(1248) فتح الاحد الصمد شرح الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير، وعبدالحميد البلوشي، وكديم، ومحمد البلوش
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إماراتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا).
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
قال الإمام الوادعي رحمه الله في الصحيح المسند [2/ رقم (1248)]:
قال الإمام أبو محمد الدارمي رحمه الله (ج (1) ص (473)): أخْبَرَنا الأسْوَدُ بْنُ عامِرٍ، حَدَّثَنا زُهَيْرٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسى، عَنْ عِيسى، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبِي لَيْلى، عَنْ أبِي لَيْلى، قالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – وعِنْدَهُ الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، فَأخَذَ تَمْرَةً مِن تَمْرِ الصَّدَقَةِ فانْتَزَعَها مِنهُ، وقالَ: ((أما عَلِمْتَ أنَّهُ لا تَحِلُّ لَنا الصَّدَقَةُ)).
هذا حديث صحيحٌ، رجاله رجال الصحيح، إلا عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وقد وثَّقه ابن مَعِين، كما في «تهذيب الكمال» و «الخلاصة»، وزهير هو ابن معاوية.
والحديث أخرجه أحمد (ج (4) ص (348)) فقال: حَدَّثَنا أسْوَدُ بْنُ عامِرٍ، حَدَّثَنا زُهَيْرٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عِيسى، عَنْ عِيسى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبِي لَيْلى، عَنْ ((1)) أبِي لَيْلى، أنَّهُ كانَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – وعَلى بَطْنِهِ الحَسَنُ أوِ الحُسَيْنُ – شَكَّ زُهَيْرٌ – قالَ: فَبالَ حَتّى رَأيْتُ بَوْلَهُ عَلى بَطْنِ رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – أسارِيعَ ((2))، قالَ: فَوَثَبْنا إلَيْهِ، قالَ: فَقالَ: عليه الصلاة والسلام: ((دَعُوا ابْنِي، أوْ لا تُفْزِعُوا ابْنِي))، قالَ: ثُمَّ دَعا بِماءٍ فَصَبَّهُ عَلَيْهِ. قالَ: فَأخَذَ تَمْرَةً مِن تَمْرِ الصَّدَقَةِ قالَ: فَأدْخَلَها فِي فِيهِ، قالَ: فانْتَزَعَها رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – مِن فِيهِ.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: ثنا حسن بن موسى ثنا زهير عن عبد الله بن عيسى عن أبيه عن جده عن أبي ليلى … فذكره بمثل ما عند الإمام أحمد.
—-
((1)) هنا سقط، والصواب: عن أبيه، عن أبي ليلى. كما تقدم في سند الدارمي، وكما سيأتي بعده.
((2)) أي: طرائق، كما في «النهاية».
===================
الحديث سيكون من وجوه:
الأول:
أورد الحديث الإمام أبو محمد الدارمي (ت (255))، في السنن، (3) – مِن كِتابِ الزَّكاةِ، بابُ: الصَّدَقَةِ لا تَحِلُّ لِلنَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – ولا لِأهْلِ بَيْتِهِ، (1683).
والوادعي رحمه الله جعله في جامعه:
(1) – كتاب العلم، (11) – تعليم الصغير، ((24)).
(3) – كتاب الطهارة، (42) – بول الغلام الذي لم يطعم يطهر بالنضح، ((760)).
(6) – كتاب الصدقات، (34) – تحريم الصدقة على بني هاشم، ((1323)).
(16) – كتاب الفضائل، (17) – فضل الحسين بن علي – رضي الله عنهما -، ((2473)).
(21) – كتاب الأموال، (18) – تنزيه الولد الصغير عن المال الحرام، ((2975)).
وقال شعَيب الأرنؤوط وأخر عن رواية أحمد -ط: الرسالة-: ” حديث صحيح، وهذا إسناد سقط منه عبد الرحمن بن أبي ليلى بين عيسى وأبي ليلى، والظاهر أنه سقط قديم من نسخ المسند- وليس اختلافًا على زهير كما قد يسبق إلى الوهم من خلال الرواة عن زهير- يؤيد ذلك أن الحافظ جمع في «أطراف المسند» (7) / (66) طريقي أسود بن عامر هذا والحسن ابن موسى عن زهير، عن عبد الله بن عيسى، دون أن يشير إلى اختلاف روايتيهما، ثم إن الدارمي روى الحديث في «سننه» ((1643)) عن شيخ أحمد أسود بن عامر، وذكر في إسناده عبد الرحمن. وبقية رجاله ثقات. زهير: هو ابن معاوية الجعفي.
وأخرجه الطبراني في «الكبير» ((6423)) من طريق عمرو بن خالد الحراني، عن زهير، به، وفيه ذكر عبد الرحمن في الإسناد.
وأخرجه الطحاوي في «شرح المعاني» (1) / (94) من طريق يحيى بن صالح الوحاظي، عن زهير، عن عبد الله بن عيسى، عن جده عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبي ليلى، فذكره في قصة البول. قلنا: وعبد الله بن عيسى سمع من جدَه عبد الرحمن بن أبي ليلى.
وقد سلف برقم ((19056))، وسيرد برقم ((19059)).
ويشهد لقصة الصدقة حديث مهران مولى النبي – صلى الله عليه وسلم – سلف برقم ((15708))، وذكرنا هناك تتمة شواهده.
قال السندي: قوله: (أساريع)، أي: طرائق، جمع أسروع.
و (لا تفزعوا) من التفزيع أو الإفزاع.”.
والثاني: شرح وبيان الحديث
قال الشيخ عبد العزيز ابن باز: “الصغير إلى أن يبلغ لا يؤاخذ، وإنما يؤاخذ بعد البلوغ، لكنه يعلم ويؤمر وينهى ويؤمر بالصلاة، ويؤمر بالصيام إذا استطاع الصيام، ويمنع عن الفحش والكلام السيئ، ويؤدب على ذلك، لكنه لا يؤاخذ بذلك من جهة الرب عز وجل، وإنما وليه يؤدبه ويعلمه حتى يعتاد الخير وحتى يتجنب الشر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر))؛ حتى يعتادوا الخير ويتمرنوا عليه، وحتى يبتعدوا عن الشر.
ولما أخذ الحسن أو الحسين رضي الله عنهما تمرة من الصدقة، قال النبي – صلى الله عليه وسلم – للحسن: ((دعها كخ كخ أما علمت أنها لا تحل لنا الصدقة؟)).
وهو صغير الحسن ابن سبع سنين وأشهر حينما أتى النبي – صلى الله عليه وسلم -، والحسين أقل من ذلك، فالحاصل أن تعليم الصبيان الخير وتحذيرهم من الشر أمر مطلوب، ولكن لا إثم عليهم لو ماتوا على ذلك”. [فتاوى نور على الدرب لابن باز بعناية الشويعر (6) / (13) — ابن باز (ت (1420))].
وحديث الباب (عَنْ أبِي لَيْلى) رضي الله عنه، (قالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – وعِنْدَهُ الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ) رضي الله عنه، “و «الحسن» هو: ابن عليّ بن أبي طالب، سبط رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وريحانته من الدنيا، وأحد سيدي شباب أهل الجنة،
رَوى عن: جدّه رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وأبيه علي، وأخيه حسين، وخالة هند بن أبي هالة.
وروى عنه: ابنه الحسن، وعائشة أم المؤمنين، وأبو الجوزاء ربيعة بن شيبان، وعبد الله وأبو جعفر ابنا علي بن الحسين، وجبير بن نُفير، وجماعة.
قال خليفة وغير واحد:
وُلِد للنصف من رمضان سنة ثلاث من الهجرة، وقال قتادة: ولَدت فاطمة الحسن لأربع سنين وتسعة أشهر ونصف من الهجرة،
وقال إسرائيل عن أبي إسحاق، عن هانئ بن هانئ، عن عليّ: لَمّا وُلد الحسن جاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فقال: «أروني ابني، ما سميتموه؟» قلت: سميته حربًا، قال: «بل هو حسن … » الحديث.
تنبيه: وقال الحاكم:
«صحيح الإسناد».
ثم أخرجه الطيالسي ((129))، والحاكم ((3) / (168)) من طريقين آخرين، عن أبي إسحاق، عن هاناء بن هاناء به. وقال الحاكم أيضًا:
«صحيح الإسناد»! وسكت الذهبي هنا، وأحال به على الموضع الأول، وهناك وافقه على التصحيح، وهذا منه عجيب! فإن هانئًا هذا لم يرو عنه غير أبي إسحاق وحده، ولازمه أنه مجهول، وهذا ما صرح به الإمام ابن المديني، كما صرح بذلك الذهبي نفسه وغيره. وقال الشافعي:
«لا يعرف، وأهل العلم بالحديث لا يثبتون حديثه لجهالة حاله»؛ كما في «التهذيب»، فلا ينفعه بعد ذلك قول النسائي فيه:
«ليس به بأس»، وبالأولى أن لا ينفعه ذكر ابن حبان إياه في «الثقات»؛ لاشتهاره بتساهله في التوثيق، ولذلك لم يسع الحافظ في «التقريب» إلا أن يقول فيه:
«مستور»! وكأنه غفل عن هذا فقال في ترجمة (المحسن) من «الإصابة» – بعد ما عزاه لأحمد -:
«إسناده صحيح»! واغتر به محقق «تحفة المودود» ((132))، فسكت عليه!
وأيضًا فأبو إسحاق – وهو السبيعي – مدلس مختلط وقد عنعنه، فأنى للحديث الصحة؟!
[(24) / (10) (11): (47) ص] سلطان الحمادي: قاله الألباني في الضعيفة 3706
وبه عن عليّ قال: كان الحسن أشبه الناس برسول الله – صلى الله عليه وسلم – من وجهه إلى سرته، وكان الحسين أشبه الناس به ما أسفل من ذلك، وقال ابن أبي مليكة: أخبرني عقبة بن الحارث، قال: خرجت مع أبي بكر من صلاة العصر، بعد وفاة النبيّ – صلى الله عليه وسلم – بليال، وعلي يمشي إلى جنبه، فَمَرّ بحسن بن علي يلعب مع غلمان، فاحتمله على رقبته، وهو يقول: بأبي شبه النبيّ – صلى الله عليه وسلم -، ليس شبيهًا بعلي، قال: وعلي يضحك، وقال ابن الزبير: أشبه الناس برسول الله – صلى الله عليه وسلم – الحسن بن عليّ، قد رأيته يأتي النبيّ – صلى الله عليه وسلم -، وهو ساجد، فيركب ظهره، فما يُنزل حتى يكون هو الذي ينزل، ويأتي وهو راكع، فيفرج له بين رجليه، حتى يخرج من الجانب الآخر، وقال معمر عن الزهريّ، عن أنس، كان الحسن بن عليّ أشبههم وجهًا برسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وقال إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي جحيفة: رأيت النبيّ – صلى الله عليه وسلم -، وكان الحسن بن عليّ يشبهه.
وقال معروف بن خَرَّبوذ، عن أبي جعفر: مات الحسن وهو ابن سبع أربعين سنةً، وقال: كذا قال خليفة بن خياط، وجماعة، زادوا: وكانت وفاته في سنة ((49)) وقيل: مات سنة (50) وقيل: سنة (51)، وقيل: سنة (56)، وقيل: سنة (58)، وقيل: سنة (59).
روى له: البخاريّ، في التعاليق، والأربعة، وليس عند مسلم إلا ذكر. [البحر المحيط الثجاج].
تنبيه: حديث التفريج بين الرجلين ليدخل الحسن بن علي؛ أخرجه ابن سعد الطبقات الكبرى – متمم الصحابة – الطبقة الخامسة (1) / (249) —
(182) – قال: أخبرنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب الحارثي. قال: أخبرنا علي بن عابس الكوفي. عن يزيد بن أبي زياد. عن البهي مولى الزبير قال:
تذاكرنا من أشبه النبي ص من أهل بيته «(1)»؟ فدخل علينا عبد الله بن الزبير فقال: أنا أحدثكم بأشبه اهله به «(2)» وأحبهم إليه. الحسن بن علي. رأيته يجيء وهو ساجد فيركب رقبته. أو قال: ظهره. فما ينزله حتى يكون هو الذي ينزل. ولقد رأيته يجيء وهو راكع فيفرج له بين رجليه حتى يخرج من الجانب الآخر.
ـــــــــــــــــــــــــ
قال المحقق:
(182) – إسناده ضعيف.
– علي بن عابس الأسدي الكوفي. ضعيف من التاسعة (تق: (2) / (39)).
– يزيد بن أبي زياد القرشي الهاشمي مولاهم الكوفي. ضعيف وكان شيعيا. من الخامسة (تق: (2) / (365)).
– البهي مولى الزبير هو عبد الله بن يسار. ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من تابعي أهل المدينة من الموالي وأعاد ذكره في الطبقة الثانية من أهل الكوفة ممن روى عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وقال: سكن الكوفة وروى عنه الكوفيون وكان ثقة معروفا قليل الحديث (الطبقات: (5) / (307) و (6) / (299)).
تخريجه:
رواه البزار كما في كشف الأستار برقم ((263)) عن علي بن عابس به ووقع في مسنده حدثنا زياد وهو خطأ بدليل أن البزار قال عقبة:، لا نعلمه يروى بهذا اللفظ إلا عن ابن الزبير ولا رواه إلا علي بن عابس عن يزيد عن البهي،.
وقال الهيثمي في المجمع: (9) / (176) رواه البزار وفيه علي بن عابس وهو ضعيف.
أما قوله: (فَأخَذَ تَمْرَةً مِن تَمْرِ الصَّدَقَةِ فانْتَزَعَها مِنهُ)،
وفي رواية لمسلم رحمه الله ((1069)): ((فَجَعَلَها فِي فِيهِ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: «كِخْ كِخْ، ارْمِ بِها))، وزاد أبو مسلم الكجيّ، من طريق الربيع بن مسلم، عن محمد بن زياد: «فلم يَفْطَن له النبيّ – صلى الله عليه وسلم – حتى قام، ولعابه يسيل، فضرب النبيّ – صلى الله عليه وسلم – شِدْقه»، وفي رواية معمر: «فلما فرغ حمله على عاتقه، فسال لعابه، فرفع رأسه، فإذا تمرة في فيه».
وقلوه ((كِخْ كِخْ)) وهي كلمةٌ تقال لِرَدْع الصبيّ عند تناوله ما يُستقذَر.
وقوله: (وقالَ: (((أما عَلِمْتَ أنَّهُ لا تَحِلُّ لَنا الصَّدَقَةُ)).).
وقوله: ((أما عَلِمْتَ)) كذا في مسلم، وفي رواية البخاريّ: (أما شَعَرت)، قال في العمدة: هذه اللفظة تقال في الشيء الواضح التحريم، ونحوه، وإن لم يكن المخاطَب عالِمًا به؛ أي كيف خَفِيَ عليك مع ظهور تحريمه؟ وهذا أبلغ في الزجر عنه بقوله: لا تفعله.
وقوله: ((أنَّهُ لا تَحِلُّ لَنا الصَّدَقَةُ))
وفي رواية مسلم (أنّا لا نَاكُلُ الصَّدَقَةَ). وفي رواية لمسلم أيضًا: (إنا لا تحل لنا الصدقة)، وفي رواية معمر: (إن الصدقة لا تحل لآل محمد)، وكذا عند أحمد، والطحاويّ، من حديث الحسن بن عليّ نفسه، قال: «كنت مع النبيّ – صلى الله عليه وسلم -، فَمَرَّ على جَرِين من تمر الصدقة، فأخذتُ منه تمرةً، فألقيتها في فيّ، فأخذها بلعابها، فقال: إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة»، وإسناده قويّ، وللطبرانيّ، والطحاويّ من حديث أبي ليلى الأنصاريّ نحوه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. [البحر المحيط الثجاج، بتصرف].
[فإن قلت]: رَوى أحمد من رواية حماد بن سلمة، عن محمد بن زياد: (فنظر إليه، فإذا هو يلوك تمرةً، فحرك خَدَّه، وقال: ألقها يا بُنَيّ، ألقها يا بُنَيّ)، فما التوفيق بينه وبين قوله: (كخ كخ)؟
[قلت]: هو أنه كلّمه أوّلًا بهذا، فلما تمادى قال: (كخ كخ) إشارةً إلى استقذار ذلك، ويَحْتَمِل العكس بأن يكون كلَّمه أوّلًا بذلك، فلما تمادى نَزَعها من فيه. [«عمدة القاري» (9) / (86)، و «الفتح» (4) / (346) – (347)].
قال: والحكمة في تحريمها عليهم، أنها مُطَهِّرة للْمُلّاك، ولأموالهم، قال تعالى: {خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} الآية [التوبة (103)]، فهي كغسالة الأوساخ، وأن آل محمد – صلى الله عليه وسلم – منزهون عن أوساخ الناس، وغسالاتهم، وثبت عن النبيّ – صلى الله عليه وسلم -: (إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس)، رواه مسلم.
وإما أن أخذها مَذَلَّة، ويد الآخذ هي اليد السفلى، ولا يليق بهم الذلّ والافتقار إلى غير الله تعالى، ولهم اليد العليا.
وإما لأنها لو أخذوها، لطال لسان الأعداء بأن محمدًا يدعونا إلى ما يدعونا إليه؛ ليأخذ أموالنا، ويعطيها لأهل بيته؛ قال تعالى: {قُلْ لا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ أجْرًا} الآية [الأنعام (9)]، و [الشورى (23)]، ولهذا أمر أن تُصْرَف إلى فقرائهم في بلدهم. انتهى [«عمدة القاري» (9) / (86)]. [البحر المحيط الثجاج].
والثالث: مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في اختلاف أهل العلم في المراد بآل النبيّ – صلى الله عليه وسلم – الذين تحرم عليهم الصدقة:
قال النوويّ – رحمه الله -:
مذهب الشافعيّ وموافقيه: أن آله – صلى الله عليه وسلم – هم بنو هاشم، وبنو المطلب، وبه قال بعض المالكية.
وقال أبو حنيفة، ومالك: هم بنو هاشم خاصّة، قال القاضي عياض: وقال بعض العلماء: هم قريش كلُّها، وقال أصبغ المالكيّ: هم بنو قُصَيّ.
دليل الشافعيّ أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «إن بني هاشم وبني المطلب شيء واحد»، وقسم بينهم سهم ذوى القربى. انتهى [«شرح النوويّ» (7) / (176)].
قال: وأما صدقة التطوع: فللشافعيّ فيها ثلاثة أقوال: أصحها أنها تحرم على رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وتحل لآله.
والثاني: تحرم عليه وعليهم.
والثالث: تحلّ له ولهم.
وأما موالي بني هاشم، وبني المطلب، فهل تحرم عليهم الزكاة؟ فيه وجهان لأصحابنا: أصحهما تحرم؛ للحديث الذي ذكره مسلم بعدَ هذا، حديثِ أبي رافع، والثاني: تحلّ، وبالتحريم قال أبو حنيفة، وسائر الكوفيين، وبعض المالكية، وبالإباحة قال مالك، وادَّعى ابن بطال المالكيّ أن الخلاف إنما هو في موالي بني هاشم، وأما موالي غيرهم فتباح لهم بالإجماع، وليس كما قال، بل الأصح عند أصحابنا تحريمها على موالي بني هاشم وبني المطلب، ولا فرق بينهما، والله أعلم. انتهى [«شرح النوويّ» (7) / (176)].
وقال في «الفتح»: المراد بالآل هنا بنو هاشم وبنو المطلب على الأرجح من أقوال العلماء، قال الشافعيّ: أشركهم النبيّ – صلى الله عليه وسلم – في سهم ذوي القربى، ولم يعط أحدًا من قبائل قريش غيرهم، وتلك العطية عِوَض عُوِّضُوه بدلًا عما حُرِموه من الصدقة، وعن أبي حنيفة، ومالك: بنو هاشم فقط، وعن أحمد في بني المطلب روايتان، وعن المالكية فيما بين هاشم، وغالب بن فهر قولان، فعن أصبغ منهم هم بنو قُصَيّ، وعن غيره بنو غالب بن فهر.
وقال الأمير الصنعانيّ – رحمه الله -: الأقرب في المراد بالآل ما فسّرهم زيد بن أرقم عند مسلم في «المناقب» في قصّة طويلة بأنهم آل عليّ، وآل العبّاس، وآل جعفر، وآل عَقِيل، قال: ويُزاد آل الحارث بن عبد المطّلب؛ لحديث عبد المطّلب بن ربيعة الذي يأتي بعد هذا، فهذا تفسير الراوي، وهو مقدّم على تفسير غيره، فالرجوع إليه في تفسير آل محمد – صلى الله عليه وسلم – هنا هو الظاهر؛ لأن لفظ الآل مشترك، وتفسير راويه دليل على المراد منه، وكذلك يدخل في تحريم الزكاة عليهم بنو المطّلب بن عبد مناف، كما يدخلون معهم في قسمة الخمس، كما يفيده حديث جبير بن مطعم، قال: مشيت أنا وعثمان بن عفّان إلى النبيّ – صلى الله عليه وسلم -، فقلنا: يا رسول الله أعطيت بني المطّلب من خمس خيبر، وتركتنا، ونحن وهم بمنزلة واحدة، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «إنما بنو المطّلب وبنو هاشم شيء واحد»، أخرجه البخاريّ، قال الأمير: هذا الحديث دليلٌ على أن بني المطّلب يشاركون بني هاشم في سهم ذوي القربى، وتحريم الزكاة أيضًا دون من عداهم، وإن كانوا في النسب سواءً، وعلّله – صلى الله عليه وسلم – باستمرارهم على الموالاة، «فإنهم لم يفارقونا في جاهليّة، ولا إسلام»، فصاروا كالشيء الواحد في الأحكام، وهو دليلٌ واضح، وإليه ذهب الشافعيّ – رحمه الله -.
وخالفه مالك، وأبو حنيفة، وأحمد في رواية، فقالوا: إنه – صلى الله عليه وسلم – أعطى بني المطّلب على جهة التفضيل، لا الاستحقاف، وهو خلاف الظاهر، بل قوله: «شيء واحد» دليل على أنهم يشاركونهم في استحقاق الخمس، وتحريم الزكاة. انتهى.
قال الإتيوبي عفا الله عنه: قد تبيّن مما سبق من سوق الأقوال وأدلتها أن ما ذهب إليه الشافعيّ – رحمه الله – من أن المراد بالآل الذين تحرم عليهم الزكاة هم بنو هاشم، وبنو المطّلب هو الراجح؛ لقوة حجّته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. [البحر المحيط الثجاج].
(المسألة الثانية): ظاهر قوله – صلى الله عليه وسلم -: «لا تحلّ لنا الصدقة» يعمّ صدقة الفرض والتطوّع، وهو الحقّ.
قال في «الفتح»: كان يحرم على النبيّ – صلى الله عليه وسلم – صدقة الفرض والتطوع، كما نَقَل فيه غير واحد منهم الخطابي الإجماع، لكن حَكى غير واحد عن الشافعيّ في التطوع قولًا، وكذا في رواية عن أحمد، ولفظه في رواية الميمونيّ: لا يحل للنبيّ – صلى الله عليه وسلم -، وأهل بيته صدقة الفطر، وزكاة الأموال، والصدقة يصرفها الرجل على محتاج، يريد بها وجه الله، فأما غير ذلك فلا، أليس يقال: كلُّ معروف صدقة؟، قال ابن قدامة: ليس ما نُقِل عنه من ذلك بواضح الدلالة، وإنما أراد أن ما ليس من صدقة الأموال، كالقرض، والهدية، وفعل المعروف، كان غير محرَّم.
وقال الماورديّ: يحرم عليه كل ما كان من الأموال متقوَّمًا، وقال غيره: لا تحرم عليه الصدقة العامّة، كمياه الآبار، وكالمساجد.
واختُلف هل كان تحريم الصدقة من خصائصه – صلى الله عليه وسلم – دون الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أو كلّهم سواء في ذلك؟
[» الفتح «(4) / (345) – (346) كتاب» الزكاة” رقم ((1491))].
قال الإتيوبي عفا الله عنه: الذي يظهر لي أنهم في ذلك مثله – صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه – صلى الله عليه وسلم – علّل تحريمها بكونها أوساخ الناس، وظاهر هذا يقتضي دخولهم في التحريم، فتأمله.
وقال الإمام ابن خزيمة – رحمه الله – في «صحيحه» ((4) / (60) – (61)): ((75)) «باب ذكر الدليل على أن الصدقة المحرمة على النبيّ – صلى الله عليه وسلم – هي الصدقة المفروضة التي أوجبها الله في أموال الأغنياء لأهل سهمان الصدقة، دون صدقة التطوع، والدليل على أن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – إنما قال: (إنا أهل بيت لا تحل لنا الصدقة)، أي: الصدقة التي هاج هذا الجوابَ، ومن أجلها قال النبيّ – صلى الله عليه وسلم – هذه المقالة.
((2350)) – قال أبو بكر في خبر أبي رافع: بعث النبيّ – صلى الله عليه وسلم – رجلًا من مخزوم على الصدقة، قال: اصحبني، قال النبيّ – صلى الله عليه وسلم -: إنما بعثت المخزوميّ على أخذ الصدقة الفريضة، فقول النبيّ – صلى الله عليه وسلم – لأبي رافع: «إنا لا تحل لنا الصدقة» كان جوابًا على الصدقة التي كان الجواب من أجلها.
((2351)) – وفي خبر الحسن بن عليّ: أخذت تمرة من تمر الصدقة، إنما كان ذلك التمر من العشر، أو من نصف العشر الصدقة التي يجب في التمر.
((2352)) – وفي خبر عبد المطلب بن ربيعة، ومسيره مع الفضل بن عباس إلى النبيّ – صلى الله عليه وسلم -، ومسألتهما إياه استعمالهما على الصدقة، وإعلام النبيّ – صلى الله عليه وسلم – إياهما أن هذه الصدقة إنما هي أوساخ الناس، ولا تحل لمحمد، ولا لآل محمد، وإنما كانت مسألتهما استعمالهما على الصدقات المفروضات، فقوله – صلى الله عليه وسلم – في إجابته إياهما: «إن هذه الصدقة – أي التي سألتهماني أستعملكما عليها -إنما هي أوساخ الناس، ولا تحل لمحمد، ولا لآل محمد».
((76)) «باب ذكر الدلائل الأخرى على أن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – إنما أراد بقوله:» إن الصدقة لا تحل لآل محمد «صدقة الفريضة دون صدقة التطوع».
((2353)) – قال أبو بكر: في خبر عروة، عن عائشة، أن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – قال: «لا نورث، ما تركنا صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال»، فالنبيّ – صلى الله عليه وسلم – قد خبّر أن لآله أن يأكلوا من صدقته؛ إذ كانت صدقته ليست من الصدقة المفروضة.
وفي خبر حُذيفة، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن يزيد الخطميّ – رضي الله عنهم – عن النبيّ – صلى الله عليه وسلم -: «كل معروف صدقة»، فلو كان المصطفى – صلى الله عليه وسلم – أراد بقوله: «إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة» تطوعًا وفريضةً، لم تحل أن تصطنع إلى أحد من آل محمد النبيّ – صلى الله عليه وسلم – معروفًا؛ إذ المعروف كله صدقة بحكم النبيّ – صلى الله عليه وسلم -، ولو كان كما توهّم بعض الجهال، لَما حَلّ لأحد أن يُفرغ من إنائه في إناء أحد، من آل النبيّ – صلى الله عليه وسلم – ماء؛ إذ النبيّ – صلى الله عليه وسلم – قد أعلم أن إفراغ المرء من دلوه في إناء المستسقي صدقةٌ، ولَما حَلّ لأحد من آل النبيّ – صلى الله عليه وسلم – أن ينفق على أحد من عياله إذا كانوا من آله؛ لأن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – قد خبّر أن نفقة المرء على عياله صدقة.
((2354)) – حدّثنا الحسين بن الحسن، أخبرنا المقفيّ عبد الوهاب، حدّثنا أيوب، عن عمرو بن سعيد، عن حميد بن عبد الرحمن الحميريّ، قال: حدّثني ثلاثة من بني سعد بن أبي وقاص، كلهم يحدّثه عن أبيه، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – دخل على سعد، يعوده بمكة، قال: فبكى سعد، فقال النبيّ – صلى الله عليه وسلم -: «ما يبكيك؟» قال: خشيت أن أموت بأرضي التي هاجرت منها، كما مات سعد بن خَوْلة، فقال النبيّ – صلى الله عليه وسلم -: «اللهم اشف سعدًا، اللهم اشف سعدًا»، فقال: يا رسول الله إن لي مالًا كثيرًا، وإنما ترثني بنت، أفأوصي بمالي كلِّه؟ قال: «لا» قال: فالثلثين؟ قال: «لا»، قال: فالنصف؟ قال: «لا»، قال: فالثلث؟ قال: «الثلث، والثلث كثير، إن صدقتك من مالك صدقة، وإن نفقتك على عيالك لك صدقة، وإن ما تأكل امرأتك من طعامك لك صدقة، وإنك إن تَدَع أهلك بخير، أو قال بعيش، خيرٌ لك من أن تَدَعهم عالةً، يتكففون»، وقال بيده. انتهى.
قال الإتيوبي عفا الله عنه: قد أجاد الإمام ابن خزيمة – رحمه الله – بما ساقه من الأدلّة، وأفاد، وحاصله أن الصدقة المحرّمة على آل النبيّ – صلى الله عليه وسلم – وعلى آله هي صدقة الفريضة، دون التطوّع؛ للأدلة المذكورة، فتبصّر، بالإنصاف. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
قلت سيف:
ربما نسوا حديث سلمان وأنه قدم للنبي صلى الله عليه وسلم صدقة فلم يأكل وأكل أصحابه وقدم له هديه فأكل وأكل أصحابه.
أما صنائع المعروف وما ورد حتى اللقمة في فيِّ الزوجة تسمى صدقة مع أنها واجبة عليها فالمقصود الأجر.
(المسألة الثالثة): هل يَلتحق بالنبيّ – صلى الله عليه وسلم – آله في تحريم الصدقة مطلقًا أم لا؟:
قال ابن قُدامة – رحمه الله -: لا نعلم خلافًا في أن بني هاشم أنه لا تحل لهم الصدقة المفروضة، كذا قال، وقد نقل الطبريّ الجواز أيضًا عن أبي حنيفة، وقيل عنه: يجوز لهم إذا حُرِمُوا سهم ذوي القربى، حكاه الطحاويّ، ونقله بعض المالكية عن الأبهريّ منهم، وهو وجه لبعض الشافعية، وعن أبي يوسف: يَحل من بعضهم لبعض، لا من غيرهم، وعند المالكية في ذلك أربعة أقوال مشهورة: الجواز، المنع، جواز التطوع دون الفرض، عكسه، وأدلة المنع ظاهرةٌ من حديث الباب، ومن غيره، ولقوله تعالى: {قُلْ ما أسْألُكُمْ عَلَيْهِ مِن أجْرٍ} الآية [الفرقان (57)]، ولو أحلّها لآله لأوشك أن يَطعنوا فيه، ولقوله: {خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وتُزَكِّيهِمْ بِها} الآية [التوبة (103)].
وثبت عن النبيّ – صلى الله عليه وسلم -: «إنما هذه الصدقة أوساخ الناس»، كما رواه مسلم، ويؤخذ من هذا جواز التطوع دون الفرض، وهو قول أكثر الحنفية، والمصحح عند الشافعية، والحنابلة. وأما عكسه، فقالوا: إن الواجب حقّ لازمٌ، لا يَلحق بأخذه ذِلَّةٌ، بخلاف التطوع.
ووجه التفرقة بين بني هاشم وغيرهم، أن موجب المنع رفع يد الأدنى على الأعلى، فأما الأعلى على مثله فلا.
قال الحافظ – رحمه الله -: ولم أر لمن أجاز مطلقًا دليلًا، إلا ما تقدم عن أبي حنيفة – رحمه الله -. انتهى [«الفتح» (4) / (346)].
قال الإتيوبي عفا الله عنه: قد تقدّم في المسألة السابقة ترجيح القول بأن صدقة التطوّع لا تحرم على النبيّ – صلى الله عليه وسلم -، ولا على آله، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. [البحر المحيط الثجاج].
وسبق التعقيب بحديث سلمان الفارسي
(المسألة الرابعة):
وفي صحيح مسلم ((1070))، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولٍ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – أنَّهُ قالَ: ((إنِّي لَأنْقَلِبُ إلى أهْلِي، فَأجدُ التَّمْرَةَ ساقِطَةً عَلى فِراشِي، ثُمَّ أرْفَعُها لِآكُلَها، ثُمَّ أخْشى أنْ تُكُونَ صَدَقَةً، فَأُلُقِيها)).
وقال المهلّب – رحمه الله -: إنما ترك النبيّ – صلى الله عليه وسلم – أكل التمرة تنزهًا عنها؛ لجواز أن تكون من تمر الصدقة، وليس على غيره بواجب أن يتبع الجوازات؛ لأن الأشياء مباحة، حتى يقوم الدليل على الحظر، فالتنزه عن الشبهات لا يكون إلا فيما أشكل أمره، ولا يُدْرى أحلال هو أم حرام؟ واحتمل المعنيين، ولا دليل على أحدهما، ولا يجوز أن يُحكم على من أخذ مثل ذلك أنه أخذ حرامًا؛ لاحتمال أن يكون حلالًا، غير أنا نَستحب من باب الورع أن نقتدي برسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيما فَعَل في التمرة، وقد قال – صلى الله عليه وسلم – للنوّاس بن سمعان – رضي الله عنه -: «البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطّلع فيه الناس»، رواه مسلم [وأخرجه أحمد، والدارميّ من حديث وابِصَةَ بن مَعْبَدٍ الأسَدِيِّ – رضي الله عنه -: أنّ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – قال لِوابِصَةَ: «جِئْتَ تَسْألُ عن البِرِّ والأثم؟»، قال: قلت: نعم، قال: فَجَمَعَ أصابِعَهُ، فضَرَبَ بها صَدْرَهُ، وقال: «اسْتَفْتِ نَفْسَكَ، اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، يا وابِصَةُ -ثَلاثًا- البِرُّ ما اطْمَأنَّتْ إليه النَّفْسُ، واطْمَأنَّ إليه القَلْبُ، والإثْمُ ما حاكَ في النَّفْسِ، وتَرَدَّدَ في الصَّدْرِ، وإن أفْتاكَ الناس، وأفْتَوْكَ»، وهو حديث حسنٌ].
وقال ابن عمر – رضي الله عنه -: لا يبلغ أحد حقيقة التقوى حتى يَدَعَ ما حاك في الصدور. [«عمدة القاري» (11) / (171)].
وقال في «الفتح»: قال المهلَّب – رحمه الله -: لعله – صلى الله عليه وسلم – كان يَقْسِم الصدقة، ثم يرجع إلى أهله، فيعلق بثوبه من تمر الصدقة شيء، فيقع في فراشه، وإلا فما الفرق بين هذا، وبين أكله من اللحم الذي تُصُدِّق به على بريرة؟
وتعقّبه الحافظ – رحمه الله -، فقال: لم ينحصر وجود شيء من تمر الصدقة في غير بيته، حتى يُحتاج إلى هذا التأويل، بل يَحْتَمِل أن يكون ذلك التمر حُمِل إلى بعض من يَستحق الصدقة، ممن هو في بيته، وتأخر تسليم ذلك له، أو حُمِل إلى بيته، فقسمه، فبقيت منه بقيّةٌ.
وقد رَوى أحمد من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، قال: تَضَوَّر النبيّ – صلى الله عليه وسلم – ذات ليلة، فقيل له: ما أسهرك؟ قال: «إني وجدت تمرةً ساقطةً فأكلتها، ثم ذكرت تمرًا كان عندنا من تمر الصدقة، فما أدري أمن ذلك كانت التمرة، أو من تمر أهلي؟ فذلك أسهرني».
قال: وهو محمول على التعدد، وأنه لَمّا اتفق له أكل التمرة كما في هذا الحديث، وأقلقه ذلك صار بعد ذلك إذا وجَد مثلها مما يدخل التردد تركه؛ احتياطًا.
ويحْتَمِل أن يكون في حالة أكله إياها كان في مقام التشريع، وفي حال تركه كان في خاصة نفسه.
وقال المهلّب – رحمه الله -: إنما تركها تورعًا، وليس بواجب؛ لأن الأصل أن كل شيء في بيت الإنسان على الإباحة، حتى يقوم دليل على التحريم، وفيه تحريم قليل الصدقة على النبيّ – صلى الله عليه وسلم -، ويؤخذ منه تحريم كثيرها من باب أولى. انتهى [«الفتح» (4) / (294)]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. [البحر المحيط الثجاج].
وحديث سهر النبي صلى الله عليه وسلم حين أكل تمرة بسبب أنه لا يدري هل هي من تمر الصدقة أم من تمر أهله:
قال صاحب أنيس الساري:
أخرجه ابن سعد ((1) / (390) – (391)) وأحمد ((6691) و (6720) و (6820)) والحاكم ((2) / (14)) من طرق عن أسامة بن زيد الليثي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ….
قال الحاكم: صحيح الإسناد»
وقال الهيثمي: ورجاله موثقون «المجمع (3) / (89)
وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح المسند (10) / (220) و (11) / (10) و (72)
قلت: بل هو حسن للخلاف المعروف في أسامة بن زيد وعمرو بن شعيب. انتهى من أنيس الساري
قلت سيف: وأسامة بن زيد الليثي مختلف فيه وقلنا مرة: إنما رواية ابن وهب عنه محفوظه.
قال ابن باز في تعليقه على البخاري:
(4) – باب ما يُتنزه من الشبهات
(2055) – عن أنس – رضي الله عنه – قال: مرَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – بتمرة مسقوطة قال: «لولا أن تكون صدقة لأكلتها»
وهذا يدل على ورعة العظيم.
فالمؤمن يحذر ما يكون حرامًا عليه ولو قليلًا، وهذا يدل على أن الشيء الحقير اليسير يعفي عنه ويلتقط ويؤكل.
* المال المختلط لا حرج في أكله؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – أكل أموال اليهود، وأموالهم مختلطة {وأخْذِهِمُ الرِّبا وقَدْ نُهُوا عَنْهُ}
(المسألة الخامسة): فوائد وفقه الحديث:
1 – (منها): بيان تحريم الصدقة على النبيّ – صلى الله عليه وسلم -، وعلى آله.
2 – (ومنها): دفع الصدقات إلى الإمام، والانتفاع بالمسجد في الأمور العامّة.
3 – (ومنها): جواز إدخال الأطفال المساجد، وتأديبهم بما ينفعهم، ومنعهم مما يضرّهم، ومن تناول المحرمات، وإن كانوا غير مكلفين؛ ليتدربوا بذلك.
4 – (ومنها): أن بعضهم استنبط منه منع وليّ الصغيرة إذا اعتَدَّت من الزينة.
5 – (ومنها): أن فيه الإعلامَ بسبب النهي، ومخاطبة من لا يُمَيِّز لقصد إسماع من يميز؛ لأن الحسن إذ ذاك كان طفلًا.
وأما قوله: (أما عَلِمتَ؟)، وفي رواية البخاريّ في «الزكاة» (أما شَعَرتَ؟) وفي رواية له في «الجهاد»: (أما تعرف)، فهو شيء يقال عند الأمر الواضح، وإن لم يكن المخاطب بذلك عالِمًا؛ أي كيف خفي عليك هذا مع ظهوره؟ وهو أبلغ في الزجر من قوله: «لا تفعل»، أفاده في «الفتح». [«الفتح» (4) / (347) كتاب «الزكاة» رقم ((1491))].
6 – (ومنها): ما قاله في «الطرح»: إن قوله – صلى الله عليه وسلم – في الحديث: «على فراشي» [كما جاء صحيح مسلم ((1070)) – (عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولٍ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – أنَّهُ قالَ: «إنِّي لَأنْقَلِبُ إلى أهْلِي، فَأجدُ التَّمْرَةَ ساقِطَةً عَلى فِراشِي، ثُمَّ أرْفَعُها لِآكُلَها، ثُمَّ أخْشى أنْ تُكُونَ صَدَقَةً، فَأُلُقِيها»)].
ظاهر في أنه ترك أخذها تورعًا؛ لخشية أن تكون صدقة، فلو لم يخش ذلك لأكلها، ولم يذكر تعريفًا، فدَلّ على أن مثل ذلك يُمْلك بالأخذ، ولا يَحتاج إلى تعريف، لكن هل يقال: إنها لقطة رُخِّص في ترك تعريفها، أو ليست لقطةً؛ لأن اللقطة ما مِن شأنه أن يُتَمَلَّك دون ما لا قيمة له؟
قال: وقد استَشْكَل بعضهم: تركه – صلى الله عليه وسلم – التمرة في الطريق، مع أن الإمام يأخذ المال الضائع؛ للحفظ.
وأجيب باحتمال: أن يكون أخذها كذلك؛ لأنه ليس في الحديث ما ينفيه، أو تركها عمدًا؛ لينتفع بها مَن يجدها، ممن تَحِلّ له الصدقة، وإنما يجب على الإمام حفظ المال الذي يَعْلَم تطلع صاحبه له، لا ما جرت به العادة بالإعراض عنه؛ لحقارته، والله أعلم. انتهى [«طرح التثريب في شرح التقريب» (4) / (35)].
7 – (ومنها): ما قاله في «الطرح» أيضًا: فيه استعمال الورع، وهو ترك الشبهات، فإن هذه التمرة لا تحرم بمجرد الاحتمال، ولهذا رفعها النبيّ – صلى الله عليه وسلم – ليأكلها، ولا يُقْدِم إلا على ما يجوز له فعله، لكن ترجح عنده الورع، وهو تركها، ومثله قوله في حديث أنس – رضي الله عنه – الآتي بعده
قال: واستُدِلّ به على أن التمرة ونحوها من مُحَقَّرات الأموال، لا يجب تعريفها، بل يباح أكلها، والتصرف فيها في الحال؛ لأنه – صلى الله عليه وسلم – إنما تركها خشية أن تكون من الصدقة، لا لكونها لقطةً، قال النوويّ: وهذا الحكم متّفَقٌ عليه، وعَلَّله أصحابنا وغيرهم بأن صاحبها لا يطلبها، ولا يبقى له فيها مطمع. انتهى [«طرح التثريب في شرح التقريب» (4) / (35)]،
8 – (منها): بيان تحريم الصدقة على النبيّ – صلى الله عليه وسلم -، كثيرها وقليلها، قال النوويّ – رحمه الله -: ظاهره يعمّ الفرض والنفل. انتهى.
قال الإتيوبي عفا الله عنه: قد تقدّم بيان الخلاف، هل يعمّ التطوّع أم لا، وقد رجّحت القول بعدمه؛ لقوّة حجته، فتنبّه.
9 – (ومنها): بيان أن أموال المسلمين لا يحرم منها إلا ما له قيمة، ويُتشاحّ في مثله، وأما التمرة، واللبابة من الخبز، أو التِّينة، أو الزبيبة، وما أشبهها فقد أجمعوا على أخذها، ورفعها من الأرض، وإكرامها بالأكل، دون تعريفها؛ استدلالًا بقوله – صلى الله عليه وسلم -: «لآكلها»، وأنها مخالفة لحكم اللقطة.
10 – (ومنها): أنه لا يجب على آخذها التصدق بها؛ لأنه لو كان سبيلها التصدق لم يقل النبيّ – صلى الله عليه وسلم -: «لآكلها»، وفي «المدونة»: يتصدق بالطعام تافهًا كان، أو غير تافه، أعجب إليّ؛ إذا خشي عليه الفساد بوطء، أو شبهة، وعن مطرِّف إذا أكله غَرِمُه، وإن كان تافهًا، وكلّه من الأقوال الساقطة؛ لأن هذا الحديث يُبطله، فقوله – صلى الله عليه وسلم -: «لآكلها»، أو «لأكلتها» صريح في ردّ هذه الأقوال ونحوها، فتبصّر بالإنصاف.
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. [البحر المحيط الثجاج، بتصرف].
[تنويه:]
انظر في الصحيح المسند فيما يتعلق بمسائل الباب: (ج1/ رقم 308)، (ج2/ رقم 1221).