة المغرب بطولى الطوليين الأعراف، وبحديث جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بالطور، وحديث أم الفضل أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ فيها بالمرسلات.
فإنه يحمل على أنه كان يفعل ذلك أحيانًا وإلا فتقصير القراءة فيها أفضل، ولا يشق فيها على المأمومين.
* القراءة في «صلاة العشاء»
فالجمهور على استحباب القراءة فيها بوسط المفصل.
لحديث الباب.
وحديث معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ((إذا أممتَ الناس، فاقرأ {والشمس وضحاها} و {سبح اسم ربك الأعلى} و {والليل إذا يغشى}.
* القراءة في «صلاة الفجر»
يدل حديث الباب أنه يُستحب تطويل القراءة في صلاة الفجر، وأن يُقرأ فيها بطوال المفصَّل.
ولحديث أبي برزة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر بالستين إلى المائة. [فتح العلام].
خامسًا: مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في ما قاله أهل العلم في توجيه اختلاف صلاة النبيّ ? تطويلًا وتخفيفًا:
قالوا: كانت صلاة رسول اللَّه ? تختلف في الإطالة والتخفيف باختلاف الأحوال، فإذا كان المأمومون يؤثرون التطويل، ولا شغل هناك له، ولا لهم طَوَّل، وإذا لم يكن كذلك خَفَّف، وقد يريد الإطالة، ثم يَعْرِض ما يقتضي التخفيف، كبكاء الصبي ونحوه، وينضم إلى هذا أنه قد يدخل في الصلاة في أثناء الوقت فيخفف،
وقيل: إنما طوّل في بعض الأوقات، وهو الأقل، وخَفَّف في معظمها، فالإطالة لبيان جوازها، والتخفيف؛ لأنه الأفضل، وقد أمر ? بالتخفيف، وقال: «إن منكم منفِّرين، فأيكم صلّى بالناس فليخفف، فإن فيهم السقيم والضعيف، وذا الحاجة»،
وقيل: طَوَّل في وقت، وخفف في وقت؛ ليبيّن أن القراءة فيما زاد على الفاتحة لا تقدير فيها من حيث الاشتراط، بل يجوز قليلها وكثيرها، وإنما المشترط الفاتحة، ولهذا اتفقت الروايات عليها، واختَلَفت فيما زاد.
وعلى الجملة: السنّة التخفيف كما أمر به النبيّ ? للعلة التي بَيَّنَها، وإنما طَوَّل في بعض الأوقات؛ لتحققه انتفاء العلة، فإن تحقق أحدٌ انتفاء العلة طَوَّل، ذكره النوويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. [البحر المحيط الثجاج].
(المسألة الثانية): قال النوويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: قد اختَلَف العلماء في استحباب قراءة السورة في الأخريين من الرباعية، والثالثة من المغرب،
فقيل بالاستحباب وبعدمه، وهما قولان للشافعيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-. قال الشافعيّ: ولو أدرك المسبوق الأخريين أتى بالسورة في الباقيتين عليه؛ لئلا تخلو صلاته من سورة.
* وأما اختلاف قدر القراءة في الصلوات فهو عند العلماء على ظاهره، قالوا:
فالسنّة أن يقرأ في الصبح والظهر بطوال المفصل، وتكون الصبح أطول، وفي العشاء والعصر بأوساطه، وفي المغرب بقصاره،
* قالوا: والحكمة في إطالة الصبح والظهر أنهما في وقت غفلة بالنوم آخر الليل، وفي القائلة، فيُطَوِّلهما ليدركهما المتأخر بغفلة ونحوها،
والعصر ليست كذلك، بل تفعل في وقت تَعَب أهل الأعمال، فخُفِّفت عن ذلك،
والمغرب ضيقة الوقت فاحتيج إلى زيادة تخفيفها لذلك، ولحاجة الناس إلى عَشاء صائمهم وضيفهم،
والعِشاء في وقت غلبة النوم والنعاس، ولكن وقتها واسع، فأشبهت العصر، واللَّه تعالى أعلم. انتهى كلام النوويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-، وهو بحثٌ نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. [البحر المحيط الثجاج].
وفي رواية لمسلم رحمه الله: (ويَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُخْرَيَيْنِ بِفاتِحَةِ الكِتابِ) قال القرطبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: هذا الحديث حجة لمالك على صحّة مذهبه في اشتراط قراءة الفاتحة في كلّ ركعة، وعلى قراءة سورتين مع الفاتحة في الركعتين الأوليين، وأن ما بقي من الصلاة لا يُقرأ فيه إلا بالفاتحة خاصّة، وقد تمسّك الشافعيّ في أنه يقرأ فيما بقي بسورة مع الفاتحة بحديث أبي سعيد، ووجه تمسّكه قوله: إنه قرأ في الركعتين الأوليين قدر ثلاثين آية، وفي الأخريين قدر نصف ذلك، والفاتحة إنما هي سبع آيات، لا خمس عشرة، فكان يزيد سورةً.
قال: وهذا لا حجة فيه، فإنه تقدير وتخمين من أبي سعيد، ولعلّه ? كان يمدّ في قراءة الفاتحة حتى يقدّر بذلك، وهذا الاحتمال غير مدفوع، وقد جاء عنه ? أنه كان يرتّل السورة حتى تكون أطول من أطول منها، وهذا يشهد بصحّة هذا التأويل، وحديث أبي قتادة نصّ، فهو أولى.
قال الإتيوبي عفا اللَّه عنه: ما قاله الشافعيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- من جواز قراءة السورة بعد الفاتحة في الأخريين هو ظاهر الأحاديث، ولا تعارض بينه وبين حديث أبي قتادة؛ لإمكان الجمع بينهما باختلاف الأوقات.
ومما يؤيّد ما قاله الشافعيّ: حديث المسيء صلاته، حيث أمره النبيّ ? بأن يقرأ بأم القرآن، وبما تيسّر، ثم قال له: «وافعل ذلك في صلاتك كلّها»، ففيه بيان أن زيادة ما تيسّر على الفاتحة يعمّ الأخريين.
قال: وما ورد في كتاب مسلم وغيره من الإطالة فيما استقرّ فيه التقصير، أو التقصير فيما استقرّت فيه الإطالة، كقراءته في الفجر بالمعوّذتين، كما رواه النسائيّ، وكقراءة الأعراف، والمرسلات في المغرب، فمتروك،
أما التطويل فبإنكاره على معاذ، وبأمره الأئمة بالتخفيف، ولعل ذلك منه ? حيث لم يكن خلفه من يشقّ عليه القيام، وعَلِمَ ذلك، أو كان منه ذلك متقدّمًا حتى خفّف، وأمر الأئمة بالتخفيف، كما قال جابر بن سَمُرة: وكانت صلاته بعدُ تخفيفًا.
ويَحْتَمِلُ أن يكون فعل ذلك في أوقات ليبيّن جواز ذلك بحسب اختلاف الأوقات من السعة والضيق، وقد استقرّ عمل أهل المدينة على استحباب إطالة القراءة في الصبح قدرًا لا يضرّ من خلفه بقراءتها بطوال المفصّل، ويليها في ذلك الظهر، والجمعة، وتخفيف القراءة في المغرب، وتوسيطها في العصر والعشاء،
وقد قيل في العصر: إنها تُخفّف كالمغرب، وتطويله ? في الركعة الأولى إنما كان ليدرك الناس الركعة الأولى، رواه أبو داود من حديث أبي قتادة -رضي اللَّه عنه-، وعن ابن أبي أوفى أنه ? كان يقوم في الركعة الأولى حتى لا يسمع وقع الأقدام، يعني حتى يتكامل الناس، ويجتمعوا، وعلى هذا يُحمَل حديث أبي سعيد: أنه كان يطوِّل الركعة الأولى من الظهر، بحيث يذهب الذاهب إلى البقيع، فيقضي حاجته، ثم يأتي النبي ?، وهو فيها، وذلك -واللَّه أعلم- لتوالي دخول الناس.
قال: ولا حجة للشافعيّ في هذا الحديث على تطويل الإمام؛ لأجل الداخل؛ لأن ما ذُكر ليس تعليلًا لتطويل الأولى، وإنما هي حكمته، ولا يُعلّل بالحكمة؛ لخفائها، أو لعدم انضباطها [«المفهم» (2) / (73) – (74)].
قال الإتيوبي عفا اللَّه عنه: قد تقدّم حديث أبي قتادة عند ابن حبّان بلفظ: «كنا نرى أنه يفعل ذلك ليتدارك الناس»، فهذا تعليلٌ واضح من الصحابيّ، فما قاله الشافعيّ هو الأرجح، فتأمل، واللَّه تعالى أعلم. [البحر المحيط الثجاج، بتصرف يسير].
(المسألة الثالثة): فوائد الباب بمجموع رواياته:
1 – (ومنها): ما كان عليه الصحابة -رضي اللَّه عنهم- من شدّة الحرص على معرفة مقدار صلاة النبيّ ? حتى يتّبعوه عليها، ويُبلّغوا ذلك من بعدهم من الأمّة.
2 – (ومنها): بيان استحباب تطويل الركعة الأولى على الثانية.
3 – (ومنها): استحباب تطويل الركعتين الأوليين، وقصر الأخريين في كلّ من الظهر والعصر.
[قال شيخ الإسلام: ويستحب أن يمد الأوليين، ويحذف في الأخريين؛ لهذا الخبر، وعامة فقهاء الحديث على هذا].
4 – (منها): بيان مشروعيّة القراءة في صلاة الظهر والعصر.
5 – (ومنها): بيان كون عدد ركعات صلاة الظهر والعصر أربعًا في الحضر.
6 – (ومنها): بيان عدم مشروعيّة الجهر في الظهر والعصر؛ لقوله: «كنا نحزِر»؛ فإنهم ما قدّروا ذلك إلا لعدم سماعهم لقراءته لكونه لا يجهر.
[وقد بوب الوادعي رحمه الله في جامعه: باب ” (91) – ابن عباس لا يعلم أن النبي ? يقرأ في السرية”، وأورد فيه حديث ((942)): عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لا أدري أكان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقرأ في الظهر والعصر أم لا].
7 – (ومنها): استحباب كون صلاة العصر على النصف من صلاة الظهر.
قيل: الحكمة في كون العصر على النصف من الظهر كون صلاة الظهر تُفعَل في وقت الغفلة بنوم القائلة، فطُوّلت ليدركها المتأخّر بخلاف العصر، فإنها تفعل في وقت تَعَب أهل الأعمال، فخُفّفت لذلك، واللَّه تعالى أعلم.
8 – (ومنها): مشروعيّة قراءة غير الفاتحة في الظهر في الركعتين الأخريين؛ لأن الفاتحة سبع آيات، وهو ? كان يقوم قدر خمس عشرة آيةً، وهذا هو المذهب الجديد للشافعيّ، وهو الراجح لظاهر هذا الحديث.
9 – (ومنها): كونه لا يقرأ في العصر في الأخريين أكثر من الفاتحة.
10 – (ومنها): أنه استُدِلّ به على جواز الجهر في السرية، وأنه لا سجود سهو على من فعل ذلك؛ خلافًا لمن قال ذلك من الحنفية وغيرهم، سواءٌ قلنا: كان يفعل ذلك عمدًا لبيان الجواز، أو بغير قصد للاستغراق في التدبر.
11 – (ومنها): أن فيه حجةً على من زعم أن الإسرار شرط لصحة الصلاة السرية.
12 – (ومنها): ما قاله ابن دقيق العيد -رَحِمَهُ اللَّهُ-: فيه دليل على جواز الاكتفاء بظاهر الحال في الأخبار، دون التوقف على اليقين؛ لأن الطريق إلى العلم بقراءة السورة في السرية لا يكون إلا بسماع كلها، وإنما يفيد يقين ذلك لو كان في الجهرية، وكأنه مأخوذ من سماع بعضها مع قيام القرينة على قراءة باقيها، ويَحْتَمِل أن يكون الرسول ? كان يُخبرهم عقب الصلاة دائمًا أو غالبًا بقراءة السورتين، وهو بعيد جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.
13 – (ومنها): أنه استُدِلّ به على أن قراءة سورة أفضل من قراءة قدرها من طويلة، قاله النوويّ، وزاد البغويّ: ولو قصرت السورة عن المقروء، كأنه مأخوذ من قوله: «كان يفعل»؛ لأنها تدلّ على الدوام، أو الغالب.
وقال النوويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: فيه دليل لما قاله أصحابنا وغيرهم: إن قراءة سورة قصيرة بكمالها أفضل من قراءة قدرها من طويلة؛ لأن المستحب للقارئ أن يبتدئ من أول الكلام المرتبط، ويقف عند انتهاء المرتبط، وقد يَخْفى الارتباط على أكثر الناس، أو كثير منهم، فنُدِب إلى إكمال السورة؛ ليحترز عن الوقوف دون الارتباط، وأما اختلاف الرواية في السورة في الأخريين، فلعل سببه اختلاف إطالة الصلاة، وتخفيفها بحسب الأحوال. انتهى. [«شرح النوويّ» (4) / (174)].
14 – (ومنها): أنه استَدَلّ به بعض الشافعية على جواز تطويل الإمام في الركوع لأجل الداخل؛ قال القرطبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: ولا حجة فيه؛ لأن الحكمة لا يُعَلَّل بها؛ لخفائها، أو لعدم انضباطها، ولأنه لم يكن يدخل في الصلاة يريد تقصير تلك الركعة، ثم يطيلها لأجل الآتي، وإنما كان يدخل فيها ليأتي بالصلاة على سنتها من تطويل الأولى، فافترق الأصل والفرع فامتنع الإلحاق. انتهى. وقد ذكر البخاريّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- في «جزء القراءة» كلامًا معناه: أنه لم يَرِدْ عن أحد من السلف في انتظار الداخل في الركوع شيء.
قال الإتيوبي عفا اللَّه عنه: انتظار الداخل في الركوع ليس عليه دليلٌ، وغاية ما في هذا الحديث أنه ? كان يطوّل القيام بالقراءة، ليدركه الناس، ففي رواية أبي داود من طريق معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عبد اللَّه بن أبي قتادة، عن أبيه، قال: «فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى»، ولابن خزيمة نحوه، وروى ابن حبّان من طريق سفيان، عن معمر، ولفظه: «كنا نرى ذلك أنه يفعل ليتدارك الناس»، وبوّب عليه ابن حبّان: «باب ذكر السبب الذي من أجله كان يطوّل المصطفى ? في الركعة الأولى». انتهى.
وأخرج أحمد، وأبو داود بسند فيه ضعف، عن عبد اللَّه بن أبي أوفى، أن النبيّ ? كان يقوم في الركعة الأولى من صلاة الظهر، حتى لا يسمع وقْعَ قَدَم. انتهى [ضعيف؛ لإبهام الراوي عن ابن أبي أوفى].
والحاصل أن انتظار الداخل بتطويل القراءة مستحبّ، وأما بالركوع، فلا دليل عليه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
15 – (ومنها): جواز تسمية الصلاة بوقتها، يعني أنه ? كان يطوّل الركعة الأولى من صلاة الصبح، ويقصر الثانية. [البحر المحيط الثجاج، بتصرف].
وفي (توضيح الأحكام من بلوغ المرام) للشيخ عبد الله بن صالح آل بسام (ت (1423)) قال:
16 – (ومنها): وجوب قراءة الفاتحة في ركعات الصلاة كلها.
17 – (ومنها): استحباب قراءة شيء من القرآن بعد الفاتحة، في الركعتين الأوليين من الظهر والعصر، ومثله المغرب والعشاء وصلاة الفجر، وقد أجمع عليه العلماء؛ حيث نقل نقلًا متواترًا.
قال في «الروض المربع وحاشيته»: ويكره الاقتصار على الفاتحة في الصلاة؛ فرضًا كانت أو نفلًا؛ لأنَّه خلاف السنة.
18 – (ومنها): أنّه لا بأس من الجهر ببعض القراءة في السرية، لاسيَّما إذا تعلَّق بذلك مصلحة من تعليم أو تذكير؛ ذلك أنّ النبيَّ ? كان يجهر في بعض الآيات، ولعل الغرض من ذلك بيان الجواز.
[وقد بوب الوادعي رحمه الله في جامعه: باب ” (95) – الجهر في صلاة الظهر بآية أو آيتين”، وأورد فيه حديث ((949)): عَنْ البَراءِ رضي الله عنه، قالَ: كُنّا نُصَلِّي خَلْفَ النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ الظُّهْرَ فَنَسْمَعُ مِنهُ الآيَةَ بَعْدَ الآياتِ مِن سُورَةِ لُقْمانَ والذّارِياتِ].
19 – (ومنها): استحباب الاقتصار على الفاتحة في الركعتين الأُخريين من صلاة العصر والظهر والعشاء، وثالثة المغرب.
20 – (ومنها): القراءة بعد الفاتحة ليست واجبة، فلو اقتصر على الفاتحة أجزأت الصلاة؛ باتفاق العلماء، ولكن يكره الاقتصار على الفاتحة في الصلاة، فرضًا كانت أو نفلًا؛ لأنّه خلاف السنة.
21 – (ومنها): جاء في مسند الإمام أحمد ((11393))، وصحيح مسلم ((452)): «أنّ النبيَّ ? كان يجعل الركعتين الأخريين أقصر من الأوليين قدر النصف».
قال الألباني: ففيه دليل على أنّ الزيادة على الفاتحة في الركعتين الأخريين سُنَّة، وعليه جمعٌ من الصحابة، منهم أبو بكر -رضي الله عنه- وهو قولٌ للإمام الشافعي.
قُلْتُ-أي الشيخ عبد الله البسام-: ولعلَّ قراءة شيء من القرآن بعد الفاتحة يكون في بعض الأحوال. [توضيح الأحكام من بلوغ المرام، (2/ 209)].
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
22 – (ومنها): من فوائد حديث أبي سعيد: أن صلاة العصر تكون أكثر من صلاة الظهر؛ لأن الأولى من ركعات العصر على قدر الأخيرة من ركعات الظهر، وهذه الفائدة لم توجد في حديث أبي قتادة، ووجهه ظاهر وهو ما بينته لكم من جهة أن الناس محتاجون بعد العصر إلى البيع والشراء وما أشبه ذلك، الناس في صلاة الظهر مشغولون فلا يحضرون في أول الوقت؛ حيث إنهم مشتغلون في فلائحهم وأحوالهم، فناسب أن تطال الركعة الأولى في الظهر حتى يتمكن البعيد من إدراك الركعة الأولى.
22 – (ومنها): ومن فوائد الحديثين: بيان تمام سياسة الشريعة الإسلامية، وأن الشريعة الإسلامية بكل ما تحمله معنى هذه الكلمة؛ سياسة الناس في عباداتهم، وسياسة للناس في معاملتهم، وسياسة للناس في علاقتهم التي تسمى في عصرنا (الدبلوماسية)، ومن فصل السياسة عن الشريعة فقد أخطأ خطأ عظيمًا.
كل الشريعة سياسة، كل الشريعة أعلى أنواع الدبلوماسية؛ لأنها من عند الله عز وجل، هو الذي شرعها للعباد ورتبها لهم غاية الترتيب، وسبحان الله كيف يقول القائل: إن الشريعة الإسلامية أثبتت السياسة بين الرجل وبهيمته: لا تحمل البهيمة فوق ما تطيق، ولا تمنعها من العلف والشراب، ولا تبيتها في مكان حار في أيام الصيف؛ فيقتلها الحر، أو في أيام الشتاء فيقتلها البرد، هذه سياسة، فكيف لا تبرم وتبين وتثبت السياسة بين الدول، وأقرأ سورة (براءة) تجد غاية ما يكون من السياسة في العلاقات بين الدول الكافرة والدول المسلمة، لكن لما ضيقت الكنيسة الخناق على الناس في العبادة، ورأوا أنهم لا يستطيعون أن يجمعوا بين الدنيا والآخرة فصلوا الدين عن السياسة، وجعلوا للسياسة مجرى وللدين مجرى آخر.
وكذلك أيضًا قالوا في الاقتصاديات مع أن الشرع منظم لها غاية التنظيم، ألم ينهى النبي ? عن إضاعة المال؟ ألم يقل الله عز وجل: {وكُلُوا واشْرَبُوا ولا تُسْرِفُوا} [الأعراف (31)]؟، ألم يقل النبي – عليه الصلاة والسلام-: «لا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه»، وما أكثر الأمثلة على هذا، لكن في الحقيقة أن كثيرًا من الباحثين – ولاسيما العصريون – عندهم شيء من الجهل في الشريعة، وعندهم الضعف الشخصي؛ وعندهم أنهم يدارون، ولا أستطيع أن أقول: يداهنون؛ لأن هذه تهمة عظيمة، لكن يدارون غيرهم، ولو مشوا على [ما] يريد الله عز وجل ورسوله لبرزوا على غيرهم غاية البروز ولأخذ غيرهم منهم كما اخذ الآن من الإسلام كثيرًا من الأخلاق الفاضلة مثل الصدق والنصح، يمكن أن تجد احد المسلمين يغشك في السلعة عند البيع، والكافر لا يغشي وهذا وارد، بعض المسلمين لا ينفذ العمل المستأجر عليه كما ينبغي والكافر ينفذ، وإن كنا لا نردي بهذا مدح الكافرين، لكن قصدهم في إحسان المعاملة لئلا يجتمع حشف وسوء كيلة.
فالحاصل: أن الدين الإسلامي دين سياسة في عبادة الله عز وجل، وفي معاملة الناس، وفي الأخلاق، وفي العلاقات الدولية، وفي كل شيء فنحتاج إلى نظر، يعني: كثير من طلبة العلم تجده مثلًا يقرأ الحديث: «لا يبع بعضكم على بيع بعض» وما أشبه ذلك من الأحاديث، فينظر إليها من زاوية واحدة فقط وهي تحريم البيع على بيع المسلم والخطبة على خطبته، ولكن لا يتكلم على المعنى المهم وهو السياسة في العلاقات بين الناس؛ لأنك إذا بعت على بيعه فسوف يكون في قلبه شيء عليك، مهما كنت معه في المصاحبة والقرب، لو بين مثل هذه الأمور فضلًا عن شرح الأحاديث حتى يتبين للناس سمو الدين الإسلامي ويتقبلوه ويعتنقوه عن قناعة فضلًا عما يكون بين العبد وربه فهذا هو الغاية. [فتح ذي الجلال والإكرام ط المكتبة الإسلامية (2/ 88 وما بعدها)].
[تنبيه]: سبق عرض مسائل الباب في فتح الأحد الصمد شرح الصحيح المسند في مواضع متفرقة، ومن ذلك: (68) فيما يتعلق بوقت صلاة المغرب، وأيضًا: (140)، (170)،