(1246) فتح الاحد الصمد شرح الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير، وعبدالحميد البلوشي، وكديم، ومحمد البلوشي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إماراتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا).
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
قال الإمام الوادعي رحمه الله في الصحيح المسند [2/ رقم (1246)]:
مسند أبي كَبْشَةَ الأنْمارِيِّ رضي الله عنه
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج (4) ص (231)): حَدَّثَنا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ، قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، قالَ: حَدَّثَنا الزُّبَيْدِيُّ، عَنْ راشِدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أبِي عامِرٍ الهَوْزَنِيِّ، عَنْ أبِي كَبْشَةَ الأنْمارِيِّ: أنَّهُ أتاهُ فَقالَ: أطْرِقْنِي مِن فَرَسِكَ، فَإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ: ((مَن أطْرَقَ فَعَقَّتْ لَهُ الفَرَسُ، كانَ لَهُ كَأجْرِ سَبْعِينَ فَرَسًا، حُمِلَ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللهِ)).
هذا حديث حسنٌ.
والزبيدي هو محمد بن الوليد، وأبو عامر الهوزني هو عبد الله بن لحي.
===================
الحديث سيكون من وجوه:
الأول:
أورد الحديث الإمام أحمد في مسنده، مُسْنَدُ الشّامِيِّينَ، حَدِيثُ أبِي كَبْشَةَ الأنْمارِيِّ، ((18032)).
والوادعي رحمه الله جعله في جامعه:
(13) – كتاب الجهاد والغزوات، (58) – اقتناء الخيل وإكرامها، ((2017)).
وفي غاية المقصد في زوائد المسند لنور الدين الهيثمي (ت (807))، كتاب الجهاد، باب: فيمن أطرق فرسًا، ((2499)).
وفي مسند الإمام أحمد ط: الرسالة:
أولاً: تكلموا في ألفاظ الحديث:
قالوا في قوله: ((مَن أطْرَقَ مسلمًا))، قالوا في الحاشية: “لفظة: ((مسلمًا)) أثبتناها من (ظ (13))، ولم ترد في باقي النسخ”.
وفي قوله: ((فَعَقَّتْ لَهُ الفَرَسُ، كانَ لَهُ))،، قالوا في الحاشية: “لفظة: ((له)) ليست في (ظ (13)) “.
ثانيًا في تخريج الحديث:
قالوا: “إسناده صحيح، أبو عامر الهوزني اسمه عبد الله بن لُحي، وهو ثقة مخضرم، وراشد بن سعد- وهو المَقْرئي الحمصي-، ثقة، علق له البخاري في» صحيحه «، وروى له في» الأدب «، وباقي رجاله ثقات رجال الشيخين غير يزيد بن عبد ربه فمن رجال مسلم”. وسيأتي تمام التخريج في الشرح بإذن الله تعالى.
والثاني: شرح وبيان الحديث
قال الحافظ ابن الجوزي (ت (597)): فِي الحَدِيث ((من أطرق فعقت لَهُ الفرس))، قالَ الخطابِيّ: (عقب) بِمَعْنى: حملت واستبان حملها، واللغة العالِيَة أعقت”. [غريب الحديث لابن الجوزي (2/ 112)].
وقال محققو المسند – ط: الرسالة – بعد التخريج السابق:
“وأخرجه الطبراني في» مسند الشاميين «((1861)) من طريق يزيد بن عبد ربه، بهذا الإسناد. وزاد في آخره: ((فإن لم يعقب كان له كأجر فرسين حمل عليهما في سبيل الله)).
وأخرجه ابن أبي عاصم في» الآحاد والمثاني «((1282)) و ((2518))، وابن حبان ((4679))، والطبراني في» الكبير «(22) / ((853))، وفي» الشاميين «((1861))، والخطابي في «غريب الحديث» (1) / (724) من طرق عن محمد بن حرب، به. وزادوا في آخره: ((وإن لم تعقب كان له كأجر فرس حمل عليه في سبيل الله))، لكن جاء عند الطبراني في الشاميين: ((كأجر فرسين))، وعند ابن أبي عاصم، والطبراني في الكبير، والخطابي: «فَعقَّتْ»، بدل «فعقب» وهو بمعناه.
وفي الباب عن القاسم أبي عبد الرحمن، عن عدي ابن حاتم الطائي عند الترمذي ((1626))، وروي عن القاسم، عن أبي أمامة الباهلي عنده ((1627))، وقال عن، حديث أبي أمامة: حسن صحيح غريب، ولفظه: ((أفضل الصدقات ظِلُّ فسطاطِ في سبيل الله، ومنيحة خادم في سبيل الله، أو طروقة فحلِ في سبيل الله)).
قوله: “أطرقني من فرسك”، قال السندي: إطراق الفرس إعارته للضراب، ومن للتبعيض”.
والثالث: مسائل تتعلّق بهذا الحديث: النهي عن بيع عسب الفحل
(المسألة الأولى): في تعريف عسب الفحل وعلاقته ببيع الغرر
أولاً: تعريف عسب الفحل
[الحاشية: “عَسَبَ” كضرب، يقال عسب الفحل الناقة يَعْسِبها عسبًا: إذا طرقها، وعسب فعله يعسبه إذا أكراه.
قال زهير في عبد له يدعى يسار، أسره قوم فهجاهم:
ولولا عسبه لرددتموه … وشر منيحة أير معار”]:
ويطلق العسب: على ضراب الفحل.
ويطلق على ماء الفحل فرسًا كان أو بعيرًا:
والعسب: إعطاء الكراء على الضراب، وهو منهي عنه كما سيأتي. [المعاملات المالية أصالة ومعاصرة (4/ 99 – 104)].
* متعلقات:
1 – (ضِرابِ الجَمَلِ) – بكسر الضاد المعجمة – أي: عن أخذ الكراء على ضِرابه، بل ينبغي لصاحب الفحل إعارته بلا كراء، فإن في المنع قطع النسل.
وقال ابن الأثير: ضِراب الجمل: نَزْوه على الأنثى، والمراد بالنهي ما يؤخذ عليه من الأجرة، لا عن نفس الضِّراب، وتقديره: نَهى عن ثمن ضراب الجمل، كنهيه عن عَسْبِ الفحل؛ أي: عن ثمنه، يقال: ضَرَبَ الجملُ الناقةَ يَضرِبها: إذا نزا عليها، وأضرب فلانٌ ناقته؛ أي: أنزى الفحل عليها. انتهى [«النهاية» (3) / (79)].
2 – (عَسْبِ الفَحْل)، “أي: نَزْوُ الفَحْل.
و (الفحْل)، أحد الفُحول: وهو الذَّكر الُمتَّخَذُ للضِرابِ.
قال الجوهري: «العَسِبُ: الكِراءُ الذي يُؤْخَذ على ضِراب الفحل.
قال: ونُهي عن عَسْبِ الفَحْل، وعَسْبِ الفَحْلِ أيضًا: ضِرابُه، وقيل: ماؤُهُ.
واسْتَعْسَبْتَ الفرسُ: إذا اسْتَوْدَقت»، وفي الصحيح: «نهى عن بيْع عَسْبِ الفحل»، ولمسلمٍ: «نهى عن بيْع ضَراب الفحل» “. [الدر النقي في شرح ألفاظ الخرقي (2) / (472) — ابن المِبْرَد (ت (909))].
” و (عَسْبِ) بِفَتْحِ العَيْنِ المُهْمَلَةِ وإسْكانِ السِّينِ المُهْمَلَةِ أيْضًا وفِي آخِرِهِ مُوَحَّدَةٌ.
والفَحْلُ الذَّكَرُ مِن كُلِّ حَيَوانٍ فَرَسًا كانَ أوْ جَمَلًا أوْ تَيْسًا وغَيْرَ ذَلِكَ
وقَدْ رَوى النَّسائِيُّ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ نَهى عَنْ عَسِيبِ التَّيْسِ
قالَ فِي القامُوسِ: العَسْبُ ضِرابُ الفَحْلِ أوْ ماؤُهُ أوْ نَسْلُهُ. والوَلَدُ وإعْطاءُ الكِراءِ عَلى الضِّرابِ والفِعْلُ كَضَرَبَ. انْتَهى”. [تحفة الأحوذي].
ثانيًا:
“في بيان أقوال أهل العلم في بيع الغرر:
قال النوويّ – رحمه الله -: وأما النهي عن بيع الغرر، فهو أصل عظيم، من أصول «كتاب البيوع»، ولهذا قدّمه مسلم، ويدخل فيه مسائل كثيرة، غير منحصرة؛ كبيع الآبق، والمعدوم، والمجهول، وما لا يُقْدَر على تسليمه، وما لم يتم ملك البائع عليه، وبيع السمك في الماء الكثير، واللبن في الضرع، وبيع الحمل في البطن، وبيع بعض الصُّبْرَة مبهمًا، وبيع ثوب من أثواب، وشاة من شياه، ونظائر ذلك، وكل هذا بيعه باطل؛ لأنه غرر من غير حاجة؛ وقد يُحتَمَل بعضُ الغرر بيعًا، إذا دعت إليه حاجة، كالجهل بأساس الدار، وكما إذا باع الشاة الحامل، والتي في ضرعها لبن، فإنه يصح البيع؛ لأن الأساس تابع للظاهر من الدار، ولأن الحاجة تدعو إليه، فإنه لا يمكن رؤيته، وكذا القول في حمل الشاة ولبنها، وكذلك أجمع المسلمون على جواز أشياء فيها غرر حقير،
منها: أنهم أجمعوا على صحة بيع الجُبّة المحشوة، وإن لم يُر حشوها، ولو بِيعَ حشوها بإنفراده لم يجز، وأجمعوا على جواز إجارة الدار، والدابة، والثوب، ونحو ذلك شهرًا، مع أن الشهر، قد يكون ثلاثين يومًا، وقد يكون تسعة وعشرين، وأجمعوا على جواز دخول الحمّام بالأجرة، مع اختلاف الناس في استعمالهم الماء، وفي قدر مكثهم، وأجمعوا على جواز الشرب من السقاء بالعوض، مع جهالة قدر المشروب، واختلاف عادة الشاربين، وعكس هذا.
وأجمعوا على بطلان بيع الأجِنّة في البطون، والطير في الهواء.
قال العلماء: مدارُ البطلان بسبب الغرر، والصحةِ مع وجوده، على ما ذكرناه، وهو أنه إن دعت حاجة إلى ارتكاب الغرر، ولا يمكن الاحتراز عنه، إلا بمشقة، وكان الغرر حقيرًا، جاز البيع، وإلا فلا، وما وقع في بعض مسائل الباب، من اختلاف العلماء في صحة البيع فيها، وفساده؛ كبيع العين الغائبة، مبنيّ على هذه القاعدة، فبعضهم يَرى أن الغرر حقير، فيجعله كالمعدوم، فيصح البيع، وبعضهم يراه ليس بحقير، فيبطل البيع، والله أعلم.
قال: واعلم: أن بيع الملامسة، وبيع المنابذة، وبيع حَبَل الحَبَلة، وبيع الحصاة، وعَسْبَ الفحل، وأشباهها، من البيوع التي جاء فيها نصوص خاصة، هي داخلة في النهي عن بيع الغرر، ولكن أُفردت بالذكر، ونُهي عنها؛ لكونها من بياعات الجاهلية المشهورة، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ – رحمه الله -[«شرح النوويّ» (10) / (156) – (157)].
وقال القرطبيّ – رحمه الله -: هو البيع المشتمل على غَرَرٍ مقصود، كبيع الأجِنّة، والسمك في الماء، والطير في الهواء، وما أشبه ذلك، فأما الغرر اليسير الذي ليس بمقصود، فلم يتناوله هذا النهي؛ لإجماع المسلمين على جواز إجارة العبد، والدار مشاهرةً، ومساناةً، مع جواز الموت، وهدم الدار قبل ذلك، وعلى جواز إجارة الدخول في الحَمّام، مع تفاوت الناس فيما يتناولون من الماء، وفي قدر المُقام فيه، وكذلك الشرب من السقاء، مع اختلاف أحوال الناس في قدر المشروب، وأيضًا، فإن كلَّ بيع لا بدّ فيه من نوع من الغرر، لكنه لَمّا كان يسيرًا، غير مقصود، لم يلتفت الشرع إليه.
ولَمّا انقسم الغرر على هذين الضربين، فما تبيّن أنه من الضرب الأول مُنع، وما كان من الضرب الثاني، أُجيز، وما أشكل أمره، اختُلف فيه، من أيّ القسمين هو، فيُلحقَ به. انتهى [«المفهم» (4) / (362)].
وقال شيخ الإسلام ابن تيميّة – رحمه الله -: وأما الغرر، فالأصل في ذلك أن الله تعالى حرّم في كتابه أكل أموالنا بالباطل، وهذا يعمّ كلّ ما يؤكل بالباطل، والنبيّ – صلى الله عليه وسلم – نهى عن بيع الغرر، والغرر هو المجهول العاقبة،
فمن أنواعه:
بيع حَبَل الحَبَلة، وبيع الملاقيح، وبيع المضامين، وبيع الثمار قبل بدوّ صلاحها، وبيع الملامسة، والمنابذة، ونحو ذلك، من أنواعه، وصوره.
والغرر ثلاثة أنواع:
بيع المعدوم؛ كحبَل الحبَلة، وبيع المعجوز عن تسليمه؛ كالجمل الشارد، وبيع المجهول المطلق، أو المجهول الجنس، أو المجهول القدر.
وقال أيضًا: رخّص الشارع فيما تدعو الحاجة إليه من الغرر؛ كبيع العقار بأساسه، والحيوان الحامل، والثمرة بعد بُدُوّ صلاحها، وبيع ما المقصود منه مغيّب في الأرض؛ كالبصل، والفجل، ونحوهما قبل قلعه، وتختلف مشارب الفقهاء في هذا، فأبو حنيفة، والشافعيّ أشدّ الناس قولًا في الغرر، وأصول الشافعيّ المحرّمة أكثر من أصول أبي حنيفة، أما مالك، فمذهبه أحسن المذاهب في هذا، فإنه يجوّز بيع هذه الأشياء، وجميع ما تدعو الحاجة إليه، أو يَقِلّ غرره، فيجوز بيع المقاثي جملة، وبيع المغيّبات في الأرض؛ كالجزر، والفجل، والبصل، ونحو ذلك، وأحمد قريب منه في ذلك، والناس محتاجون إلى هذه البيوع، والشارع لا يُحرّم ما يحتاج الناس إليه من البيع؛ لأجل نوع من الغرر، وهذا أصحّ الأقوال، وعليه يدلّ غالب معاملات السلف، ولا يستقيم أمر الناس في معاشهم إلا به، وكلّ من شدّد في تحريم ما يعتقده غررًا، فإنه لا بدّ أن يضطرّ إلى إجازة ما حرّمه اللهُ، فإما أن يخرج عن مذهبه الذي يقلّده في هذه المسألة، وإما أن يحتال، ومفسدة التحريم لا تزول بالحيلة”. انتهى كلام شيخ الإسلام – رحمه الله -[«مجموع الفتاوى» (29) / (227) و (486)].
المقاثي: جمع مقثأة موضع القثاء. (البحر المحيط شرح مسلم)
أما الملاقيح والمضامين:
قال ابن المنذر
: م 3408 – وأجمعوا على أن بيع المضامين والملاقيح لا يجوز.
قال أبو عبيد: [2/ 109/ألف] “المضامين في البطون وهي الآجنة، والملاقيح ما في أصلاب الفحول”
الإشراف على مذاهب العلماء لابن المنذر (6/ 17)
قال الإتيوبي عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله شيخ الإسلام – رحمه الله – من ترجيح مذهب مالك في جواز ما تدعو الحاجة إليه من الأشياء التي فيها نوع من الغرر هو الأرجح؛ لقوّة مدركه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. [البحر المحيط الثجاج].
فصل:
مناسبة إدخال هذا الباب في باب الغرر:
أدخلت النهي عن بيع عسب الفحل بالغرر بسبب الجهالة، ويصح أن يدخل في الغرر بسبب عدم القدرة على التسليم، وهذا ما يفهم من تعليل عبارة الفقهاء رحمهم الله.
فقد علل الكاساني النهي يكون المعقود عليه معدومًا، فقال في بدائع الصنائع: «عسب الفحل ضرابه، وهو عند العقد معدوم» [بدائع الصنائع ((5) / (139))].
وعلل الزيلعي النهي عنه بالجهالة، فقال في تبيين الحقائق: «وإنما نهي عنه للجهالة التي فيه، ولا بد في الإجارة من تعيين العمل، ومعرفة مقداره». [تبيين الحقائق ((5) / (124))].
وعلل أكثر الشافعية النهي لكونه مجهولًا، وغير مقدور على تسليمه. [شرح النووي على صحيح مسلم ((10) / (230))، وانظر الوسيط ((3) / (73))].
وعلل الشيرازي منهم بأن ماء الفحل لا قيمة له لكونه محرمًا، قال في المهذب: «نهى عن ثمن عسب الفحل؛ لأن المقصود منه هو الماء الذي يخلق منه، وهو محرم، لا قيمة له، فلم يجز أخذ العوض عليه، كالميتة والدم». [المهذب ((1) / (394))].
وعلل ابن قدامة النهي بقوله: «لأنه مما لا يقدر على تسليمه، فأشبه إجارة الآبق، ولأن ذلك متعلق باختيار الفحل وشهوته، ولأن المقصود هو الماء، وهو مما لا يجوز إفراده بالعقد، وهو مجهول» [المغني ((4) / (148))].
وعلل بعضهم: «بأن ثمرته المقصودة غير معلومة، فإنه قد يلقح، وقد لا يلقح، فهو غرر» [المصباح المنير (ص (409))]. وهذا معنى التعليل بالجهالة.
وعلل ابن القيم النهي بقوله: «النهي عن بيع عسب الفحل من محاسن الشريعة وكمالها، فإن مقابلة ماء الفحل بالأثمان، وجعله محلًا لعقود المعاوضات مما هو مستقبح، ومستهجن عند العقلاء» [زاد المعاد ((5) / (795))]. [المعاملات المالية أصالة ومعاصرة (4/ 99 – 104)].
(المسألة الثانية):
في اختلاف أهل العلم في حكم بيع ضِراب الفَحْل:
قال النووي في «شرح مسلم»: اختَلَف العلماء في إجارة الفحل وغيره من الدواب؛ للضراب،
فقال الشافعيّ، وأبو حنيفة، وأبو ثور، وآخرون: استئجاره لذلك باطل، وحرام، ولا يُستَحَقُّ فيه عِوَضٌ، ولو أنزاه المستأجر لا يلزمه المسمى من أجره، ولا أجرة مثل، ولا شيء من الأموال؛ قالوا: لأنه غرر مجهول، وغير مقدور على تسليمه.
وقال جماعة من الصحابة، والتابعين، ومالك، وآخرون: يجوز استئجاره لضرب مدة معلومة، أو لضربات معلومة؛ لأن الحاجة تدعو اليه، وهي منفعة مقصودة، وحملوا النهي على التنزيه، والحثِّ على مكارم الأخلاق، كما حملوا عليه ما قرنه به من النهي عن إجارة الأرض، والله أعلم. انتهى [«شرح النوويّ» (10) / (230)].
وقال القرطبيّ – رحمه الله – ما حاصله: بيع ماء الفحل لا يُختَلف في فساده إذا وقع بلفظ البيع، وأريد تحصيل العوض الذي هو حصول ماء الفحل في محلّ الرحم، وعَقُوق الأنثى، فإنه غررٌ، ومجهولٌ،
وأما على معنى إجارة الفحل للطَّرْق أعوامًا معلومةً، أو إلى مدّة معلومة، فأجازه مالًك؛ لكمال شروط الإجارة، مع أن أخذ الأجرة على ذلك ليس من مكارم الأخلاق، ولا يفعله غالبًا إلا أولو الدناءة، ويكون هذا كله كالحجامة،
وقد ذهب أبو حنيفة، والشافعيّ، وأبو ثور إلى منع ذلك جملة، والأرجح – إن شاء الله تعالى – ما صار إليه مالك؛ لِما ذكرناه، وبأنه قول جماعة من الصحابة، والتابعين على ما حكاه القاضي عياض. انتهى [«المفهم» (4) / (442) – (443)].
وقال ابن قُدامة – رحمه الله -: إجارة الفحل للضِّراب حرام، وبه قال أبو حنيفة، والشافعيّ، وحُكي عن مالك جوازه، قال ابن عقيل: ويَحْتَمِل عندي الجواز؛ لأنه عقد على منافع الفحل ونزوه، وهذه منفعة مقصودة، والماء تابع، والغالب حصوله عقيب نزوه، فيكون كالعقد على الظئر؛ ليحصل اللبن في بطن الصبيّ.
وحجة الأولين ما رَوى ابن عمر – رضي الله عنهما -: «أن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – نهى عن بيع عَسْب الفحل»، رواه البخاريّ، وعن جابر – رضي الله عنه – قال: «نهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن بيع ضراب الجمل»، رواه مسلم، ولأنه مما لا يُقدر على تسليمه، فأشبه إجارة الآبق، ولأن ذلك متعلق باختيار الفحل وشهوته، ولأن المقصود هو الماء، وهو مما لا يجوز إفراده بالعقد، وهو مجهول، وإجارة الظئر خولف فيه الأصل؛ لمصلحة بقاء الآدميّ، فلا يقاس عليه ما ليس مثله، فعلى هذا إذا أعطى أجرة لعسب الفحل، فهو حرام على الآخذ؛ لما ذكرناه، ولا يحرم على المعطي؛ لأنه بذل ماله لتحصيل مباح، يحتاج إليه، ولا يمتنع هذا كما في كسب الحجام، فإنه خبيث، وقد أعطى النبيّ – صلى الله عليه وسلم – الذي حجمه، وكذلك أجرة الكسح، والصحابة أباحوا شراء المصاحف، وكرهوا بيعها، وإن أعطى صاحب الفحل هدية، أو أكرمه من غير إجارة جاز، وبه قال الشافعيّ؛ لما روى أنس – رضي الله عنه – عن النبيّ – صلى الله عليه وسلم -؛ أنه قال: «إذا كان إكرامًا فلا بأس»، ولأنه سبب مباح، فجاز أخذ الهدية عليه، كالحجامة.
وقال أحمد في رواية ابن القاسم: لا يأخذ، فقيل له: ألا يكون مثل الحجام، يُعطى، وإن كان منهيًا عنه؟ فقال: لم يبلغنا أن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – أعطى في مثل هذا شيئًا، كما بلغنا في الحجام.
ووجهه: أن ما منع أخذ الأجرة عليه منع قبول الهدية، كمهر البغيّ، وحلوان الكاهن، قال القاضي: هذا مقتضى النظر، لكن تُرك مقتضاه في الحجام، فيبقى فيما عداه على مقتضى القياس، والذي ذكرناه أرفق بالناس، وأوفق للقياس، وكلام أحمد يحمل على الورع، لا على التحريم. انتهى [«المغني» (6) / (302) – (304)].
قال الإتيوبي عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه الجمهور من تحريم بيع ضراب الفحل، هو الصواب؛ لظهور أدلّته، وأما لو أُكرم صاحب الفحل بهديّة من غير مشارطة، فلا مانع؛ لما أخرجه الترمذيّ، والنسائيّ، واللفظ للترمذيّ بإسناد صحيح من حديث أنس – رضي الله عنه -: «أن رجلًا من كلاب، سأل النبيّ – صلى الله عليه وسلم -، عن عَسْب الفحل؟ فنهاه، فقال: يا رسول الله، إنا نُطرِق الفحل فنُكرَم، فرخص له في الكرامة»، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. [البحر المحيط الثجاج]. وانظر: شرح (باب ما جاءَ فِي كَراهِيَةِ عَسْبِ الفَحْلِ) من تحفة الأحوذي لعبد الرحمن المباركفوري (ت (1353)).
حديث أنس في الصحيح المسند (63) قال الترمذي:
(1274) حدثنا عبدة بن عبد الله الخزاعي البصري حدثنا يحيى بن آدم عن إبراهيم بن حميد الرؤاسي عن هشام بن عروة عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أنس بن مالك أن رجلا من كلاب سأل النبي – صلى الله عليه وسلم – عن عسب الفحل فنهاه فقال يا رسول الله إنا نطرق الفحل فنكرم فرخص له في الكرامة قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم بن حميد عن هشام بن عروة.
تحقيق الألباني:
صحيح، المشكاة
وفي اطراف الغرائب:
(1228) – حَدِيث: أن رجلا من بني كلاب سَألَ رَسُول الله من عسب الفَحْل .. الحَدِيث.
غَرِيب من حَدِيث هِشام بن عُرْوَة عَن مُحَمَّد.
تفرد بِهِ إبْراهِيم بن حميد الرواسِي عَنهُ. انتهى
وإبراهيم بن حميد الرواسي – ثقة من الثامنة – خ م مد ت س – (تقريب (19)).
وسبق في شرح حديث أنس في الصحيح المسند (63) أن قلنا:
قال في عون المعبود: إنما نهى عنه للجهالة فيه قلت: أو للدناءة لأنه من الأشياء التي يتبرع بها وأيد ابن حجر الأول الفتح (7) / (126)
وأشار إلى تجويز الإجارة على تلقيح النخل لأنه معلوم
ونقلنا نقولات أخرى فلتراجع
(المسألة الثالثة): الأدلة ووجهها
دليل من منع بيع عسب الفحل وإجارته.
الدليل الأول:
(ح – (214)) ما رواه البخاري من طريق علي بن الحكم، عن نافع، عن ابن عمر – رضي الله عنهما -، قال: نهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن عسب الفحل.
وجه الاستدلال:
لا يمكن حمل النهي على نفس العسب، وهو الضراب؛ لأن ذلك جائز بالإعارة، فيحمل على بيع مائه وإجارته إلا أنه حذف ذلك وأضمره فيه، كما في قوله تعالى: {واسْألِ القَرْيَةَ} [يوسف (82)].
وعلة النهي ما تقدم بأن المبيع مجهول، غير متقوم، ولا مقدور على تسليمه.
وأجاب المالكية: بأن النهي محمول على ما فيه غرر من اشتراط الحمل. [الذخيرة ((5) / (414))].
وحمل بعضهم: النهي على الكراهة، وأن النفوس تستقبحه.
ويجاب:
بأن اشتراط الحمل لم يرد في شيء من النصوص، فحمل النهي على أمر لم يذكر في النص تأويل غير سائغ.
الدليل الثاني:
علل الحنفية منع البيع لكون عسب الفحل ليس مالًا [بدائع الصنائع ((5) / (145))].
دليل من قال: تجوز إجارته لمدة معلومة.
الدليل الأول:
القياس على إجارة الظئر للرضاع، مع أنه ممنوع بيع لبنها.
الدليل الثاني:
القياس على جواز الإجارة على تلقيح النخل.
الدليل الثالث:
أن الضراب منفعة مقصودة، والحاجة تدعو إليه، ولولا ذلك لانقطع النسل، والعقد إنما هو على ضراب الفحل، وهي منفعة معلومة، والماء تابع، والغالب حصوله عقيب نزوه، فيكون كالعقد على الظئر.
ويجاب عن ذلك:
بأن قيام الحاجة إليه ليس مسوغًا لجواز بيعه، فهذا الكلب نهى الشارع عن أخذ ثمنه، مع قيام الحاجة إليه في الحراسة والصيد ونحوهما، والمقصود هو ماء الفحل، والضراب وسيلة إليه، وإذا كان قد جاء النهي عن بيع اللبن في الضرع مع أن تحصيلة أمر ممكن مقدور عليه، فالنهي عن بيع عسب الفحل من باب أولى؛ لأنه عين غائبة غير مقدور على تسليمها، والله أعلم.
الدليل الرابع:
ذكر بعض المالكية بأن مالكًا إنما أجاز إجارة الفحل؛ لأن العمل عليه عند أهل المدينة، ومعروف رأي مالك في الاحتجاج بعمل أهل المدينة [التاج والإكليل ((4) / (364))].
ويجاب:
بأن الحجة هو في الدليل الشرعي من كتاب أو سنة أو إجماع أما عمل أهل المدينة فلم نؤمر عند النزاع بالرجوع إليه.
قال تعالى: {فَإنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ والرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ} [النساء (59)].
الراجح:
بعد استعراض أقوال العلماء أجد أن القول بالمنع أقوى دليلًا، خاصة مع صحة النهي عن المعصوم عليه الصلاة والسلام، وإذا لم يجد الإنسان فحلًا بالإعارة جاز له دفع الأجرة على ذلك، والإثم على المؤجر وحده بعد أن يبين له أنه لا يحل له أخذ العوض على الضراب، والله أعلم. [المعاملات المالية أصالة ومعاصرة (4/ 99 – 104)].