(1223) فتح الاحد الصمد شرح الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير، وعبدالحميد البلوشي، وكديم، ومحمد البلوشي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى ، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا).
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
قال الشيخ مقبل الوادعي في الصحيح المسند (ج2/ رقم 1223):
قال أبو داود (ج ١٢ ص ٣٥٦): حدَّثنا أحمدُ بنُ محمد بن حنبلٍ وعبدُ الله بن محمدِ النُّفيليُّ وابنُ كثير (١)، قالوا: حدَّثنا سفيانُ، عن أبي النَّضر، عن عُبيد الله بن أبي رافع عن أبيه، عن النبيِّ ﷺ قال: «لا أُلْفِيَن أحدَكُم مُتَّكئًا على أريكَتِهِ يأتيه الأمرُ من أمري مِمّا أمرْتُ به أو نَهَيتُ عنه، فيقول: لا ندري، ما وجدنا في كتاب الله اتَّبعناه».
هذا حديث صحيحٌ على شرط الشَّيخين.
الحديث رواه الترمذي (ج ٧ ص ٤٢٤) وقال: هذا حديث حسن.
وابن ماجه (ج ١ ص ٦).
===================
قال محققو سنن الترمذي:
الأرنؤوط وغيره في الحاشية: ” (١) طريق ابن كثير هذه أثبتناها من هامش (هـ)، وأشار إلى أنها في رواية أبي عيسى الرملي وبعض روايات اللؤلؤي”. انتهى.
الحديث سيكون من وجوه:
الوادعي رحمه الله جعله في الجامع:
1- كتاب العلم، ٤١ – السنة وحجيتها، (73).
و15-كتاب دلائل النبوة، 79 – إخباره ﷺ بالطائفة القرآنية، (2390).
و33- كتاب التفسير، ١١٠ – قوله تعالى: {مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أطاعَ اللَّهَ}، (3996).
قال شعَيب الأرنؤوط وآخرين في تحقيقهم للسنن: “إسناده صحيح. سفيان: هو ابن عيينة، وأبو النضر: هو سالم بن أبي أمية التيمي مولاهم، وابن كثير: هو محمد بن كثير العبْدي.
وأخرجه ابن ماجه (١٣)، والترمذي (٢٨٥٤) من طريق سفيان بن عيينة بهذا الإسناد، لكن قال ابن ماجه في روايته: عن سالم أبي النضر، قال: أو زيد بن أسلم وهذا التردد لا يؤثر، لرواية الجماعة له عن سفيان بن عيينة بذكر سالم دون تردد، ثم إن كان عن زيد بن أسلم فلا يضر كذلك؛ لأنه ثقة. وقرن الترمذيُّ في روايته بسالمٍ محمدَ بنَ المنكدر.
وهو في «مسند أحمد» (٢٣٨٦١) و(٢٣٨٧٦)، و«صحيح ابن حبان» (١٣)”. انتهى.
الأول: شرح الحديث:
قال الإمام أبو داود رحمه الله تعالى في السنن: [باب في لزوم السنة]، أي: ملازمتها والثبات عليها والأخذ بها، وعدم التهاون والتفريط بشيء منها.
أورد المصنف حديث أبي رافع وهو بمعنى حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه، ولفظه: ((ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه …)) الحديث.
وقوله ﷺ: ((لا ألفين)) -أي: لا أجد-
قال الطيبي: ألفيت الشيء وجدته وهو كقولهم: لا أرينك هاهنا، نهى رسول الله ﷺ نفسه عن أن يراهم على هذه الحالة، والمراد نهيهم عن أن يكونوا على تلك الحالة، والأريكة، سرير مزين في قبة أو بيت، فإذا لم يكن فيه سرير فهو حَجَلة. [قوت المغتذي على جامع الترمذي، (2/664)].
وقوله ﷺ: ((أحدكم متكئًا على أريكته))،
“(والأرِيكَةُ): السَّرِيرُ، ويُقالُ: لا يُسَمّى أرِيكَةً حَتّى يَكُونَ فِي حَجَلَةٍ، وقالَ الأزْهَرِيُّ: كُلُّ ما اتُّكِئَ عَلَيْهِ، فَهُوَ أرِيكَةٌ، وأرادَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أصْحابَ التَّرَفُّهِ والدَّعَةِ الَّذِينَ لَزِمُوا البُيُوتَ، وقَعَدُوا عَنْ طَلَبِ العِلْمِ.
وفِي الحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ لا حاجَةَ بِالحَدِيثِ إلى أنْ يُعْرَضَ عَلى الكِتابِ، وأنَّهُ مَهْما ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كانَ حُجَّةً بِنَفْسِهِ، وقَدْ قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «ألا إنِّي أُوتِيتُ الكِتابَ ومِثْلَهُ مَعَهُ»”. قاله الإمام البغوي رحمه الله [شرح السنة للبغوي، (1/2091)-تراث].
قال الخطابي رحمه الله: يحذر بذلك مخالفة السّنن التي سنّها رسول الله ﷺ ممّا ليس له في القرآن ذكر، على ما ذهبت إليه الخوارج والرّوافض، فإنّهم تعلّقوا بظاهر القرآن وتركوا السنن التي (قد ضَمِنت) بيان الكتاب فتحيروا وضلوا. [ مرقاة الصعود إلى سنن أبي داود، (3/1173)]
“إنه يحذر من أنه ربما يأتي زمان على الناس يقولون: لا نتبع إلا ما في القرآن، أما ما في السنة فلا تأخذ به.
وهذا أمر قد وقع، فوجد من الملاحدة من يقول: لا نقبل السنة، لا نقبل إلا القرآن، والحقيقة لأنهم كذبة، فإنهم لم يقبلوا لا السنة ولا القرآن، لأن القرآن يدل على وجوب اتباع السنة، وأن ما جاء في السنة كالذي جاء في القرآن، ولكنهم يموهون على العامة، ويقولون: إن السنة ما دامت ليست قرآنًا يتلى ويتواتر بين المسلمين، فإن ما فيها قابل للشك، وقابل للنسيان، وقابل للوهم وما أشبه ذلك. والله الموفق”. [ شرح رياض الصالحين — ابن عثيمين (ت ١٤٢١)، (2/264)].
“ومن المعلوم أن كلًا من الكتاب والسنة وحي من الله عز وجل، وأن كل ما يأتي به النبي عليه الصلاة والسلام فهو من عند الله، سواء كان قرآنًا أو سنة، وليس الوحي مقصورًا على القرآن بل السنة هي أيضًا وحي؛ ولهذا يقول الله عز وجل: ﴿وما يَنْطِقُ عَنِ الهَوى * إنْ هُوَ إلّا وحْيٌ يُوحى﴾ [النجم:٣ – ٤]، وجاء في الحديث أن الرسول ﷺ قال: (يغفر للشهيد كل شيء أو كل ذنب -إلى أن قال: إلا الدين، سارني به جبريل آنفًا) أي: نزل عليه جبريل واستثنى الدين، فقوله (سارني به جبريل آنفًا) هذا يدل على أن ما يأتي به النبي ﷺ وحي من الله عز وجل.
فالقرآن وحي والسنة كذلك، إلا أن القرآن متعبد بتلاوته والعمل به، وأما السنة فمتعبد بالعمل بها ولا يتعبد بتلاوتها كما يتعبد بتلاوة القرآن، فالقرآن يقرأ به في الصلاة ويقرأ به في جميع الأوقات، والسنة ليست كذلك، ولكن حكمهما من حيث العمل، فالكل يجب اتباعه والعمل بما جاء فيه.
ومن لم يؤمن بالسنة لن يؤمن بالكتاب، ومن كفر بالسنة فهو كافر بالقرآن، إذ الله سبحانه يقول: ﴿وما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهاكُمْ عَنْهُ فانْتَهُوا﴾ [الحشر:٧]، فالمنكِر للسنة هو منكر للقرآن، والمكذب بالسنة مكذب بالقرآن، والكتاب والسنة متلازمان، فكل منهما يجب العمل والأخذ به، ولا يمكن أن يقال: إنه يمكن أن يستغني الإنسان بالقرآن عن السنة، ولو كان الأمر كذلك لما استطاع الناس أن يصلوا، ولما استطاعوا أن يزكوا، فالصلاة لم تُعرف أوقاتها ولا ركعاتها ولا هيئاتها وكيفياتها إلا بالسنة، فلا يوجد في القرآن أن الظهر أربع ركعات، ولا أن العصر أربع ركعات، ولا أن المغرب ثلاث ركعات، ولا أن الفجر ركعتان، والعشاء أربع ركعات، فهذا لا وجود له في القرآن،
وكذلك بالنسبة للزكاة، فلا يوجد في القرآن مقادير الأنصبة، ولا المقدار الذي يخرج في الزكاة، وهكذا، فالسنة موضحة للقرآن، وشارحة له، ودالة عليه، ومبينة له، والرسول ﷺ مبلغ عن الله الكتاب والسنة، فهما وحي من الله عز وجل أوحاه إلى رسوله الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، (ألا إنني أوتيت القرآن ومثله معه).
فإن السيوطي رحمه الله لما ألف كتابه: (مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة) ذكر في مقدمته ومطلعه: أن سبب تأليفه للكتاب هو أن رافضيًا زنديقًا، قال: إنما يؤخذ بالقرآن دون السنة، وكان فيما قاله السيوطي: اعلموا رحمكم الله أن من العلم كهيئة الدواء، وإن من الآراء كهيئة الخلاء لا تذكر إلا عند الضرورة، أي: أنها آراء يضطر الإنسان إلى ذكرها وهي قبيحة وخبيثة وسيئة، ولكن الضرورة ألجأت إلى ذلك، وكان الإنسان يحب أن ينزه لسانه من أن يتكلم بمثل هذا الكلام، وكان الأمر الذي ألف كتابه السابق من أجله هو أن رافضيًا زنديقًا قال: كذا وكذا، ثم بين ما جاء من النصوص في الاحتجاج بالسنة، وما جاء عن سلف هذه الأمة في الاحتجاج بالسنة، وأنه يحتج بها مثلما يحتج بالقرآن، ويعمل بها مثلما يعمل بالقرآن، ومن المعلوم أن المكذب بها مكذب بالقرآن؛ لأن الله عز وجل يقول: ﴿وما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهاكُمْ عَنْهُ فانْتَهُوا﴾ [الحشر:٧]”.[قاله العباد حفظه الله تعالى في شرح السنن].
ثم إن الرسول ﷺ أشار إلى أمور ليست في القرآن في حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه، وإنما هي في السنة، فقال: ((ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي))، فهذا في السنة وليس في القرآن، والواجب الأخذ به كما يؤخذ بما جاء في القرآن، والأخذ به داخل تحت قوله سبحانه وتعالى: ﴿وما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهاكُمْ عَنْهُ فانْتَهُوا﴾ [الحشر:٧].
قوله: ((ولا كل ذي ناب من السبع))، وذلك محرم أيضًا، وهو لا يوجد في القرآن، وإنما يوجد في السنة.
قوله: ((ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها))، أي: إذا تركها واستغنى عنها، والتنصيص على المعاهد لا يعني أن الحكم يختص به، فإذا كان هذا في حق المعاهد الذي بقي في بلاد المسلمين فالمسلم من باب أولى، وقد جاءت النصوص عامة في ذلك، فلا يحل للإنسان أن يتملك اللقطة في الحال إلا إذا عرف أن صاحبها قد تركها مستغنيًا عنها، أو كانت من الأشياء التافهة التي لا يؤبه ولا يهتم بها، وإلا فإن الأصل هو التعريف لها. [قاله العباد حفظه الله تعالى في شرح السنن].
[فصل: وجوب العمل بالسنة]
في هذا الحديث دليل على أنه لا حاجة أن يعرض الحديث على الكتاب؛ لأنه حكم مستقل.
وبعض أهل العلم يقول: لا ينبغي أن يقال: إن السنة في المرتبة الثانية بعد القرآن، وإنما السنة مع القرآن في مرتبة واحدة، وهذا من حيث الاحتجاج والعمل بهما، فكلاهما يتعين الأخذ به، لكن -كما هو معلوم- أن القرآن كله متواتر، وأما السنة ففيها المتواتر وفيها الآحاد.
وقد جاء في حديث معاذ المشهور أنه يبحث في القرآن، فإن لم يوجد ففي السنة، فإن لم يوجد فيجتهد برأيه، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم وصححه بعضهم، ولكن يوجد له شاهد يدل عليه في (سنن النسائي)، وهو في باب الحكم بما قضى به أهل العلم، وقد جاء فيه أنه يبحث في الكتاب، ثم يبحث في السنة، ثم يقضي بما قضى به أهل العلم، ولهذا يقولون في بعض المسائل: وهذا الحكم دل عليه الكتاب والسنة والإجماع، فأما الكتاب فكذا وأما السنة فكذا،
وأما أن يغفل الإنسان عن الدليل الذي في القرآن ويذهب للبحث عنه في السنة فهذا قصور، وهذا مثل الإنسان الذي تجده يبحث عن حديث في كتب غير مشهورة، أو كتب غير معروفة بالصحة ويغفل ما هو موجود في الصحيحين”. قاله الشيخ العباد بعد شرحه لحديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه، في السنن.
الثاني: مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): معنى السنة لغة واصطلاحًا
السنة لغة:
السنة، والسنن بمعنى واحد، يقال: استقام فلان على سنن واحد، ويقال: امض على (سننك) أي على وجهك، وتنح عن (سنن) الطريق، و(سننه) ثلاث لغات (السنة) السيرة. [مختار الصحاح].
(السنة): الطريقة قبيحة كانت أو حسنة، ومن ذلك قوله ﷺ: «من سن سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» [رواه مسلم في ٤/٢٠٥٩ رقم ١٠١٧، وأحمد ٤/٣٥٧، ٣٥٨ من حديث جرير بن عبد الله].
وقال الأزهري: «السنة الطريقة المحمودة المستقيمة، ولذلك قيل: فلان من أهل السنة، أي: من أهل الطريقة المستقيمة المحمودة». اهـ. [تاج العروس].
والسنة من النبي ﷺ: إذا أطلقت في الشرع فإنما يراد بها (حكمه، وأمره، ونهيه) مما أمر به النبي ﷺ، أو نهى عنه، أو ندب إليه قولًا وفعلًا، مما لم ينطق به الكتاب العزيز، ولهذا يقال: أدلة الشرع: الكتاب والسنة، أي القرآن والحديث.
، وقال الراغب: سنة النبي ﷺ طريقته التي كان يتحراها، وسنة الله عز وجل طريقة حكمه وطريقة طاعته، نحو قوله تعالى: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ﴾ ، ﴿ولَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾ ، وقوله تعالى: ﴿وما مَنَعَ النّاسَ أن يُؤْمِنُوا إذْ جاءهُمُ الهُدى ويَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إلاَّ أن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ﴾ .
وقال الزجاج: أي معاينة العذاب، وقال شَمَّر: (السنة في الأصل) سنة الطريق، وهي طريقة سنها أوائل الناس، فصارت مسلكًا لمن بعدهم. [تاج العروس].
المعنى الاصطلاحي:
“وفي الاصطلاح هي: «قول النبي ﷺ وفعله وإقراره». فتشمل الواجب والمستحب.
والسنة هي المصدر الثاني في التشريع.
ومعنى قولنا: «المصدر الثاني»: يعني: في العدد، وليس في الترتيب؛ فإن منزلتها إذا صحت عن النبي ﷺ كمنزلة القرآن”. [مجموع فتاوى ورسائل العثيمين، (8/392)].
و”يطلق جمهور علماء الحديث (السنة) على ما يقابل البدعة، فيقولون: فلان على السنة إذا كان عمله وتصرفاته الدينية وفق ما جاء به النبي ﷺ كما يقال: فلان على خلاف السنة، أو فلان مخالف للسنة إذا كان مبتدعًا، وعاملًا على خلاف هديه عليه الصلاة والسلام.
يقول الإمام النووي رحمه الله: «(السنة) سنة النبي عليه الصلاة والسلام وأصلها الطريقة، وتطلق سنته عليه الصلاة والسلام على الأحاديث المروية عنه ﷺ»اهـ. [تهذيب الأسماء واللغات ٢/١٥٦].
هذا إطلاق من إطلاقات السنة عند المحدثين، وتطلق السنة على المندوب، وهو خلاف الواجب. قال الإمام النووي في تهذيب الأسماء واللغات: «قال جماعة من أصحابنا في أصول الفقه: السنة، والمندوب والتطوع والنفل، والمرغب فيه والمستحب، كلها بمعنى واحد، وهو ما كان فعله راجحًا على تركه، ولا إثم في تركه يقال: سن رسول الله ﷺ كذا أي: شرعه، وجعله شرعًا٤»اهـ. [المصدر نفسه ٢/١٥٦].
هذا اصطلاح جمهور الفقهاء على اختلاف مذاهبهم غالبًا، وقد يتوسع في استعمال السنة حتى تشمل فعل الخلفاء الراشدين المهديين، ويشهد لهذا قوله ﷺ: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي»، إلا أنها إذا أطلقت عند المحدثين تنصرف – غالبًا- إلى أقوال النبي عليه الصلاة والسلام، وأفعاله وتقريراته.
[الفرق بينهما:]
الفرق بين القرآن والسنة واضح كما يظهر مما ذكرنا آنفًا من حيثية واحدة، وهي أن القرآن كلام الله لفظه ومعناه، متعبد بتلاوته، ولا تصح الصلاة إلاّ به، وهو من المعجزات الخالدة لرسول الله عليه الصلاة والسلام، وقد أعجز بلغاء العرب وأقعدهم.
وأما السنة فهي من عند الله من حيث المعنى، وأما ألفاظها فمن عند رسول الله ﷺ، ولا يتعبد بتلاوتها، ولا تصح الصلاة بها، وليست بمعجزة ويجوز روايتها بالمعنى بشروطها.
وأما من حيث ثبوت الأحكام بها، والاستدلال بها في فروع الشريعة وأصولها فلا فرق بين القرآن والسنة من هذه الحيثية، إذا ثبتت السنة عند أهلها بالطريقة المعروفة عندهم.
وأما الأحاديث القدسية – وإن كانت من عند الله لفظًا ومعنى – على خلاف في ذلك لأنهم مختلفون في تعريف الحديث القدسي- إلا أنها مثل الأحاديث النبوية في عدم التعبد بتلاوتها، وعدم صحة الصلاة بها، وأما من حيث ثبوت الأحكام والعقائد بها فهي مثل القرآن والسنة الصحيحة على ما تقدم. [الصفات الإلهية للشيخ محمد أمان الجامي رحمه الله].
(المسألة الثانية): حجية السنة
“والذكر المنزل المحفوظ هو القرآن الكريم في الدرجة الأولى، والسنة تدخل في عموم الذكر عند التحقيق، وإنعام النظر وبيان ذلك:
إذا كان القرآن الكريم محفوظًا بنص الآية السابقة، فإن السنة المطهرة محفوظة أيضًا بدلالتها نفسها، وتوضيحه كالآتي:
١- إنها داخلة في عموم الذكر، لأنها تذكّر، كما أن القرآن يُذَكّر.
٢- حفظ الله للقرآن الكريم يتضمن حفظ السنة؛ لأنها بيان وتفسير له فحفظها من حفظه، وعلى كل حال فإن السنة المطهرة محفوظة ولا شك، وهو أمر يكاد أن يكون ملموسًا لمس اليد، إذ قيض الله لها رجالًا أمناء ونقادًا أذكياء يدركون من العلل الخفية
ومن خدمتهم للسنة أنهم قسموا الأحاديث إلى ثلاثة أقسام رئيسية:
القسم الأول: الحديث الصحيح، وهو الحديث المسند القوي الذي يتصل بإسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط، من أول السند إلى منتهاه، وقد سَلِمَ من العلل والشذوذ، ومتى قالوا: هذا حديث صحيح، فمعناه: أنه اتصل سنده مع توافر سائر الأوصاف فيه، وقد يختلفون في صحة بعض الأحاديث لاختلافهم في توافر هذه الصفات فيه، أو لاختلافهم في اشتراط بعض هذه الأوصاف.
ثم إن الحديث الصحيح نفسه ينقسم إلى متفق عليه، ومختلف فيه، كما يتنوع إلى مشهور وغريب.
ويتفاوت الصحيح من حيث القوة أيضًا، فأقواه ما اتفق عليه البخاري ومسلم، ثم ما انفرد به البخاري وحده ثم ما انفرد به مسلم، وهكذا.
وقد يحكم بعضهم على سند بعينه أنه أصح الأسانيد على الإطلاق، فيرى الإمام إسحاق بن راهويه أن أصح الأسانيد كلها ما رواه الزهري عن سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر، ويوافقه على ذلك الإمام أحمد بن حنبل.
ويرى أبو بكر بن أبي شيبة أن أصح الأسانيد كلها: الزهري عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي.
بينما يرى الإمام البخاري صاحب الصحيح – وهو أول من صنف في الصحيح – أن أصح الأسانيد كلها: مالك عن نافع عن ابن عمر، وبنى على ذلك الإمام أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي أن أجل الأسانيد:
الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر، واحتج بإجماع أصحاب الحديث على أنه لم يكن في الرواة عن مالك أجل من الإمام الشافعي رحمهم الله ورضي عنهم. [مقدمة ابن الصلاح ص: ٨-٩].
هذا نوع من تلك الأنواع الكثيرة من خدمة السنة النبوية والاهتمام بها.
القسم الثاني: الحديث الحسن، وقد عرفه بعضهم بأنه الذي عرف مخرجه واشتهر رجاله، بينما عرفه البعض الآخر بأنه الذي اشتهر رواته بالصدق والأمانة غير أنهم لم يبلغوا درجة رجال الصحيح، أي قد نقصت درجاتهم في الحفظ والإتقان عن درجات رجال الصحيح. [قال الإمام ابن تيمية: والترمذي أول من قسم الأحاديث إلى صحيح وحسن وغريب وضعيف، لم يعرف قبله عن أحد، لكن يقسمون الأحاديث إلى صحيح وضعيف، كما يقسمون الرجال إلى ضعيف وغير ضعيف اهـ. شرح الحديث: إنما الأعمال بالنيات، ضمن مجموعة الرسائل الكمالية ٢ في الحديث، مكتبة المعارف الطائف ص: ٢٠.].
فهذان النوعان يحتج بهما عند جمهور أهل العلم؛ لأن المدار عندهم على صحة الإسناد، وقد تحقق ذلك في النوعين مع التفاوت المشار إليه، ولا فرق عند الاحتجاج بين الصحيح والحسن لما ذكرنا من أن المدار على الصحة.
أما القسم الثالث: فهو الحديث الضعيف بأقسامه الكثيرة، وهو الحديث الذي لم تجتمع فيه صفات الحديث الصحيح، ولا صفات الحديث الحسن المذكورات. [المصدر السابق ص: ٢٠]. وقد بلغت أقسامه عند بعضهم إلى خمسين قسمًا.
وهذا القسم مستبعد عن الاحتجاج به لا في الأصول ولا في الفروع، اللهم إلا إذا كان الضعف يسيرًا وتعددت طرقه فيرتفع عندئذ إلى درجة الحسن، فيقال له الحسن لغيره للتفريق بينه وبين الحسن لذاته[انظر مقدمة ابن الصلاح ص: ١٧].
وهذه العناية بالشطر الأول من الحديث -وهو الإسناد- إذا أضيفت إلى الاهتمام بالشطر الآخر -وهو المتن-، تدلنا دلالة واضحة على أن الله قد حفظ سنة نبيه ﷺ كما حفظ كتابه لأنها شارحة لكتابه، وتفسير له، كما تقدم بيان ذلك،
وتعتبر المحافظة على الإسناد، وضبط الأحاديث بابًا مهمًا من الدين، حيث لا تجوز الرواية إلا عن الثقات وأن جرح الرواة بما هو فيهم جائز، بل قد يكون واجبًا فضلًا من أن يعد من الغيبة المحرمة [النووي، شرح مسلم ١/٨٦]؛ لأن هذا الجرح نوع من النصح والذب عن الشريعة المطهرة، فيقول النبي الكريم عليه الصلاة والسلام: «الدين النصيحة»، وقد روى عبدان بن عثمان عن ابن المبارك أنه كان يقول: «الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء»، ويقول العباس بن أبي رزمة[رزمة بكسر الراء وسكون الزاء وفتح الميم، مقدمة صحيح مسلم بشرح النووي ١/٨٨]: سمعت عبد الله بن المبارك «يقول: بيننا وبين القوم القوائم يعني الإسناد».
ثم هذا الحديث الذي ينقل إلينا بهذه الصورة الدقيقة لا تتمتع به أية ملة أخرى، لا اليهودية ولا النصرانية، بل الإسناد من خصوصيات هذه الأمة المحمدية.
يقول صاحب كتاب (الوضع في الحديث): “والإسناد بنقل الثقة عن مثله إلى النبي ﷺ خصوصية لهذه الأمة المحمدية، امتازت به عن سائر الأمم، فإن اليهود ليس لهم إلى نبيهم إلا الإسناد المعضل، ولا يقربون إلى نبيهم موسى عليه السلام قربنا لنبينا عليه الصلاة والسلام، بل الانقطاع بينهم وبينه بأكثر من ثلاثين نفسًا، فغاية أسانيدهم تبلغ إلى شمعون ونحوه. وأما النصارى فلا يعرفون الإسناد إلا ما قيل في تحريم الطلاق»[د. عمر بن حسن فلاته الوضع في الحديث ٢/١١].
قال محمد بن حاتم بن المظفر: «إن الله أكرم هذه الأمة وشرفها وفضلها بالإسناد، وليس لأحد من الأمم قديمها وحديثها إسناد موصول»[المصدر السابق].
فإذا كان كتاب الله محفوظًا -كما علم- وإذا كانت سنة نبيه محفوظة أيضًا -كما شرحنا، ثم عرفنا موقف خير هذه الأمة- وهم الصحابة والتابعون من نصوص الكتاب والسنة، حيث لا يعمدون إلى غيرها للاستدلال، ولا يلتمسون الهدى فيما سواها.
ونحن على يقين أنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وأولها إنما صلح بالتمسك الصادق لهدي الكتاب والسنة عقيدة وشريعة، كما نحن على يقين ثابت أنه لا يصبح اليوم دينًا ما لم يكن دينًا أمس، فإذا كان ذلك كذلك فقد وجبت حجية كتاب الله، وحجية سنة المصطفى ﷺ بما لا يترك مجالًا للشك والتردد وأن تلك الحجية ثابتة في الأحكام والعقيدة على حد سواء إذ لا يوجد مبرر أو مصور للتفريق بين الأحكام والعقيدة حتى تصبح للعقيدة فئات خاصة من الأدلة غير الفئات التي يستدل بها في إثبات الأحكام، وتتخصص العقيدة في الأدلة العقلية ولا حظ لها في الأدلة النقلية إلا ما كان من باب الاتفاق أو الاستئناس لها …”. قاله الشيخ محمد أمان الجامي في الصفات الإلهية.
“لكن الناظر في القرآن يحتاج إلى شيء واحد، وهو صحة الدلالة على الحكم، والناظر في السنة يحتاج إلى شيئين:
الأول: صحة نسبتها إلى الرسول ﷺ،
والثاني: صحة دلالتها على الحكم؛ فكان المستدل بالسنة يعاني من الجهد أكثر مما يعانيه المستدل بالقرآن؛ لأن القرآن قد كفينا سنده؛ فسنده متواتر، ليس فيه ما يوجب الشك؛ بخلاف ما ينسب إلى الرسول ﷺ. فإذا صحت السنة عن رسول الله ﷺ؛ كانت بمنزلة القرآن تماما في تصديق الخبر والعمل بالحكم، كما قال تعالى: ﴿وأنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الكِتابَ والحِكْمَةَ﴾ [النساء:١١٣].
فالسنة تفسر القرآن وتبينه”. [مجموع فتاوى ورسائل العثيمين، (8/392)].
(المسألة الثالثة): إبطال شبه الزاعمين الاكتفاء بالقرآن
“بعد أن استعرضنا الأدلة النقلية والعقلية لإثبات حجية القرآن والسنة في باب العقيدة، بل أثبتنا أنه لا فرق بين الأحاديث المتواترة وبين أخبار الآحاد في هذا الباب.
نرى أن نتبع ذلك بمناقشة موقف أولئك الذي ضل سعيهم، ولفرط جهلهم أطلقوا على أنفسهم (القرآنيون) أي العاملون بالقرآن -في زعمهم- المكتفون به، المستغنون عن السنة، هذا تفسير كلمة (القرآنيون) بناء على زعمهم، ولكن التفسير المطابق لواقعهم إذا نظرنا إلى تصرفاتهم أنهم المخالفون للقرآن، إذ يقول الله عز وجل: ﴿وما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهاكُمْ عَنْهُ فانتَهُوا﴾،
والأمر بأخذ ما جاء به الرسول ﷺ يشمل كل ما صحت به السنة المطهرة من الأحكام وإثبات صفات الله وإثبات المعاد وغير ذلك، وقد أوجب الله طاعته على وجه الاستقلال في قوله تعالى: ﴿أطِيعُواْ اللهَ وأطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الأمْرِ مِنكُمْ﴾.
وهو أمر لا يختلف فيه اثنان مسلمان، وأما هؤلاء القرآنيون الجدد فليس لهم سلف فيما ذهبوا إليه إلا غلاة الرافضة والزنادقة الذين في قلوبهم مرض كراهة أصحاب رسول الله ﷺ، ورضي الله عن أصحاب رسوله.
وهؤلاء الروافض مرضى القلوب زعموا – وبئس ما زعموا- وجوب الاكتفاء بالقرآن والاستغناء عن السنة مطلقًا في أصول الدين وفروعه، لأن الأحاديث في زعمهم رواية قوم كفار حيث كانوا يعتقدون أن النبوة إنما كانت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وأن جبريل أخطأ فنزل بها إلى محمد ﷺ بدل أن ينزل بها إلى علي رضي الله عنه، وهذا الزعم الفاسد والقولة الجريئة هي أساس شبهة الروافض في رد الأحاديث النبوية، وهي شبهة مختلقة كما ترى.
فعثروا في أثناء بحثهم على كلام باطل ونصه هكذا: “ما جاءكم عني فاعرضوه على الكتاب، فما وافقه فأنا قلته، وما خالفه فإني لم أقله”، وكل من له نظر في هذا العلم الشريف يدرك أن هذا الكلام ليس من منطق الرسول عليه الصلاة والسلام، إذ لا يظهر عليه نور النبوة كما ترى
يقول السيوطي في رسالته الطليقة (مفتاح الجنة) [ص: ٢١٤ وما بعده]: ((قال البيهقي: باب بطلان ما يحتج به بعض من رد السنة من الأخبار التي رواها بعض الضعفاء في عرض السنة على القرآن، قال الشافعي رحمه الله: احتج عليّ بعض من رد الأخبار بما روى أنّ النبي ﷺ قال: «ما جاءكم عني فاعرضوه على الكتاب، فما وافقه فأنا قلته، وما خالفه فأنا لم أقله». [قال ابن مهدي: الزنادقة والخوارج وضعوا الحديث، وانظر كلام أهل العلم حول الحديث في إرشاد الفحول ص: ٣٣]، فقلت له: ما روى هذا أحد يثبت حديثه في شيء صغير أو كبير، وإنما هي رواية منقطعة عن رجل مجهول، ونحن لا نقبل مثل هذه الرواية. اهـ كلام الشافعي.
قال البيهقي: أشار الإمام الشافعي إلى ما رواه خالد بن أبي كريمة عن أبي جعفر عن النبي ﷺ أنه دعا اليهود، فسألهم فحدثوه حتى كذبوا على عيسى عليه السلام، فصعد النبي ﷺ المنبر فخطب الناس فقال: «بأن الحديث سيفشو عني، فما أتاكم يوافق القرآن فهو عني، وما أتاكم يخالف القرآن فليس عني».
قال البيهقي: خالد مجهول، وأبو جعفر ليس صحابيًا، فالحديث منقطع. [خالد بن أبي كريمة، قال الحافظ ابن حجر: صدوق يخطئ ويرسل. التقريب ١/٢١٨، وأبو جعفر هو: عبد الله بن صور المدائني، قال أحمد وغيره: أحاديثه موضوعة، وقال النسائي والدارقطني: متروك. ميزان الاعتدال ٢/٥٠٤].
وقال الشافعي: ليس يخالف الحديث القرآن، ولكن حديث رسول الله ﷺ يبين معنى ما أراد خاصًا أو عامًا، وناسخًا ومنسوخًا. ثم التزم الناس ما سن بفرض الله، فمن قبل عن رسول الله ﷺ فمن الله قبل، ثم ذكر السيوطي بقية كلام البيهقي حول الحديث، وقد نقل البيهقي عن الإمام الشافعي نقولًا كثيرة في هذا الصدد نختار منها الآتي:
١- قال البيهقي: قال الإمام الشافعي رحمه الله: “سنة رسول الله ﷺ على ثلاثة أوجه:
أحدها: ما أنزل الله فيه نص كتاب، فسن رسول الله ﷺ بمثل نص الكتاب.
ثانيها: ما أنزل فيه جملة كتاب، فبين رسول الله ﷺ عن الله معنى ما أراد بالجملة وأوضح كيف فرضها عامًا أو خاصًا، وكيف أراد أن يأتي به العباد.
ثالثها: ما سن رسول الله ﷺ مما ليس فيه نص كتاب، فمنهم من قال: جعله الله له بما افترض من طاعته، وسبق في علمه من توفيقه له ورضاه أن يسن فيما ليس فيه نص كتاب، ومنهم من قال: لم يسن سنة قط إلا ولها أصل في الكتاب، كتبيين عدد الصلاة وعملها على أصل جملة فرض الصلاة، وكذلك ما سن من البيوع وغيرها من التشريع، لأن الله تعالى ذكره قال: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالباطِلِ إلاَّ أن تَكُونَ تِجارَةً عَن تَراضٍ مِّنكُمْ﴾ ، وقال: ﴿وأحَلَّ اللهُ البَيْعَ وحَرَّمَ الرِّبا﴾ ، فما أحل وحرم مما بين فيه عن الله كما بين في الصلاة، ومنهم من قال: بل جاءته به رسالة الله فثبتت سنته بفرض الله تعالى[وللإمام الشافعي كلام مقارب في الرسالة ص: ٢٠ تحقيق أحمد شاكر].
ومنهم من قال: كل ما سن، وسنته هي الحكمة التي ألقيت في روعه من الله تعالى» انتهى كلام الشافعي.
وقال الشافعي في موضع آخر: «كل ما سن فقد ألزمنا الله تعالى اتباعه، وجعل اتباعه طاعته، والعدول عن اتباعه معصيته، التي لم يعذر بها خلقًا، ولم يجعل له في اتباع سنن نبيه مخرجًا».
قال البيهقي: «باب ما أمر الله به من طاعة رسوله ﷺ والبيان أن طاعتَه طاعتُه»، ثم ساق الآيات التالية: قال الله: ﴿إنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإنَّما يَنكُثُ عَلى نَفْسِهِ ومَن أوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أجْرًا عَظِيمًا﴾ ٢، وقال عزّ من قائل: ﴿مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أطاعَ اللهَ﴾ ٣، إلى غيرهما من الآيات البينات التي مضمونها أن طاعةَ رسوله طاعتُه سبحانه، وأن معصيتَه معصيتُه تعالى.
ثم أورد البيهقي رحمه الله: حديث أبي رافع رضي الله عنه: قال رسول الله ﷺ: «لا أُلفين أحدكم متكئًا على أريكته يأتيه الأمر من أمري، مما أمرت به، أو نهيت عنه يقول: لا أدري؟ ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه» [أخرجه أحمد ٦/٨، وأبو داود ٥/١٢، والحاكم ١/١٠٨، والترمذي ٥/٣٦، وصححه الترمذي، كما صححه الحاكم على شرط الشيخين وأقره الذهبي].
ومن حديث المقدام بن معدي كرب قال:«(إن النبي ﷺ حرم أشياء يوم خبير كالحمار الأهلي وغيره» ثم قال رسول الله ﷺ: «يوشك أن يقعد رجل على أريكته يحدث بحديثي فيقول: بيني وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله».
ثم قال البيهقي رحمه الله: وهذا خبر من رسول الله ﷺ عما يكون بعده من رد المبتدعة حديثه، فوجد تصديقه فيما بعد.
ومما قاله الإمام البيهقي في هذا المقام: «ولولا ثبوت الحجة بالسنة لما قال رسول الله ﷺ في خطبته بعد تعليمه من شهده أمر دينهم: ((ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع))”.
هذا … وإذا كانت شبهة الروافض والزنادقة في رد أحاديث الرسول ﷺ زاعمين الاكتفاء بالقرآن ما تقدم ذكره من موقفهم العدائي من الصحابة
فما حجة القرآنيين الجدد؟
فليس لهم شبهة تذكر إلا ما كان من حب الظهور، ولو على حساب الكفر برسول الله، أو مجرد التقليد الأعمى، أو ما كان من عداء كامن للإسلام لم يمكن إظهاره إلا في هذه الصورة، ومهما يكن من أمرهم فإن القرآنيين الجدد أصل مذهبهم راجع إلى ما كان عليه غلاة الروافض.
وقد عرفت شبهتهم فبئس التابع والمتبوع أو المُقَلِّد والمُقَلَّد.
وبعد أن ذكر الإمام السيوطي في رسالته (مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة) شبهتهم تلك قال مستهجنًا لها ومستقبحًا: »ما كنت أستحل حكايتها لولا ما دعت إليه الضرورة من بيان أصل هذا الرأي الفاسد الذي كان الناس في راحة منه من أعصار إلى أن قال: وقد كان أهل هذا الرأي موجودين بكثرة في زمن الأئمة الأربعة، وتصدى الأئمة وأصحابهم للرد عليهم في دروسهم ومناظراتهم وتصانيفهم».
ثم ساق من نصوص كلامهم الشيء الكثير في الرسالة المذكورة، ولابن خزيمة كلام نفيس في هذا المعنى.
وبعد:
فدعوى الاكتفاء بالقرآن ومحاولة الاستغناء عن السنة إنما تعني الاستغناء عن الإسلام، أي تعني (الكفر) بأسلوب ملتو غير صريح لأمر مّا، فأصحاب هذه الفكرة لا حظّ لهم في الإسلام ما لم يراجعوا الإسلام من جديد.
وبعد أن استعرضنا أدلة من الكتاب والسنة وأقوال بعض أهل العلم في أن السنة صنو القرآن، ولا يفرق بينهما، فلنناقش هؤلاء الزاعمين عقليًا ومن واقع حياة المسلمين في عباداتهم ومعاملاتهم، فهل يمكنهم الاكتفاء بالقرآن دون أن يجدوا أنفسهم مضطرين لمراجعة السنة في كثير من عباداتهم ومعاملاتهم حيث يجدون في السنة تفصيل ما أجمل في القرآن وما أكثره، وتقييد ما أطلق وعمم فيه.
بل ربما وجدوا أحكامًا جديدة هم بحاجة إليها لم يرد ذكرها في القرآن كما يجدون بعض الصفات الإلهية جاءت بها السنة ولم يرد لها ذكر في القرآن، إن الواقع الذي يعيشه المسلمون يجيب على هذا التساؤل
وفي القرآن آيات يأمر الله فيها نبيه ﷺ أن يبين للناس القرآن الذي أنزل عليه إذ يقول الله عز وجل: ﴿يا أيُّها الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وإن لَّمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وأنزَلْنا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إلَيْهِمْ﴾ ٤، ويقول سبحانه آمرًا لاتباعه وحاثًا لهم على طاعته: ﴿وما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهاكُمْ عَنْهُ فانتَهُوا﴾، ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أطاعَ اللهَ﴾.
وهذه الأوامر القرآنية والتوجيهات الإلهية تشير إلى أن هناك بيانًا يقوم به رسول الله ﷺ، وأن على أتباعه طاعته، وأن يأخذوا ما يأتي به ويأمرهم به، وعليهم أن ينتهوا عما ينهاهم عنه، لأن طاعته من طاعة الله عز وجل، ولأنه: ﴿وما يَنطِقُ عَنِ الهَوى إنْ هُوَ إلاَّ وحْيٌ يُوحى﴾.
وإذا أردنا أن نسوق أمثلة للأحكام التي أشرنا إليها لوجدنا الشيء الكثير منها:
أن الصلاة للأحكام التي أشرنا إليها لوجدنا الشيء الكثير منها: أن الصلاة التي هي الركن الثاني من أركان الإسلام، جاءت في القرآن مجملة هكذا: ﴿أقِيمُوا الصَّلاَةَ……
ولو تركنا الأحكام الفقهية وانتقلنا إلى مباحث العقيدة لوجدنا للسنة دورها الذي لا ينكره إلا من يجهلها أو لا يؤمن بها إذ نجد صفات الله تعالى إما ثابتة بالكتاب والسنة معًا، مع الدليل العقلي التابع للدليل النقلي، وإما ثابتة بالسنة الصحيحة، ولم يرد لها ذكر في القرآن الكريم مثل الفرح والضحك والنزول والقَدَم مثلًا.
فلا أظن الزاعم الاكتفاء بالقرآن يجد مفرًا بعد هذا البيان إلا إلى أحد أمرين:
١- الإيمان والاستسلام، وهو خير له وأسلم بأن يعامل السنة معاملته للقرآن باعتبارها تفسيرًا للقرآن.
٢- الكفر بالقرآن والسنة معًا دون محاولة تفريق بينهما وهو غير عملي، كما ترى ويمكن أن يقال: إنه إيماني شكلي ببعض الوحي، وكفر سافر ببعض.
[ الصفات الإلهية في الكتاب والسنة النبوية في ضوء الإثبات والتنزيه — محمد أمان الجامي (ت ١٤١٥)].
(المسألة الرابعة): الفتاوى:
فتاوى ابن عثيمين:
[ معنى حديث: (لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته) وما معنى يثاب على القيام بالسنة ولا يعاقب؟
الجواب : قوله (ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه)، وهي السنة، كما قال تعالى: ﴿وأنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الكِتابَ والحِكْمَةَ وعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النساء:١١٣]، قال أهل العلم: المراد بالحكمة هنا السنة، بدليل قوله: ﴿وعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النساء:١١٣].
ومعلوم أن رد السنة الصحيحة الثابتة عن الرسول عليه الصلاة والسلام كرد القرآن تمامًا؛ لأن ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام من أحكام فهو كما جاء في القرآن من الأحكام، إذ هو رسول الله عز وجل، فمن قال: لا أقبل إلا ما جاء في القرآن، قلنا: إنك واقع في هذا الحديث الذي حذر به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمته أن يكونوا على هذا الحال.
ثم نقول له: إن ردك لما جاء به الرسول هو رد لما جاء به القرآن؛ لأن الله تعالى قال: ﴿مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أطاعَ اللَّهَ﴾ [النساء:٨٠]، وقال: ﴿ومَن يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ فَإنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ﴾ [الجن:٢٣]، وقال الله تعالى: ﴿قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران:٣١]، وقال تعالى: ﴿وما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهاكُمْ عَنْهُ فانْتَهُوا﴾ [الحشر:٧] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة على وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وأما السنة فالسنة لها اصطلاحان: اصطلاح عام، واصطلاح خاص.
أما الاصطلاح العام فإن السنة هي طريقة النبي ﷺ الشاملة للواجب والمستحب وغير ذلك، ومنه قول أنس بن مالك رضي الله عنه: [من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعًا ثم قسم، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثًا ثم قسم] هذه السنة واجبة.
أما الاصطلاح الخاص فهو اصطلاح الفقهاء رحمهم الله؛ حيث قسموا الأحكام الشرعية إلى خمسة أقسام: واجب، وسنة، وحرام، ومكروه، ومباح، وإنما قسموا ذلك ليتبين الشيء الذي ألزم به الشرع؛ فيكون واجب الفعل إن كان واجبًا، ويكون واجب الترك إن كان حرامًا، وما دون ذلك يكون سنة في المأمور ومكروهًا في المنهي عنه.
وعليه فلا إشكال، فصارت السنة الآن نوعان: عامة وخاصة، فالعامة: هي التي يراد بها طريق النبي عليه الصلاة والسلام الشامل للواجب والمستحب.
أما الخاصة: فهي ما اصطلح عليه الفقهاء حيث قالوا: إن السنة: هي التي إذا فعلها الإنسان أثيب عليها وإذا تركها لم يعاقب. [ لقاء الباب المفتوح — ابن عثيمين (ت ١٤٢١)، (87/8)-تراث].
[فائدة]: مما جمع في الباب :
وقد كتب جمع من أهل العلم فيما يتعلق بالباب ضمن الكتب أو كتب ورسائل مستقلة، ومن ذلكم:
1) شبهات حول السنة للعلامة عبد الرزاق عفيفي (ت ١٤١٥)، وتكلم فيها عن اختلاف موقف المدافع عن السنة باختلاف حال من يورد الشبهة، ثم تكلم عن الشبهات الواردة: الشبهة الأولى الاقتصار على القرآن وإنكار السنة وجوابها، الشبهة الثانية رد بعض الأحاديث لمخالفتها للعقل والجواب عنها، الشبهة الثالثة دندنة البعض بأن السنة لم تدوَّن والجواب عنها، الشبهة الرابعة شبهة أخرى والجواب عليها. ثم في نهاية الرسالة وضعوا مقال للشيخ بعنوان: تقديم نصوص الكتاب والسنة على العقل.
2) منزلة السنة في الإسلام — ناصر الدين الألباني (ت ١٤٢٠)، وتكلم فيها عن منزلة السنة في الإسلام وبيان أنه لا يستغنى عنها بالقرآن، وظيفة السنة في القرآن، ضرورة السنة لفهم القرآن وأمثلة على ذلك، ضلال المستغنين بالقرآن عن السنة، عدم كفاية اللغة لفهم القرآن، ضعف حديث معاذ في الرأي وما يستنكر منه.
3) الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام — ناصر الدين الألباني (ت ١٤٢٠)، وجعله على مقدمة وأربعة فصول، وتكلم عن ووجوب الرجوع إلى السنة وتحريم مخالفتها، بطلان تقديم القياس وغيره على الحديث، حديث الآحاد حجة في العقائد والأحكام، التقليد واتخاذه مذهبا ودينا.
4) رسالة: وجوب العمل بسنة الرسول ﷺ وكفر من أنكرها للإمام ابن باز رحمه الله، ضمن مجموعة فتاويه رحمه الله، (25/30). وتكلم عن الأصول المعتبرة في إثبات الأحكام، وجعل الأصل الأول كتاب الله العزيز، والأصل الثاني ما صح عن رسول الله ﷺ وأصحابه ومن بعدهم.
5) شبهات القرآنيين — عثمان بن شيخ علي، ضمن الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة. وجعله في فصلين، وتكلم عن ضرورة اعتماد السنة لسلامة فهم القرآن، خلاصة جهود من سبقنا في الدفاع عن السنة، حكم منكر حجية السنة، ثم في الفصل الثاني جعله للشبهات الورادة وعدها منها ثمانية.