(1239) فتح الاحد الصمد شرح الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير، وعبدالحميد البلوشي، وكديم، ومحمد البلوشي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إماراتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا).
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
قال الشيخ مقبل الوادعي في الصحيح المسند (ج2/ رقم 1239):
مسند أبي عَسِيبٍ رضي الله عنه
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج (5) ص (81)): حَدَّثَنا يَزِيدُ، حَدَّثَنا مُسْلِمُ بْنُ عُبَيْدٍ أبُو نُصَيْرَةَ، قالَ: سَمِعْتُ أبا عَسِيبٍ، مَوْلى رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -، يَقُولُ: قالَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: ((أتانِي جِبْرِيلُ بِالحُمّى، والطّاعُونِ، فَأمْسَكْتُ الحُمّى بِالمَدِينَةِ، وأرْسَلْتُ الطّاعُونَ إلى الشّامِ، فالطّاعُونُ شَهادَةٌ لِأُمَّتِي، ورَحْمَةٌ، ورِجْسٌ عَلى الكافرين)).
هذا حديث صحيحٌ.
===================
الحكم على الحديث:
صححه الألباني في صحيح الجامع ((60)) والسلسلة الصحيحة ((761)).
وفي أنيس الساري:
قال الحافظ: أخرجه أحمد من رواية أبي عَسِيب – بمهملتين آخره موحدة وزن عظيم – رفعه: فذكره «
وقال أيضا: وفي حديث أبي عسيب عند أحمد» فالطاعون شهادة للمؤمنين ورحمة لهم، ورِجسٌ على الكافر
حسن
أخرجه ابن سعد ((7) / (61)) وأحمد ((5) / (81)) والحارث (بغية الباحث (255)) عن يزيد بن هارون ثنا مسلم بن عُبيد أبو نُصَيرة قال: سمعت أبا عسيب مولى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: فذكره، وزاد: فالطاعون شهادة لأمتي ورحمة لهم ورجس على الكافرين»
ومن طريق الحارث أخرجه أبو نعيم في «الصحابة» ((1016) و (6919)) وفي «عوالي الحارث» ((45)) وابن عساكر في «معجم الشيوخ» ((680)) والحافظ في «بذل الماعون» (ص (78) – (79))
وأخرجه ابن أبي عاصم في «الآحاد» ((466)) والدولابي في «الكنى» ((1) / (85) و (2) / (141)) وابن حبان في «الثقات» ((5) / (399)) والطبراني في «الكبير» ((22) / (391) – (392)) من طرق عن يزيد بن هارون به.
قال ابن عساكر: لا يروى إلا بهذا الإسناد، وهو غريب «
وقال الهيثمي: رجال أحمد ثقات» المجمع (2) / (310)
وقال الحافظ: حديث حسن»
قلت: وهو كما قال للخلاف في مسلم بن عبيد.
قال أحمد: ثقة، وقال ابن معين: صالح، وذكره ابن حبان في «الثقات» وقال: يخطئ على قلة روايته.
وقال الدارقطني في «العلل» ((1) / (261)): أبونصير ضعيف.
وهو مسلم بن عبيد
ولم يعرفه البزار فقال: مجهول.
ووثقه الذهبي في «الكاشف» والحافظ في «التقريب» “. انتهى
الحديث سيكون من وجوه:
أورد الحديث الإمام أحمد في مسنده.
وفي الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد جعله تحت باب: “الطاعون رحمة للمؤمنين وعذاب للكافرين”.
الوادعي رحمه الله جعله في الجامع:
(5) – كتاب الجنائز، (16) – موت الطاعون شهادة، ((1188)).
قال شعَيب الأرنؤوط وأخر ط: الرسالة:
قالوا في قوله: (ورِجْسٌ عَلى الكافِرِ): في (م): الكافرين.
وقالوا أيضًا: “إسناده صحيح.
وأخرجه ابن سعد (7) / (61)، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» ((466))، والحارث بن أبي أسامة في «مسنده» كما في «بغية الباحث» ((255))، والدولابي في «الأسماء والكنى» (1) / (44)، وابن حبان في «الثقات» (5) / (399)، والطبراني ((974)) من طريق يزيد بن هارون، بهذا الإسناد.
ويشهد لقوله: «الطاعون شهادة» حديث أبي هريرة السالف برقم ((8092))، وانظر تتمة شواهده هناك.
قلنا: ذكر الحافظ في «فتح الباري» (10) / (191) أن الحِكمة في إمساك الحمّى بالمدينة وإرسال الطاعون، أنه – صلى الله عليه وسلم – لمّا دخل المدينة كان في قِلَّةٍ من أصحابه عددًا ومَددَا، وكانت المدينة وبِئةً كما في حديث عائشة عند البخاري ((1889)) وغيره، فخُيِّر النبي – صلى الله عليه وسلم – في أمرين يحصل بكلٍّ منهما الأجر الجزيل، فاختار الحمّى حينئذٍ لقِلَّة الموت بها غالبًا، بخلاف الطاعون، ثم لما احتاج إلى جهاد الكفّار وأُذِنَ له في القتال، كانت قضية استمرار الحمّى بالمدينة أن تُضعِفَ أجساد الذين يحتاجون إلى التقوية لأجل الجهاد، فدعا بنَقْل الحُمّى من المدينة إلى الجُحْفة كما في حديث عائشة أيضًا المذكور، فعادت المدينةُ أصحَّ بلاد الله بعد أن كانت بخلاف ذلك، ثم كانوا من حينئذٍ من فاتته الشهادةُ بالطاعون ربما حصلت له بالقتل في سبيل الله، ومن فاته ذلك حصلت له الحمّى التي هي حظُ المؤمن من النار،
ثم استمر ذلك بالمدينة تمييزًا لها عن غيرها لتحقُق إجابة دعوته وظهور هذه المعجزة العظيمة بتصديق خبره هذه المدَّة المتطاولة، والله أعلم”. انتهى.
الأول: شرح الحديث:
(أتاني جبريل بالحمى) الحمى حرارة، غريزية، تشتعل في القلب وينبث منه بتوسط الروح والدم في الشرايين والعروق إلى جميع البدن، فيشتعل منه اشتعالًا يضر بالأفعال الطبيعية، (والطاعون) المرض العام والوباء الذي يفسد الهواء، فتفسد الأمزجة قاله في القاموس، ومثله في النهاية، وقال ابن القيم [زاد المعاد ((4) / (38))]: التحقيق أن بين الوباء والطاعون عمومًا وخصوصًا، فكل طاعون وباء وليس كل وباء طاعونًا، وكذلك الأمراض العامة أعم من الطاعون فإنه واحد منها، والطاعون خراجات وقروح وأورام رديئة حادثه في المواضع المتقدم ذكرها، قال: وهي اللحوم الرخوة وجه وخلف الأذان والأرنبة.
“وقال ابْنُ قَيِّمٍ الجَوْزِيَّةُ – بَعْدَ أنْ بَيَّنَ الصِّلَةَ بَيْنَ الوَباءِ والطّاعُونِ – هَذِهِ القُرُوحُ والاوْرامُ والجِراحاتُ، هِيَ آثارُ الطّاعُونِ، ولَيْسَتْ نَفْسَهُ ولَكِنِ الاطِبّاءُ لَمّا لَمْ تُدْرِكْ مِنهُ إلاَّ الاثَرَ الظّاهِرَ جَعَلُوهُ نَفْسَ الطّاعُونِ.
والطّاعُونُ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ ثَلاَثَةِ أُمُورٍ:
أحَدُها: هَذا الاثَرُ الظّاهِرُ، وهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الاطِبّاءُ.
والثّانِي: المَوْتُ الحادِثُ عَنْهُ، وهُوَ المُرادُ بِالحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي قَوْلِهِ: الطّاعُونُ شَهادَةٌ لِكُل مُسْلِمٍ [أخرجه البخاري (فتح الباري (10) / (180))، ومسلم ((3) / (1522)) من حديث أنس].
والثّالِثُ: السَّبَبُ الفاعِل لِهَذا الدّاءِ، وقَدْ ورَدَ فِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أنَّهُ بَقِيَّةُ رِجْزٍ أُرْسِل عَلى بَنِي إسْرائِيل [أخرجه البخاري (فتح الباري (6) / (513))، ومسلم ((4) / (1737)) من حديث أسامة بن زيد].
ووَرَدَ فِيهِ أنَّهُ وخْزُ أعْدائِكُمْ مِنَ الجِنِّ [أخرجه أحمد ((4) / (395))، والحاكم ((1) / (50))، من حديث أبي موسى الأشعري وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي]، وجاءَ أنَّهُ دَعْوَةُ نَبِيٍّ [ورد من حديث أبي منيب الأحدب قال: «خطب معاذ بالشام فذكر الطاعون، فقال: إنها رحمة ربكم ودعوة نبيكم». أخرجه أحمد ((5) / (240))، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ((2) / (311))، وعزاه لأحمد وغيره ثم قال: رجال أحمد ثقات وسنده متصل] “.
(فأمسكت الحمى بالمدينة) وقد ثبت أنه – صلى الله عليه وسلم – دخل المدينة وهي وبيئة، وكانت كذلك في الجاهلية … انتهى [فتح الباري ((7) / (262))].
وهاجر إليها – صلى الله عليه وسلم – وهي وبيئة ومرض فيها أصحابه، فدعا – صلى الله عليه وسلم – أن يُنقل إلى الجحفة، فنقل إليها [قال الخطابي وغيره: كان ساكنو الجحفة في ذلك الوقت يهودًا]، فكان الطير يمر بالجحفة فتقع ميتًا، فهذه الحمى التي نزل بها جبريل غير تلك، ولعلها أخف من التي نقلت منها،
(وأرسلت الطاعون إلى الشام) وإنما أمسك – صلى الله عليه وسلم – الحمى وأرسل الطاعون؛ لأنّ الحمى أخف ألمًا، لأنّ الطاعون يعم، ويهلك في أسرع الوقت، قال السيد نور الدين [انظر: وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى لنور الدين السمهودي ((1) / (61))]: المشاهد عدم خلو المدينة عن الحمّى بخلاف الطاعون فإنها محفوظة منه، وكأنه – صلى الله عليه وسلم – أرسل الطاعون إلى الشام، ثم استمر، وأنه تعالى أخبره أنه لا بد في هذه الأمة من الطاعون والحمّى وأنه يختار لبلديه أيهما أخف، فاختار الأخف، وأرسل الآخر إلى الشام؛ لأنه لا يخلو عن كافر، فيكون عليه رجسًا، بخلاف أهل المدينة فإنهم مؤمنون لا يسكنها كافر،
(فالطاعون شهادة لأمتي) أي: المصاب به يكون له أجر شهيد إن مات به، (ورحمة لهم)؛ لأنه يكون به لهم أجر الشهداء أو لأنه يسرع بهم إلى رحمة الله، (ورجس) بكسر الراء وسكون الجيم آخره مهملة هو العذاب، (على الكافرين)؛ لأنهم لا يؤجرون على ألم، ولأنه يسرع بهم إلى عذاب الله، (حم وابن سعد عن أبي عسيب) بفتح العين المهملة وكسر السين المهملة بعدها مثناه تحتية آخره موحدة، هو مولى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ويقال: عصيب، رمز المصنف لصحته، وقال الهيثمي: رجال أحمد ثقات. قاله الصنعاني (ت (1182)) رحمه الله [التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 270 – 272)، بتصرف].
قال الذهبي رحمه الله: – “يُقالُ: اسْمُهُ أحْمَرُ، وكانَ مِنَ الصُّلَحاءِ العبّاد.
– مَوْلى النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم -، مِمَّن نَزَلَ البَصْرَةَ وطالَ عُمُرُهُ.
– خرَّج لَهُ الإمامُ أحْمَدُ فِي «مُسْنَدِهِ».
– حدَّث عَنْهُ: خازِمُ بنُ القاسِمِ، وأبُو نُصَيْرَةَ مُسْلِمُ بنُ عبيد، وميمونة بنت أبي عسيب،
– وقالت: كان أبي يُواصِلُ بَيْنَ ثَلاَثٍ فِي الصِّيامِ، ويُصَلِّي الضُّحى قائِمًا، فَعَجِزَ، فَكانَ يُصَلِّي قاعِدًا، ويَصُومُ البِيضَ. قالَتْ: وكانَ فِي سَرِيرِهِ جُلْجُل، فَيَعْجِزُ صَوْتُهُ، حَتّى يُنادِيَها بِهِ، فَإذا حَرَّكَهُ جاءتْ.
رَوى ذَلِكَ التَّبُوذَكِيُّ، عَنْ مَسْلَمَةَ بِنْتِ زَبّانَ، سَمِعْتُ مَيْمُونَةَ بِذَلِكَ.
– وقالَ خازِمُ بنُ القاسِمِ -فِيما سَمِعَهُ مِنهُ التَّبُوذَكِيُّ: رَأيْتُ أبا عَسِيبٍ يصفِّر رَاسَهُ ولِحْيَتَهُ. [سير أعلام النبلاء (4/ 463)]
الثاني: مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
تمهيد:
مر في [(1111) التعليق على الصحيح المسند] عند ذكر خصائص هذه الأمة: ” (19) – اختصاصها بكثرة أنواع الشهادة: امتن الله على هذه الأمة بأن جعل أنواع الشهداء فيها كثير بعد أن كان الشهيد في الأمم السابقة هو الذي استشهد في المعركة فقط، ويدل على ذلك ما رواه مسلم عن أبي هُرَيْرة – رَضيَ اللهُ عنه – قال: قالَ رسولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: (ما تعدون الشهيد فيكم؟) قالوا: يا رسول الله! من قتل في سبيل الله فهو شهيد! قال: (إنَّ شهداء أمتي إذًا لقليل)! قالوا: فمن هم يا رسول الله؟! قال: (من قُتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد، وفي لفظ (والغريق شهيد) صحيح مسلم ((3) / (1521)) رقم ((1915)) كتاب الإمارة باب بيان الشهداء.
وفي هذا الحديث قرينه تدل على أن الأمم السابقة لم يعطهم الله – جل وعلا – أنواع الشهادة التي مرت خلا القتل في سبيل الله، والقرينة هي كلمة (أمتي) فهي مشعرة باختصاص هذه الأمة بهذه الأنواع من الشهادات. القول الأحمد ص (95). انتهى.
(المسألة الأولى):
بوب في صحيح مسلم (بابُ صِيانَةِ المَدِينَةِ مِن دُخُولي الطّاعُونِ، والدَّجّالِ إلَيْها)
فمما أورده الإمام مسلم رحمه الله، حديث عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: ((عَلى أنْقابِ المَدِينَةِ مَلائِكَةٌ، لا يَدْخُلُها الطّاعُونُ، ولا الدَّجّالُ)).
، قال ابن وهب: المراد بها مداخلها، وهي أبوابها، وفوهات طرقها التي يُدْخَل منها، كما جاء في الحديث الآخر: «على كل باب منها ملك»،انتهى. قاله الأتيوبي رحمه الله. [البحر المحيط الثجاج].
(المسألة الثانية): (الطّاعُونُ)
ولخص ابن حجر في «الفتح» معنى الطاعون في «باب ما يذكر في الطاعون»
بعد أن نقل كلام أهل الفقه واللغة والاطباء في المقصود بالطاعون:
هذا ما بلغنا من كلام أهل اللغة، وأهل الفقه، والأطباء في تعريفه، والحاصل: أن حقيقته ورَمٌ ينشأ عن هيجان الدم، أو انصباب الدم إلى عضو فيفسده، وأن غير ذلك من الأمراض العامّة الناشئة عن فساد الهواء يسمى طاعونًا بطريق المجاز؛ لاشتراكهما في عموم المرض، أو كثرة الموت، والدليل على أن الطاعون غير الوباء حديث: «أن الطاعون لا يدخل المدينة»،
وقد ورد في حديث عائشة – رضي الله عنها -: قدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله، وفيه قول بلال – رضي الله عنه -: «أخرجونا إلى أرض الوباء»، وغير ذلك من الأحاديث الدالة على أن الوباء كان موجودًا بالمدينة، وفي حديث أبي الأسود: «قَدِمت المدينة في خلافة عمر، وهم يموتون موتًا ذريعًا». وقد سبق في حديث العرنيين في «الطهارة» أنهم استوخموا المدينة، وفي لفظ: أنهم قالوا: إنها أرض وبِئة، فكل ذلك يدلّ على أن الوباء كان موجودًا بالمدينة،
وقد صَرَّح في الحديث بأن الطاعون لا يدخلها، فدلّ على أن الوباء غير الطاعون، وأن من أطلق على كل وباء طاعونًا، فبطريق المجاز، قال أهل اللغة: الوباء هو المرض العامّ، يقال: أوبأت الأرض فهي مُوبئة، ووَبَئت بالفتح فهي وبئة، وبالضم فهي موبوءة،
والذي يفترق به الطاعون من الوباء: أصل الطاعون الذي لم يتعرض له الأطباء، ولا أكثر من تكلم في تعريف الطاعون، وهو كونه من طعن الجنّ، ولا يخالف ذلك ما قال الأطباء من كون الطاعون ينشا عن هيجان الدم، أو انصبابه؛ لأنه يجوز أن يكون ذلك يحدث عن الطعنة الباطنة، فتحدث منها المادّة السُّمّية، ويهيج الدم بسببها، أو ينصبّ، وإنما لم يتعرض الأطباء لكونه من طعن الجنّ؛ لأنه أمر لا يدرك بالعقل، وإنما يُعرف من الشارع، فتكلموا في ذلك على ما اقتضته قواعدهم.
وقال الكلاباذيّ في «معاني الأخبار»: يَحْتَمِل أن يكون الطاعون على قسمين:
قسم يحصل من غلبة بعض الأخلاط، من دم، أو صفراء، محترقة، أو غير ذلك،
وقسم يكون من وخْز الجنّ كما تقع الجراحات من القروح التي تخرج في البدن، من غلبة بعض الأخلاط، وإن لم يكن هناك طعن، وتقع الجراحات أيضًا من طعن الإنس. انتهى.
ومما يؤيد أن الطاعون يكون من طعن الجنّ وقوعه غالبًا في أعدل الفصول، وفي أصح البلاد هواء، وأطيبها ماءً، ولأنه لو كان بسبب فساد الهواء لدام في الأرض؛ لأن الهواء يفسد تارةً، ويصح أخرى، وهذا يذهب أحيانًا ويجيء أحيانًا على غير قياس، ولا تجربة، فربما جاء سنة على سنة، وربما أبطأ سنين، وبأنه لو كان كذلك لعمّ الناس والحيوان، والموجود بالمشاهدة أنه يصيب الكثير، ولا يصيب من هم بجانبهم، مما هو في مثل مزاجهم، ولو كان كذلك لعمّ جميع البدن، وهذا يختص بموضع من الجسد، ولا يتجاوزه، ولأن فساد الهواء يقتضي تغيّر الأخلاط، وكثرة الأسقام، وهذا في الغالب يقتل بلا مرض، فدل على أنه من طعن الجنّ كما ثبت في الأحاديث الواردة.
منها: حديث أبي موسى – رضي الله عنه – رفعه: «فناء أمتي بالطعن والطاعون»، قيل: يا رسول الله هذا الطعن قد عرفناه، فما الطاعون؟ قال: «وخز أعدائكم من الجنّ، وفي كلٍّ شهادةٌ»، أخرجه أحمد، من رواية زياد بن علاقة عن رجل، عن أبي موسى.
وفي رواية له عن زياد: حدّثني رجل من قومي قال: كنا على باب عثمان ننتظر الإذن، فسمعت أبا موسى، قال زياد: فلم أرض بقوله: فسألت سيد الحيّ، فقال: صدق. وأخرجه البزار والطبراني من وجهين آخرين عن زياد، فسمّيا المبهم يزيد بن الحارث، وسمّاه أحمد في رواية أخرى أسامة بن شريك، ولا معارضة بينه وبين من سمّاه يزيد بن الحارث؛ لأنه يُحْمَل على أن أسامة هو سيد الحيّ الذي أشار إليه في الرواية الأخرى، واستثبته فيما حدثه به الأول، وهو يزيد بن الحارث، ورجاله رجال «الصحيحين» إلا المبهم، وأسامة بن شريك صحابيّ مشهور، والذي سمّاه، وهو أبو بكر النهشليّ من رجال مسلم، فالحديث صحيح بهذا الاعتبار، وقد صححه ابن خزيمة،
والحاكم، وأخرجاه، وأحمد، والطبراني من وجه آخر، عن أبي بكر بن أبي موسى الأشعريّ، قال: سألت عنه رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فقال: «هو وخز أعدائكم من الجنّ، وهو لكم شهادة»، ورجاله رجال الصحيح، إلا أبا بَلْج – بفتح الموحدة، وسكون اللام، بعدها جيم – واسمه يحيى، وثقه ابن معين، والنسائيّ، وجماعة، وضعّفه جماعة بسبب التشيع، وذلك لا يقدح في قبول روايته عند الجمهور.
وللحديث طريق ثالثة، أخرجها الطبراني من رواية عبد الله بن المختار، عن كريب بن الحارث بن أبي موسى، عن أبيه، عن جدّه، ورجاله رجال الصحيح، إلا كريبًا، وأباه، وكريب وثقه ابن حبان، وله حديث آخر في الطاعون، أخرجه أحمد، وصححه الحاكم من رواية عاصم الأحول، عن كريب بن الحارث، عن أبي بردة بن قيس، أخي أبي موسى الأشعريّ، رفعه:
«اللهم اجعل فناء أمتي قتلًا في سبيلك بالطعن والطاعون».
قال العلماء: أراد – صلى الله عليه وسلم – أن يحصل لأمته أرفع أنواع الشهادة، وهو القتل في سبيل الله بأيدي أعدائهم، إما من الإنس، وإما من الجن.
ولحديث أبي موسى شاهد من حديث عائشة، أخرجه أبو يعلى، من رواية ليث بن أبي سُليم، عن رجل، عن عطاء، عنها، وهذا سند ضعيف.
وآخر من حديث ابن عمر، سنده أضعف منه، والعمدة في هذا الباب على حديث أبي موسى، فإنه يحكم له بالصحة؛ لتعدد طرقه إليه.
وقوله: «وخْز» – بفتح أوله، وسكون المعجمة، بعدها زاي – قال أهل اللغة: هو الطعن إذا كان غير نافذ، ووصف طعن الجن بأنه وخزٌ؛ لأنه يقع من الباطن إلى الظاهر، فيؤثر في الباطن أوّلًا، ثم يؤثر في الظاهر، وقد لا ينفذ، وهذا بخلاف طعن الإنس، فإنه يقع من الظاهر إلى الباطن، فيؤثر في الظاهر أوّلًا، ثم يؤثر في الباطن، وقد لا ينفذ.
[تنبيه]: يقع في الألسنة وهو في «النهاية» لابن الأثير بلفظ: «وخز إخوانكم من الجنّ»، قال الحافظ: ولم أره بلفظ: «إخوانكم» بعد التتبع الطويل البالغ في شيء من طرُق الحديث المسندة، لا في الكتب المشهورة، ولا الأجزاء المنثورة، وقد عزاه بعضهم لمسند أحمد، والطبرانيّ، وكتاب الطواعين
لابن أبي الدنيا، ولا وجود لذلك في واحد منها. انتهى كلام الحافظ -رَحِمَهُ اللهُ-[«الفتح» (13) / (130) – (134) «كتاب الطبّ» رقم ((5728) – (5733))].
وقال الزرقانيّ -رَحِمَهُ اللهُ-: فإن قيل: إذا كان الطعن من الجنّ، فكيف يقع في رمضان، والشياطين تُصَفّد فيه، وتسلسل؟
[أجيب]: باحتمال أنهم يطعنون قبل دخول رمضان، ولا يظهر التأثير إلا بعد دخوله، وقيل غير ذلك، ويمكن أن يقال: إن المصفَّد بعض الشياطين، كما وقع في بعض الروايات، وهم المَرَدة، لا كلهم، فإن تصفيد الشياطين لا يستلزم تصفيد الجانّ كلهم.
وقد استُشكِل: عدم دخول الطاعون المدينة مع كون الطاعون شهادةً، وكيف قُرن بالدجال، ومُدحت المدينة بعدم دخولهما؟
قال الحافظ -رَحِمَهُ اللهُ-: والجواب أن كون الطاعون شهادةً ليس المراد بوصفه بذلك ذاته، وإنما المراد أن ذلك يترتب عليه، وينشأ عنه؛ لكونه سببه، فاذا استُحْضِر ما تقدم من أنه طعن الجنّ حَسُنَ مَدْحُ المدينة بعدم دخوله إياها، فإن فيه إشارة إلى أن كفار الجن وشياطينهم ممنوعون من دخول المدينة، ومن اتفق دخوله إليها لا يتمكن من طعن أحد منهم.
فإن قيل: طعن الجن لا يختص بكفارهم، بل قد يقع من مؤمنيهم.
قلنا: دخول كفار الإنس المدينة ممنوع، فاذا لم يسكن المدينة إلا من يُظهر الإسلام جرت عليه أحكام المسلمين، ولو لم يكن خالص الإسلام فحصل الأمن من وصول الجن إلى طعنهم بذلك، فلذلك لم يدخلها الطاعون أصلًا.
وقد أجاب القرطبيّ في «المفهم» عن ذلك، فقال: المعنى لا يدخلها من الطاعون مثل الذي وقع في غيرها كطاعون عَمَواس، والجارف، وهذا الذي قاله يقتضي تسليم أنه دخلها في الجملة، وليس كذلك، فقد جزم ابن قتيبة في «المعارف»، وتبعه جمغ جَمّ من آخرهم الشيخ محيي الدين النوويّ في «الأذكار» بأن الطاعون لم يدخل المدينة أصلًا، ولا مكة أيضًا، لكن نقل جماعة أنه دخل مكة في الطاعون العام الذي كان في سنة تسع وأربعين وسبعمائة، بخلاف المدينة، فلم يذكر أحد قط أنه وقع بها الطاعون أصلًا.
ولعل القرطبيّ بَنى على أن الطاعون أعمّ من الوباء، أو أنه هو، وإنه الذي ينشأ عن فساد الهواء، فيقع به الموت الكثير، وقد مضى في «الجنائز» من «صحيح البخاريّ» قول أبي الأسود: قَدِمت المدينة، وهم يموتون بها موتًا ذريعًا، فهذا وقع بالمدينة، وهو وباء بلا شك، ولكن الشأن في تسميته طاعونًا.
والحقّ أن المراد بالطاعون في هذا الحديث المنفي دخوله المدينة الذي ينشأ عن طعن الجنّ، فيهيج بذلك الطعن الدم في البدن، فيَقتل، فهذا لم يدخل المدينة قط، فلم يتضح جواب القرطبيّ.
وأجاب غيره بأن سبب الترجمة لم ينحصر في الطاعون وقد قال – صلى الله عليه وسلم -: «ولكن عافيتك أوسع لي»، فكان منع دخول الطاعون المدينة من خصائص المدينة، ولوازم دعاء النبيّ – صلى الله عليه وسلم – لها بالصحة.
وقال آخر: هذا من المعجزات المحمدية؛ لأن الأطباء من أولهم إلى آخرهم عجزوا أن يدفعوا الطاعون عن بلد بل عن قرية، وقد امتنع الطاعون عن المدينة هذه الدهور الطويلة. قال الحافظ: هو كلام صحيح، ولكن ليس هو جوابًا عن الإشكال.
ومن الأجوبة أنه – صلى الله عليه وسلم – عوّضهم عن الطاعون بالحمى؛ لأن الطاعون يأتي مرة بعد مرة، والحمى تتكرر في كل حين، فيتعادلان في الأجر، ويتم المراد من عدم دخول الطاعون لبعض ما تقدم من الأسباب.
قال الحافظ: ويظهر لي جواب آخر بعد استحضار الحديث الذي أخرجه أحمد من رواية أبي عسيب – بمهملتين، آخره موحدة، بوزن عظيم – رفعه: «أتاني جبريل بالحمى والطاعون، فأمسكت الحمى بالمدينة، وأرسلت الطاعون إلى الشام»، وهو أن الحكمة في ذلك أنه – صلى الله عليه وسلم – لما دخل المدينة كان في قلة من أصحابه عددًا ومددًا، وكانت المدينة وبئة كما سبق من حديث عائشة – رضي الله عنها -، ثم خُيِّر النبيّ – صلى الله عليه وسلم – في أمرين يحصل بكل منهم الأجر الجزيل، فاختار الحمى حينئذ لقلّة الموت بها غالبًا، بخلاف الطاعون، ثم لما احتاج إلى جهاد الكفار، واذن له في القتال، كانت قضية استمرار الحمى بالمدينة أن تُضعف أجساد الذين يحتاجون إلى التقوية لأجل الجهاد، فدعابنقل الحمى من المدينة إلى الجحفة، فعادت المدينة أصح بلاد الله بعد أن كانت بخلاف ذلك، ثم كانوا من حينئذ من فاتته الشهادة بالطاعون، ربما حصلت له بالقتل في سبيل الله، ومن فاته ذلك حصلت له الحمى التي هي حظ المؤمن من النار، ثم استمر ذلك بالمدينة تمييزًا لها عن غيرها، لتحقيق إجابة دعوته – صلى الله عليه وسلم -، وظهور هذه المعجزة العظيمة بتصديق خبره هذه المدة المتطاولة، والله أعلم. انتهى كلام الحافظ -رَحِمَهُ اللهُ-، وهو تحقيق نفيسٌ.
وقال الزرقانيّ -رَحِمَهُ اللهُ-: قد امتنع الطاعون عن المدينة بدعائه – صلى الله عليه وسلم – وخبره هذه المدد المتطاولة فهو خاص بها.
وجزم ابن قتيبة في «المعارف»، والنوويّ في «الأذكار» بأن الطاعون لم يدخل مكة أيضًا معارضًا بما نقله غير واحد بأنه دخلها في سنة سبع وأربعين وسبعمائة، لكن في «تاريخ مكة» لعمر بن شبة برجال الصحيح، عن أبي هريرة مرفوعًا: «المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة، على كل نَقْب منها ملك، فلا يدخلهما الدجال، ولا الطاعون»، وحينئذ فالذي نُقِل أنه دخل مكة في التاريخ
المذكور ليس كما ظُنّ، أو يقال: إنه لا يدخلهما من الطاعون مثل الذي يقع في غيرهما، كالجارف، وعمواس.
وفي حديث أنس عند البخاريّ في «الفتن»: «فيجد الملائكة يحرسونها»؛ يعني المدينة فلا يقربها الدجال، ولا الطاعون؛ إن شاء الله.
وقد اختُلف في هذا الاستثناء، فقيل: هو للتبرك، فيشملهما، وقيل: هو للتعليق، وأنه يختص بالطاعون، ومقتضاه جواز دخول الطاعون المدينة.
قال الحافظ في «الفتن»: وكونه للتبرك هو أولى، وقال السمهوديّ بعد ذكر هذه الرواية: هذا يقتضي جواز دخول الطاعون المدينة، ويردّه الجزم في سائر الأحاديث، والصواب حفظها منه، كما هو المشاهد، وقيل: المراد بالطاعون في هذا الحديث المنفيّ دخوله المدينة طاعون العذاب، فتأمل [راجع:» المرعاة” (9) / (535) – (539)]. [البحر المحيط الثجاج].
(المسألة الثالثة):
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قالَ: ((الحُمّى مِن فَيْحِ جَهَنَّمَ، فابْرُدُوها بِالماءِ)). رواه مسلم.
قال النوويّ رحمه الله: قوله – صلى الله عليه وسلم -: «الحمى من فيح جهنم فابرُدوها بالماء»، وفي رواية: «من فَوْر جهنم» هو بفتح الفاء فيهما، وهو شدّة حرّها، ولهبها، وانتشارها، وأما «فابرُدوها» فبهمزة وصل، وبضم الراء، يقال: بَرَدتُ الحمّى أبرُدها بَرْدًا، على وزن قتَلتها أقتُلها قَتْلًا؛ أي: أسكنت حرارتها، وأطفأت لهبها، كما قال في الرواية الأخرى: «فأطفئوها بالماء»، وهذا الذي ذكرناه من كونه بهمزة وصل، وضم الراء، هو الصحيح الفصيح المشهور في الروايات،
وكُتُب اللغة، وغيرها، وحَكى القاضي عياض في «المشارق» أنه يقال: بهمزة قطع، وكَسْر الراء في لغة، قد حكاه الجوهريّ، وقال: هي لغة رديئة. انتهى [«شرح النوويّ» (14) / (198)].
وقوله: (بِالماءِ) قال ابن القيّم رحمه الله: فيه قولان:
أحدهما: أنه كل ماء، وهو الصحيح،
والثاني: أنه ماء زمزم، واحتَجّ أصحاب هذا القول بما رواه البخاريّ في «صحيحه» عن أبي جمرة نصر بن عمران الضُّبَعيّ قال: كنت أجالس ابن عباس بمكة، فأخذتني الحمى، فقال: أبردها عنك بماء زمزم، فإن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «إن الحمى من فيح جهنم، فابْرُدُوها بالماء، أو قال: بماء زمزم»، وراوي هذا قد شكّ فيه، ولو جزم به لكان أمرًا لأهل مكة بماء زمزم؛ إذ هو متيسِّر عندهم، ولغيرهم بما عندهم من الماء.
قال: ثم اختَلَفَ من قال: إنه على عمومه، هل المراد به الصدقة بالماء، أو استعماله؟ على قولين، والصحيح أنه استعماله، وأظن أن الذي حَمَل من قال: المراد الصدقة به أنه أشكل عليه استعمال الماء البارد في الحمى، ولم يفهم وجهه، مع أن لقوله وجهًا حسنًا، وهو أن الجزاء من جنس العمل، فكما أخمد لهيب العطش عن الظمآن بالماء البارد، أخمد الله لهيب الحمى عنه جزاءً وفاقًا، ولكن هذا يؤخذ من فقه الحديث، وإشارته، وأما المراد به فاستعماله.
انتهى [«زاد المعاد» (4) / (23)].
وقال في «الفتح»: وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عند ابن ماجه: «بالماء البارد»، ومثله في حديث سمرة -رضي الله عنه- عند أحمد، ووقع في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: «بماء زمزم»، فقد أخرج البخاريّ من رواية أبي جمرة -بالجيم- قال: «كنت أجالس ابن عباس بمكة، فأخذتني الحمّى»، -وفي رواية أحمد-: كنت أدفع الناس عن ابن عباس، فاحتبست أيّامًا، فقال: ما حبسك؟ قلت: الحمّى، قال: أبْرِدها بماء زمزم، فإن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «الحمى من فيح جهنم، فأبردوها بالماء، أو بماء زمزم» شك همام، كذا في رواية البخاريّ من
طريق أبي عامر العَقَديّ، عن همام.
وقد تعلّق به من قال بأن ذِكْر ماء زمزم ليس قيدًا؛ لشكِّ راويه فيه، وممن
ذهب إلى ذلك ابن القيّم.
قال الإتيوبي عفا الله عنه: ليس ابن القيّم ممن قال بهذا، بل هو قائل بأن المراد به العموم، ولكنه تأول قول من قال بهذا، على تقدير ثبوته، كما أسلفت لك نصّه، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
قال: وتُعُقِّب بأنه وقع في رواية أحمد، عن عفّان، عن همام: «فأبردوها بماء زمزم»، ولم يشكّ، وكذا أخرجه النسائيّ، وابن حبان، والحاكم، من رواية عفان، وإن كان الحاكم وهِمَ في استدراكه، وترجم له ابن حبان بعد إيراده حديث ابن عمر، فقال: «ذِكْر الخبر المفسِّر للماء المجمل في الحديث الذي قبله، وهو أن شدّة الحمى تُبَرَّد بماء زمزم دون غيره من المياه»، وساق حديث ابن عباس.
وقد تُعُقّب على تقدير أن لا شك في ذِكر ماء زمزم فيه، بأن الخطاب لأهل مكة خاصّة؛ لتيسُّر ماء زمزم عندهم، كما خصّ الخطاب بأصل الأمر بأهل البلاد الحارّة، وخفي ذلك على بعض الناس. انتهى [«الفتح» (13) / (123) – (124)، كتاب «الطبّ» رقم ((5723))].
قال الإتيوبي عفا الله عنه: عندي أن حمله على العموم هو الصواب، كما أشار إليه ابن القيّم رحمه الله في كلامه السابق؛ لأن التنصيص على بعض أفراد العامّ لا يُخصّص، فالحقّ أن الحديث على عمومه، فمن تيسّر له ماء زمزم كأهل مكة برّدها به، ومن لا؛ كغيرهم برّدها بما لديه من الماء، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: وأما معنى الحديث فقد فسرته فاطمة بنت المنذر في روايتها له عن أسماء، بأنها كانت تَصُبّ الماء بين المرأة المحمومة وبين جيبها؛ كأنها كانت تصبه بين طوق قميصها، وعنقها، حتى يصل إلى جسدها، وذكر ابن وهب في صفة الغسل للحمى حديثًا في «جامعه» مرفوعًا إلى النبيّ – صلى الله عليه وسلم – أنه قال لرجل شكى إليه الحمى: «اغتسل ثلاثة أيام قبل طلوع الشمس، كل يوم، وقل: بسم الله، وبالله، اذهبي يا أم مِلْدَم فإن لم تذهب،
فاغتسل سبعًا».
قال أبو عمر: مَن فعل شيئًا مما في هذين الحديثين، أو غيرهما مع اليقين الثابت، لم تلبث الحمى أن تُقلع إن شاء الله تعالى.
قال: وقد رَوى ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «إن الحمى من فيح جهنم، فابْرُدوها بماء زمزم»، رواه أبو جمرة عنه، ورَوى مِقْسم عن ابن عباس أنه كان إذا حُمّ بَلّ ثوبه، ثم لبسه، ثم قال: «إنها من فيح جهنم، فابْرُدوها بالماء»، قال أبو عمر: تأويل ابن عباس حسن أيضًا إن شاء الله عز وجل. انتهى [«الاستذكار» لابن عبد البرّ (8) / (419)].
(المسألة الرابعة):
قال الخطابيّ، ومن تبعه: اعتَرَض بعض سُخفاء الأطباء على هذا الحديث بأن قال: اغتسال المحموم بالماء خطر يقربه من الهلاك؛ لأنه يجمع المسامّ، ويحقن البُخار، ويعكس الحرارة إلى داخل الجسم، فيكون ذلك سببًا للتلف.
قال القرطبيّ رحمه الله: وجوابه أن هذا إن صدر عمَّن ارتاب في صدق النبيّ – صلى الله عليه وسلم -، فجوابه بالمعجزات الدّالة على صدقه – صلى الله عليه وسلم – التي تدل قطعًا على صحة قوله، وصواب فعله، فإنْ حصل له التصديق والإيمان، وإلا فقد يفعل الله بالسيف والسِّنان ما لا يُفعل بالبرهان، وإن صدر عن مصدِّقٍ له، ومؤمن برسالته -وما أقله فيمن يتعاطى صنعة الأطباء! – قيل له: تفهَّم مراده من هذا الكلام؛ فإنّه لم ينصَّ على كيفية تبريد الحمى بالماء، وإنّما أرشد إلى تبريدها
بالماء مطلقًا، فإنْ أظهر الوجودُ، أو صناعة الطبّ أن غمس المحموم في الماء، أو صبَّه على جميع بدنه يضرُّه، فليس هو الذي قصد النبيّ – صلى الله عليه وسلم – إليه،
وإنما قصد استعمال الماء على وجه ينفع، فيُبْحث عن ذلك الوجه، وتُجرَّب الوجوه التي لا ضرر فيها، فإنّه سيظهر نفعه قطعًا، وقد ظهر هذا المعنى في أمره للعائن بالغسل، فإنّه وإن كان قد أمره بأن يغتسل مطلقًا، فلم يكن مقصوده أن يغسل جميع جسده، بل بعض ذلك، كما تقدَّم.
وإذا تقرَّر هذا، فلا يبعُد أن يكون مقصوده أن يُرشَّ بعض جسد المحموم، أو يفعل كما كانت أسماء تفعل، فإنّها كانت تأخذ ماءً يسيرًا ترش به في جيب المحموم، أو يُنضح به وجهه، ويداه، ورجلاه، ويذكر اسم الله تعالى، فيكون ذلك من باب النُّشْرة الجائزة، كما تقدَّم.
وقد يجوز أن يكون ذلك من باب الطبّ، فقد ينفع ذلك في بعض الحميات، فإنّ الأطباء قد سلّموا أن الحمى الصفراوية يُبَرّد صاحبها بسقي الماء الشديد البرودة، حتى يسقوه الثلج، وتغسل أطرافه بالماء البارد، وعلى هذا فلا بُعد في أن يكون هذا المقصودَ بالحديث، والله أعلم.
ولئن سلَّمنا: أنه أراد جميع جسد المحموم؛ فجوابه: أنه يَحْتَمِل أن يريد بذلك استعماله بعد أن تُقلع الحمّى، وتسكن حرارتها، ويكون ذلك في وقت مخصوص، وبعدد مخصوص، فيكون ذلك من باب الخواص التي قد اطلع عليها النبيّ – صلى الله عليه وسلم -، كما قد رَوى قاسم بن ثابت: أن رجلًا شكا إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الحمى، فقال له: «اغتسل ثلاثًا قبل طلوع الشمس، وقل: باسم الله، اذهبي يا أم مِلْدَم [بكسر الميم، وسكون اللام: هي الحمّى]، فإنْ لم تذهب، فاغتسل سبعًا». انتهى [«المفهم» (5) / (600) – (601)].
وقال الخطابيّ: غَلِط بعض من يُنسب إلى العلم، فانغمس في الماء لمّا أصابته الحمى، فاحتقنت الحرارة في باطن بدنه، فأصابته علة صعبة، كادت تُهلكه، فلما خرج من علته قال قولًا سيّئًا، لا يَحْسُن ذكره، وإنما أوقعه في ذلك جهله بمعنى الحديث.
والجواب: أن هذا الإشكال صَدَر عن صَدْر مرتاب في صدق الخبر، فيقال له: أوّلًا من أين حَمَلت الأمر على الاغتسال، وليس في الحديث الصحيح بيان الكيفية، فضلًا عن اختصاصها بالغسل، وإنما في الحديث الإرشاد إلى تبريد الحمى بالماء؟ فإن أظهر الوجودُ، أو اقتضت صناعةُ الطبّ أن انغماس كل محموم في الماء أو صبه إياه على جميع بدنه يضرّه، فليس هو المراد، وإنما قَصَد – صلى الله عليه وسلم – استعمال الماء على وجه ينفع، فليُبحث عن ذلك الوجه؛ ليحصل الانتفاع به، وهو كما وقع في أمره العائن بالاغتسال، وأطلق، وقد ظهر من الحديث الآخر أنه لم يُرِد مطلق الاغتسال، وإنما أراد الاغتسال على كيفية مخصوصة.
وأولى ما يُحْمَل عليه كيفية تبريد الحمى ما صنعته أسماء بنت الصديق -رضي الله عنها-، فإنها كانت تَرُشّ على بدن المحموم شيئًا من الماء بين يديه، وثوبه، فيكون ذلك من باب النُّشْرة المأذون فيها، والصحابيّ، ولا سيما مثلُ أسماء التي هي ممن كان يلازم بيت النبيّ – صلى الله عليه وسلم – أعلم بالمراد من غيرها، ولعل هذا هو السرّ في إيراد البخاري لحديثها عقب حديث ابن عمر المذكور، وهذا من بديع ترتيبه.
وقال المازريّ: ولا شك أن علم الطب من أكثر العلوم احتياجًا إلى التفصيل، حتى إن المريض يكون الشيء دواءه في ساعة، ثم يصير داء له في الساعة التي تليها؛ لعارض يَعْرِض له من غضب يُحْمِي مزاجه مثلًا، فيتغير علاجه، ومثل ذلك كثير، فإذا فُرِض وجود الشفاء لشخص بشيء في حالةٍ ما لم يلزم منه وجود الشفاء به له أو لغيره في سائر الأحوال، والأطباء مجمعون
على أن المرض الواحد يختلف علاجه باختلاف السنّ، والزمان، والعادة، والغذاء المتقدم، والتأثير المألوف، وقوّة الطباع، ثم ذكر نحو ما تقدم.
قال: ويحْتَمِل أن يكون لبعض الحميات دون بعض، في بعض الأماكن دون بعض، لبعض الأشخاص دون بعض، وهذا أوجه، فإن خطابه – صلى الله عليه وسلم – قد يكون عامًّا، وهو الأكثر، وقد يكون خاصًّا، كما قال: «لا تستقبلوا القبلة بغائط، ولا بول، ولكن شرِّقوا، أو غرِّبوا»، فقوله: «شرِّقوا، أو غرِّبوا» ليس عامًّا لجميع أهل الأرض، بل هو خاصّ لمن كان بالمدينة النبوية، وعلى سَمْتها، كما تقدم تقريره في «كتاب الطهارة»، فكذلك هذا يَحْتَمِل أن يكون مخصوصًا بأهل الحجاز، وما والاهم؛ إذ كان أكثر الحميات التي تَعْرض لهم من العرضية الحادثة عن شدّة الحرارة، وهذه ينفعها الماء البارد شربًا، واغتسالًا؛ لأن الحمى حرارة غريبة، تشتعل في القلب، وتنتشر منه بتوسط الروح والدم في العروق، إلى جميع البدن، وهي قسمان: عَرَضية، وهي الحادثة عن ورَم، أو حركة، أو إصابة حرارة الشمس، أو القيظ الشديد، ونحو ذلك، ومَرَضية، وهي ثلاثة أنواع، وتكون عن مادّة، ثم منها ما يُسَخِّن جميع البدن، فإن كان مبدأ
تعلقها بالروح، فهي حمى يوم؛ لأنها تقع غالبًا في يوم، ونهايتها إلى ثلاثة، وإن كان تعلقها بالأعضاء الأصلية، فهي حمى دقّ، وهي أخطرها، وإن كان تعلقها بالأخلاط، سميت عفنية، وهي بعدد الأخلاط الأربعة، وتحت هذه الأنواع المذكورة أصناف كثيرة، بسبب الإفراد، والتركيب.
وإذا تقرر هذا فيجوز أن يكون المراد النوع الأول، فإنها تسكن بالانغماس في الماء البارد، وشرب الماء المبرد بالثلج، وبغيره، ولا يحتاج صاحبها إلى علاج آخر،
وقال أبو بكر الرازيّ: إذا كانت القُوى قويّة، والحمى حادّة، والنُّضْجُ بَيِّن، ولا ورَمَ في الجوف، ولا فَتْقَ، فإن الماء البارد ينفع شربه، فإن كان العليل خِصْب البدن، والزمانُ حارًّا، وكان معتادًا باستعمال الماء البارد اغتسالًا، فليُؤْذَن له فيه، وقد نَزَّل ابن القيّم حديث ثوبان على هذه القيود،
فقال: هذه الصفة تنفع في فصل الصيف، في البلاد الحارّة، في الحمى العرضية، أو الغِبّ الخالصة التي لا ورَم معها، ولا شيء من الأعراض الرديئة، والمواد الفاسدة، فيطفئها بإذن الله، فإن الماء في ذلك الوقت أبرد ما يكون لِبُعده عن ملاقاة الشمس، ووفور القُوى في ذلك الوقت؛ لكونه عقب النوم والسكون، وبرد الهواء، قال: والأيام التي أشار إليها هي التي يقع فيها بحرارة الأمراض الحادّة غالبًا، ولا سيما في البلاد الحارّة، والله أعلم.
وهذه الأحاديث كلها تَرُدّ التأويل الذي نقله الخطابيّ عن ابن الأنباريّ أنه قال: المراد بقوله: «فأبردوها» الصدقة به، قال ابن القيّم: أظن الذي حَمَل قائلَ هذا أنه أشكل عليه استعمال الماء في الحمى، فعدل إلى هذا، وله وجه حسنٌ؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فكأنه لمّا أخمد لهيب العطشان بالماء، أخمد الله لهيب الحمى عنه، ولكن هذا يؤخذ من فقه الحديث، وإشارته، وأما المراد به بالأصل فهو استعماله في البدن حقيقة، كما تقدم، والله أعلم. انتهى.
(المسألة الخامسة): قال الإمام ابن القيّم رحمه الله: ذكر أبو نعيم وغيره من حديث أنس -رضي الله عنه- يرفعه: «إذا حُمّ أحدكم، فليرشّ عليه الماء البارد ثلاث ليال، من السَّحَر» [أخرجه الحاكم في» المستدرك «(4) / (200) وصححه، ووافقه الذهبيّ، وقال في» الفتح «: سنده قويّ].
وفي «سنن ابن ماجه» عن أبي هريرة -رضي الله عنه- يرفعه: «الحمى كير من كير جهنم، فنحّوها عنكم بالماء البارد» [رواه ابن ماجه ((3475)) وقال البوصيريّ: إسناده صحيح].
وأخرج مسلم عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – دخل على أم السائب، أو أم المسيّب، فقال:» ما لك يا أم السائب، أو يا أم المسيّب تُزفزفين؟ «قالت: الحمى لا بارك الله فيها، فقال:» لا تسبي الحمى، فإنها تُذهب خطايا بني آدم، كما يُذهب الكير خَبَث الحديد «.
قال: لَمّا كانت الحمّى يتبعها حمية عن الأغذية الرديئة، وتناول الأغذية، والأدوية النافعة، وفي ذلك إعانة على تنقية البدن، ونفي أخباثه، وفضوله، وتصفيته من مواده الرديئة، وتفعل فيه كما تفعل النار في الحديد، في نفي خبثه، وتصفية جوهره، كانت أشبه الأشياء بنار الكير التي تُصَفِّي جوهر الحديد، وهذا القَدْر هو المعلوم عند أطباء الأبدان.
وأما تصفيتها القلب من وسخه، ودَرَنه، وإخراجها خبائثه، فأمْرٌ يعلمه أطباء القلوب، ويجدونه، كما أخبرهم به نبيهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ولكن مرض القلب إذا صار ميؤوسًا من برئه لم ينفع فيه هذا العلاج، فالحمى تنفع البدن والقلب، وما كان بهذه المثابة فسبّه ظلم، وعدوان.
[البحر المحيط الثجاج].
(المسألة السادسة): القُنُوتُ لِصَرْفِ الطّاعُونِ:
يَرى الحَنَفِيَّةُ والشّافِعِيَّةُ عَلى المُعْتَمَدِ اسْتِحْبابَ القُنُوتِ فِي الصَّلاَةِ لِصَرْفِ الطّاعُونِ؛ بِاعْتِبارِهِ مِن أشَدِّ النَّوازِل [ابن عابدين (1) / (451) وتحفة المحتاج (2) / (68)، ونهاية المحتاج (1) / (487)].
وذَهَبَ الحَنابِلَةُ وبَعْضُ الشّافِعِيَّةِ إلى عَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ القُنُوتِ لِرَفْعِ الطّاعُونِ؛ لِوُقُوعِهِ فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ولَمْ يَقْنُتُوا لَهُ [كشاف القناع (1) / (421)، ونهاية المحتاج (1) / (487)].
وقال المالِكِيَّةُ بِاسْتِحْبابِ الصَّلاَةِ لِدَفْعِ الطّاعُونِ؛ لأِنَّهُ عُقُوبَةٌ مِن أجْل الزِّنا، وإنْ كانَ شَهادَةً لِغَيْرِهِمْ [حاشية الدسوقي (1) / (308)].
وفِي الصَّلَواتِ الَّتِي يُقْنَتُ فِيها لِلنَّوازِل وفِي الاسْرارِ أوِ الجَهْرِ بِهِ، تَفْصِيلٌ [الموسوعة الفقهية الكويتية].
(المسألة السابعة): القُدُومُ عَلى بَلَدِ الطّاعُونِ والخُرُوجُ مِنهُ:
– يَرى جُمْهُورُ العُلَماءِ مَنعَ القُدُومِ عَلى بَلَدِ الطّاعُونِ ومَنعَ الخُرُوجِ مِنهُ فِرارًا مِن ذَلِكَ، لِقَوْل النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم -: الطّاعُونُ آيَةُ الرِّجْزِ ابْتَلى اللَّهُ عَزَّ وجَل بِهِ أُناسًا مِن عِبادِهِ، فَإذا سَمِعْتُمْ بِهِ فَلاَ تَدْخُلُوا عَلَيْهِ، وإذا وقَعَ بِأرْضٍ وأنْتُمْ بِها فَلاَ تَفِرُّوا مِنهُ [أخرجه البخاري (فتح الباري (10) / (179))، ومسلم ((4) / (1738)) من حديث أسامة بن زيد].
وأخْرَجَ مُسْلِمٌ مِن حَدِيثِ عامِرِ بْنِ سَعْدٍ أنَّ رَجُلًا سَأل سَعْدَ بْنَ أبِي وقّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ الطّاعُونِ، فَقال أُسامَةُ بْنُ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنا أُخْبِرُكَ عَنْهُ، قال رَسُول اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -: هُوَ عَذابٌ أوْ رِجْزٌ أرْسَلَهُ اللَّهُ عَلى طائِفَةٍ مِن بَنِي إسْرائِيل أوْ ناسٍ كانُوا قَبْلَكُمْ، فَإذا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأرْضٍ فَلاَ تَدْخُلُوها عَلَيْهِ، وإذا دَخَلَها عَلَيْكُمْ فَلاَ تَخْرُجُوا مِنها فِرارًا [أخرجه البخاري (فتح الباري (6) / (513))، ومسلم ((4) / (1738))].
وأخْرَجَ أحْمَدُ مِن حَدِيثِ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها مَرْفُوعًا قُلْتُ: يا رَسُول اللَّهِ فَما الطّاعُونُ؟ قال: غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الابِل، المُقِيمُ فِيها كالشَّهِيدِ، والفارُّ مِنها كالفارِّ مِنَ الزَّحْفِ [أخرجه أحمد ((6) / (145))، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد ((2) / (314))، وقال: رجال أحمد ثقات].
(4) – قال ابْنُ القَيِّمِ: وفِي المَنعِ مِنَ الدُّخُول إلى الارْضِ الَّتِي قَدْ وقَعَ بِها الطّاعُونُ عِدَّةُ حِكَمٍ:
إحْداها: تَجَنُّبُ الاسْبابِ المُؤْذِيَةِ، والبُعْدُ مِنها.
الثّانِيَةُ: الاخْذُ بِالعافِيَةِ الَّتِي هِيَ مادَّةُ المَعاشِ والمُعادِ.
الثّالِثَةُ: أنْ لاَ يَسْتَنْشِقُوا الهَواءَ الَّذِي قَدْ عَفَنَ وفَسَدَ فَيُصِيبُهُمُ المَرَضُ.
الرّابِعَةُ: أنْ لاَ يُجاوِرُوا المَرْضى الَّذِينَ قَدْ مَرِضُوا بِذَلِكَ، فَيَحْصُل لَهُمْ بِمُجاوِرَتِهِمْ مِن جِنْسِ أمْراضِهِمْ.
الخامِسَةُ: حَمايَةُ النُّفُوسِ عَنِ الطِّيَرَةِ والعَدْوى؛ فَإنَّها تَتَأثَّرُ بِهِما، فَإنَّ الطِّيَرَةَ عَلى مَن تَطَيَّرَ بِها، وبِالجُمْلَةِ فَفِي النَّهْيِ عَنِ الدُّخُول فِي أرْضِهِ الامْرُ بِالحَذَرِ والحَمِيَّةِ، والنَّهْيُ عَنِ التَّعَرُّضِ لأِسْبابِ التَّلَفِ، وفِي النَّهْيِ عَنِ الفِرارِ مِنهُ الامْرُ بِالتَّوَكُّل والتَّسْلِيمِ والتَّفْوِيضِ، فالاوَّل: تَادِيبٌ وتَعْلِيمٌ، والثّانِي تَفْوِيضٌ وتَسْلِيمٌ.
وفِي الصَّحِيحِ: أنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ إلى الشّامِ، حَتّى إذا كانَ بِسَرْغَ لَقِيَهُ أبُو عَبِيدَةُ بْنُ الجَرّاحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وأصْحابُهُ، فَأخْبَرُوهُ أنَّ الوَباءَ قَدْ وقَعَ بِالشّامِ فَقال لاِبْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: ادْعُ لِيَ المُهاجِرِينَ الاوَّلِينَ، قال: فَدَعَوْتُهُمْ، فاسْتَشارَهُمْ وأخْبَرَهُمْ أنَّ الوَباءَ قَدْ وقَعَ بِالشّامِ، فاخْتَلَفُوا، فَقال لَهُ بَعْضُهُمْ: خَرَجْتَ لأِمْرٍ، فَلاَ نَرى أنْ تَرْجِعَ عَنْهُ، وقال آخَرُونَ: مَعَكَ بَقِيَّةُ النّاسِ وأصْحابُ رَسُول اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَلاَ نَرى أنْ تُقَدِّمَهُمْ عَلى هَذا الوَباءِ، فَقال عُمَرُ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قال: ادْعُ لِيَ الانْصارَ، فَدَعَوْتُهُمْ لَهُ فاسْتَشارَهُمْ، فَسَلَكُوا سَبِيل المُهاجِرِينَ، واخْتَلَفُوا كاخْتِلاَفِهِمْ، فَقال: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قال: ادْعُ لِي مَن هاهذُنا مِن مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِن مُهاجِرَةِ الفَتْحِ، فَدَعَوْتُهُمْ لَهُ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ مِنهُمْ رَجُلاَنِ، قالُوا: نَرى أنْ تَرْجِعَ بِالنّاسِ ولاَ تُقَدِمَهُمْ عَلى هَذا الوَباءِ، فَأذَّنَ عُمَرُ فِي النّاسِ: إنِّي مُصْبِحٌ عَلى ظَهْرٍ، فَأصْبِحُوا عَلَيْهِ، فَقال أبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الجَرّاحِ: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ أفِرارًا مِن قَدَرِ اللَّهِ؟ قال: لَوْ غَيْرُكَ قالَها يا أبا عُبَيْدَةَ، نَعَمْ نَفِرُّ مِن قَدَرِ اللَّهِ تَعالى إلى قَدَرِ اللَّهِ تَعالى، أرَأيْتَ لَوْ كانَ لَكَ إبِلٌ فَهَبَطَتْ وادِيًا لَهُ عُدْوَتانِ، إحْداها خِصْبَةٌ، والاخْرى جَدْبَةٌ ألَسْتَ إنْ رَعَيْتَها الخِصْبَةَ رَعَيْتَها بِقَدَرِ اللَّهِ تَعالى، وإنْ رَعَيْتَها الجَدْبَةَ رَعَيْتَها بِقَدَرِ اللَّهِ تَعالى؟ قال: فَجاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وكانَ مُتَغَيِّبًا
فِي بَعْضِ حاجاتِهِ، فَقال: إنَّ عِنْدِي فِي هَذا عِلْمًا، سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَقُول: إذا كانَ بِأرْضٍ وأنْتُمْ بِها فَلاَ تَخْرُجُوا فِرارًا مِنهُ، وإذا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأرْضٍ فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ [زاد المعاد ((4) / (44) – (45)). وحديث: «أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام» أخرجه البخاري (فتح الباري (10) / (179))، ومسلم ((4) / (1740))].
* – وقَدْ ذَكَرَ العُلَماءُ فِي النَّهْيِ عَنِ الخُرُوجِ مِنَ البَلَدِ الَّتِي وقَعَ بِها الطّاعُونُ حِكَمًا:
مِنها: أنَّ الطّاعُونَ فِي الغالِبِ يَكُونُ عامًّا فِي البَلَدِ الَّذِي يَقَعُ بِهِ فَإذا وقَعَ فالظّاهِرُ مُداخَلَةُ سَبَبِهِ لِمَن بِها، فَلاَ يُفِيدُهُ الفِرارُ، لأِنَّ المَفْسَدَةَ إذا تَعَيَّنَتْ – حَتّى لاَ يَقَعَ الاِنْفِكاكُ عَنْها – كانَ الفِرارُ عَبَثًا فَلاَ يَلِيقُ بِالعاقِل.
ومِنها: أنَّ النّاسَ لَوْ تَوارَدُوا عَلى الخُرُوجِ لَصارَ مَن عَجَزَ عَنْهُ – بِالمَرَضِ المَذْكُورِ أوْ بِغَيْرِهِ – ضائِعَ المَصْلَحَةِ لِفَقْدِ مَن يَتَعَهَّدُهُ حَيًّا ومَيِّتًا. وأيْضًا فَلَوْ شُرِعَ الخُرُوجُ فَخَرَجَ الاقْوِياءُ لَكانَ فِي ذَلِكَ كَسْرُ قُلُوبِ الضُّعَفاءِ، وقَدْ قالُوا: إنَّ حِكْمَةَ الوَعِيدِ فِي الفِرارِ مِنَ الزَّحْفِ ما فِيهِ مِن كَسْرِ قَلْبِ مَن لَمْ يَفِرَّ وإدْخال الرُّعْبِ عَلَيْهِ بِخِذْلاَنِهِ [فتح الباري ((10) / (189))].
ومِنها: حَمْل النُّفُوسِ عَلى الثِّقَةِ بِاللَّهِ، والتَّوَكُّل عَلَيْهِ، والصَّبْرِ عَلى أقْضِيَتِهِ والرِّضا بِها [زاد المعاد ((4) / (43))].
ونَقَل النَّوَوِيُّ عَنِ القاضِي قَوْلَهُ: ومِنهُمْ مَن جَوَّزَ القُدُومَ عَلَيْهِ (أيْ عَلى بَلَدِ الطّاعُونِ) والخُرُوجَ مِنهُ فِرارًا، قال القاضِي: ورُوِيَ هَذا عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وأنَّهُ نَدِمَ عَلى رُجُوعِهِ مِن سَرْغَ، وعَنْ أبِي مُوسى الاشْعَرِيِّ ومَسْرُوقٍ والاسْوَدِ بْنِ هِلاَلٍ أنَّهُمْ فَرُّوا مِنَ الطّاعُونِ، وقال عَمْرُو بْنُ العاصِ: فِرُّوا عَنْ هَذا الرِّجْزِ فِي الشِّعابِ والاوْدِيَةِ ورُءُوسِ الجِبال فَقال مُعاذٌ: بَل هُوَ شَهادَةٌ ورَحْمَةٌ، ويَتَأوَّل هَؤُلاَءِ النَّهْيَ عَلى أنَّهُ لَمْ يَنْهَ عَنِ الدُّخُول عَلَيْهِ والخُرُوجِ مِنهُ، مَخافَةَ أنْ يُصِيبَهُ غَيْرُ المُقَدَّرِ، لَكِنْ مَخافَةَ الفِتْنَةِ عَلى النّاسِ، لِئَلاَّ يَظُنُّوا أنَّ هَلاَكَ القادِمِ إنَّما حَصَل بِقُدُومِهِ، وسَلاَمَةُ الفارِّ إنَّما كانَتْ بِفِرارِهِ، وقالُوا: وهُوَ مِن نَحْوِ النَّهْيِ عَنِ الطِّيَرَةِ والقُرْبِ مِنَ المَجْذُومِ، وقَدْ جاءَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قال: الطّاعُونُ فِتْنَةٌ عَلى المُقِيمِ والفارِّ، أمّا الفارُّ فَيَقُول: فَرَرْتُ فَنَجَوْتُ، وأمّا المُقِيمُ فَيَقُول: أقَمْتُ فَمُتُّ، وإنَّما فَرَّ مَن لَمْ يَاتِ أجَلُهُ، وأقامَ مَن حَضَرَ أجَلُهُ.
قال النَّوَوِيُّ: والصَّحِيحُ ما قَدَّمْناهُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ القُدُومِ عَلَيْهِ والفِرارِ مِنهُ لِظاهِرِ الاحادِيثِ الصَّحِيحَةِ [صحيح مسلم بشرح النووي ((14) / (205) – (207))].
قال العُلَماءُ: وهُوَ قَرِيبُ المَعْنى مِن قَوْلِهِ – صلى الله عليه وسلم -: لاَ تَتَمَنَّوْا لِقاءَ العَدُوِّ، واسْألُوا اللَّهَ العافِيَةَ، فَإذا لَقِيتُمُوهُمْ فاصْبِرُوا. [أخرجه البخاري ((6) / (156))، ومسلم ((3) / (1362))].
هَذا واتَّفَقَ العُلَماءُ عَلى جَوازِ الخُرُوجِ بِشُغْلٍ وغَرَضٍ غَيْرِ الفِرارِ، ودَلِيلُهُ صَرِيحُ الاحادِيثِ [صحيح مسلم بشرح النووي ((14) / (207))، وعمدة القاري ((21) / (259))]. [الموسوعة الفقهية الكويتية]
(المسألة الثامنة): أجْرُ الصَّبْرِ عَلى الطّاعُونِ:
– جاءَ فِي بَعْضِ الاحادِيثِ اسْتِواءُ شَهِيدِ الطّاعُونِ وشَهِيدِ المَعْرَكَةِ فَقَدْ أخْرَجَ أحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدِ السُّلَمِيِّ رَفْعَهُ يَاتِي الشُّهَداءُ والمُتَوَفُّونَ بِالطّاعُونِ، فَيَقُول أصْحابُ الطّاعُونِ: نَحْنُ الشُّهَداءُ، فَيُقال: انْظُرُوا فَإنْ كانَتْ جِراحُهُمْ كَجِراحِ الشُّهَداءِ تَسِيل دَمًا ورِيحُها كَرِيحِ المِسْكِ فَهُمْ شُهَداءُ، فَيَجِدُونَهُمْ كَذَلِكَ [«يأتي الشهداء والمتوفون بالطاعون … » أخرجه أحمد ((4) / (185))، وحسنه ابن حجر في فتح الباري ((10) / (194))].
وأخْرَجَ البُخارِيُّ مِن حَدِيثِ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أنَّها سَألَتْ رَسُول اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – عَنِ الطّاعُونِ، فَأخْبَرَها نَبِيُّ اللَّهِ أنَّهُ كانَ عَذابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلى مَن يَشاءُ فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ فَلَيْسَ مِن عَبْدٍ يَقَعُ الطّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صابِرًا يَعْلَمُ أنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إلاَّ ما كَتَبَهُ اللَّهُ لَهُ إلاَّ كانَ لَهُ مِثْل أجْرِ الشَّهِيدِ [«أنها سألت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن الطاعون … ». أخرجه البخاري ((10) / (192))].
ويُفْهَمُ مِن سِياقِ هَذا الحَدِيثِ أنَّ حُصُول أجْرِ الشَّهادَةِ لِمَن يَمُوتُ بِالطّاعُونِ مُقَيَّدٌ بِما يَلِي:
أ – أنْ يَمْكُثَ صابِرًا غَيْرَ مُنْزَعِجٍ بِالمَكانِ الَّذِي يَقَعُ بِهِ الطّاعُونُ فَلاَ يَخْرُجُ فِرارًا مِنهُ.
ب – أنْ يَعْلَمَ أنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَهُ.
فَلَوْ مَكَثَ وهُوَ قَلِقٌ أوْ نادِمٌ عَلى عَدَمِ الخُرُوجِ ظانًّا أنَّهُ لَوْ خَرَجَ لَما وقَعَ بِهِ أصْلًا ورَاسًا، وأنَّهُ بِإقامَتِهِ يَقَعُ بِهِ، فَهَذا لاَ يَحْصُل لَهُ أجْرُ الشَّهِيدِ ولَوْ ماتَ بِالطّاعُونِ، هَذا الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَفْهُومُ هَذا الحَدِيثِ، كَما اقْتَضى مَنطُوقُهُ أنَّهُ مَنِ اتَّصَفَ بِالصِّفاتِ المَذْكُورَةِ يَحْصُل لَهُ أجْرُ الشَّهِيدِ وإنْ لَمْ يَمُتْ بِالطّاعُونِ [فتح الباري ((10) / (193) – (194))].
والمُرادُ بِشَهادَةِ المَيِّتِ بِالطّاعُونِ أنَّهُ يَكُونُ لَهُ فِي الاخِرَةِ ثَوابُ الشَّهِيدِ، وأمّا فِي الدُّنْيا فَيُغَسَّل ويُصَلّى عَلَيْهِ [صحيح مسلم بشرح النووي ((13) / (63))].
قال القاضِي البَيْضاوِيُّ: مَن ماتَ بِالطّاعُونِ، أوْ بِوَجَعِ البَطْنِ مُلْحَقٌ بِمَن قُتِل فِي سَبِيل اللَّهِ لِمُشارَكَتِهِ إيّاهُ فِي بَعْضِ ما يَنالُهُ مِنَ الكَرامَةِ بِسَبَبِ ما كابَدَهُ، لاَ فِي جُمْلَةِ الاحْكامِ والفَضائِل [عمدة القاري ((21) / (261))]. [الموسوعة الفقهية الكويتية].
تنبيه: توسعنا في تخريج الأحاديث في شرحنا على صحيح مسلم
والحمد لله على توفيقه لإنهائه.