(1242) فتح الاحد الصمد شرح الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير، وعبدالحميد البلوشي، وكديم، ومحمد البلوشي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إماراتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا).
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
قال الشيخ مقبل الوادعي في الصحيح المسند (ج2/ رقم 1242):
مسند أبي عَمْرَةَ رضي الله عنه
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج (3) ص (417)): حَدَّثَنا عَلِيُّ بْنُ إسْحاقَ، أخْبَرَنا عَبْدُ اللهِ يَعْنِي ابْنَ مُبارَكٍ، قالَ: أخْبَرَنا الأوْزاعِيُّ، قالَ: حَدَّثَنِي المُطَّلِبُ بْنُ حَنْطَبٍ المَخْزُومِيُّ، قالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أبِي عَمْرَةَ الأنْصارِيُّ، حَدَّثَنِي أبِي قالَ: كُنّا مَعَ رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – فِي غَزاةٍ، فَأصابَ النّاسَ مَخْمَصَةٌ، فاسْتَاذَنَ النّاسُ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – فِي نَحْرِ بَعْضِ ظُهُورِهِمْ، وقالُوا: يُبَلِّغُنا اللهُ بِهِ، فَلَمّا رَأى عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ أنَّ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – قَدْ هَمَّ أنْ يَاذَنَ لَهُمْ فِي نَحْرِ بَعْضِ ظَهْرِهِمْ، (1) قالَ: يا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ بِنا إذا نَحْنُ لَقِينا القَوْمَ غَدًا جِياعًا رِجالًا؟ (2) ولَكِنْ إنْ رَأيْتَ يا رَسُولَ اللهِ أنْ تَدْعُوَ لَنا بِبَقايا أزْوادِهِمْ فَتَجْمَعَها، ثُمَّ تَدْعُوَ اللهَ فِيها بِالبَرَكَةِ، فَإنَّ اللهَ تَبارَكَ وتَعالى سَيُبَلِّغُنا بِدَعْوَتِكَ – أوْ قالَ: سَيُبارِكُ لَنا فِي دَعْوَتِكَ – فَدَعا النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – بِبَقايا أزْوادِهِمْ، فَجَعَلَ النّاسُ يُجِيئُونَ بِالحَثْيَةِ مِنَ الطَّعامِ، وفَوْقَ ذَلِكَ، وكانَ أعْلاهُمْ مَن جاءَ بِصاعٍ مِن تَمْرٍ، فَجَمَعَها رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ قامَ فَدَعا ما شاءَ اللهُ أنْ يَدْعُوَ، ثُمَّ دَعا الجَيْشَ بِأوْعِيَتِهِمْ، فَأمَرَهُمْ أنْ يَحْتَثُوا، فَما بَقِيَ فِي الجَيْشِ وِعاءٌ إلّا مَلَئُوهُ، وبَقِيَ مِثْلُهُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – حَتّى بَدَتْ نَواجِذُهُ، فَقالَ: «أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللهُ، وأشْهَدُ أنِّي رَسُولُ اللهِ، لا يَلْقى اللهَ عَبْدٌ مُؤْمِنٌ بِها إلّا حُجِبَتْ عَنْهُ النّارُ يَوْمَ القِيامَةِ».
هذا حديث صحيحٌ، رجاله ثقات. وقد أخرجه النسائي في «عمل اليوم والليلة» (ص (607)) فقال: أخبرنا سويد بن نصر، قال: أخبرني عبد الله يعني ابن المبارك به.
———
في حاشية تحقيق المسند:
(1) في (ق): ظهورهم.
(2) في (م): أرجالًا، وهو تحريف، ورجالًا جمع راجل.
===================
الحديث سيكون من وجوه:
الأول:
أورد الحديث الإمام أحمد في مسنده، مُسْنَدُ المَكِّيِّينَ، حَدِيثُ أبِي عَمْرَةَ الأنْصارِيِّ رضي الله تعالى عنه، برقم ((15449)).
وفي الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد جعله تحت باب:
“القسم الأول من الكتاب: قسم التوحيد وأصول الدين، كتاب التوحيد، -[نعيم الموحدين ووعيد المشركين (54)]-، (35).
و «(القسم السادس من الكتاب)»، وهو قسم التاريخ من أول بدء الخلق، -[ومن معجزاته – صلى الله عليه وسلم – زيادة الطعام ببركته]-“.
والوادعي رحمه الله جعله في جامعه:
(1) – كتاب العلم، (24) – إبداء الطالب رأيه في المسألة أمام معلمه، ((49)).
و (13) – كتاب الجهاد والغزوات، (17) – صبر المجاهد في سبيل الله على الجوع والمتاعب، ((1965)).
و (15) – كتاب دلائل النبوة، (21) – البركة الإلهية في الطعام القليل، ((2274)).
و (15) – كتاب دلائل النبوة، (23) – الدعوات المستجابة، ((2280)).
و (34) – كتاب التوحيد، (4) – فضل لا إله إلا الله، ((4460)).
وقال شعَيب الأرنؤوط وأخر ط: الرسالة:
“إسناده قوي، المطلب بن حنظب: هو المطلب بن عبد الله بن المطلب بن حنطب المخزومي، روى له أصحاب السنن، وقد وثقه أبو زرعة الرازي ويعقوب بن سفيان والدارقطني وقد صرح بسماعه من عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري، وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين غير علي بن إسحاق: وهو المروزي، فمن رجال الترمذي، وصحابيّه لم يخرج له سوى النسائي.
وهو عند ابن المبارك في «الزهد» ((917))، ومن طريقه النسائي في «الكبرى» ((8793)) – وهو في «عمل اليوم والليلة» ((1140)) -. وأخرجه الطبراني في «الكبير» ((575))، وفي «الأوسط» ((63))، والحاكم (2) / (618) – (619)، والبيهقي في «الدلائل» (6) / (121) من طرق عن الأوزاعي، به، وصححه ابن حبان ((221)) والحاكم، ووافقه الذهبي.
وأخرجه الدولابي في «الكنى» (1) / (45) – (46)، والطبراني في «الكبير» ((575))، وفي «الأوسط» ((63)) من طريق الزهري، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب، به.
وأورده الهيثمي في «مجمع الزوائد» (1) / (19) – (20)، وقال: رواه أحمد والطبراني في «الكبير» و «الأوسط»، ورجاله ثقات، قلنا: وهذا الحديث ليس على شرطه لأنّ النسائي أخرجه كما سلف.
قلنا: والحديث رواه مسلم ((27)) ((44)) من حديث أبي هريرة بهذه القصة، لكن لفظ المرفوع منه: «لا يلقى الله بهما عبد، غير شاكّ فيهما، إلا دخل الجنة». وبنحوه سلف في مسند أبي سعيد الخدري برقم ((11080)).
قال السندي: قوله: في نحر بعض ظهورهم: فيه أنه لا ينبغي للعسكر التصرف في أموالهم المتعلقة بأمر الحرب إلا بإذن الإمام.
وقوله: يُبَلِّغنا: من التبليغ، أي: إلى آخر آجالنا، أي: يُحيينا.
قوله: تدعو لنا ببقايا أزوادهم، أي: يطلب منهم إحضارها لأجلنا.
قوله: ثم قام فدعا: وهكذا جاء القيام في حديث سلمة كما رواه البخاري في كتاب الشركة ((2484))، وفيه دليل على القيام للدعاء عند الشدة والاهتمام بقضاء الحاجة، كما هو عادة أهل المدينهَ عند الدعاء للسلطان.
قوله: «فقال: أشهد … الخ»: تنبيهًا على أنه معجزة.
وقوله – صلى الله عليه وسلم -: «إلا حجبته عن النار يومَ القِيامة» مُقَيدٌ بما إذا لم يستوجِبْ مِن أجله دخولَ النارِ، ولم يتفضلِ المولى جل وعلا عليه بعفوه”. انتهى.
وقال السندي: أبو عمرة الأنصاري، قيل: اسمه بشر، وقيل: بشير، وقيل: غير ذلك، واسم ولده عبد الرحمن.
والثاني: مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): توضيح معنى لا إله إلا الله وشروطها
“لا إله إلا الله هي أفضل الكلام بعد القرآن، هي أحب الكلام إلى الله، وأفضل الكلام، وهي كلمة الإخلاص، وهي أول شيء دعت إليه الرسل -عليهم الصلاة والسلام- وأول شيء دعا إليه النبي – صلى الله عليه وسلم – أن قال لقومه: قولوا: لا إله إلا الله؛ تفلحوا هي كلمة الإخلاص كلمة التوحيد.
ومعناها: “لا معبود حق إلا الله”، هذا معناها كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [الحج:62]
[أركان لا إله إلا الله]
وهي نفي وإثبات (لا إله) نفي و (إلا الله) إثبات (لا إله) تنفي جميع المعبودات، وجميع الآلهة بغير حق، و (إلا الله) تثبت العبادة بالحق لله وحده فهي أصل الدين وأساس الملة.
والواجب على جميع المكلفين من جن، وإنس أن يأتوا بها رجالًا ونساء، مع إيمان بمعناها، واعتقاد له، وإخلاص العبادة لله وحده.
وشروطها ثمانية جمعها بعضهم في بيتين، فقال:
علم يقين وإخلاص وصدقك مع ** محبة وانقياد والقبول لها
وزيد ثامنها الكفران منك بما ** سوى الإله من الأشياء قد ألها
فالذي يعلم هذه الأمور فالحمد لله، وإلا يكفي معناها، وإن لم يعلم هذه الشروط، إذا أتى بمعناها فعبد الله بالحق، وأخلص له العبادة، وترك عبادة ما سواه، واستقام على دين الله؛ كفى وإن لم يعرف الشروط، والشروط معناها واضح:
(علم) يعني: أن تعرف معناها، وأن معناها لا معبود حق إلا الله.
(يقين) وأن تكون موقنًا بذلك ما هو بعن شك، عن يقين أنه لا معبود بحق إلا الله.
(وإخلاص) لا بد من إخلاص العبادة لله وحده، صلاتك، صومك، صدقاتك كلها لله وحده.
(مع محبة) لا بد المحبة تكون لله، تحب الله محبة صادقة، تحب رسوله – صلى الله عليه وسلم – لا بد من محبة الله، جل وعلا.
وهكذا (الصدق) لا بد تكون صادقًا، صادقًا في ذلك، بخلاف المنافقين يكذبون، أما أنت تقولها صادقًا أنه لا معبود حق إلا الله، وانقياد تنقاد لما دلت عليه من إخلاص العبادة لله وحده، وترك عبادة ما سواه، وأداء الشرائع التي شرعها الله لك من الأوامر، وترك النواهي عن محبة، وانقياد.
وهكذا (القبول) تقبل ما جاء به الشرع، ولا ترده، تقبل ما دلت عليه من العبادة، والتوحيد، والإخلاص، ولا ترده، ولا بد من الكفران بما يعبد من دون الله، كما قال سبحانه: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:256] والمعنى أنك تبرأ من ….. تبرأ منها، تعتقد بطلانها، تؤمن بأن الله المعبود بالحق وأن ما عبده الناس من دون الله باطل؛ فتكفر به، وتبرأ منه، هذه معنى الشروط الثمانية.
فإذا عرفها طالب العلم طبقها، والذي لا يعرفها يكفيه المعنى إذا أتى بهذه الكلمة عن إيمان، وإخلاص لله، ويقين، وصدق في ذلك، وتبرأ من عبادة غير الله، وانقاد للشرع، فقد أتى بالمقصود مع محبة الله سبحانه، ومحبة دينه”. قاله الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى [معنى لا إله إلا الله وشروطها، نور على الدرب، للشيخ ابن باز رحمه الله].
(المسألة الثانية): تعريف التوحيد وبيان أقسامه وفضله
“التوحيد في اللغة: مشتق من وحد الشيء إذا جعله واحدا؛ فهو مصدر وحد يوحد؛ أي: جعل الشيء واحدا.
وفي الشرع: إفراد الله سبحانه بما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.
أقسامه: ينقسم التوحيد إلى ثلاثة أقسام:
(1) – توحيد الربوبية.
(2) – توحيد الألوهية.
(3) – توحيد الأسماء والصفات.
وقد اجتمعت في قوله تعالى: {رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما فاعْبُدْهُ واصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم (65)]
القسم الأول: توحيد الربوبية:
“هو إفراد الله – عز وجل – بالخلق، والملك، والتدبير”.
فإفراده بالخلق: أن يعتقد الإنسان أنه لا خالق إلا الله، قال تعالى: {ألا لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ} [الأعراف (54)]؛ فهذه الجملة تفيد الحصر لتقديم الخبر؛ إذ إن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر، وقال تعالى: {هَلْ مِن خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ والأرْضِ} [فاطر (3)]؛ فهذه الآية تفيد اختصاص الخلق بالله، لأن الاستفهام فيها مشرب معنى التحدي.
أما ما ورد من إثبات خلق غير الله؛ كقوله تعالى: {فَتَبارَكَ اللَّهُ أحْسَنُ الخالِقِينَ} [المؤمنون (14)] وكقوله – صلى الله عليه وسلم – في المصورين: يقال لهم «أحيوا ما خلقتم».
فهذا ليس خلقا حقيقة، وليس إيجادا بعد عدم، بل هو تحويل للشيء من حال إلى حال، وأيضا ليس شاملا، بل محصور بما يتمكن الإنسان منه، ومحصور بدائرة ضيقة؛ فلا ينافي قولنا: إفراد الله بالخلق.
وأما إفراد الله بالملك: فأن نعتقد أنه لا يملك الخلق إلا خالقهم؛ كما قال تعالى: {ولِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ} [آل عمران (189)] وقال تعالى: {قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [المؤمنون (88)].
وأما ما ورد من إثبات الملكية لغير الله؛ كقوله تعالى: {إلّا عَلى أزْواجِهِمْ أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُهُمْ فَإنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون (6)] وقال تعالى: {أوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ} [النور (61)]؛ فهو ملك محدود لا يشمل إلا شيئا يسيرا من هذه المخلوقات؛ فالإنسان يملك ما تحت يده، ولا يملك ما تحت يد غيره، وكذا هو ملك قاصر من حيث الوصف؛ فالإنسان لا يملك ما عنده تمام الملك، ولهذا لا يتصرف فيه إلا على حسب ما أذن له فيه شرعا، فمثلا: لو أراد أن يحرق ماله أو يعذب حيوانه؛ قلنا: لا يجوز، أما الله سبحانه؛ فهو يملك ذلك كله ملكا عاما شاملا.
وأما إفراد الله بالتدبير:
فهو أن يعتقد الإنسان أنه لا مدبر إلا الله وحده؛ كما قال تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ والأرْضِ أمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ والأبْصارَ ومَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ ويُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ ومَن يُدَبِّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أفَلا تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الحَقُّ فَماذا بَعْدَ الحَقِّ إلّا الضَّلالُ فَأنّى تُصْرَفُونَ} [يونس (31) – (32)].
وأما تدبير الإنسان؛ فمحصور بما تحت يده ومحصور بما أذن له فيه شرعا.
وهذا القسم من التوحيد لم يعارض فيه المشركون الذين بعث فيهم الرسول – صلى الله عليه وسلم -، بل كانوا مقرين به، قال تعالى: {ولَئِنْ سَألْتَهُمْ مَن خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَلِيمُ} [الزخرف (9)] فهم يقرون بأن الله هو الذي يدبر الأمر، وهو الذي بيده ملكوت السماوات والأرض، ولم ينكره أحد معلوم من بني آدم؛ فلم يقل أحد من المخلوقين: إن للعالم خالقين متساويين.
فلم يجحد أحد توحيد الربوبية، لا على سبيل التعطيل ولا على سبيل التشريك، إلا ما حصل من فرعون؛ فإنه أنكره على سبيل التعطيل مكابرة؛ فإنه عطل الله من ربوبيته وأنكر وجوده، قال تعالى حكاية عنه: {فَقالَ أنا رَبُّكُمُ الأعْلى} [النازعات (24)]، {ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِن إلَهٍ غَيْرِي} [القصص (38)]. وهذا مكابرة منه لأنه يعلم أن الرب غيره؛ كما قال تعالى: {وجَحَدُوا بِها واسْتَيْقَنَتْها أنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وعُلُوًّا} [النمل (14)]، وقال تعالى حكاية عن موسى وهو يناظره: {لَقَدْ عَلِمْتَ ما أنْزَلَ هَؤُلاءِ إلّا رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ} [الإسراء (102)]؛ فهو في نفسه مقر بأن الرب هو الله عز وجل.
وأنكر توحيد الربوبية على سبيل التشريك المجوس، حيث قالوا: إن للعالم خالقين هما الظلمة والنور، ومع ذلك لم يجعلوا هذين الخالقين متساويين، فهم يقولون: إن النور خير من الظلمة؛ لأنه يخلق الخير، والظلمة تخلق الشر، والذي يخلق الخير خير من الذي يخلق الشر.
وأيضا فإن الظلمة عدم لا يضيء، والنور وجود يضيء؛ فهو أكمل في ذاته.
ويقولون أيضا بفرق ثالث، وهو: أن النور قديم على اصطلاح الفلاسفة، واختلفوا في الظلمة: هل هي قديمة، أو محدثة؟ على قولين.
دلالة العقل على أن الخالق للعالم واحد:
قال الله تعالى: {ما اتَّخَذَ اللَّهُ مِن ولَدٍ وما كانَ مَعَهُ مِن إلَهٍ إذًا لَذَهَبَ كُلُّ إلَهٍ بِما خَلَقَ ولَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ} [المؤمنون (91)]، إذ لو أثبتنا للعالم خالقين؛ لكان كل خالق يريد أن ينفرد بما خلق ويستقل به كعادة الملوك؛ إذ لا يرضى أن يشاركه أحد، وإذا استقل به؛ فإنه يريد أيضا أمرا آخر، وهو أن يكون السلطان له لا يشاركه فيه أحد.
وحينئذ إذا أرادا السلطان؛ فإما أن يعجز كل واحد منهما عن الآخر، أو يسيطر أحدهما على الآخر؛ فإن سيطر أحدهما على الآخر ثبتت الربوبية له، وإن عجز كل منهما عن الآخر زالت الربوبية منهما جميعا؛ لأن العاجز لا يصلح أن يكون ربا.
القسم الثاني: توحيد الألوهية:
ويقال له: توحيد العبادة باعتبارين؛ فباعتبار
– إضافته إلى الله يسمى: توحيد الألوهية،
– وباعتبار إضافته إلى الخلق يسمى: توحيد العبادة.
“وهو إفراد الله عز وجل بالعبادة”؛ فالمستحق للعبادة هو الله تعالى، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأنَّ اللَّهَ هُوَ الحَقُّ وأنَّ ما يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الباطِلُ} [لقمان (30)].
والعبادة تطلق على شيئين:
الأول: التعبد: بمعنى التذلل لله عز وجل بفعل أوامره واجتناب نواهيه؛ محبة وتعظيما.
الثاني: المتعبد به؛ فمعناها كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «إسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة».
مثال ذلك: الصلاة؛ ففعلها عبادة، وهو التعبد، ونفس الصلاة عبادة، وهو المتعبد به.
فإفراد الله بهذا التوحيد: أن تكون عبدا لله وحده تفرده بالتذلل؛ محبة وتعظيما، وتعبده بما شرع، قال تعالى: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء (22)] وقال تعالى {الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ} [الفاتحة (2)]؛ فوصفه سبحانه بأنه رب العالمين كالتعليل لثبوت الألوهية له؛ فهو الإله لأنه رب العالمين، وقال تعالى: {يا أيُّها النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ والَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة (21)]؛ فالمنفرد بالخلق هو المستحق للعبادة.
إذ من السفه أن تجعل المخلوق الحادث الآيل للفناء إلها تعبده؛ فهو في الحقيقة لن ينفعك لا بإيجاد ولا بإعداد ولا بإمداد، فمن السفه أن تأتي إلى قبر إنسان صار رميما تدعوه وتعبده، وهو بحاجة إلى دعائك، وأنت لست بحاجة إلى أن تدعوه؛ فهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا؛ فكيف يملكه لغيره؟ !
وهذا القسم كفر به وجحده أكثر الخلق، ومن أجل ذلك أرسل الله الرسل، وأنزل عليهم الكتب، قال الله تعالى: {وما أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ إلّا نُوحِي إلَيْهِ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا أنا فاعْبُدُونِ} [الأنبياء (25)].
ومع هذا؛ فأتباع الرسل قلة، قال عليه الصلاة والسلام: «فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد».
تنبيه:
من العجب أن أكثر المصنفين في علم التوحيد من المتأخرين يركزون على توحيد الربوبية، وكأنما يخاطبون أقواما ينكرون وجود الرب وإن كان يوجد من ينكر الرب، لكن ما أكثر المسلمين الواقعين في شرك العبادة!
ولهذا ينبغي أن يركز على هذا النوع من التوحيد.
القسم الثالث: توحيد الأسماء والصفات:
وهو “إفراد الله عز وجل بما له من الأسماء والصفات”.
وهذا يتضمن شيئين:
الأول: الإثبات، وذلك بأن نثبت لله عز وجل جميع أسمائه وصفاته التي أثبتها لنفسه في كتابه أو سنة نبيه – صلى الله عليه وسلم -.
الثاني: نفي المماثلة، وذلك بأن لا نجعل لله مثيلا في أسمائه وصفاته؛ كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى (11)]. فدلت هذه الآية على أن جميع صفاته لا يماثله فيها أحد من المخلوقين؛ فهي وإن اشتركت في أصل المعنى، لكن تختلف في حقيقة الحال، فمن لم يثبت ما أثبته الله لنفسه؛ فهو معطل، وتعطيله هذا يشبه تعطيل فرعون، ومن أثبتها مع التشبيه صار مشابها للمشركين الذين عبدوا مع الله غيره، ومن أثبتها بدون مماثلة صار من الموحدين.
وهذا القسم من التوحيد هو الذي ضلت فيه بعض الأمة الإسلامية وانقسموا فيه إلى فرق كثيرة؛ فمنهم من سلك مسلك التعطيل، فعطل، ونفى الصفات زاعما أنه منزه لله، وقد ضل؛ لأن المنزه حقيقة هو الذي ينفي عنه صفات النقص والعيب، وينزه كلامه من أن يكون تعمية وتضليلاَ، فإذا قال: بأن الله ليس له سمع، ولا بصر، ولا علم، ولا قدرة؛ لم ينزه الله، بل وصمه بأعيب العيوب، ووصم كلامه بالتعمية والتضليل؛ لأن الله يكرر ذلك في كلامه ويثبته، سميع بصير، عزيز حكيم، غفور رحيم، فإذا أثبته في كلامه وهو خال منه؛ كان في غاية التعمية والتضليل والقدح في كلام الله عز وجل، ومنهم من سلك مسلك التمثيل زاعما بأنه محقق لما وصف الله به نفسه، وقد ضلوا لأنهم لم يقدروا الله حق قدره؛ إذ وصموه بالعيب والنقص؛ لأنهم جعلوا الكامل من كل وجه كالناقص من كل وجه.
وإذا كان اقتران تفضيل الكامل على الناقص يحط من قدره؛ كما قيل:
ألم تر أن السيف ينقص قدره … إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
فكيف بتمثيل الكامل بالناقص؟! هذا أعظم ما يكون جناية في حق الله عز وجل، وإن كان المعطل أعظم جرما، لكن الكل لم يقدر الله حق قدره.
فالواجب: أن نؤمن بما وصف الله وسمى به نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله – صلى الله عليه وسلم -، من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل.
هكذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم.
فالتحريف في النصوص، والتعطيل في المعتقد، والتكييف في الصفة، والتمثيل في الصفة، إلا أنه أخص من التكييف؛ فكل ممثل مكيف، ولا عكس، فيجب أن تبرأ عقيدتنا من هذه الأمور الأربعة.
ونعني بالتحريف هنا: التأويل الذي سلكه المحرفون لنصوص الصفات؛ لأنهم سموا أنفسهم أهل التأويل، لأجل تلطيف المسلك الذي سلكوه؛ لأن النفوس تنفرد من كلمة تحريف، لكن هذا من باب زخرفة القول وتزيينه للناس، حتى لا ينفروا منه.
وحقيقة تأويلهم: التحريف، وهو صرف اللفظ عن ظاهره؛ فنقول: هذا الصرف إن دل عليه دليل صحيح؛ فليس تأويلا بالمعنى الذي تريدون، لكنه تفسير.
وإن لم يدل عليه دليل؛ فهو تحريف، وتغيير للكلم عن مواضعه؛ فهؤلاء الذين ضلوا بهذه الطريقة، فصاروا يثبتون الصفات لكن بتحريف؛ قد ضلوا، وصاروا في طريق معاكس لطريق أهل السنة والجماعة.
وعليه لا يمكن أن يوصفوا بأهل السنة والجماعة؛ لأن الإضافة تقتضي النسبة، فأهل السنة منتسبون للسنة؛ لأنهم متمسكون بها، وهؤلاء ليسوا متمسكين بالسنة فيما ذهبوا إليه من التحريف.
وأيضا الجماعة في الأصل: الاجتماع، وهم غير مجتمعين في آرائهم؛ ففي كتبهم التداخل، والتناقض، والاضطراب، حتى إن بعضهم يضلل بعضا، ويتناقض هو بنفسه.
وقد نقل شارح «الطحاوية» عن الغزالي -وهو ممن بلغ ذروة علم الكلام- كلاما إذا قرأه الإنسان تبين له ما عليه أهل الكلام من الخطأ والزلل والخطل، وأنهم ليسوا على بينة من أمرهم.
وقال الرازي وهو من رؤسائهم:
نهاية إقدام العقول عقال … وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا … وغاية دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا … سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
ثم قال: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية؛ فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا، ووجدت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى} [طه (5)]، {إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر (10)]؛ يعني: فأثبت، وأقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى (11)]، {ولا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه (110)]؛ يعني: فأنفي المماثلة، وأنفي الإحاطة به علما، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.
فتجدهم حيارى مضطربين، ليسوا على يقين من أمرهم، وتجد من هداه الله الصراط المستقيم مطمئنا منشرح الصدر، هادئ البال، يقرأ في كتاب الله وفي سنة رسوله – صلى الله عليه وسلم -، ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات؛ فيثبت؛ إذ لا أحد أعلم من الله بالله، ولا أصدق خبرا من خبر الله، ولا أصح بيانا من بيان الله؛ كما قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} [النساء (26)] {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أنْ تَضِلُّوا} [النساء (176)]، {ونَزَّلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ تِبْيانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل (89)]، {ومَن أصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء (122)] {ومَن أصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء (87)].
فهذه الآيات وغيرها تدل على أن الله يبين للخلق غاية البيان الطريق التي توصلهم إليه، وأعظم ما يحتاج الخلق إلى بيانه ما يتعلق بالله تعالى وبأسماء الله وصفاته حتى يعبدوا الله على بصيرة؛ لأن عبادة من لم نعلم صفاته، أو من ليس له صفة أمر لا يتحقق أبدا؛ فلا بد أن تعلم من صفات المعبود ما تجعلك تلتجئ إليه وتعبده حقا.
ولا يتجاوز الإنسان حده إلى التكييف أو التمثيل؛ لأنه إذا كان عاجزا عن تصور نفسه التي بين جنبيه؛ فمن باب أولى أن يكون عاجزا عن تصور حقائق ما وصف الله به نفسه، ولهذا يجب على الإنسان أن يمنع نفسه عن السؤال بـ «لم» و «كيف» فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته، وكذا يمنع نفسه من التفكير بالكيفية.
وهذا الطريق إذا سلكه الإنسان استراح كثيرا، وهذه حال السلف رحمهم الله، ولهذا لما جاء رجل إلى الإمام مالك بن أنس رحمه الله قال: يا أبا عبد الله! {الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى}، كيف استوى؟ فأطرق برأسه وقال: «الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعا».
أما في عصرنا الحاضر؛ فنجد من يقول: «إن الله ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر كل ليلة» فيلزم من هذا أن يكون كل الليل في السماء الدنيا؛ لأن الليل يمشي على جميع الأرض؛ فالثلث ينتقل من هذا المكان إلى المكان الآخر، وهذا لم يقله الصحابة رضوان الله عليهم، ولو كان هذا يرد على قلب المؤمن؛ لبينه الله إما ابتداء أو على لسان رسوله – صلى الله عليه وسلم -، أو يقيض من يسأله عنه فيجاب، كما «سأل الصحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: أين كان الله قبل أن يخلق السماوات» «والأرض؛ فأجابهم».
فهذا السؤال العظيم يدل على أن كل ما يحتاج إليه الناس فإن الله يبينه بأحد الطرق الثلاثة.
والجواب عن الإشكال في حديث النزول: أن يقال: ما دام ثلث الليل الأخير في هذه الجهة باقيا؛ فالنزول فيها محقق، وفي غيرها لا يكون نزول قبل ثلث الليل الأخير أو النصف، والله عز وجل ليس كمثله شيء، والحديث يدل على أن وقت النزول ينتهي بطلوع الفجر.
وعلينا أن نستسلم، وأن نقول: سمعنا، وأطعنا، واتبعنا، وآمنا؛ فهذه وظيفتنا لا نتجاوز القرآن والحديث.
(المسألة الثالثة): فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب
“تحقيق التوحيد: تخليصه من الشرك، ولا يكون إلا بأمور ثلاثة:
الأول: العلم؛ فلا يمكن أن تحقق شيئا قبل أن تعلمه، قال الله تعالى: {فاعْلَمْ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ} [محمد (19)].
الثاني: الاعتقاد، فإذا علمت ولم تعتقد واستكبرت؛ لم تحقق التوحيد، قال الله تعالى عن الكافرين: {أجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهًا واحِدًا إنَّ هَذا لَشَيْءٌ عُجابٌ} [صّ (5)]؛ فما اعتقدوا انفراد الله بالألوهية.
الثالث: الانقياد، فإذا علمت واعتقدت ولم تنقد؛ لم تحقق التوحيد، قال تعالى: {إنَّهُمْ كانُوا إذا قِيلَ لَهُمْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ويَقُولُونَ أئِنّا لَتارِكُو آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات (35)، (36)].
[فائدة]: فإذا حصل هذا وحقق التوحيد؛ فإن الجنة مضمونة له بغير حساب، ولا يحتاج أن نقول إن شاء الله؛ لأن هذا حكاية حكم ثابت شرعا، ولهذا جزم المؤلف رحمه الله تعالى بذلك في الترجمة دون أن يقول: إن شاء الله.
أما بالنسبة للرجل المعين؛ فإننا نقول: إن شاء الله [مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (9/ 79)].
(المسألة الرابعة): الحكمة من خلق الجن والأنس
قول الله تعالى: {وما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات (56)] الآية. أي: ما خلقت الجن والإنس لأي شيء إلا للعبادة.
واللام في قوله: {إلّا لِيَعْبُدُونِ} للتعليل، وهذا التعليل لبيان الحكمة من الخلق، وليس التعليل الملازم للمعلول؛ إذ لو كان كذلك للزم أن يكون الخلق كلهم عبادا يتعبدون له، وليس الأمر كذلك، فهذه العلة غائية، وليست موجبة.
فالعلة الغائية لبيان الغاية والمقصود من هذا الفعل، لكنها قد تقع، وقد لا تقع، مثل: بريت القلم لأكتب به؛ فقد تكتب، وقد لا تكتب.
والعلة الموجبة معناها: أن المعلول مبني عليها؛ فلا بد أن تقع، وتكون سابقة للمعلول، ولازمة له، مثل: انكسر الزجاج لشدة الحر.
قوله: {خَلَقْتُ}؛ أي: أوجدت، وهذا الإيجاد مسبوق بتقدير، وأصل الخلق التقدير.
قوله: {الجِنَّ}: هم عالم غيبي مخفي عنا، ولهذا جاءت المادة من الجيم والنون، وهما يدلان على الخفاء والاستتار، ومنه: الجَنة، والجِنة، والجُنة.
قوله: {والإنْسَ} سموا بذلك؛ لأنهم لا يعيشون بدون إيناس؛ فهم يأنس بعضهم ببعض، ويتحرك بعضهم إلى بعض.
قوله: {إلّا لِيَعْبُدُونِ} فسر: إلا ليوحدون، وهذا حق، وفسر: بمعنى يتذللون لي بالطاعة فعلا للمأمور، وتركا للمحظور، ومن طاعته أن يوحد سبحانه وتعالى؛ فهذه هي الحكمة من خلق الجن والإنس.
ولهذا أعطي الله البشر عقولا، وأرسل إليهم رسلا، وأنزل عليهم كتبا، ولو كان الغرض من خلقهم كالغرض من خلق البهائم؛ لضاعت الحكمة من إرسال الرسل، وإنزال الكتب؛ لأنه في النهاية يكون كشجرة نبتت، ونمت، وتحطمت، ولهذا قال تعالى: {إنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ القُرْآنَ لَرادُّكَ إلى مَعادٍ} [القصص (85)]؛ فلا بد أن يردك إلى معاد تجازى على عملك إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
وليست الحكمة من خلقهم نفع الله، ولهذا قال تعالى: {ما أُرِيدُ مِنهُمْ مِن رِزْقٍ وما أُرِيدُ أنْ يُطْعِمُونِ} [الذريات (57)].
وأما قوله تعالى: {مَن ذا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضاعِفَهُ لَهُ} [البقرة (245)].
فهذا ليس إقراضا لله سبحانه، بل هو غني عنه، لكنه سبحانه شبه معاملة عبده له بالقرض؛ لأنه لا بد من وفائه، فكأنه التزام من الله سبحانه أن يوفي العامل أجر عمله كما يوفي المقترض من أقرضه
(المسألة الخامسة): إرسال الله تعالى الأنبياء إلى الناس لبيان التوحيد
قوله تعالى: {ولَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ واجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ} [النحل (36)].
قوله {ولَقَدْ}: اللام موطأة لقسم مقدر، وقد: للتحقيق. وعليه؛ فالجملة مؤكدة بالقسم المقدر، واللام، وقد.
قوله: {بَعَثْنا}؛ أي: أخرجنا، وأرسلنا في كل أمة.
فكل أمة بعث فيها رسول من عهد نوح إلى عهد نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم -.
* والحكمة من إرسال الرسل:
أ – إقامة الحجة: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ لِئَلّا يَكُونَ لِلنّاسِ عَلى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء (165)].
ب – الرحمة: لقوله تعالى: {وما أرْسَلْناكَ إلّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ} [الأنبياء (107)].
ج – بيان الطريق الموصل إلى الله تعالى؛ لأن الإنسان لا يعرف ما يجب لله على وجه التفصيل إلا عن طريق الرسل.
قوله: {أنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ} «أن»: قيل: تفسيرية، وهي التي سبقت بما يدل على القول دون حروفه؛ كقوله تعالى: {فَأوْحَيْنا إلَيْهِ أنِ اصْنَعِ الفُلْكَ} [المؤمنون (27)]، والوحي فيه معنى القول دون حروفه، والبعث متضمن معنى الوحي؛ لأن كل رسول موحى إليه.
وقيل: إنها مصدرية على تقدير الباء؛ أي: بأن اعبدوا، والراجح: الأول؛ لعدم التقدير.
قوله: {أنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ} أي: تذللوا له بالعبادة، وسبق تعريف العبادة. ((1))
قوله: {واجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ} أي: ابتعدوا عنه بأن تكونوا في جانب، وهو في جانب، والطاغوت: مشتق من الطغيان، وهو صفة مشبهة، والطغيان: مجاوزة الحد؛ كما في قوله تعالى: {إنّا لَمّا طَغى الماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الجارِيَةِ} [الحاقة (11)]؛ أي: تجاوز حده.
وأجمع ما قيل في تعريفه هو ما ذكره ابن القيم رحمه الله بأنه: «ما تجاوز به العبد حده من متبوع، أو معبود، أو مطاع». ومراده من كان راضيا بذلك، أو يقال: هو طاغوت باعتبار عابده، وتابعه، ومطيعه، لأنه تجاوز به حده حيث نزله فوق منزلته التي جعلها الله له، فتكون عبادته لهذا المعبود، واتباعه لمتبوعه، وطاعته لمطاعه طغيانا لمجاوزته الحد بذلك.
فالمتبوع مثل: الكهان، والسحرة، وعلماء السوء.
والمعبود مثل: الأصنام.
والمطاع مثل: الأمراء الخارجين عن طاعة الله، فإذا اتخذهم الإنسان أربابا يحل ما حرم الله من أجل تحليلهم له، ويحرم ما أحل الله من أجل تحريمهم له؛ فهؤلاء طواغيت، والفاعل تابع للطاغوت، قال تعالى: {ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالجِبْتِ والطّاغُوتِ} [النساء (51)]، ولم يقل: إنهم طواغيت.
ودلالة الآية على التوحيد:
أن الأصنام من الطواغيت التي تعبد من دون الله.
والتوحيد لا يتم إلا بركنين، هما:
(1) – الإثبات.
(2) – النفي.
إذ النفي المحض تعطيل محض، والإثبات المحض لا يمنع المشاركة.
مثال ذلك: زيد قائم، يدل على ثبوت القيام لزيد، لكن لا يدل على انفراده به.
ولم يقم أحد، هذا نفي محض.
ولم يقم إلا زيد، هذا توحيد له بالقيام؛ لأنه اشتمل على إثبات ونفي.
قوله: «الآية» أي: إلى آخر الآية، وتقرأ بالنصب؛ إما على أنها مفعول به لفعل محذوف تقديره أكمل الآية، أو أنها منصوب بنزع الخافض؛ أي: إلى آخر الآية.
ووجه الاستشهاد بهذه الآية لكتاب التوحيد: أنها دالة على إجماع الرسل عليهم الصلاة والسلام على الدعوة إلى التوحيد، وأنهم أرسلوا به؛ لقوله تعالى: {أنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ واجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ}
(المسألة السادسة): قضاء الله الكوني والشرعي
قوله تعالى: {وقَضى رَبُّكَ ألّا تَعْبُدُوا إلّا إيّاهُ} الآية.
قوله: قضى قضاء الله -عز وجل- ينقسم إلى قسمين:
(1) – قضاء شرعي. (2) – قضاء كوني.
فالقضاء الشرعي: يجوز وقوعه من المقضي عليه وعدمه، ولا يكون إلا فيما يحبه الله.
مثال ذلك: هذه الآية: {وقَضى رَبُّكَ ألّا تَعْبُدُوا إلّا إيّاهُ} [الإسراء (23)]؛ فتكون قضى بمعنى: شرع، أو بمعنى: وصى، وما أشبههما.
والقضاء الكوني: لا بد من وقوعه، ويكون فيما أحبه الله، وفيما لا يحبه.
مثال ذلك: قوله تعالى: {وقَضَيْنا إلى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرْضِ مَرَّتَيْنِ ولَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء (4)] فالقضاء هنا كوني؛ لأن الله لا يشرع الفساد في الأرض، ولا يحبه.
قوله: أن لا تعبدوا. أن هنا مصدرية بدليل حذف النون من تعبدوا، والاستثناء هنا مفرغ؛ لأن الفعل لم يأخذ مفعوله؛ فمفعوله ما بعد إلا.
قوله: {إلّا إيّاهُ} ضمير نصب منفصل واجب الانفصال؛ لأن المتصل لا يقع بعد إلا، قال ابن مالك: وذو اتصال منه ما لا يبتدا … ولا يلي إلا اختيارا أبدا
إشكال وجوابه:
إذا قيل: ثبت أن الله قضى كونا ما لا يحبه؛ فكيف يقضي الله ما لا يحبه؟
فالجواب: أن المحبوب قسمان:
(1) – محبوب لذاته.
(2) – محبوب لغيره.
فالمحبوب لغيره قد يكون مكروها لذاته، ولكن يحب لما فيه من الحكمة والمصلحة؛ فيكون حينئذ محبوبا من وجه، مكروها من وجه آخر.
مثال ذلك: الفساد في الأرض من بني إسرائيل في حد ذاته مكروه إلى الله؛ لأن الله لا يحب الفساد، ولا المفسدين، ولكن للحكمة التي يتضمنها يكون بها محبوبا إلى الله -عز وجل- من وجه آخر.
ومن ذلك: القحط، والجدب، والمرض، والفقر، لأن الله رحيم لا يحب أن يؤذي عباده بشيء من ذلك، بل يريد بعباده اليسر، لكن يقدره للحكم المترتبة عليه؛ فيكون محبوبا إلى الله من وجه، مكروها من وجه آخر.
قال الله تعالى: {ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرِّ والبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أيْدِي النّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم (41)].
فإن قيل: كيف يتصور أن يكون الشيء محبوبا من وجه مكروها من وجه آخر؟
فيقال: هذا الإنسان المريض يعطى جرعة من الدواء مرة كريهة الرائحة واللون، فيشربها، وهو يكرهها لما فيها من المرارة واللون والرائحة، ويحبها لما فيها من الشفاء، وكذا الطبيب يكوي المريض بالحديدة المحماة على النار، ويتألم منها؛ فهذا الألم مكروه له من وجه، محبوب له من وجه آخر.
فإن قيل: لماذا لم يكن قوله {وقَضى رَبُّكَ ألّا تَعْبُدُوا إلّا إيّاهُ} من باب القضاء القدري؟
أجيب: بأنه لا يمكن؛ إذ لو كان قضاء قدريا لعبد الناس كلهم ربهم، لكنه قضاء شرعي قد يقع وقد لا يقع.
والخطاب في الآية للنبي – صلى الله عليه وسلم -، لكن قال: {وقَضى رَبُّكَ ألّا تَعْبُدُوا إلّا إيّاهُ}، ولم يقل: «أن لا تعبد»، ونظير ذلك في القرآن قوله تعالى: {يا أيُّها النَّبِيُّ إذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ} [الطلاق (1)]؛ فالخطاب الأول للرسول – صلى الله عليه وسلم – والثاني عام.
* أقسام العبودية:
تنقسم العبودية إلى ثلاثة أقسام:
(1) – عامة، وهي عبودية الربوبية، وهي لكل الخلق، قال تعالى: {إنْ كُلُّ مَن فِي السَّماواتِ والأرْضِ إلّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم (93)]، ويدخل في ذلك الكفار.
(2) – عبودية خاصة، وهي عبودية الطاعة العامة، قال تعالى: {وعِبادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلى الأرْضِ هَوْنًا} [الفرقان (63)]، وهذه تعم كل من تعبد لله بشرعه.
(3) – خاصة الخاصة، وهي عبودية الرسل عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى عن نوح: {إنَّهُ كانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء (3)]، وقال عن محمد: {وإنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا} [البقرة (23)]، وقال في آخرين من الرسل: {واذْكُرْ عِبادَنا إبْراهِيمَ وإسْحاقَ ويَعْقُوبَ أُولِي الأيْدِي والأبْصارِ} [صّ (45)].
فهذه العبودية المضافة إلى الرسل خاصة الخاصة؛ لأنه لا يباري أحد هؤلاء الرسل في العبودية.
فإن قيل: فأين حق الرسول – صلى الله عليه وسلم -؟
أجيب: بأن حق الله متضمن لحق الرسول – صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الله لا يعبد إلا بما شرع الرسول – صلى الله عليه وسلم -.
(المسألة السابعة): الأمر بأفراد الله تعالى بالعبادة
قوله تعالى: {واعْبُدُوا اللَّهَ ولا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء (36)].
قوله تعالى: {ولا تُشْرِكُوا} في مقابل «لا إله»؛ لأنها نفي.
وقوله: {واعْبُدُوا} في مقابل «إلا الله»؛ لأنها إثبات
وقوله: {شَيْئًا} نكرة في سياق النهي؛ فتعم كل شيء: لا نبيا، ولا ملكا، ولا وليا، بل ولا أمرا من أمور الدنيا؛ فلا تجعل الدنيا شريكا مع الله، والإنسان إذا كان همه الدنيا كان عابدا لها؛ كما قال – صلى الله عليه وسلم -: «تعس عبد الدينار،» «تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة».
(المسألة الثامنة): بيان ما حرم الله على المؤمنين
قوله تعالى: {قُلْ تَعالَوْا أتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ألّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام (151)] الآيات.
الخطاب للنبي – صلى الله عليه وسلم -، أمره الله أن يقول للناس: تعالوا؛ أي أقبلوا، وهلموا، وأصله من العلو كأن المنادي يناديك أن تعلو إلى مكانه، فيقول: تعالى؛ أي ارتفع إلي.
وقوله: {أتْلُ} بالجزم جوابا للأمر في قوله: تعالوا.
وقوله: {ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} «ما» اسم موصول مفعول لأتل، والعائد محذوف، والتقدير: ما حرمه ربكم عليكم.
وقال: ربكم ولم يقل: ما حرم الله؛ لأن الرب هنا أنسب، حيث إن الرب له مطلق التصرف في المربوب، والحكم عليه بما تقتضيه حكمته.
قوله: {ألّا تُشْرِكُوا} أن تفسيرية، تفسر {أتْلُ ما حَرَّمَ}؛ أي: أتلو عليكم ألا تشركوا به شيئا، وليست مصدرية، وقد قيل به، وعلى هذا القول تكون «لا» زائدة، ولكن القول الأول أصح؛ أي: أتل عليكم عدم الإشراك؛ لأن الله لم يحرم علينا أن لا نشرك به، بل حرم علينا أن نشرك به، ومما يؤيد أن «أن» تفسيرية أن «لا» هنا ناهية لتتناسب الجمل؛ فتكون كلها طلبية.
(المسألة التاسعة): الخوف من الشرك
[أولاً:]
قول الله عز وجل: {إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ} [النساء: (116).]
الإنسان يرى أنه قد حقق التوحيد وهو لم يحققه، ولهذا قال بعض السلف: (ما جاهدت نفسي على شيء مجاهدتها على الإخلاص)، وذلك أن النفس متعلقة بالدنيا تريد حظوظها من مال أو جاه أو رئاسة، وقد تريد بعمل الآخرة الدنيا، وهذا نقص في الإخلاص، وقل من يكون غرضه الآخرة في كل عمله، ولهذا أعقب المؤلف رحمه الله ما سبق من البابين بهذا الباب، وهو الخوف من الشرك، وذكر فيه آيتين:
الأولى قوله: {إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ}.
(لا): نافية، أن يشرك به: فعل مضارع مقرون بان المصدرية؛ فيحول إلى مصدر تقدره: إن الله لا يغفر الإشراك به، أو لا يغفر إشراكا به؛ فالشرك لا يغفره الله أبدا؛ لأنه جناية على حق الله الخاص، وهو التوحيد.
أما المعاصي؛ كالزنا والسرقة؛ فقد يكون للإنسان فيها حظ نفس بما نال من شهوة،
أما الشرك؛ فهو اعتداء على حق الله تعالى، وليس للإنسان فيه حظ نفس، وليس شهوة يريد الإنسان أن ينال مراده، ولكنه ظلم، ولهذا قال الله تعالى: {إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: (13).].
وهل المراد بالشرك هنا الأكبر، أم مطلق الشرك؟
قال بعض العلماء: إنه مطلق يشمل كل شرك ولو أصغر؛ كالحلف بغير الله، فإن الله لا يغفره، أما بالنسبة لكبائر الذنوب؛ كالسرقة والخمر؛ فإنها تحت المشيئة، فقد يغفرها الله، وشيخ الإسلام ابن تيمية المحقق في هذه المسائل اختلف كلامه في هذه المسألة؛ فمرة قال: الشرك لا يغفره الله ولو كان أصغر، ومرة قال: الشرك الذي لا يغفره الله هو الشرك الأكبر، وعلى كل حال؛ فيجب الحذر من الشرك مطلقا؛ لأن العموم يحتمل أن يكون داخلا فيه الأصغر؛ لأن قوله: {أنْ يُشْرَكَ بِهِ} أن وما بعدها في تأويل مصدر، تقديره: إشراكا به؛ فهو نكرة في سياق النفي، فتفيد العموم.
قوله: {ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ} المراد بالدون هنا: ما هو أقل من الشرك وليس ما سوى الشرك.
الآية الثانية: قوله: {واجْنُبْنِي وبَنِيَّ أنْ نَعْبُدَ الأصْنامَ}. قيل: المراد ببنيه: بنوه لصلبه، ولا نعلم له من صلبه سوى إسماعيل وإسحاق، وقيل: المراد ذريته وما توالد من صلبه، وهو الأرجح، وذلك للآيات التي دلت على دعوته للناس من ذريته، ولكن كان من حكمة الله أن لا تجاب دعوته في بعضهم، كما «أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – دعا أن لا يجعل بأس أمته بينهم»؟ فلم يجب الله دعاه.
وأيضا يمنع من الأول أن الآية بصيغة الجمع، وليس لإبراهيم من الأبناء سوى إسحاق وإسماعيل.
ومعنى: واجنبني؛ أي: اجعلني في جانب والأصنام في جانب، وهذا أبلغ مما لو قال: امنعني وبني من عبادة الأصنام؛ لأنه إذا كان في جانب عنها كان أبعد.
فإبراهيم عليه السلام يخاف الشرك على نفسه، وهو خليل الرحمن وإمام الحنفاء؛ فما بالك بنا نحن إذًا؟!
فلا تأمن الشرك، ولا تأمن النفاق؛ إذ لا يأمن النفاق إلا منافق، ولا يخاف النفاق إلا مؤمن، ولهذا قال ابن أبي ملكية: (أدركت ثلاثين من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم -، كلهم يخاف النفاق على نفسه).
وها هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه خاف على نفسه النفاق؛ فقال لحذيفة بن اليمان رضي الله عنه الذي أسر إليه النبي – صلى الله عليه وسلم – بأسماء أناس من المنافقين فقال له عمر رضي الله عنه: (أنشدك الله؛ هل سماني لك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مع من سمى من المنافقين؟ فقال حذيفة رضي الله عنه: لا، ولا أزكي بعدك أحدا) أراد عمر بذلك زيادة الطمأنينة، وإلا؛ فقد شهد له النبي – صلى الله عليه وسلم – بالجنة.
[الثاني:]
في الحديث: «(أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر). فسئل عنه؟ فقال: (الرياء)» قوله: (الرياء) مشتق من الرؤية مصدر راءى يرائي، والمصدر رياء؛ كقاتل يقاتل قتالا.
والرياء: أن يعبد الله ليراه الناس فيمدحوه على كونه عابدا، وليس يريد أن تكون العبادة للناس؛ لأنه لو أراد ذلك؛ لكان شركا أكبر، والظاهر أن هذا على سبيل التمثيل، وإلا؛ فقد يكون رياء، وقد يكون سماعا أي يقصد بعبادته أن يسمعه الناس فيثنوا عليه، فهذا داخل في الرياء؛ فالتعبير بالرياء من باب التعبير بالأغلب.
أما إن أراد بعبادته أن يقتدي الناس به فيها؛ فليس هذا رياء، بل هذا من الدعوة إلى الله عز وجل، والرسول – صلى الله عليه وسلم – يقول: «فعلت هذا لتأتموا بي» «وتعلموا صلاتي».
والرياء ينقسم باعتبار إبطاله للعبادة إلى قسمين:
الأول: أن يكون في أصل العبادة، أي ما قام يتعبد إلا للرياء؛ فهذا عمله باطل مردود عليه لحديث أبي هريرة في (الصحيح) مرفوعا، قال الله تعالى: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه».
الثاني: أن يكون الرياء طارئا على العبادة، أي أن أصل العبادة لله، لكن طرأ عليها الرياء؛ فهذا ينقسم إلى قسمين:
الأول: أن يدافعه؛ فهذا لا يضره.
مثاله: رجل صلى ركعة، ثم جاء أناس في الركعة الثانية، فحصل في قلبه شيء بأن أطال الركوع أو السجود أو تباكى وما أشبه ذلك، فإن دافعه؛ فإنه لا يضره لأنه قام بالجهاد.
القسم الثاني: أن استرسل معه؛ فكل عمل ينشأ عن الرياء، فهو باطل؛ كما لو أطال القيام، أو الركوع، أو السجود، أو تباكى؛ فهذا كل عمله حابط، ولكن هل هذا البطلان يمتد إلى جميع العبادة أم لا؟
نقول: لا يخلو هذا من الحالين:
الحال الأولى: أن يكون آخر العبادة مبنيا على أولها، بحيث لا يصح أولها مع فساد آخرها؛ فهذه كلها فاسدة.
وذلك مثل الصلاة؛ فالصلاة مثلا لا يمكن أن يفسد آخرها ولا يفسد أولها وحينئذ تبطل الصلاة كلها إذا طرأ الرياء في أثنائها ولم يدافعه.
الحال الثانية: أن يكون أول العبادة منفصلا عن آخرها، بحيث يصح أولها دون آخرها، فما سبق الرياء؛ فهو صحيح، وما كان بعده؛ فهو باطل.
مثال ذلك: رجل عنده مائة ريال، فتصدق بخمسين بنية خالصة، ثم تصدق بخمسين بقصد الرياء؛ فالأولى مقبولة، والثانية غير مقبولة؛ لأن آخرها منفك عن أولها.
فإن قيل: لو حدث الرياء في أثناء الوضوء؛ هل يلحق بالصلاة فيبطل كله، أو بالصدقة فيبطل ما حصل فيه الرياء فقط.
فالجواب: يحتمل هذا وهذا؛ فيلحق بالصلاة؛ لأن الوضوء عبادة واحدة ينبني على بعض، وليس تطهير كل عضو عبادة مستقلة، ويلحق بالصدقة؛ لأنه ليس كالصلاة من كل وجه ولا الصدقة من كل وجه؛ لأننا إذا قلنا ببطلان ما حصل فيه الرياء فأعاد تطهيره وحده لم يضر؛ لأن تكرار غسل العضو لا يبطل الوضوء ولو كان عمدا، بخلاف الصلاة؛ فإنه إذا كرر جزءا منها كركوع أو سجود لغير سبب شرعي؛ بطلت صلاته، فلو أنه أن غسل يديه رجع وغسل وجهه؛ لم يبطل وضوؤه، ولو أنه بعد أن سجد رجع وركع؛ لبطلت صلاته، والترتيب موجود في هذا وهذا، لكن الزيادة في الصلاة تبطلها، والزيادة في الوضوء لا تبطلة، والرجوع مثلا إلى الأعضاء الأولى لا يبطله أيضا، وإن كان الرجوع في الحقيقة لا يعتبر وضوءا؛ لأنه غير شرعي، وربما يكون في الأولى غسل وجهه على أنه واحدة، ثم غسل يديه، ثم قال:
[الثالث:]
وعن ابن مسعود رضي الله عنه؛ أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «من مات وهو يدعو من دون الله ندا؛ دخل النار». رواه البخاري
قوله: («يدعو من الله ندا» أي: يتخذ لله ندا سواء دعاه دعاء عبادة أم دعاء مسألة؛ لأن الدعاء ينقسم إلى قسمين:
الأول: دعاء عبادة، مثاله: الصوم، والصلاة، وغير ذلك من العبادات، فإذا صلى الإنسان أو صام؛ فقد دعا ربه بلسان الحال أن يغفر له، وأن يجيره من عذابه، وأن يعطيه من نواله، وهذا في أصل الصلاة، كما أنها تتضمن الدعاء بلسان المقال.
ويدل لهذا القسم قوله تعالى: {وقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي} [غافر (60)]؛ فجعل الدعاء عبادة، وهذا القسم كله شرك، فمن صرف شيئا من أنواع العبادة لغير الله؛ فقد كفر كفرًا مخرجًا له عن الملة، فلو ركع الإنسان أو سجد لشيء يعظمه كتعظيم الله في هذا الركوع أو السجود؛ لكان مشركًا، ولهذا «منع النبي – صلى الله عليه وسلم – من الانحناء عند الملاقاة لما سئل عن الرجل يلقى أخاه أن ينحني له؟ قال: (لا)».
خلافًا لما يفعله بعض الجهال إذا سلم عليك انحنى لك؛ فيجب على كل مؤمن بالله أن ينكره؛ لأنه عظمك على حساب دينه.
الثاني: دعاء المسألة؛ فهذا ليس كله شركًا، بل فيه تفصيل، فإن كان المخلوق قادرًا على ذلك؛ فليس بشرك؛ كقوله: اسقني ماء لمن يستطيع ذلك. قال – صلى الله عليه وسلم -: «من دعاكم فاجيبوه» ((2)) وقال تعالى: {وإذا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولُو القُرْبى واليَتامى والمَساكِينُ فارْزُقُوهُمْ مِنهُ} [النساء: (8).].
فإذا مد الفقير يده، وقال: ارزقني؛ أي: أعطني؛ فليس بشرك، كما قال تعالى: {فارْزُقُوهُمْ مِنهُ}، وأما إن دعا المخلوق بما لا يقدر عليه إلا الله؛ فإن دعوته شرك مخرج عن الملة.
مثال ذلك: أن تدعو إنسانًا أن ينزل الغيث معتقدًا أنه قادر على ذلك.
والمراد بقول الرسول – صلى الله عليه وسلم -: «من مات وهو يدعو لله ندا» المراد الند في العبادة، أما الند في المسألة؛ ففيه التفصيل السابق.
ومع الأسف؛ ففي بعض البلاد الإسلامية من يعتقد أن فلانًا المقبور الذي بقي جثة أو أكلته الأرض ينفع أو يضر، أو يأتي بالنسل لمن لا يولد لها، وهذا -والعياذ بالله- شرك أكبر مخرج من الملة، وإقرار هذا أشد من إقرار شرب الخمر والزنا واللواط؛ لأنه إقرار على كفر، وليس إقرارًا على فسوق فقط.
قوله: (دخل النار). أي: خالدًا، مع أن اللفظ لا يدل عليه؛ لأن دخل فعل، والفعل يدل على الإطلاق.
وأيضًا قال الله تعالى: {إنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ ومَاواهُ النّارُ وما لِلظّالِمِينَ مِن أنْصارٍ} [المائدة: (72).]، وإذا حرمت الجنة؛ لزم أن يكون خالدًا في النار أبدًا، فيجب أن نخاف من الشرك ما دامت هذه عقوبته؛ فالمشرك خسر الآخرة؛ لأنه في النار خالد، وخسر الدنيا أيضًا؛ لأنه لم يستفد منها شيئًا، وقامت عليه الحجة، وجاءه النذير، ولكنه خسر -والعياذ بالله-، ما استفاد شيئًا من الدنيا، قال تعالى: {أوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وجاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: (37).]، وقال الله عز وجل: {ومِنَ النّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإنْ أصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأنَّ بِهِ وإنْ أصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا والآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرانُ المُبِينُ يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وما لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ البَعِيدُ يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أقْرَبُ مِن نَفْعِهِ لَبِئْسَ المَوْلى ولَبِئْسَ العَشِيرُ} [الحج: (11) – (13).]، وقال تعالى: {قُلْ إنَّ الخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ وأهْلِيهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ} [الزمر (15)].
فخسر نفسه؛ لأنه لم يستفد منها شيئًا، وخسر أهله؛ لأنهم إن كانوا من المؤمنين فهم في الجنة، فلا يتمتع بهم في الآخرة، وإن كانوا في النار فكذلك؛ لأنه كلما دخلت أمة لعنت أختها، والشرك خفي جدًّا؛ فقد يكون في الإنسان وهو لا يشعر إلا بعد المحاسبة الدقيقة؛ ولهذا قال بعض السلف: (ما جاهدت نفسي على شيء كما جاهدتها على الإخلاص).
فالشرك أمره صعب جدا ليس بالهين، ولكن ييسر الله الإخلاص على العبد، وذلك بأن يجعله الله نصب عينيه، فيقصد بعمله وجه الله لا يقصد مدح الناس أو ذمهم أو ثناءهم عليه؛ فالناس لا ينفعونه أبدًا، حتى لو خرجوا معه لتشييع جنازته لم ينفعه إلا عمله، قال – صلى الله عليه وسلم -: «يخرج مع الميت أهله وماله وعمله؛ فيرجع اثنان: أهله وماله، ويبقى عمله».
وكذلك أيضًا من المهم أن الإنسان لا يفرحه أن يقبل الناس قوله؛ لأنه قوله، لكن يفرحه أن يقبل الناس قوله إذا رأى أنه الحق لأنه الحق، لا أنه قوله، وكذا لا يحزنه أن يرفض الناس قوله لأنه قوله؛ لأنه حينئذ يكون قد دعا لنفسه، لكن يحزنه أن يرفضوه لأنه الحق، وبهذا يتحقق الإخلاص.
فالإخلاص صعب جدا، إلا أن الإنسان إذا كان متجهًا إلى الله اتجاهًا صادقًا سليمًا على صراط مستقيم؛ فإن الله يعينه عليه، وييسره له.
[الرابع]:
ولمسلم عن جابر؛ أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار».
قوله: (من). شرطية تفيد العموم، وفعل الشرط: (لقي)، وجوابه قوله: (دخل الجنة)، وهذا الدخول لا ينافي أن يعذب بقدر ذنوبه إن كانت عليه ذنوب؛ لدلالة نصوص الوعيد على ذلك، وهذا إذا لم يغفر الله له؛ لأنه داخل تحت المشيئة.
قوله: (لا يشرك). في محل نصب على الحال من فاعل (لقي).
قوله: (شيئا). نكره في سياق الشرط؛ فيعم أي شرك حتى ولو أشرك مع الله أشرف الخلق، وهو الرسول – صلى الله عليه وسلم – دخل النار؛ فكيف بمن يجعل الرسول – صلى الله عليه وسلم – أعظم من الله، فيلجأ إليه عند الشدائد، ولا يلجأ إلى الله، بل ربما يلجأ إلى ما دون الرسول – صلى الله عليه وسلم -؟! وهناك من لا يبالي بالحلف بالله صادقا أم كاذبا، ولكن لا يحلف بقوميته إلا صادقا، ولهذا اختلف فيمن لا يبالي بالحلف بالله، ولكنه لا يحلف بملته أو بما يعظمه إلا صادقا، فلزمته يمين؛ هل يحلف بالله أو يحلف بهذا؟
فقيل: يحلف بالله ولو كذب، ولا يعان على الشرك، وهو الصحيح.
وقيل: يحلف بغير الله؛ لأن المقصود الوصول إلى بيان الحقيقة، وهو إذا كان كاذبًا لا يمكن أن يحلف، لكن نقول: إن كان صادقًا حلف ووقع في الشرك.
مسألة: هل يلزم من دخول النار الخلود لمن أشرك؟
هذا بحسب الشرك، إن كان الشرك أصغر كما دلت على ذلك النصوص؛ فإنه لا يلزم من ذلك الخلود في النار، وإن كان أكبر؛ فإنه يلزم منه الخلود في النار.
لكن لو حملنا الحديث على الشرك الأكبر في الموضعين في قوله: «من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة»، وفي قوله: «ومن لقي الله يشرك به شيئًا»
«دخل النار»؛ وقلنا: من لقي الله لا يشرك به شركًا أكبر دخل الجنة، وإن عذب قبل الدخول في النار بما يستحق؛ فيكون مآله إلى الجنة، ومن لقيه يشرك به شركًا أكبر دخل النار مخلدًا فيها لم نحتج إلى هذا التفصيل. [مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (9/ 1 – 116)، بتصرف].
تتمة شرح الصحيح المسند 1242
(المسألة العاشرة): تفصيل شروط لا إله إلا الله
قال الشيخ حافظ بن أحمد بن علي الحكمي (المتوفى: (1377) هـ):
وبِشُرُوطٍ سَبْعَةٍ قَدْ قُيِّدَتْ … وفِي نُصُوصِ الوَحْيِ حَقًّا ورَدَتْ
فَإنَّهُ لَمْ يَنْتَفِعْ قائِلُها … بِالنُّطْقِ إلّا حَيْثُ يَسْتَكْمِلُها
«وبِشُرُوطٍ سَبْعَةٍ» مُتَعَلِّقٌ بِقُيِّدَتْ «قَدْ قُيِّدَتْ» أيْ: قُيِّدَ بِها انْتِفاعُ قائِلِها بِها فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ مِنَ الدُّخُولِ فِي الإسْلامِ والفَوْزِ بِالجَنَّةِ والنَّجاةِ مِنَ النّارِ.
«وفِي نُصُوصِ الوَحْيِ» مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ «حَقًّا ورَدَتْ» صَرِيحَةً صَحِيحَةً «فَإنَّهُ» أيِ: الشَّانَ وذَلِكَ عِلَّةُ تَقْيِيدِها بِهَذِهِ الشُّرُوطِ السَّبْعَةِ «لَمْ يَنْتَفِعْ قائِلُها» أيْ: قائِلُ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ «بِالنُّطْقِ» أيْ: بِنُطْقِهِ بِها مُجَرَّدًا «إلّا حَيْثُ يَسْتَكْمِلُها» أيْ: هَذِهِ الشُّرُوطَ السَّبْعَةَ، ومَعْنى اسْتِكْمالِها اجْتِماعُها فِي العَبْدِ والتِزامُهُ إيّاها بِدُونِ مُناقَضَةٍ مِنهُ لِشَيْءٍ مِنها، ولَيْسَ المُرادُ مِن ذَلِكَ عَدَّ ألْفاظِها وحِفْظَها فَكَمْ مِن عامِّيٍّ اجْتَمَعَتْ فِيهِ والتَزَمَها ولَوْ قِيلَ لَهُ: أُعْدُدْها لَمْ يُحْسِنْ ذَلِكَ، وكَمْ حافِظٍ لِألْفاظِها يَجْرِي فِيها كالسَّهْمِ وتَراهُ يَقَعُ كَثِيرًا فِيما يُناقِضُها، والتَّوْفِيقُ بِيَدِ اللَّهِ، واللَّهُ المُسْتَعانُ.
والعِلْمُ واليَقِينُ والقَبُولُ … والِانْقِيادُ فادْرِ ما أقُولُ
والصِّدْقُ والإخْلاصُ والمَحَبَّهْ … وفَّقَكَ اللَّهُ لِما أحَبَّهْ
هَذا تَفْصِيلُ الشُّرُوطِ السَّبْعَةِ السّابِقِ ذِكْرُها الَّتِي قُيِّدَتْ بِها هَذِهِ الشَّهادَةُ، فَأصْغِ سَمْعَكَ وأحْضِرْ قَلْبَكَ لِإمْلاءِ أدلتها وتفهمها وتعقلها، ثُمَّ اعْمَلْ عَلى وفْقِ ذَلِكَ تَفُزْ بِسَعادَةِ الدُّنْيا والآخِرَةِ إنْ شاءَ اللَّهُ تعالى، كَما وعَدَ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ إنَّهُ لا يُخْلِفُ المِيعادَ:
الأوَّلُ «العِلْمُ»: بِمَعْناها، المُرادِ مِنها نَفْيًا وإثْباتًا المُنافِي لِلْجَهْلِ بِذَلِكَ؛ قالَ اللَّهُ تعالى: {فاعْلَمْ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ} [مُحَمَّدٍ (19)] وقالَ تَعالى: {إلّا مَن شَهِدَ بِالحَقِّ} [الزُّخْرُفِ (86)] أيْ: بِلا إلَهَ إلّا اللَّهُ {وهُمْ يَعْلَمُونَ} بِقُلُوبِهِمْ مَعْنى ما نَطَقُوا بِهِ بِألْسِنَتِهِمْ.
وفِي الصَّحِيحِ عَنْ عُثْمانَ –رضي الله عنه – قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -: «مَن ماتَ وهُوَ يَعْلَمُ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ دَخَلَ الجَنَّةَ».
«واليَقِينُ» أيْ: والثّانِى اليَقِينُ المُنافِي لِلشَّكِّ، بِأنْ يَكُونَ قائِلُها مُسْتَيْقِنًا بِمَدْلُولِ هَذِهِ الكَلِمَةِ يَقِينًا جازِمًا، فَإنَّ الإيمانَ لا يُغْنِي فِيهِ إلّا عِلْمُ اليَقِينِ لا عِلْمُ الظَّنِّ، فَكَيْفَ إذا دَخَلَهُ الشَّكُّ، قالَ اللَّهُ تعالى: {إنَّما المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وجاهَدُوا بِأمْوالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} إلى قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ} [الحُجُراتِ: (15)] فاشْتَرَطَ فِي صِدْقِ إيمانِهِمْ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ كَوْنَهُمْ لَمْ يَرْتابُوا أيْ: لَمْ يَشُكُّوا، فَأمّا المُرْتابُ فَهُوَ مِنَ المُنافِقِينَ، والعِياذُ بِاللَّهِ، الَّذِينَ قالَ اللَّهُ تَعالى فِيهِمْ: {إنَّما يَسْتَاذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ وارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التَّوْبَةِ (45)] وفِي الصَّحِيحِ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ، – صلى الله عليه وسلم -: «أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وأنِّي رَسُولُ اللَّهِ، لا يَلْقى اللَّهَ بِهِما عَبْدٌ غَيْرَ شاكٍّ فِيهِما إلّا دَخَلَ الجَنَّةَ»، وفِي رِوايَةٍ: «لا يَلْقى اللَّهَ بِهِما عَبْدٌ غَيْرَ شاكٍّ فِيهِما فَيُحْجَبُ عَنِ الجَنَّةِ».
فاشْتَرَطَ فِي دُخُولِ قائِلِها الجَنَّةَ أنْ يَكُونَ مُسْتَيْقِنًا بِها قَلْبُهُ غَيْرَ شاكٍّ فِيها، وإذا انْتَفى الشَّرْطُ انْتَفى المَشْرُوطُ.
«و» الثّالِثُ «القَبُولُ» لِما اقْتَضَتْهُ هَذِهِ الكَلِمَةُ بِقَلْبِهِ ولِسانِهِ، وقَدْ قَصَّ اللَّهُ تعالى عَلَيْنا مِن أنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ مِن إنْجاءِ مَن قَبِلَها وانْتِقامِهِ مِمَّنْ رَدَّها وأباها كَما قالَ تَعالى: {وكَذَلِكَ ما أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِن نَذِيرٍ إلّا قالَ مُتْرَفُوها إنّا وجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وإنّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ، قالَ أوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأهْدى مِمّا وجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إنّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ، فانْتَقَمْنا مِنهُمْ فانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ} [الزُّخْرُفِ (23) – (25)].
وكَذَلِكَ أخْبَرَنا بِما وعَدَ بِهِ القابِلِينَ لَها مِنَ الثَّوابِ، وما أعَدَّهُ لِمَن رَدَّها مِنَ العَذابِ؛ كَما قالَ تَعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وأزْواجَهُمْ وما كانُوا يَعْبُدُونَ، مِن دُونِ اللَّهِ فاهْدُوهُمْ إلى صِراطِ الجَحِيمِ، وقِفُوهُمْ إنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} إلى قَوْلِهِ: {إنَّهُمْ كانُوا إذا قِيلَ لَهُمْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ، ويَقُولُونَ أإنّا لَتارِكُو آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصّافّاتِ: (22) – (36)]، فَجَعَلَ اللَّهُ تَعالى عِلَّةَ تَعْذِيبِهِمْ وسَبَبَهُ هُوَ اسْتِكْبارَهُمْ عَنْ قَوْلِ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، وتَكْذِيبَهُمْ مَن جاءَ بِها، فَلَمْ يَنْفُوا ما نَفَتْهُ ولَمْ يُثْبِتُوا ما أثْبَتَتْهُ بَلْ قالُوا إنْكارًا واسْتِكْبارًا {أجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهًا واحِدًا إنَّ هَذا لَشَيْءٌ عُجابٌ، وانْطَلَقَ المَلَأُ مِنهُمْ أنِ امْشُوا واصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إنَّ هَذا لَشَيْءٌ يُرادُ، ما سَمِعْنا بِهَذا فِي المِلَّةِ الآخِرَةِ إنْ هَذا إلّا اخْتِلاقٌ} [ص (5) – (7)]، وقالوا ههنا: {أإنّا لَتارِكُو آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ} فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ -تعالى- ورَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ عَنْ رَسُولِهِ – صلى الله عليه وسلم – فَقالَ: {بَلْ جاءَ بِالحَقِّ وصَدَّقَ المُرْسَلِينَ} [الصّافّاتِ: (37)] إلى آخِرِ الآياتِ.
وفِي الصَّحِيحِ عَنْ أبِي مُوسى –رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قالَ: «مَثَلُ ما بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الهُدى والعِلْمِ كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ أصابَ أرْضًا، فَكانَ مِنها نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الماءَ فَأنْبَتَتِ الكَلَأ والعُشْبَ الكَثِيرَ، وكانَتْ مِنها أجادِبُ أمْسَكَتِ الماءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِها النّاسَ، فَشَرِبُوا وسَقَوْا وزَرَعُوا، وأصابَ مِنها طائِفَةً أُخْرى إنَّما هِيَ قِيعانٌ لا تُمْسِكُ ماءً ولا تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَن فَقِهَ فِي دِينِ اللَّهِ ونَفَعَهُ ما بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وعَلَّمَ، ومَثَلُ مَن لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَاسًا ولَمْ يَقْبَلْ هُدى اللَّهِ الَّذِي أرْسِلْتُ بِهِ».
«و» الرّابِعُ «الِانْقِيادُ» لِما دَلَّتْ عَلَيْهِ المُنافِي لِتَرْكِ ذَلِكَ؛ قالَ اللَّهُ تعالى: {وأنِيبُوا إلى رَبِّكُمْ وأسْلِمُوا لَهُ} [الزُّمَرِ (54)]، وقالَ تَعالى: {ومَن أحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أسْلَمَ وجْهَهُ لِلَّهِ وهُوَ مُحْسِنٌ} [النِّساءِ (125)].
وقالَ تَعالى: {ومَن يُسْلِمْ وجْهَهُ إلى اللَّهِ وهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقى} [لُقْمانَ (22)] أيْ: بِلا إلَهٍ إلّا اللَّهُ {وإلى اللَّهِ عاقِبَةُ الأُمُورِ} ومَعْنى يُسْلِمُ وجْهَهُ أيْ: يَنْقادُ وهُوَ مُحْسِنٌ مُوَحِّدٌ، ومَن لَمْ يُسْلِمْ وجْهَهُ إلى اللَّهِ ولَمْ يَكُ مُحْسِنًا فَإنَّهُ لَمْ يَسْتَمْسِكْ بِالعُرْوَةِ الوُثْقى وهُوَ المَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ تعالى بَعْدَ ذَلِكَ: {ومَن كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ، نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذابٍ غَلِيظٍ} [لُقْمانَ (23) – (24)].
وفِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قالَ: «لا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حَتّى يَكُونَ هَواهُ تَبَعًا لِما جِئْتُ بِهِ»، وهذا هُوَ تَمامُ الِانْقِيادِ وغايَتُهُ.
«و» الخامِسُ «الصِّدْقُ» فِيها المُنافِي لِلْكَذِبِ، وهُوَ أنْ يَقُولَها صِدْقًا من قلبه يواطئ قَلْبُهِ لِسانَهُ؛ قالَ اللَّهُ تعالى: {الم، أحَسِبَ النّاسُ أنْ يُتْرَكُوا أنْ يَقُولُوا آمَنّا وهُمْ لا يُفْتَنُونَ، ولَقَدْ فَتَنّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا ولَيَعْلَمَنَّ الكاذِبِينَ} [العَنْكَبُوتِ: (1) – (3)] إلى آخر الآيات.
وقالَ تَعالى فِي شَانِ المُنافِقِينَ الَّذِينَ قالُوها كَذِبًا: {ومِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ آمَنّا بِاللَّهِ وبِاليَوْمِ الآخِرِ وما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ، يُخادِعُونَ اللَّهَ والَّذِينَ آمَنُوا وما يَخْدَعُونَ إلّا أنْفُسَهُمْ وما يَشْعُرُونَ، فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ولَهُمْ عَذابٌ ألِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ} [البَقَرَةِ (8) – (11)]، وكَمْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى مِن شَانِهِمْ وأبْدى وأعادَ وكَشَفَ أسْتارَهُمْ وهَتَكَها وأبْدى فضائحهم في غيرما مَوْضِعٍ مِن كِتابِهِ كالبَقَرَةِ وآلِ عِمْرانَ والنِّساءِ والأنْفالِ والتَّوْبَةِ وسُورَةٍ كامِلَةٍ فِي شَانِهِمْ وغَيْرِ ذَلِكَ.
وفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ مُعاذِ بْنِ جَبَلٍ –رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم -: «ما مِن أحَدٍ يَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسُولُهُ صِدْقًا مِن قَلْبِهِ إلّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلى النّارِ»، فاشْتَرَطَ فِي إنْجاءِ مَن قالَ هَذِهِ الكَلِمَةَ مِنَ النّارِ أنْ يَقُولَها صِدْقًا مِن قَلْبِهِ، فَلا يَنْفَعُهُ مُجَرَّدُ اللَّفْظِ بِدُونِ مُواطَأةِ القَلْبِ، وفِيهِما أيْضًا مِن حَدِيثِ أنَسِ بْنِ مالِكٍ وطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ –رضي الله عنه- مِن قِصَّةِ الأعْرابِيِّ، وهُوَ ضِمامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ وافِدُ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ لَمّا سَألَ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – عَنْ شَرائِعِ الإسْلامِ فَأخْبَرَهُ، قالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُها؟ قالَ: «لا إلّا أنْ تَطَوَّعَ»، قالَ: واللَّهِ لا أزْيِدُ عَلَيْها ولا أنْقُصُ مِنها، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -: «أفْلَحَ إنْ صَدَقَ».
وفِي بَعْضِ الرِّواياتِ: «إنْ صَدَقَ لَيَدْخُلَنَّ الجَنَّةَ»، فاشْتَرَطَ فِي فَلاحِهِ ودُخُولِ الجَنَّةِ أنْ يَكُونَ صادِقًا.
«و» السّادِسُ «الإخْلاصُ» وهُوَ تَصْفِيَةُ العَمَلِ بِصالِحِ النِّيَّةِ عَنْ جَمِيعِ شَوائِبِ الشِّرْكِ، قالَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالى: {ألا لِلَّهِ الدِّينُ الخالِصُ} [الزُّمَرِ (3)].
وقالَ تَعالى: {وما أُمِرُوا إلّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ} [البَيِّنَةِ: (5)] الآيَةَ، وقالَ تَعالى: {فاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزُّمَرِ (2)]، وغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ. وفِي الصَّحِيحِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم -: «أسْعَدُ النّاسِ بِشَفاعَتِي مَن قالَ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ خالِصًا مَن قَلْبِهِ أوْ نَفْسِهِ».
«و» السّابِعُ «المَحَبَّةُ» لِهَذِهِ الكَلِمَةِ، ولِما اقْتَضَتْهُ ودَلَّتْ عَلَيْهِ ولِأهْلِها العامِلِينَ بِها المُلْتَزِمِينَ لِشُرُوطِها، وبُغْضٍ ما ناقَضَ ذَلِكَ؛ قالَ اللَّهُ تعالى: {ومِنَ النّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أنْدادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ والَّذِينَ آمَنُوا أشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البَقَرَةِ (165)]، وقالَ تَعالى: {يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَاتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونَهُ أذِلَّةٍ عَلى المُؤْمِنِينَ أعِزَّةٍ عَلى الكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائِدَةِ: (54)]، فَأخْبَرَنا اللَّهُ -تعالى- أنَّ عِبادَهُ المُؤْمِنِينَ أشَدُّ حُبًّا لَهُ؛ وذَلِكَ لِأنَّهُمْ لَمْ يُشْرِكُوا مَعَهُ فِي مَحَبَّتِهِ أحَدًا كَما فَعَلَ مُدَّعُو مَحَبَّتِهِ مِنَ المُشْرِكِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دونه أندادا يحبونهم كَحُبِّهِ، وعَلامَةُ حُبِّ العَبْدِ رَبَّهُ تَقْدِيمُ مُحابِّهِ وإنْ خالَفَتْ هَواهُ وبُغْضُ ما يُبْغِضُ رَبُّهُ وإنَّ مالَ إلَيْهِ هَواهُ، ومُوالاةُ مَن والى اللَّهُ ورَسُولُهُ ومُعاداةُ مَن عاداهُ، واتِّباعُ رَسُولِهِ – صلى الله عليه وسلم – واقْتِفاءُ أثَرِهِ وقَبُولُ هُداهُ.
وكُلُّ هَذِهِ العَلاماتِ شُرُوطٌ فِي المَحَبَّةِ لا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ المَحَبَّةِ مع عدم وجود شَرْطٍ مِنها، قالَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالى: {أرَأيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَواهُ أفَأنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وكِيلًا} [الفَرْقانِ: (43)] الآياتِ.
وقالَ تَعالى: {أفَرَأيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَواهُ وأضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وقَلْبِهِ وجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثِيَةِ: (23)]، فَكُلُّ مَن عَبَدَ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ فَهُوَ فِي الحَقِيقَةِ عَبْدٌ لِهَواهُ، بَلْ كُلُّ ما عَصى اللَّهَ بِهِ مِنَ الذُّنُوبِ فَسَبَبُهُ تَقْدِيمُ العَبْدِ هَواهُ عَلى أوامِرِ اللَّهِ -تعالى- ونَواهِيهِ.
وقالَ تَعالى فِي شَانِ المُوالاةِ والمُعاداةِ فِيهِ: {قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْراهِيمَ والَّذِينَ مَعَهُ إذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إنّا بُرَأَىءُ مِنكُمْ ومِمّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وبَدا بَيْنَنا وبَيْنَكُمُ العَداوَةُ والبَغْضاءُ أبَدًا حَتّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وحْدَهُ} [الممتحنة (4)] الآيات، وقالَ تَعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ يُوادُّونَ مَن حادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ ولَوْ كانُوا آباءَهُمْ أوْ أبْناءَهُمْ أوْ إخْوانَهُمْ أوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمانَ} [الجاثية (22)] الآيَةَ.
وقالَ تَعالى: {يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ والنَّصارى أوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ ومَن يَتَوَلَّهُمْ مِنكُمْ فَإنَّهُ مِنهُمْ} [المائِدَةِ: (51)] الآياتِ.
وقالَ تَعالى: {يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وإخْوانَكُمْ أوْلِياءَ إنِ اسْتَحَبُّوا الكُفْرَ عَلى الإيمانِ ومَن يَتَوَلَّهُمْ مِنكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ} [التَّوْبَةِ (23) – (24)] الآيَتَيْنِ.
وقالَ تَعالى: {يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكُمْ أوْلِياءَ} [المُمْتَحَنَةِ: (1)] إلى آخِرِ السُّورَةِ وغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ.
وقالَ تَعالى فِي اشْتِراطِ اتِّباعِ رَسُولِهِ – صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، قُلْ أطِيعُوا اللَّهَ والرَّسُولَ فَإنْ تَوَلَّوْا فَإنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الكافِرِينَ} [آلِ عِمْرانَ: (31)] وقالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -: «ثَلاثٌ مَن كُنَّ فِيهِ وجَدَ بِهِنَّ حَلاوَةَ الإيمانِ: أنْ يَكُونَ اللَّهُ ورَسُولُهُ أحَبَّ إلَيْهِ مِمّا سِواهُما، وأنْ يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّهُ إلّا لِلَّهِ، وأنْ يَكْرَهَ أنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ بَعْدَ أنْ أنْقَذَهُ اللَّهُ مِنهُ كَما يَكْرَهُ أنْ يُقْذَفَ فِي النّارِ» أخْرَجاهُ مِن حَدِيثِ أنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وفِيهِما عَنْهُ وعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -: «لا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حَتّى أكُونَ أحَبَّ إلَيْهِ مِن ولَدِهِ ووالِدِهِ والنّاسِ أجْمَعِينَ».
وفِي كِتابِ الحُجَّةِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاصِ –رضي الله عنهم- قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -: «لا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حَتّى يَكُونَ هَواهُ تَبَعًا لِما جِئْتُ بِهِ»، وذَلِكَ الَّذِي جاءَ بِهِ الرَّسُولُ – صلى الله عليه وسلم – هُوَ الخَبَرُ عَنِ اللَّهِ والأمْرُ بِما يُحِبُّهُ اللَّهُ ويَرْضاهُ والنهي عما يكره ويَاباهُ، فَإذا امْتَثَلَ العَبْدُ ما أمره الله بِهِ واجْتَنَبَ ما نَهى اللَّهُ عَنْهُ وإنْ كانَ ذَلِكَ مُخالِفًا لِهَواهُ كانَ مُؤْمِنًا حَقًّا، فَكَيْفَ إذا كانَ لا يَهْوى سِوى ذَلِكَ.
وفِي الحديث: «أوثق عرا الإيمانِ الحُبُّ فِي اللَّهِ، والبُغْضُ فِيهِ».
وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رضي الله عنهما: مَن أحَبَّ فِي اللَّهِ وأبْغَضَ فِي اللَّهِ، ووالى فِي اللَّهِ وعادى فِي اللَّهِ، فَإنَّما تُنالُ وِلايَةُ اللَّهِ بِذَلِكَ، وقَدْ أصْبَحَ غالِبُ مُؤاخاةِ النّاسِ اليَوْمَ عَلى أمْرِ الدُّنْيا، وذَلِكَ لا يُجْدِي عَلى أهْلِهِ شَيْئًا.
وقالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ وغَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ: ادَّعى قَوْمٌ مَحَبَّةَ اللَّهِ -تعالى- فابْتَلاهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ الآيَةِ: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، قُلْ أطِيعُوا اللَّهَ والرَّسُولَ فَإنْ تَوَلَّوْا فَإنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الكافِرِينَ}.
وقالَ البُخارِيُّ رحمه الله تَعالى: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ سِنانٍ قالَ: حَدَّثَنا فُلَيْحٌ قالَ: حَدَّثَنا هِلالُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ عَطاءِ بْنِ يَسارٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قالَ: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إلّا مَن أبى» قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ ومَن يَابى؟ قالَ: «مَن أطاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، ومَن عَصانِي فَقَدْ أبى».
قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عُبادَةَ أخْبَرَنا يَزِيدُ حَدَّثَنا سُلَيْمٌ -وأثْنى عَلَيْهِ- حَدَّثَنا سَعِيدُ بْنُ مِيناءَ حَدَّثَنا -أوْ سَمِعْتُ- جابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما، يَقُولُ: جاءَتْ مَلائِكَةٌ إلى النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – وهُوَ نائِمٌ فَقالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ نائِمٌ، وقالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ العَيْنَ نائِمَةٌ والقَلْبَ يَقْظانُ، فَقالُوا: إنَّ لِصاحِبِكُمْ هَذا مَثَلًا فاضْرِبُوا لَهُ مَثَلًا فَقالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ نائِمٌ، وقالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ العَيْنَ نائِمَةٌ والقَلْبَ يَقْظانُ. فَقالُوا: إنَّ مَثَلَهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنى دارًا وجَعَلَ فِيها مَادُبَةً وبَعَثَ داعِيًا، فَمَن أجابَ الدّاعِيَ دَخَلَ الدّارَ وأكَلَ مِنَ المَادُبَةِ، ومَن لَمْ يُجِبِ الدّاعِيَ لَمْ يَدْخُلِ الدّارَ ولَمْ يَاكُلْ مِنَ المَادُبَةِ، فَقالُوا: أوِّلُوها لَهُ يَفْقَهُها، فَقالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ نائِمٌ وقالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ العَيْنَ نائِمَةٌ والقَلْبَ يَقْظانُ فَقالُوا: فالدّارُ الجَنَّةُ والدّاعِي مُحَمَّدٌ – صلى الله عليه وسلم -، فَمَن أطاعَ مُحَمَّدًا – صلى الله عليه وسلم – فَقَدْ أطاعَ اللَّهَ، ومَن عَصى مُحَمَّدًا – صلى الله عليه وسلم – فَقَدْ عَصى اللَّهَ ومُحَمَّدٌ – صلى الله عليه وسلم – فَرْقٌ بَيْنَ النّاسِ.
ومِن هُنا يُعْلَمُ أنَّهُ لا تَتِمُّ شَهادَةُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ إلّا بِشَهادَةِ أنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -، فَإذا عُلِمَ أنَّهُ لا تَتِمُّ مَحَبَّةُ اللَّهِ -تعالى- إلّا بِمَحَبَّةِ ما يُحِبُّهُ وكَراهَةِ ما يَكْرَهُهُ، فَلا طَرِيقَ إلى مَعْرِفَةِ ما يُحِبُّهُ تَعالى ويَرْضاهُ وما يَكْرَهُهُ ويَاباهُ إلّا بِاتِّباعِ ما أمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – واجْتِنابِ ما نَهى عَنْهُ، فَصارَتْ مَحَبَّتُهُ مُسْتَلْزِمَةً لِمَحَبَّةِ رَسُولِ اللَّهِ وتَصْدِيقِهِ ومُتابَعَتِهِ؛ ولِهَذا قَرَنَ مَحَبَّتَهُ بِمَحَبَّةِ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فِي مَواضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ القُرْآنِ؛ كَقَوْلِهِ تعالى: {قُلْ إنْ كانَ آباؤُكُمْ وأبْناؤُكُمْ وإخْوانُكُمْ وأزْواجُكُمْ وعَشِيرَتُكُمْ وأمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها ومَساكِنُ تَرْضَوْنَها أحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ وجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَاتِيَ اللَّهُ بِأمْرِهِ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ} [التَّوْبَةِ (24)] وغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ.
ثُمَّ اعْلَمْ أنَّ الأحادِيثَ الدّالَّةَ عَلى أنَّ الشَّهادَتَيْنِ سَبَبٌ لِدُخُولِ الجَنَّةِ والنَّجاةِ مِنَ النّارِ لا تَناقُضَ بَيْنَها وبَيْنَ أحادِيثِ الوَعِيدِ الَّتِي فِيها: مَن فَعَلَ ذَنْبَ كَذا فالجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرامٌ، أوْ لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَن فَعَلَ كَذا؛ لِإمْكانِ الجَمْعِ بَيْنَ النُّصُوصِ بِأنَّها جِنانٌ كَثِيرَةٌ كَما أخْبَرَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – وبِأنَّ أهْلَ الجَنَّةِ أيْضًا مُتَفاوِتُونَ فِي دُخُولِ الجَنَّةِ فِي السَّبْقِ وارْتِفاعِ المَنازِلِ، فَيَكُونُ فاعِلُ هَذا الذَّنْبِ لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ الَّتِي أعدت لمن لم يرتكبه، أو لا يدخلها في الوقت الذي يَدْخُلُ فِيهِ مَن لَمْ يَرْتَكِبُ ذَلِكَ الذَّنْبَ، وهَذا واضِحٌ مَفْهُومٌ لِلْعارِفِ بِلُغَةِ العَرَبِ. وكَذَلِكَ لا تَناقُضَ بَيْنَ الأحادِيثِ الَّتِي فِيها تَحْرِيمُ أهْلِ هاتَيْنِ الشَّهادَتَيْنِ عَلى النّارِ، وبَيْنَ الأحادِيثِ الَّتِي فِيها إخْراجُهُمْ مِنها بَعْدَ أنْ صارُوا حُمَمًا لِإمْكانِ الجَمْعِ بِأنَّ تحريم من يدخلها بِذَنْبِهِ مِن أهْلِ التَّوْحِيدِ بِأنَّ تَحْرِيمَهُ عَلَيْها يَكُونُ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنها بِرَحْمَةِ اللَّهِ ثُمَّ بِشَفاعَةِ الشّافِعِينَ، ثُمَّ يَغْتَسِلُونَ فِي نَهْرِ الحَياةِ ويَدْخُلُونَ الجَنَّةَ، فَحِينَئِذٍ قَدْ حُرِّمُوا عَلَيْها فَلا تَمَسُّهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ. أوْ يَكُونُ المُرادُ أنَّهُمْ يُحَرَّمُونَ مُطْلَقًا عَلى النّارِ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ الَّتِي لا يَخْرُجُ مِنها مَن دَخَلَها، وهِيَ ما عَدا الطَّبَقَةَ العُلْيا مِنَ النّارِ الَّتِي يَدْخُلُها بَعْضُ عُصاةِ أهْلِ التَّوْحِيدِ مِمَّنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى عِقابَهُ وتَطْهِيرَهُ بِها عَلى قَدْرِ ذَنْبِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُونَ فَلا يَبْقى فِيها أحَدٌ.
وهَذِهِ إشارَةٌ كافِيَةٌ فِي هَذا المَوْضِعِ وسَنَذْكُرُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى بَسْطَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ عِنْدَ ذِكْرِ الشَّفاعاتِ، ونَذْكُرُ الأحادِيثَ الَّتِي فِيها هَذا وهَذا والأحادِيثَ الَّتِي يَكُونُ بِها الجَمْعُ بَيْنَ ذَلِكَ، وقَدْ ذَكَرَ الحافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رحمه تَعالى فِي هَذا البابِ كَلامًا حَسَنًا بَعْدَ سِياقِهِ حَدِيثَ معاذ وحديث عتبان وحَدِيثَ أبِي ذَرٍّ وحَدِيثَ عُبادَةَ وقَدْ تَقَدَّمَتْ مَعَ غَيْرِها مِنَ الأحادِيثِ.
قالَ: وأحادِيثُ هَذا البابِ نَوْعانِ:
أحَدُهُما: ما فِيهِ أنَّ مَن أتى بِالشَّهادَتَيْنِ دَخَلَ الجَنَّةَ ولَمْ يُحْجَبْ عَنْها، وهَذا ظاهِرٌ فَإنَّ النّارَ لا يُخَلَّدُ فِيها أحَدٌ مِن أهْلِ التَّوْحِيدِ الخالِصِ بَلْ يَدْخُلُ الجَنَّةَ ولا يُحْجَبُ عَنْها إذا طُهِّرَ مِن ذُنُوبِهِ بِالنّارِ، وقَدْ يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ فَيُدْخِلُهُ الجَنَّةَ بِلا عِقابٍ قَبْلُ.
وحَدِيثُ أبِي ذَرٍّ معناه: أن الزنى والسَّرِقَةَ لا يَمْنَعانِ دُخُولَ الجَنَّةِ مَعَ التَّوْحِيدِ وهَذا حَقٌّ لا مِرْيَةَ فِيهِ، ولَيْسَ فِيهِ أنْ لا يعذب عليهما مَعَ التَّوْحِيدِ، وفِي مُسْنَدِ البَزّارِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- مَرْفُوعًا: «مَن قالَ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ نَفَعَتْهُ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ يُصِيبُهُ قَبْلَ ذَلِكَ ما أصابَهُ».
الثّانِي: فِيهِ أنْ يُحَرَّمَ عَلى النّارِ، وقَدْ حَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلى الخُلُودِ فِيها أوْ عَلى ما يُخَلَّدُ فِيها أهْلُها، وهِيَ ما عَدا الدَّرْكَ الأعْلى مِنَ النّارِ، فَإنَّ الدَّرْكَ الأعْلى يَدْخُلُهُ كَثِيرٌ مِن عُصاةِ المُوَحِّدِينَ بِذُنُوبِهِمْ ثُمَّ يَخْرُجُونَ بِشَفاعَةِ الشّافِعِينَ وبِرَحْمَةِ أرْحَمِ الرّاحِمِينَ.
وفِي الصَّحِيحَيْنِ: «إنَّ اللَّهَ تَعالى يَقُولُ: وعِزَّتِي وجَلالِي لَأُخْرِجَنَّ مِنَ النّارِ مَن قالَ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ»، وقالَتْ طائِفَةٌ مِنَ العُلَماءِ: المُرادُ مِن هَذِهِ الأحادِيثِ أنَّ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ سَبَبٌ لِدُخُولِ الجَنَّةِ والنَّجاةِ مِنَ النّارِ مقتضٍ لِذَلِكَ، ولَكِنَّ المقتضى عمله لا يَعْمَلُ عَمَلَهُ إلّا بِاسْتِجْماعِ شُرُوطِهِ وانْتِفاءِ مَوانِعِهِ فَقَدْ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ مُقْتَضاهُ لِفَواتِ شَرْطٍ مِن شُرُوطِهِ أوْ لِوُجُودِ مانِعٍ، وهَذا قَوْلُ الحَسَنِ ووَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وهُوَ أظْهَرُ.
وقالَ الحَسَنُ لِلْفَرَزْدَقِ وهُوَ يَدْفِنُ امْرَأتَهُ: ما أعْدَدْتَ لِهَذا اليَوْمِ؟ قالَ: شَهادَةَ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً، قالَ الحَسَنُ: نِعْمَ العدة، لكن لشهادة أن لا إلَهَ إلّا اللَّهُ شُرُوطًا فَإيّاكَ وقَذْفَ المُحْصَناتِ.
وقِيلَ لِلْحَسَنِ: إنَّ ناسًا يَقُولُونَ: مَن قالَ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ دَخَلَ الجَنَّةَ فَقالَ: مَن قالَ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ فَأدّى حَقَّها وفَرْضَها دَخَلَ الجَنَّةَ. وقالَ وهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ لِمَن سَألَهُ: ألَيْسَ مِفْتاحُ الجَنَّةِ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ؟ قالَ: بَلى، ولَكِنْ ما مِن مِفْتاحٍ إلّا لَهُ أسْنانٌ، فَإنْ أتَيْتَ بِمِفْتاحٍ لَهُ أسْنانٌ فُتِحَ لَكَ وإلّا لَمْ يُفْتَحُ لَكَ، وهَذا الحَدِيثُ: «إنَّ مِفْتاحَ الجَنَّةِ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ» أخْرَجَهُ الإمامُ أحْمَدُ بِإسْنادٍ مُنْقَطِعٍ عَنْ مُعاذٍ –رضي الله عنه- قالَ: قالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -: «إذا سَألَكَ أهْلُ اليَمَنِ عَنْ مِفْتاحِ الجَنَّةِ فَقُلْ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ»، ويَدُلُّ عَلى هَذا كَوْنُ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – رَتَّبَ دُخُولَ الجَنَّةِ عَلى الأعْمالِ الصّالِحَةِ فِي كَثِيرٍ مِنَ النُّصُوصِ كَما فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أبِي أيُّوبَ أنَّ رَجُلًا قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ أخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الجَنَّةَ قالَ: «تَعْبُدُ اللَّهَ لا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وتُقِيمُ الصَّلاةَ وتُؤْتِي الزَّكاةَ وتَصِلُ الرَّحِمَ».
وفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – أنَّ رَجُلًا قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِى عَلى عَمَلٍ إذا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الجَنَّةَ قالَ: «تَعْبُدُ اللَّهَ لا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وتُقِيمُ الصَّلاةَ المَكْتُوبَةَ وتُؤَدِّي الزَّكاةَ المَفْرُوضَةَ وتَصُومُ رَمَضانَ» فَقالَ الرَّجُلُ: والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا أزِيدُ على هذا شيئا ولا أنْقُصُ مِنهُ، فَقالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم -: «مَن سره أن ينظر إلى رَجُلٍ مِن أهْلِ الجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إلى هَذا».
وفِي المُسْنَدِ عَنْ بَشِيرِ بْنِ الخَصاصِيَّةِ قالَ: أتَيْتُ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – لِأُبايِعَهُ فاشْتَرَطَ عَلَيَّ شَهادَةَ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وأنْ أُقِيمَ الصلاة وأن أؤتي الزَّكاةَ وأحُجَّ حُجَّةَ الإسْلامِ وأنْ أصُومَ رَمَضانَ وأنْ أُجاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ أمّا اثْنَتَيْنِ فَواللَّهِ ما أُطِيقُهُما: الجِهادُ والصَّدَقَةُ.
فَقَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَدَهُ ثُمَّ حَرَّكَها وقالَ: «فَلا جِهادَ ولا صَدَقَةَ فَبِمَ تدخل الجنة إذن»؟! قُلْتُ: أُبايِعُكَ فَبايَعْتُهُ عَلَيْهِنَّ كُلِّهِنَّ.
فَفِي الحَدِيثِ أنَّ الجِهادَ والصَّدَقَةَ شَرْطٌ فِي دُخُولِ الجَنَّةِ مَعَ حُصُولِ التَّوْحِيدِ والصَّلاةِ والصِّيامِ والحَجِّ، ونَظِيرُ هَذا أنَّ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – قالَ: «أُمِرْتُ أنْ أُقاتِلَ النّاسَ حَتّى يَشْهَدُوا أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -» فَفَهِمَ عُمَرُ وجَماعَةٌ مِنَ الصَّحابَةِ أنَّ مَن أتى الشَّهادَتَيْنِ امْتَنَعَ مِن عُقُوبَةِ الدُّنْيا بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ، فَتَوَقَّفُوا فِي قِتالِ مانِعِي الزَّكاةِ.
وفَهِمَ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه أنَّهُ لا يَمْتَنِعُ قِتالُهُ إلّا بِأداءِ حُقُوقِها؛ لِقَوْلِهِ – صلى الله عليه وسلم -: «فَإذا فَعَلُوا ذَلِكَ مَنَعُوا مِنِّي دِماءَهُمْ وأمْوالَهُمْ إلّا بِحَقِّها، وحِسابُهُمْ عَلى اللَّهِ» وقالَ: الزَّكاةُ حَقُّ المالِ. وهَذا الَّذِي فَهِمَهُ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه قَدْ رَواهُ عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – صَرِيحًا غَيْرُ واحِدٍ مِنَ الصَّحابَةِ؛ مِنهُمُ ابْنُ عُمَرَ وأنَسٌ وغَيْرُهُما رضي الله عنهم، وأنَّهُ قالَ: «أُمِرْتُ أنْ أُقاتِلَ النّاسَ حَتّى يَشْهَدُوا أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ويُقِيمُوا الصَّلاةَ ويُؤْتُوا الزَّكاةَ».
ودَلَّ عَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: {فَإنْ تابُوا وأقامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكاةَ} [التَّوْبَةِ (5)] الآيَةَ، ولا تَثْبُتُ إلّا بِأداءِ الفَرائِضِ مَعَ التَّوْحِيدِ، ولَمّا قَرَّرَ أبُو بَكْرٍ –رضي الله عنه- هَذا لِلصَّحابَةِ رَجَعُوا إلى قَوْلِهِ ورَأوْهُ صَوابًا، فَإذا عُلِمَ أنَّ عُقُوبَةَ الدُّنْيا لا تَرْتَفِعُ عَمَّنْ أدّى الشَّهادَتَيْنِ مُطْلَقًا بَلْ يُعاقَبُ بِإخْلالِهِ بِحَقٍّ مِن حُقُوقِ الإسْلامِ، فَكَذَلِكَ عُقُوبَةُ الآخِرَةِ.
وقَدْ ذَهَبَ طائِفَةٌ إلى أنَّ هَذِهِ الأحادِيثَ المَذْكُورَةَ أوَّلًا وما فِي مَعْناها كانَتْ قَبْلَ نُزُولِ الفَرائِضِ والحُدُودِ، مِنهُمُ الزُّهْرِيُّ والثَّوْرِىُّ وغَيْرُهُما، وهَذا بَعِيدٌ جِدًّا فَإنَّ كَثِيرًا مِنها كانَتْ بِالمَدِينَةِ بَعْدَ نُزُولِ الفَرائِضِ والحُدُودِ وفِي بَعْضِها أنَّهُ كانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وهِيَ فِي آخِرِ حَياةِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم -، وهَؤُلاءِ مِنهُمْ مَن يَقُولُ: هَذِهِ الأحادِيثُ مَنسُوخَةٌ، ومِنهُمْ مَن يَقُولُ: هِيَ مُحْكَمَةٌ ولَكِنْ ضُمَّ إلَيْها شَرائِطُ، ويَلْتَفِتُ هَذا إلى أنَّ زِيادَةَ النَّصِّ هَلْ هِيَ نَسْخٌ أمْ لا؟ والخِلافُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الأُصُولِيِّينَ مَشْهُورٌ وقَدْ صَرَّحَ الثَّوْرِيُّ بِأنَّها مَنسُوخَةٌ وأنَّهُ نَسَخَتْها الفَرائِضُ والحُدُودُ.
وقَدْ يَكُونُ مُرادُهُمْ بِالنَّسْخِ البَيانَ والإيضاحَ، فَإنَّ السَّلَفَ كانُوا يُطْلِقُونَ النَّسْخَ عَلى مِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرًا ويَكُونُ مرادهم أن آيات الفَرائِضِ والحُدُودِ تُبَيِّنُ تَوَقُّفَ دُخُولِ أهْلِ الجَنَّةِ والنَّجاةِ مِنَ النّارِ عَلى فِعْلِ الفَرائِضِ واجْتِنابِ المَحارِمِ فَصارَتِ النُّصُوصُ مَنسُوخَةً أيْ: مُبَيَّنَةً مُفَسَّرَةً، ونُصُوصُ الحُدُودِ والفَرائِضِ ناسِخَةً أيْ: مُفَسِّرَةً لِمَعْنى تِلْكَ النُّصُوصِ مُوَضِّحَةً لَها. وقالَتْ طائِفَةٌ: تِلْكَ النُّصُوصُ المُطْلَقَةُ قَدْ جاءَتْ مُقَيَّدَةً فِي أحادِيثَ أُخَرَ فَفِي بَعْضِها: «مَن قالَ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ مُخْلِصًا دَخَلَ الجَنَّةَ»، وفِي بَعْضِها «مُسْتَيْقِنًا»، وفِي بَعْضِها: «مُصَدِّقًا بِها قَلْبُهُ لِسانَهُ»، وفِي بَعْضِها: «يَقُولُها مِن قَلْبِهِ»، وفِي بَعْضِها: «قَدْ ذَلَّ بِها لِسانُهُ واطْمَأنَّ بِها قَلْبُهُ».
وهَذا كُلُّهُ إشارَةٌ إلى عَمَلِ القَلْبِ وتَحَقُّقِهِ بِمَعْنى الشَّهادَتَيْنِ، فَتَحَقُّقُهُ بِمَعْنى شَهادَةِ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ: أنْ لا يَالَهَ قَلْبُهُ غَيْرَ اللَّهِ حُبًّا ورَجاءً وخَوْفًا وطَمَعًا وتَوَكُّلًا واسْتِعانَةً وخُضُوعًا وإنابَةً وطَلَبًا، وتَحَقُّقُهُ بِشَهادَةِ أنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – أنْ لا يُعْبَدَ بِغَيْرِ ما شَرَعَهُ عَلى لِسانِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ – صلى الله عليه وسلم – وهَذا المَعْنى جاءَ مَرْفُوعًا إلى النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – أنَّهُ قالَ: «مَن قالَ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ مُخْلِصًا دَخَلَ الجَنَّةَ» قِيلَ: ما إخْلاصُها يا رَسُولَ اللَّهِ؟ قالَ: «أنْ تَحْجِزَكَ عَمّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ» وهَذا يُرْوى مِن حَدِيثِ أنَسِ بْنِ مالِكٍ وزَيْدِ بْنِ أرْقَمَ، ولَكِنَّ إسْنادَهُما لا يَصِحُّ، وجاءَ أيْضًا مِن مَراسِيلِ الحَسَنِ نَحْوُهُ وتَحْقِيقُ هَذا المَعْنى وإيضاحُهُ أنَّ قَوْلَ العَبْدِ: «لا إلَهَ إلّا اللَّهُ» يَقْتَضِي أنْ لا إلَهَ غَيْرُ اللَّهِ والإلَهُ الَّذِي يُطاعُ ولا يُعْصى هَيْبَةً وإجْلالًا ومَحَبَّةً وخَوْفًا ورَجاءً وتَوَكُّلًا عَلَيْهِ وسُؤالًا مِنهُ ودُعاءً لَهُ، ولا يَصْلُحُ ذَلِكَ كُلُّهُ لِغَيْرِ اللَّهِ تعالى، فَمَن أشْرَكَ مَخْلُوقًا فِي شَيْءٍ مِن هَذِهِ الأُمُورِ الَّتِي هِيَ مِن خَصائِصِ الإلَهِيَّةِ كانَ ذَلِكَ قَدْحًا فِي إخْلاصِهِ فِي قَوْلِهِ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ ونَقْصًا فِي تَوْحِيدِهِ، وكانَ فِيهِ مِن عُبُودِيَّةِ المَخْلُوقِ بِحَسَبِ ما فِيهِ مِن ذَلِكَ وهَذا كُلُّهُ مِن فُرُوعِ الشِّرْكِ؛ ولِهَذا ورَدَ إطْلاقُ الكُفْرِ والشِّرْكِ عَلى كَثِيرٍ مِنَ المعاصي التي منشؤها مِن طاعَةِ غَيْرِ اللَّهِ -تعالى- أوْ خَوْفِهِ أوْ رَجائِهِ أوِ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ أوِ العَمَلِ، كَما ورَدَ إطْلاقُ الكُفْرِ والشِّرْكِ عَلى الرِّبا وعَلى
الحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ تعالى، وعَلى التَّوَكُّلِ عَلى غَيْرِ اللَّهِ والِاعْتِمادِ عَلَيْهِ وعَلى مَن سَوّى بَيْنَ اللَّهِ وبَيْنَ المَخْلُوقِ فِي المَشِيئَةِ مِثْلَ أنْ يَقُولَ: ما شاءَ اللَّهُ وشاء فُلانٌ، وكَذا قَوْلُهُ: ما لِي إلّا اللَّهُ وأنْتَ، وكَذَلِكَ ما يَقْدَحُ فِي التَّوْحِيدِ وتَفَرُّدِ اللَّهِ بِالنَّفْعِ والضُّرِّ كالطِّيَرَةِ والرُّقى المَكْرُوهَةِ وإتْيانِ الكُهّانِ وتَصْدِيقِهِمْ بِما يَقُولُونَ.
كَذَلِكَ اتِّباعُ هَوى النَّفْسِ فِيما نَهى اللَّهُ عَنْهُ قادِحٌ فِي تَمامِ التَّوْحِيدِ وكَمالِهِ؛ ولِهَذا أطْلَقَ الشَّرْعُ عَلى كَثِيرٍ مِنَ الذنوب التي منشؤها مِن هَوى النَّفْسِ أنَّها كُفْرٌ وشِرْكٌ كَقِتالِ المُسْلِمِ ومَن أتى حائِضًا أوِ امْرَأةً فِي دُبُرِها ومَن شَرِبَ الخَمْرَ فِي المَرَّةِ الرّابِعَةِ وإنْ كانَ ذَلِكَ لا يُخْرِجُهُ مِنَ المِلَّةِ بِالكُلِّيَّةِ؛ ولِهَذا قالَ السَّلَفُ: كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ وشِرْكٌ دُونَ شِرْكٍ، وقَدْ ورَدَ إطْلاقُ الإلَهِ عَلى الهَوى المُتَّبَعِ قالَ تَعالى: {أرَأيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَواهُ} [الفَرْقانِ: (43)]، قالَ الحَسَنُ رحمه الله: هُوَ الَّذِي لا يَهْوى شَيْئًا إلّا رَكِبَهُ، وقالَ قَتادَةُ: هُوَ الَّذِي كُلَّما هَوى شَيْئًا رَكِبَهَ، وكُلَّما اشْتَهى شَيْئًا أتاهُ لا يَحْجِزُهُ عَنْ ذَلِكَ ورَعٌ.
ورُوِيَ مِن حَدِيثِ أبِي أُمامَةَ مَرْفُوعًا بِإسْنادٍ ضَعِيفٍ: «ما تَحْتَ ظِلِّ السَّماءِ إلَهٌ يُعْبَدُ أعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِن هَوًى مُتَّبَعٍ»، وفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «لا تَزالُ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ تَدْفَعُ عَنْ أصْحابِها حَتّى يُؤْثِرُوا دُنْياهُمْ عَلى دِينِهِمْ، فَإذا فَعَلُوا ذَلِكَ رُدَّتْ عَلَيْهِمْ ويُقالُ لَهُمْ: كَذَبْتُمْ». ويَشْهَدُ لِهَذا الحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم -: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينارِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ، تَعِسَ عَبْدُ القَطِيفَةِ، تَعِسَ عَبْدُ الخَمِيصَةِ، تَعِسَ وانْتَكَسَ، وإذا شِيكَ فَلا انْتَقَشَ»، فَدَلَّ هَذا عَلى أنَّ مَن أحَبَّ شَيْئًا وأطاعَهُ وكانَ مِن غايَةِ قَصْدِهِ ومَطْلُوبِهِ ووالى لِأجْلِهِ وعادى لِأجْلِهِ، فَهُوَ عَبْدُهُ وكانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مَعْبُودَهُ وإلَهَهُ. ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا أنَّ اللَّهَ تَعالى سَمّى طاعَةَ الشَّيْطانِ فِي مَعْصِيَتِهِ عِبادَةً لِلشَّيْطانِ، كَما قالَ تَعالى: {ألَمْ أعْهَدْ إلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يس (60)].
وقالَ تَعالى حاكِيًا عَنْ خَلِيلِهِ إبْراهِيمَ – عليه السلام- لِأبِيهِ: {يا أبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مَرْيَمَ (44)] فَمَن لَمْ يَتَحَقَّقْ بِعُبُودِيَّةِ الرَّحْمَنِ وطاعَتِهِ فَإنَّهُ يَعْبُدُ الشَّيْطانَ بِطاعَتِهِ، ولَمْ يَخْلُصْ مِن عِبادَةِ الشَّيْطانِ إلّا مَن أخْلَصَ عُبُودِيَّةَ الرَّحْمَنِ وهُمُ الَّذِينَ قالَ فِيهِمْ: {إنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ} [الحِجْرِ (42)] فَهُمُ الَّذِينَ حَقَّقُوا قَوْلَ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وأخْلَصُوا فِي قَوْلِها وصَدَّقُوا قَوْلَهُمْ بِفِعْلِهِمْ فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إلى غَيْرِ اللَّهِ مَحَبَّةً ورَجاءً وخَشْيَةً وطاعَةً وتَوَكُّلًا، وهُمُ الَّذِينَ صَدَقُوا فِي قَوْلِ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وهُمْ عِبادُ اللَّهِ حَقًّا.
فَأمّا مَن قالَ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ بِلِسانِهِ ثُمَّ أطاعَ الشَّيْطانَ وهَواهُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ ومُخالَفَتِهِ فَقَدْ كَذَّبَ قَوْلَهُ فِعْلُهُ، ونَقَصَ مِن كَمالِ تَوْحِيدِهِ بِقَدْرِ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فِي طاعَةِ الشَّيْطانِ والهَوى: {ومَن أضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القَصَصِ (50)]، {ولا تَتَّبِعِ الهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص (26)] ثُمَّ قالَ رحمه الله: فَيا هَذا كُنْ عَبْدًا لِلَّهِ لا عَبْدًا لِلْهَوى، فَإنَّ الهَوى يَهْوِي بِصاحِبِهِ فِي النّارِ: {أأرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أمِ اللَّهُ الواحِدُ القَهّارُ} [يُوسُفَ (39)]، «تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّينارِ» واللَّهِ لا ينجو غدًا مِن عَذابِ اللَّهِ إلّا مَن حَقَّقَ عُبُودِيَّةَ اللَّهِ وحْدَهُ ولَمْ يَلْتَفِتْ إلى شَيْءٍ مِنَ الأغْيارِ، مَن عَلِمَ أنَّ إلَهَهُ ومَعْبُودَهُ فَرْدٌ فَلْيُفْرِدْهُ بِالعُبُودِيَّةِ ولا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أحَدًا. انْتَهى كَلامُهُ رحمه الله تَعالى. [(معارج القبول بشرح سلم الوصول)، (ج2/ص418 – 420)، بتصرف].
المسألة الحادية عشر:
من دلائل النبوة قبل البعثة
منذ ولادة الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، وقبل البعثة، ظهرت دلائل النبوة عليه، ومنها:
* البركة في بيت المرضعة حليمة السعدية ومالها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن عاش في البادية وأرضعته حليمة السعدية، وكان قد حدث لها ولزوجها من النعم الكثيرة أثناء مكوث محمد بن عبد الله معهما.
* شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم: لما كان رسول الله عند مرضعته حليمة السعدية أراد الله عز وجل أن يطهر قلبه من حظ الشيطان، فأرسل إليه جبريل، وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طَسْت من ذهب بماء زمزم، وقد حصل له ذلك مرة ثانية، وهو ابن عشر سنين.
علامات النبوة في القرآن الكريم
وبعد معرفة ما جاء من دلائل نبوة قبل البعثة، يجب معرفة دلائل النبوة التي وردت في القرآن الكريم، وأكدت نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما
* إخبار القرآن الكريم عن غلبة الروم للفرس خلال بضع سنين كما جاء في سورة الروم، قال تعالى: “الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ”.
* إخبار القرآن الكريم عن انتصار المسلمين في غزوة بدر قبل وقوعها، قال الله تعالى: “أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ، سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ، بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ”.
* دخول المسلمين المسجدَ الحرام محلِّقين رؤوسهم في قوله تعالى: “لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ”، فدخَلُوه بعد سنة معتمرين، ودخلوه بعد سنتين فاتحين، وذلك كله من دلائل صدقه ونبوته صلوات الله وسلامه عليه
[تنبيه]: سبق ذكر مسائل متعلقة بالتبرك في غير موضع، ومن ذلك: (100) الفوائد المنتقاه من شرح مختصر صحيح مسلم، باب قرب النبي عليه السلام من الناس وتبركهم به.