122 مختلف الحديث
جمع عبدالله البلوشي أبوعيسى
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
ومراجعة سيف بن محمد بن دورة الكعبي
بإشراف سيف بن غدير النعيمي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا)
——-”——-“——–‘
——-‘——-‘——-‘
كيف التوفيق بين الأحاديث التي ظاهرها الاختلاف في مستقر الروح؟
——
قال الأثيوبي حفظه الله في الذخيرة ((20) / (132) – (136)):
المسألة الرابعة: في اختلاف أهل العلم في مستقرّ الأرواح:
اعلم: أنه قد فصّل هذه المسألة الإمامُ ابن قيم الجوزية -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في كتابه النافعِ: “الروح”، وسرد الأقوال، وذكر أدلة كل قول، وناقشها، وبيّن ما لها، وما عليها، أحببت ذكر المهمّ منه، تكميلاً للفائدة، فدونك خلاصته:
قال -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: هذه مسألة عظيمة، تكلّم الناس فيها، واختلفوا فيها، وهي إنما تُتَلقّى من السمع فقط، واختلف في ذلك: فقال قائلون: أرواح المؤمنين عند اللَّه في الجنّة شهداء كانوا، أم غير شهداء، إذا لم يحبسهم عن الجنة كبيرة، ولا دَين، وتلقّاهم ربهم بالعفو عنهم، والرحمة لهم، وهذا مذهب أبي هريرة، وعبد اللَّه بن عمر – رضي اللَّه عنهم -.
وقالت طائفة: هم بفناء الجنة على بابها، يأتيهم، من رَوحها، ونعيمها، ورزقها.
وقالت طائفة: الأرواح على أفنية قبورها. وقال مالك: بلغني أن الروح مرسلة، حيث شاءت. وقال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد اللَّه: أرواح الكفّار في النار، وأرواح المؤمنين في الجنة. وقال أبو عبد اللَّه ابن منده: وقالت طائفة، من الصحابة، والتابعين: أرواح المؤمنين عند اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ-، ولم يزيدوا على ذلك، قال: روي عن جماعة من الصحابة والتابعين أن أرواح المؤمنين بالجابية، وأرواح الكفّار ببرهوت، بئر بحضرموت. وقال صفوان بن عمرو: سألت عامر بن عبد اللَّه، أبا اليمان: هل لأنفس المؤمنين مجتمع؟ فقال: إن الأرض التي يقول اللَّه تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105] قال: هي الأرض التي يجتمع إليها أرواح المؤمنين حتى يكون البعث. وقالوا: هي الأرض التي يورثها اللَّه المؤمنين في الدنيا. وقال كعب: أرواح المؤمنين في عليّين، في السماء السابعة، وأرواح الكفار في سجّين في الأرض السابعة تحت جند إبليس. وقالت طائفة: أروح المؤمنين ببئر زمزم، وأرواح الكفّار ببئر برهوت. وقال سلمان الفارسي: أرواح المؤمنين في برزخ من الأرض، تذهب حيث شاءت، وأرواح الكفّار في سجّين، وفي لفظ عنه: نسمة المؤمن تذهب في الأرض حيث شاءت. وقالت طائفة: أرواح المؤمنين عن يمين آدم، وأرواح الكفار عن شماله. وقالت طائفة أخرى، منهم ابن حزم: مستقرّها حيث كانت قبل خلق أجسادها، قال: والذي نقول به في مستقرّ الأرواح هو ما قاله اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ-، ونبيّه – صلى اللَّه عليه وسلم – لا نتعدّاه، فهو البرهان الواضح، وهو أن اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ-
قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172] وقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} الآية [الأعراف: 11]. فصحّ أن اللَّه تعالى خلق الأرواح جملة، وكذلك أخبر – صلى اللَّه عليه وسلم – “أن الأرواح جنود مجنّدة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف”. وأخذ اللَّه عهدها، وشهادتها له بالربوبيّة، وهي مخلوقة، مصوّرة، عاقلة، قبل أن يأمر الملائكة بالسجود لآدم، وقبل أن يدخلها في الأجساد، والأجساد يومئذ تراب، وماء، ثم أقرّها حيث شاء، هو البرزخ الذي ترجع إليه عند الموت، ثم لا تزال يبعث منها الجملة بعد الجملة، فينفخها في الأجساد المتولّدة من المنيّ، إلى أن قال: فصحّ أن الأرواح أجساد حاملة لأعراضها من التعارف، والتناكر، وأنها عارفة مميّزة، فيبدوهم اللَّه في الدنيا، كما يشاء، ثم يتوفّاهم، فترجع إلى البرزخ الذي رآها فيه رسول اللَّه – صلى اللَّه عليه وسلم – ليلة أُسري به عند سماء الدنيا، أرواح أهل السعادة عن يمين آدم، وأرواح أهل الشقاوة عن يساره، وذلك عند منقطع العناصر، ويعجّل أرواح الأنبياء، والشهداء إلى الجنّة.
قال: وقد ذكر محمد بن نصر المروزيّ، عن إسحاق بن راهويه أنه ذكر هذا الذي قلنا بعينه، قال: وعلى هذا أجمع أهل العلم.
قال ابن حزم: وهو قول جميع أهل الإسلام، قال: وهذا قول اللَّه تعالى: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 8 – 14]، وقوله تعالى: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} إلى آخرها [الواقعة: 88 – 89]، فلا تزال الأرواح هنالك حتى يتمّ عدد الأرواح كلها بنفخها في الأجساد، ثم برجوعها إلى البرزخ، فتقوم الساعة، ويُعيد اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ- الأرواح إلى أجسادها ثانية، وهي الحياة الثانية، يُحاسب الخلق، فريق في الجنّة، وفريق في السعير انتهى.
وقال أبو عمر ابن عبد البرّ: أرواح الشهداء في الجنة، وأرواح عامة المؤمنين على أفنية قبورهم. وقال ابن المبارك، عن ابن جُريج، فيما قُرئ عليه، عن مجاهد: ليس هي في الجنة، ولكن يأكلون من ثمارها، ويجدون ريحها. وذكر معاوية بن صالح، عن سعيد بن سُويد، أنه سأل ابن شهاب، عن أرواح المؤمنين؟ فقال: بلغني أن أرواح الشهداء كطير خُضْر، معلقة بالعرش، تغدو، وتروح إلى رياض الجنّة، تأتي ربها في كلّ يوم، تسلّم عليه.
وقال أبو عمر ابن عبد البرّ في شرح حديث ابن عمر: “إن أحدكم إذا مات عُرض عليه مقعده بالغداة، والعشيّ …. ” الحديث. قال: وقد استدلّ به من ذهب إلى أن الأرواح على أفنية القبور، وهو أصحّ ما ذهب إليه في ذلك، واللَّه أعلم؛ لأن الأحاديث بذلك أحسن مجيئا، وأثبت نقلاً من غيرها. قال: والمعنى عندي أنها قد تكون على أفنية قبورها، لا على أنها تلزم، ولا تفارق أفنية القبور، كما قال مالك -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: أنه بلغه أن الأرواح تَسرَح حيث شاءت. قال: وعن مجاهد أنه قال: الأرواح على أفنية القبور سبعة أيام من يوم دفن الميت، لا تفارق ذلك، واللَّه أعلم.
وقالت فرقة: مستقرّها العدم المحض، وهذا قول من يقول: إن النفس عرض، من أعراض البدن، كحياته، وإدراكه، فتعدم بموت البدن، كما تعدم سائر الأعراض المشروطة بحياته. وهذا قول مخالف لنصوص القرآن والسنة، وإجماع الصحابة، والتابعين.
وقالت فرقة: مستقرّها بعد الموت أرواح أُخَر، تناسب أخلاقها، وصفاتها التي اكتسبتها في حيال حياتها، فتصير كل روح إلى بدن حيوان يشاكل تلك الأرواح، فتصير النفس السَّبُعِيّة إلى أبدان السباع، والكلبية إلى أبدان الكلاب، والبهيمية إلى أبدان البهائم، والدنيّة، والسفليّة إلى أبدان الحشرات. وهذا قول المتناسخة، منكري المعاد، وهو قول خارج عن أقوال أهل الإسلام كلهم.
ثم ذكر الإمام ابن القيم -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: أدلة هذه الأقوال، وما لها، وعليها، بما لا تجده في كتاب غير كتابه هذا. ثم قال: فإن قيل: فقد ذكرتم أقوال الناس في مستقرّ الأرواح، ومأخذهم، فما هو الراجح من هذه الأقوال حتى نعتقده؟
قيل: الأرواح متفاوتة في مستقرّها في البرزخ أعظمَ تفاوت:
فمنها: أرواح في أعلى علّيّين، في الملأ الأعلى، وهي أرواح الأنبياء، صلوات اللَّه، وسلامه عليهم، وهم متفاوتون في منازلهم، كما رآهم النبي – صلى اللَّه عليه وسلم – ليلة الإسراء. ومنها: أرواح في حواصل طير خضر، تسرح في الجنّة حيث شاءت، وهي أرواح بعض الشهداء، لا جميعهم، بل من الشهداء من تُحبس روحه عن دخول الجنة لدَيْنٍ عليه، أو غيره، كما في “المسند”، عن محمد بن عبد اللَّه بن جحش، أن رجلا جاء إلى النبيّ – صلى اللَّه عليه وسلم -، فقال: يا رسول اللَّه، مالي إن قتلتُ في سبيل اللَّه؟ قال: “الجنة”، فلما ولى قال: “إلا الدين، سارني به جبريل آنفًا”.
ومنهم: من يكون محبوسًا على باب الجنّة، كما في الحديث الآخر: “رأيت صاحبكم محبوسًا على باب الجنّة”.
ومنهم: من يكون محبوسا في قبره، كحديث صاحب الشملة التي غَلّها، ثم استشهد، فقال الناس: هنيئا له الجنّة، فقال النبيّ – صلى اللَّه عليه وسلم -: “والذي نفسي بيده إن الشملة التي غلها لتشتعل عليه نارًا في قبره”. ومنهم: من يكون مَقرّه باب الجنّة، كما في حديث ابن عباس: “الشهداء على بارق نهر الجنة، في قبة خضراء، يخرج عليهم رزقهم من الجنّة بكرةً وعشيّة”. رواه أحمد. وهذا بخلاف جعفر بن أبي طالب، حيث أبدله اللَّه من يديه جناحين يطير بهما في الجنّة حيث شاء.
ومنهم: من يكون محبوسًا في الأرض، لم تَعْلُ روحه إلى الملأ الأعلى، فإنها كانت روحا سفلية أرضيّة، فإن الأنفس الأرضيّة لا تُجامع الأنفس السماوية، كما تجامعها في الدنيا، والنفس التي لم تكتسب في الدنيا معرفة ربها، ومحبته، وذكره، والأنس به، والتقرّب إليه، بل هي أرضيّة سفليّة، لا تكون بعد المفارقة لبدنها إلا هناك، كما أن النفس العلوية التي كانت في الدنيا عاكفة على محبة اللَّه، وذكره، والتقرّب إليه، والأنس به، تكون بعد المفارقة مع الأرواح العلوية المناسبة لها، فالمرء مع من أحبّ، في البرزخ، ويوم القيامة، واللَّه تعالى يزوّج النفوس بعضها ببعض في البرزخ، ويوم المعاد، كما تقدّم في الحديث: “ويجعل روحه -يعني المؤمن- مع النسيم الطيّب”. أي الأرواح الطيّبة المشاكلة، فالروح بعد المفارقة تلحق بأشكالها، وإخوانها، وأصحاب عملها، فتكون معهم هناك.
ومنها: أرواح تكون في تنّور، الزناةُ، والزواني. وأرواح في نهر الدم تسبح فيه، وتُلقم الحجارة، فليس للأرواح سعيدِها، وشقيِّها مستقرّ واحد، بل روح في أعلى عليين، وروح أرضية سفلية، لا تصعد عن الأرض.
وأنت إذا تأملت السنن، والآثار، في هذا الباب، وكان لك بها فضل اعتناء، عرفت حجة ذلك، ولا تظنّ أن بين الآثار الصحيحة في هذا الباب تعارضًا، فإنها كلها حقّ، يصدّق بعضها بعضًا، لكن الشأن في فهمها، ومعرفة النفس، وأحكامها، وأن لها شأنا غير شأن البدن، وأنها مع كونها في الجنّة فهي في السماء، وتنفعل بفِنَاء القبر، وبالبدن فيه، وهي أسرع شيء حركة، وانتقالاً، وصعودًا، وهبوطًا، وأنها تنقسم إلى مرسلة، ومحبوسة، وعلويّة، وسُفليّة، ولها بعد المفارقة صحة، ومرض، ولذّة، ونعيم، وألم أعظم مما كان لها حال اتصالها بالبدن بكثير، فهنالك الحبس، والألم، والعذاب، والمرض، والحسرة، وهنالك اللذّة، والراحة، والنعيم، والإطلاق، وما أشبه حالها في هذا البدن بحال ولد في بطن أمه، وحالها بعد المفارقة بحاله بعد خروجه من البطن إلى هذه الدار.
فلهذه الأنفس أربع دُور، كلّ دار أعظم من التي قبلها:
الدار الأولى: في بطن الأم، وذلك الحصر، والضيق، والغمّ، والظلمات الثلاث.
والدار الثانية: هي الدار التي نشأت فيها، وألفتها، واكتسبت فيها الخير والشرّ، أسباب السعادة والشقاوة.
والدار الثالثة: دار البرزخ، وهي أوسع من هذه الدار، وأعظم، بل نسبتها إليها كنسبة هذه الدار إلى الأولى.
والدار الرابعة: دار القرار، وهي الجنة، أو النار، فلا دار بعدها، واللَّه ينقلها في هذه الدار طبقًا بعد طبق، حتى يبلغها الدار التي لا يصلح لها غيرها، ولا يليق بها سواها، وهي التي خُلقت لها، وهُيّئت للعمل الموصل إليها، ولها في كلّ دار من هذه الدور حكم، وشأن، غير شأن الدار الأخرى، فتبارك اللَّه، فاطرها، ومنشوّها، ومميتها، ومحييها، ومسعدها، ومشقيها الذي فاوت بينها في درجات سعادتها، وشقاوتها، كما فاوت بينها في مراتب علومها، وأعمالها، وقواها، وأخلاقها.
فمن عرفها كما ينبغي شهد أن لا إله إلا اللَّه، وحده، لا شريك له، له الملك كله، وله الحمد كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، وله القوّة كلها، والقدرة كلها، والعزّ كله، والحكمة كلها، والكمال المطلق من جميع الوجوه، وعرف بمعرفة نفسه صدقَ أنبيائه، ورسله، وأن الذي جاءوا به هو الحقّ الذي تشهد به العقول، وتقرّ به الفِطَرُ، وما خالفه فهو الباطل، وباللَّه التوفيق انتهى كلام ابن القيّم -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وهو كلام نفيس وبحث أنيس. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
_________________
وهذا كلام ابن رجب في كتاب أهوال القبور وذكرنا تخريج الأحاديث التي حكم عليها المحقق في المتن بعد الحديث مباشرة:
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي-رحمه الله- في كتاب “أهوال القبور” ((1) / (96) -):
الباب التاسع: في ذكر محل أرواح الموتى في البرزخ
“أرواح الأنبياء”
أما الأنبياء عليهم السلام فليس فيهم شك أن أرواحهم عند الله في أعلى عليين.
وقد أثبت في الصحيح أن آخر كلمة تكلم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته: “اللهم الرفيق الأعلى” 1 وكررها حتى قبض.
وقال رجل لابن مسعود: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فأين هو؟ قال: في الجنة.
__________
1 أخرجه البخاري “ح 3669” ومسلم “ح 2191”.
محل أرواح الشهداء
وأما الشهداء فأكثر العلماء على أنهم في الجنة وقد تكاثرت بذلك الأحاديث.
ففي صحيح مسلم عن مسروق قال: سألنا عبد الله بن مسعود ن عن هذه الآية: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]، قال: أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال: “أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل فاطلع إليهم ربهم إطلاعة فقال: هل تشتهون شيئا؟ قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ففعل ذلك بهم ثلاث مرات فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: يارب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا”. أخرجه مسلم “ح 1887”.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والحاكم من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا: من يبلغ عنا إخواننا أنا أحياء في الجنة نرزق لئلا ينكلوا عن الحرب ولا يزهدوا في الجهاد، قال: فقال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم”، فأنزل الله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} أخرجه أحمد “1/ 266″، وأبو داود “ح 2520″، والحاكم “2/ 88”. وصححه أحمد شاكر والألباني.
وخرج عبد الله بن منده وغيره، حدثنا إسماعيل بن المختار عن عطية عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “أرواح الشهداء في طير خضر ترعى في رياض الجنة ثم يكون مأواها إلى قناديل معلقة بالعرش فيقول لهم الرب سبحانه وتعالى: هل تعلمون كرامة أكرم من كرامة أكرمتوها؟ فيقولون: لا إنا وددنا أنك رددت أرواحنا في أجسادنا
حتى نقاتل مرة أخرى فنقتل في سبيلك”.
وخرج أبو الشيخ الأصبهاني وغيره من طريق عبد الله بن ميمون عن عمه مصعب بن سليم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “يبعث الله الشهداء من حواصل طير بيض كانوا في قناديل معلقة بالعرش”.
وخرج الإمام أحمد والترمذي وصححه من حديث عمرو بن دينار عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أرواح الشهداء في طير خضر تعلق من شجر الجنة” أخرجه احمد “6/ 386” والترمذي “ح 1691″، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
كذلك رواه عمرو عن الزهري ورواه سائر أصحاب الزهري عنه ولم يذكروا: الشهداء إنما ذكروا نسمة المؤمن وسيأتي حديثهم إن شاء الله.
وقد ذكرنا فيما تقدم حديث عبادة بن عيسى بن عبد الرحمن عن الزهري عن عامر بن سعد عن إسماعيل بن طلحة بن عبيد الله عن أبيه عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في شهداء أحد وهو منكر وأبو عبدة هذا: ضعيف جدا.
وخرج ابن منده من طريق يحيى بن صالح عن سعيد بن سويد أنه سأل ابن شهاب عن أرواح المؤمنين قال: بلغني أن أرواح الشهداء كطير خضر معلقة بالعرش تغدوا ثم تروح إلى رياض الجنة تأتي ربها سبحانه كل يوم تسلم عليه وهذا أشبه.
وكذا قال الضحاك وإبراهيم التميمي وغيرهما من السلف، في أرواح الشهداء وخرج بن منده من طريق عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن حبان بن أبي جبلة قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن الشهداء إذا استشهدوا أنزل الله جسدا كأحسن جسد ثم يقال لروحه: ادخلي فيه فينظر إلى جسده الأول ما يفعل به ويتكلم فيظن أنهم يسمعون كلامه وينظر فيظن أنهم يرونه حتى تأتيه أزواجه – يعني الحور العين – فيذهبن به”.
ويشهد لهذه النصوص أيضا ما في الصحيحين، عن جابر: قال رجل يوم أحد: أين أنا إن قتلت يا رسول الله؟ قال: ” في الجنة” فألقى تمرات كن في يده ثم قاتل حتى قتل.
أخرجه البخاري “ح 4046” ومسلم “ح 1899”.
وفي صحيح مسلم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر: “قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض” وذكر قصة عمير بن الحمام.
أخرجه مسلم “ح 10901”.
وفي صحيح البخاري، عن المغيرة بن شعبة أنه قال: أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن رسالة ربنا أنه من قتل صار إلى الجنة.
أخرجه البخاري “ح 3159”.
وفيه أيضا عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم، أن عمر قال للنبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ 4
أخرجه البخاري “ح 3182” ومسلم “ح 1785″.
وفي صحيح مسلم عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف” 5.
أخرجه مسلم “ح 1902”.
وفي صحيح البخاري، عن أنس قال: أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام فجاءت أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله قد عرفت منزلة حارثة مني فإن يكن في الجنة صبرت واحتسبت وإن تكن الأخرى ترى ما أصنع؟ قال: “ويحك أو هبلت؟ جنة واحدة هي؟ إنها جنان كثيرة وإنه في جنة الفردوس”
أخرجه البخاري “ح 2809”.
وخرج الترمذي والحاكم من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “رأيت جعفر يطير مع الملائكة” 7.
7 أخرجه الترمذي “ح 3763” وقال “هذا حديث غريب”، وهذا تضعيف للحديث. لكن قال الحافظ ابن حجر في الفتح “7/ 96”: في إسناده ضعف، لكن له شاهد من حديث على عند ابن سعد، وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “مر بي جعفر الليلة في ملأ من الملائكة وهو مخضب الجناحين بالدم” أخرجه الترمذي والحاكم بإسناد على شرط مسلم، وأخرج أيضا هو والطبراني عن ابن عباس مرفوعا ” دخلت البارحة الجنة فرأيت فيها جعفرا يطير مع الملائكة”، في طريق أخرى عنه “أن جعفر يطير مع جبريل وميكائيل له جناحان عوضه الله من يديه” وإسناد هذه جيد، وطريق أبي هريرة في الثانية قوي إسناده على شرط مسلم اهـ.
وخرج الإمام أحمد وأبو يعلى وابن أبي الدنيا من حديث ثابت عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبه الرؤيا الحسنة، فكان فيما يقول: “هل رأى منكم رؤيا” فإذا رأى الرجل الذي لا يعرفه الرؤيا، سأل عنه فإن أخبر عنه بمعروف كان أعجب برؤيا قال فجاءت امرأة فقالت: يا رسول الله رأيت في المنام كأني خرجت فأدخلت الجنة فإذا أنا بفلان وفلان حتى عدت اثنى عشر رجلا، وبعث رسول الله صلى الله عليه والسلم سرية قبل ذلك فجئ بهم عليهم ثياب طلس تشخب أوداجهم فقال: اذهبوا بهم إلى نهر البرزخ فغمسوا فيه ووجوههم كالقمر ليلة البدر وأتوا بكراسي من ذهب فأقعدوا عليها وجئ بصفحة من ذهب فيها بسر فأكلوا من بسره ما شاؤوا فما يقلبونها من وجه إلا أكلوا من فاكهة ما شاؤوا وأكلت معهم قال: فجاء البشير من تلك السرية فقال: يا رسول الله! كان كذا وكذا وأصيب فلان وفلان حتى عد اثني عشر رجلا فقال: علي بالمرأة فقال: “قصي رؤياك على هذا” فقال الرجل: هو كما قالت أصيب فلان وفلان صحيح أخرجه أحمد “3/ 135”.
وروي ابن عيينة عن عبد الله بن أبي يزيد سمع ابن عباس يقول: أرواح الشهداء تجول في أجواف طير خضر تعلق في ثمر الجنة.
وروي معمر عن قتادة قال: بلغنا أن أرواح الشهداء في صورة طير بيض تأكل من ثمار الجنة.
وروى أبو عاصم عن ثور بن زيد عن خلد بن معدان عن عبد الله بن عمرو قال: أرواح الشهداء في أجواف طير كأنها الزرازير يتعارفون ويرزقون من ثمر الجنة.
وروى ابن المبارك عن زائدة حدثنا ميسرة الأشجعي، عن عكرمة عن ابن عباس عن كعب قال: جنة المأوى: جنة فيها طير خضر ترعى فيها أرواح الشهداء.
كذا رواه عطية عن ابن عباس قال: قلت لكعب: إني أسألك عن شيء فإن كان في كتاب الله فحدثني وإن لم يكن في كتاب الله فلا تحدثني فذكر مسائل، فقال
كعب: ما سألتني عن شيء إلا وهو في كتاب الله قال: وأما جنة المأوى فإنها جنة فيها أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تأوي إلى قناديل الجنة.
وروى أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج حدثنا عمرو بن عمر الأحموسي عن السفر بن نسير قال: سئل أبو الدرداء عن أرواح الشهداء قال: هي في طير حضر معلقة في قناديل تحت العرش تسرح في الجنة حيث شاءت ثم ترجع إلى قناديلها.
وروي عن مجاهد أنه قال: ليس الشهداء في الجنة ولكنهم يرزقون منها.
فروى آدم بن أبي إياس حدثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً} [آل عمران: 169] الآية قال: يقول: أحياء عند ربهم يرزقون من ثمر الجنة ويجدون ريحها وليسوا فيها.
وروي ابن مبارك عن جريج عن مجاهد قال: ليس هم في الجنة ولكن يأكلون من ثمارها ويجدون ريحها.
وقد يستدل لقوله بما روي ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الشهداء على طريق بارق نهر الجنة، فيه قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم بكرة وعشيا”.
وخرجه ابن منده ولفظه: على بارق نهر في الجنة.
وهذا يدل على أن النهر خارج من الجنة وابن إسحاق مدلس ولم يصرح بالتحديث هنا ولعل هذا في عموم الشهداء والذين في القنادل التي تحت العرش خواصهم ولعل المراد بالشهداء هنا هو شهيد من غير قتل في سبيل الله كالمطعون والمبطون والغريق وغيرهم ممن ورد النص بأنه شهيد.
فالأحاديث السابقة كلها فيمن قتل في سبيل الله وبعضها صريح في ذلك وفي بعضها أن الآية نزلت في ذلك وهو قوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً}، الآية نص في المقتول في سبيل الله.
وقد يطلق الشهيد على من حقق الإيمان وشهد بصحته، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الحديد: 19].
قال: ابن أبي نجيح عن مجاهد في هذه الآية يقول: يشهدون على أنفسهم بالأيمان بالله.
وروى سفيان عن رجل عن مجاهد قال: كل مؤمن صديق وشهيد ثم قرأ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ}.
وخرج ابن أبي حاتم من رواية رشدين بن سعد عن ابن عقيل عن أبيه عن أبي هريرة قال: كلكم صديق وشهيد قيل له: ما تقول يا أبا هريرة؟ قال: إقرأ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ}.
وخرج ابن جرير من طريق إسماعيل بن يحيى التميمي عن ابن عجلان، عن زيد بن أسلم عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “مؤمنوا أمتي شهداء”، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} وإسماعيل هذا ضعيف جدا.
ويعضد هذا ما ورد في تفسير قوله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143] من شهادة هذه الأمة للأنبياء بتبليغ رسالاتهم.
وبكل حال فالأحاديث المتقدمة كلها في الشهيد المقتول في سبيل الله لا يحتمل غير ذلك وإنما النظر في حديث ابن إسحاق هذا والله أعلم.
—-
فصل: “محل أرواح المؤمنين سوى الشهداء”
وأما بقية المؤمنين سوى الشهداء فيقسمون إلى: أهل تكليف وغير أهل تكليف فهذان قسمان.
أحدهما: غير أهل التلكيف: كأطفال المؤمنين.
فالجمهور على أنهم في الجنة وقد حكى الإمام أحمد على ذلك الإجماع.
وقال في رواية جعفر بن محمد ليس فيهم اختلاف، يعني أنهم في الجنة.
وقال في رواية الميموني: لا أحد يشك أنهم في الجنة.
وذكر الخلال من طريق حنبل عن أحمد قال: نحن نقر بأن الجنة قد خلقت ونؤمن بأن الجنة والنار مخلوقتان قال عز وجل: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} [غافر: 46]، لآل فرعون وقال: أرواح ذراري المسلمين في أجواف طير خضر تسرح في الجنة يكفلهم أبوهم إبراهيم فيدل هذا أنهما خلقتا.
وكذلك نص الشافعي عن السلف على أن أطفال المسليمن في الجنة.
وجاء صريحا عن السلف على أن أرواحهم في الجنة كما روى الليث عن أبي قيس عن هذيل عن ابن مسعود قال: إن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تسرح في الجنة حيث شاؤوا وإن أرواح أولاد المسلمين في أجواف عصافير تسرح بهم في الجنة حيث شاءت فتأوي إلى قناديل معلقة في العرش.
خرجه ابن أبي حاتم.
ورواه الثوري والأعمش عن أبي قيس عن هذيل من قوله لم يذكر ابن مسعود.
خرج البيهقي من طريق عكرمة عن ابن عباس عن كعب نحوه.
وخرج الخلال من طريق ليث عن أبي الزبير عن عبيد بن عمير قال: إن في الجنة لشجرة لها ضروع كضروع البقر يغذى به ولدان أهل الجنة حتى إنهم ليسنون استنان البكارة.
وخرج ابن أبي حاتم بإسناده عن خالد بن معدان قال: إن في الجنة شجرة يقال لها: طوبى ضروع كلها ترضع صبيان أهل الجنة وإن سقط المرأة يكون في نهر من أنهار الجنة يتقلب فيه حتى تقوم الساعة فيبعث ابن أربعين سنة.
ويدل على صحة ذلك ما في صحيح مسلم قال: لما توفي إبراهيم، قال: النبي صلى الله عليه وسلم: “إن إبراهيم ابني وإنه مات في الثدي وإن له لضئرين يكملان وضاعه في الجنة” 1.
أخرجه مسلم “ح 2316” قوله صلى الله عليه وسلم: “مات في الثدي” أي في سن الرضاعة، وقوله “لظئرين” هي المرضعة ولد غيرها.
وخرج ابن ماجه نحوه من حديث ابن عباس.
وخرج الإمام أحمد نحوه من حديث البراء بن عازب.
وروى سعيد بن منصور عن إسماعيل بن عياش عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن مكحول، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن ذرارى المؤمنين أرواحهم في عصافير في شجر، الجنة يكفلهم أبوهم إبراهيم عليه السلام” 1.
كذا رواه على بن عثمان الأحنفي، عن حماد بن سلمة، عن ابن خثيم عن مكحول إلا أنه قال: عصافير خضر في الجنة، وهذا مرسل، ولفظه يشبه لفظ الحديث الذي احتج به الإمام على خلق الجنة، كم تقدم.
وقد روى متصلا من وجه آخر من رواية عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن عطاء بن قرة عن عبد الله بن ضمرة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ذراري المؤمنين يكلفهم إبراهيم في الجنة” 2، خرجه ابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: صحيح الإسناد.
وخرج الإمام أحمد عن موسى بن داود عن ابن ثوبان إلا أنه شك أن موسى شك في رفعه ولكن رواه عن واحد عن ثوبان ولم يشك في رفعه.
وروى من وجه آخر من رواية مؤمل عن سفيان عن ابن الأصبهاني عن أبي حازم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “أولاد المسلمين في جبل في الجنة يكفلهم إبراهيم وسارة – عليهما السلام – فإذا كان يوم القيامة دفعوا إلى آبائهم”.
وكذا رواه محمد بن عبد الله بن نمير عن وكيع عن سفيان مرفوعا.
ورواه ابن مهدي وأبو نعيم عن سفيان موقوفا قال الدراقطني: والموقوف أشبه ومما يستدل لهذا – أيضا – ما خرجه البخاري عن سمرة بن جندب عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه رأى في منامه جبرائيل وميكائيل أتيا به فانطلقا به وذكر حديثا طويلا وفيه: “فانطلقنا حتى انتهينا إلى روضة خضراء فيها شجرة عظيمة وفي أصلها شيخ وصبيان وإذا رجل قريب من الشجرة بين يديه نار يوقدها فصعدا بي في الشجرة وأدخلاني دارا لم أر قط أحسن منها فيها رجال وشيوخ وشباب ونساء وصبيان ثم أخرجاني منها فصعدا بي الشجرة فأدخلاني دارا هي أحسن وأفضل فيها شيوخ وشباب”
_
تنبيه
مرسل مكحول: الحديث عزاه السيوطي في الجامع الصغير لسعيد بن منصور من حديث مكحول مرسلا، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع.
تنبيه:
حديث ابي هريرة أخرجه ابن حبان “ح 1862 / زوائد” وصححه الألباني في صحيح الجامع.
وذكر الحديث وفيه: قالا: “والشيخ في أصل الشجرة إبراهيم عليه السلام والصبيان حوله فأولاد الناس” وفي رواية: “فكل مولود مات على الفطرة” وفي رواية: “ولد على الفطرة والدار الأولى التي دخلت دار عامة المؤمنين وأما هذه الدار فدار الشهداء” 1.
أخرجه البخاري “ح1386”.
وروى أبو خالد عن أبي رجاء العطاردي عن سمرة وفي حديثه: قلت فالروضة؟ قال: أولئك الأطفال وكل بهم إبراهيم: يربيهم إلى يوم القيامة.
وخرج الطبراني والحاكم من حديث سليم بن عامر عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “بينا أنا نائم انطلق بي إلى جبل وعر” فذكر الحديث وفيه: “ثم انطلق بي حتى أشرفت على الغلمان يلعبون بين نهرين قلت: من هؤلاء؟ قال: ذراري المؤمنين يحضنهم أبوهم إبراهيم عليه السلام ثم انطلق بي حتى أشرفت على ثلاثة نفر قلت: من هؤلاء؟ قال: إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام وهم ينتظرونك”.
وذهبت طائفة إلى أنه يشهد لأطفال المؤمنين عموما أنهم في الجنة ولا يشهد لآحادهم وهو قول ابن راهويه نقله عنه إسحق بن منصور وحرب في مسائلهما ولعل هذا يرجع إلى الطفل المعين لا يشهد لأبيه بالإيمان فلا يشهد له حينئذ أنه من أطفال المؤمنين فيكون الوقف في آحادهم كالوقف في إيمان آبائهم.
وحكى ابن عبد البر عن طائفة من السلف القول بالوقف في أطفال المؤمنين منهم حماد بن زيد وحماد بن سلمة وابن المبارك وإسحق وهو بعيد جدا ولعله أخذ ذلك من عمومات كلام لهم وإن أرادوا بها أطفال المشركين.
وكذلك اختار القول بالوقف طائفة منهم: الأثرم والبيهقي وذكر أن ابن عباس رجع إليه والإمام أحمد ذكر أن ابن عباس إنما قال ذلك في أطفال المشركين وإنما أخذه البيهقي من عموم لفظ روي عنه كما أنه روى في بعض ألفاظ حديث أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الأطفال فقال: “الله أعلم بما كانوا عاملين” أخرجه البخاري “6600” ومسلم في القدر “ح 24، “23”.
ولكن الحفاظ الثقات ذكروا أنه سئل عن أطفال المشركين
أخرجه البخاري “ح 1384” ومسلم “ح 2659”.
واستدل القائل بالوقف بما أخرجه مسلم من حديث فضيل بن عمرو عن عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين قالت: توفي صبي فقلت: طوبى له عصفور من عصافير الجنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أولا تدرين أن الله خلق الجنة وخلق النار فخلق لهذه أهلا ولهذه أهلا”.أخرجه مسلم “ح 2662″.
وخرجه مسلم أيضا، من طريق طلحة بن يحيى عن عمته عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين قالت: دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار فقلت: يا رسول الله طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه قال: ” أو غير ذلك يا عائشة إن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم”
أخرجه مسلم “ح 31/ 2662″.
وقد ضعف أحمد هذا الحديث من أجل طلحة بن يحيى وقال: قد روى مناكير وذكر له الحديث وقال ابن معين فيه: ليس بالقوي. وأما رواية فضيل بن عمير له عن عائشة فقال أحمد: ما أراه سمعه إلا من طلحة بن يحيى يعني أنه أخذه عنه ودلسه حيث رواه عن عائشة بنت طلحة وذكر العقيلي أنه لا يحفظ إلا من حديث طلحة. ويعارض هذا ما خرجه مسلم من حديث أبي السليل، عن أبي حسان قال: قلت لأبي هريرة: إنه قد مات لي ابنان فما أنت بمحدثي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تطيب به أنفسنا عن موتانا قال: نعم صغارهم دعاميص أهل الجنة يتلقى أحدهم أباه أو قال أبويه فيأخذ بثوبه أو قال بيده – كما آخذ أنا بصنفة ثوبك هذا – فلا يتناهى أو قال: فلا ينتهي حتى يدخله الله وأباه الجنة”.
أخرجه مسلم “ح 2635”.
وفي الصحيحين عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما من الناس مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم” 5.
5 أخرجه البخاري “ح 1381″، ولم أجد عند مسلم، وغنما أخرجه النسائي “ح 1872” وابن ماجة “ح 1065” ..
ولهذا قال الإمام أحمد: هو يرجى لأبويه دخول الجنة بسببه. ولعل النبي صلى الله عليه وسلم نهى أولا عن الشهادة لأطفال المسلمين بالجنة قبل أن يطلع على ذلك لأن الشهادة على ذلك تحتاج إلى علم به ثم اطلع على ذلك فأخبر به والله أعلم.
القسم الثاني: أهل التكليف من المؤمنين سوى الشهداء
وقد اختلف فيهم العلماء قديما وحديثا والمنصوص عن الإمام أحمد: أن أرواح المؤمنين في الجنة ذكره الخلال في كتاب السنة عن غير واحد عن حنبل قال: سمعت أبا عبد الله يقول: أرواح المؤمنين في الجنة وقال حنبل في موضع آخر: هي أرواح المؤمنين في الجنة وأرواح الكفار في النار والأبدان في الدنيا يعذب الله من يشاء ويرحم من يشاء.
قال أبو عبد الله: ولا نقول هما يفنيان بل هما على علم الله باقيتان يبلغ الله فيهما عمله نسأل الله التثبيت وأن يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا.
وقوله: ولا نقول: هما يفنيان يعني الجنة والنار فإن في أول الكلام عن حنبل أن إبا عبد الله حكى قصة ضرار وحكايته اختلاف العلماء في خلق الجنة والنار وأن القاضي أهدر دم ضرار ولذلك استخفى إلى أن مات وأن أبا عبد الله قال: هذا كفر يعني القول بأنهما يخلقان بعد.
قال حنبل: وسألت أبا عبد الله عمن قال: إن كانتا خقلتا فإنهما إلى فناء ثم ذكر هذا الجواب من أحمد.
ولا يصح أن يقال: إن أحمد إنما نفى الفناء عنهما معا فيصدق ذلك أن تكون الجنة وحدها لا تفنى لأن ما بعد هذا يبطل هذا التأويل وهو قوله: عما على علم الله باقيتان فإن هذا ينفي ذلك الاحتمال والتوهم ويثبت البقاء لهما معا وهذا كقولك: لا يعلم زيد وعمرو فهذا قد يحتمل أن يراد نفي العلم عنهما جميعا دون أحدهما فإذا قلت بعد ذلك بل هما جاهلان زال ذلك الاحتمال وأثبت الجهل لهما جميعا وأيضا فلا يقع استعمال نفي عن شيئين والمراد نفي اجتماعهما خاصة إلا مع ما يبين ذلك في سياق الكلام وعن لفظ يدل عليه فأما مع الإطلاق فلا يقع ذلك به لا يجوز استعماله مع الإبهام كما لا يعال: الآلة والنار لا يبقيان وكما لا يقال: الخالق الله، المخلوق وحده يفنى ولا يقال: الدنيا والآخرة لا تفنيان ويراد بها أن الدنيا وحدها تفنى ولا: محمد ومسيلمة لا يصدقان ولا يكذبان والمراد به صدق محمد وحده وكذب مسيلمة وحده فإن هذا كله استعمال قبيح ممنوع ولا يعهد مثله في كلام أحد يعتد به.
وقول أحمد بعد هذا: نسأل الله التثبيت أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا يدل على أن القول بخلاف ذلك عنده من الضلال والزيغ وقد خرج بهذا فيما نقله عنه حرب قال حرب في مسائل: هذا المذهب أئمة أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المعروفين بها المقتدى بهم ممن أدركت من علماء أهل العراق والحجاز والشام فمن خالف شيئا من هذا المذهب فيها أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مبتدع خارج من الجماعة زائل عن منهج السنة وسبيل الحق وهو مذهب أحمد وإسحق وسعيد بن منصور وغيرهم ممن جالسنا وأخذنا عنهم العلم فكان من قولهم: الإيمان قول وعمل وذكر العقيدة ومن جملها قال: لقد خلقت الجنة وما فيها وخلقت النار وما فيها خلقهما الله ثم خلق الخلق لهما لا يفنيان لا يفنى ما فيهما أبدا فإن احتج مبتدع أو زنديق بقول الله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، ونحوا هذا فقل له: كل شيء مما كتب الله عليه الفناء والهلاك هالك والجنة والنار خلقنا للبقاء لا للفناء ولا للهلاك وهما من الآخرة لا من الدنيا وذكر بقية العقيدة.
فقوله في آخر كلامه: خلقنا للبقاء لا للفناء ولا للهلاك يبطل من أول الكلام على أن المراد به لا يفنى مجموعهما.
وقد نقل هذا الكلام الذي نقله حرب كله عن أحمد صريحا.
نقله عنه أبو العباس أحمد بن جعفر الأصطخري أنه قال: مذهب أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المتمسكين بعروقها المعروفين بها المقتدى بهم فيها من لدن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا وأدركت من أدركت من علماء الحجاز وأهل الشام وغيرهم فمن خالف شيئا من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مخالف مبتدع خارج من الجماعة زائل عن منهج السنة وسبيل الحق فذكر العقيدة كلها وقد خلقت الجنة وما فيها وخلقت النار وما فيها خلقهما الله وخلق الخلق لهما فلا يفنيان ولا يفنى ما فيها أبدا فإن احتج مبتدع أو زنديق بقول الله تعالى:
{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، ونحو هذا من متشابه القرآن فقل له: كل شيء مما كتب الله عليه الفناء والهلاك هالك والجنة والنار خلقتا للبقاء لا للفناء ولا للهلاك وهما من الآخرة لا من الدنيا وذكر بقية العقيدة.
وقد رويت هذا العقيدة عن الإمام أحمد من وجه آخر من طريق أحمد بن وهب القرشي عنه المقصود هنا قول أحمد: أرواح المؤمنين في الجنة وأرواح الكفار في النار.
وقد حكى القاضي أبو يعلى في كتاب المعتمد ومن اتبعه من الأصحاب هذا الكلام عن عبد الله بن أحمد عن أبيه ولم ينقله عبد الله إنما نقله حنبل.
وأما ما نقله عبد الله عن أبيه فقال الخلال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سألت أبي أرواح الموتى أتكون في أفنية قبورهم أم في حواصل طير أم تموت كما تموت الأجساد؟ قال: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “نسمة المؤمن إذا مات طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده فيبعثه الله” أخرجه الترمذي “ح 1641″، والنسائي “ح 2072” وابن ماجة “ح 4271” وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه.
وقد روى عن عبد الله بن عمرو قال: أرواح المؤمنين في حواصل طير خضر كازرازير ثم تعود يتعارفون فيها ويرزقون من ثمارها.
وقال بعض: أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تأوي إلى قناديل في الجنة معلقة بالعرش. انتهى.
وهذا الكلام أيضا يدل على أن أرواح المؤمنين عند الله في الجنة إلا أنه ذكر في جوابه الأحاديث الدالة على ذلك المرفوعة والموقوفة ولم يذكر سوى ذلك ففي رواية حنبل جزم بأن أرواح المؤمنين في الجنة وفي رواية عبد الله ذكر الأدلة على ذلك.
فأما الحديث المرفوع الذي ذكره فهو من رواية مالك عن ابن شهاب أن عبد الرحمن بن كعب أخبره أن أباه كعب بن مالك كان يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده” 2، كذ رواه مالك في الموطأ ورواه عن مالك جماعة منهم الشافعي ورواه الإمام أحمد في مسنده عن الشافعي وخرجه النسائي من طريق مالك أيضا.
وخرجه مالك من طريق الحارث بن فضيل عن الزهري، بهذا الإسناد.
وكذا رواه عن الزهري: يونس والزبيدي والأوراعي وإسحاق ورواه شعيب وابن أخي الزهري وصالح بن كيسان عن الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن جده كعب وقال صالح في حديثه: أنه بلغه أن كعبا كان يحدث وقال شعيب في حديثه: إن كعبا كان يحدث فهو على رواية صالح ومن وافقه منقطع وذكر محمد بن يحيى الذهلي أن ذلك هو المحفوظ وخالفه ابن عبد البر في ذلك ورجح رواية مالك ومن وافقه، وقد روي – يعني حديث كعب – من وجوه متعددة.
فروى حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر حديث القبر بطوله في حق المؤمن قال: “ويعاد الجسد إلى ما بدئ منه وتجعل روحه في نسيم طير يعلق في شجر الجنة”، خرجه الطبراني وغيره.
وخرجه ابن حبان في صحيحه من طريق معتمر عن محمد بن عمرو به ولفظه: وتجعل نسمته في النسيم الطيب وهو طير يعلق في الجنة وقد سبق أن غيرهما رواه عن محمد بن عمرو فوفقه على أبي هريرة.
وقد تقدم حديث أم هانئ الأنصارية، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” تكون النسم طائر تعلق بالشجر حتى إذا كان يوم القيامة دخلت كل نفس في جسدها”.
وخرج ابن منده من رواية موسى بن عبيدة الربذي عن عبد الله بن يزيد عن أم كبشة بنت المعرور قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن أرواح المؤمنين في حواصل طير خضر ترعى في الجنة تأكل من ثمارها وتشرب من مائها وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش فيقولون: ربنا ألحق بنا إخواننا وآتنا ما وعدتنا وإن أرواح الكفار في حواصل طير سود تأكل من النار وتشرب من النار وتأوي إلى حجر من النار يقولون: ربنا لا تلحق بنا إخواننا ولا تؤتنا ما وعدتنا”.
وموسى بن عبيدة شيخ صالح شغلته العبادة عن حفظ الحديث فكثرت المناكير في حديثه.
وخرج ابن منده أيضا، من رواية معاوية بن صالح عن ضمرة بن حبيب، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أرواح المؤمنين، فقال: “في طير خضر تسرح في الجنة حيث
شاءت”، قالوا: يا رسول الله! وأرواح الكفار؟ قال: “محبوسة في سجين”، وهذ مرسل.
وخرج أيضا من رواية عيسى بن موسى عن سفيان الثوري عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أرواح المؤمنين كالزرازير تأكل من ثمر الجنة”، ثم قال ابن مندة: رواه جماعة عن الثوري موقوفا يعني على عبد الله بن عمرو والصواب وقفه.
وقد سبق أن الإمام ذكره في رواية ابنة عبد الله موقوفا وكذا رواه وكيع عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الله بن عمرو قال: أرواح المؤمنين في أجواف طير خضر كالزارزير يتعارفون فيها ويرزقون من ثمرها أخرجه الخلال.
وخرج – أيضا – من حديث أبي هشام عن أبي إسحاق عن الأحوص، عن عبد الله بن مسعود فذكر احتضار المؤمن وأن روحه تعاد إلى جسده عند سؤاله في القبر ثم ترفع روحه فتجعل في أعلى عليين ثم تلا عبد الله الآية: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ}، قال: السماء السابعة وأما الكفار فذكر الكلام وتلا: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} قال: الأرض.
وروى مثل هذا المعنى عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو وذكره ابن عبد البر.
وروى سعيد عن قتادة قال: ذكر لنا أن عبد الله بن عمر وكان يقول: سجين هي الأرض السفلى فيها أرواح الكفار.
وروى ابن المبارك عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن منصور بن أبي منصور حدثه قال: سألت عبد الله بن عمرو عن أرواح المسلمين حين يموتون قال: ما تقولون يا أهل العراق؟ قلت: لا أدري قال: فإنها صور طير بيض في ظل العرش وأرواح الكفار في الأرض السابعة.
وروى أيضا عن كعب، من رواية الأعمش عن شمر بن عطية عن هلال بن يساف قال: كنا جلوسا إلى كعب فجاء ابن عباس فقال: يا كعب كل ما في القرآن عرفت غير أربعة أشياء فأخبرني عنهن فسأله عن سجين وعليين فقال كعب: أما عليون فالسماء السابعة فيها أرواح المؤمنين وأما سجين فالأرض السابعة فيها أرواح الكفار تحت خد إبليس.
وقد ثبت في الأدلة أن الجنة فوق السماء السابعة وقد ذكرنا ذلك في كتاب صفة النار مستوفى.
وروى أبو نعيم من طريق الحكم بن أبا قال: نزل بي ضيف من أهل صنعاء فقال: سمعت وهب بن منبه يقول: إن لله في السماء السابعة دارا يقال لها: بيضاء تجتمع فيها أرواح المؤمنين فإذا مات الميت من أهل الدنيا تلقته الأرواح فيسألونه عن أخبار الدنيا كما يسأل الغائب أهله إذا قدم عليهم.
وخرج ابن منده من طريق سفيان عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن سلمان الفارسي وعبد الله بن سلام لقي أحدهما صاحبه فقال: إن مت قبلي فحدثني بما لقيت وإن مت قبلك حدثتك بما لقيت قال: وكيف يكون ذلك؟ قال: أرواح المؤمنين تذهب في الجنة حيث شاءت وخرجه ابن أبي الدنيا من طريق جرير بن يحيى.
وخرج أيضا من طريق ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن منصور بن أبي منصور أنه سأل عبد الله بن عمرو عن أرواح المؤمنين إذا ماتوا أين هي؟ قال: هي صور طير بيض في ظل العرش.
وروى ابن أبي ليث عن أبي قيس عن هذيل عن ابن مسعود: أن أرواح آل فرعون في أجواف طير سود تغدو على جهنم وتروح عليها فذلك عرضها.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، في قوله تعالى {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} قال: هم فيها اليوم يغدى بهم ويراح إلى أن تقوم الساعة.
خرجهما ابن أبي الدنيا.
وخرج اللالكائي من رواية عاصم عن أبي وائل عن أبي موسى الأشعري، قال: تخرج روح المؤمن وهي أطيب من المسك فتعرج به الملائكة حتى تأتي ربه وله برهان مثل الشمس وروح الكافر أنتن من الجيفة وهو بوادي حضرموت في أسفل الثرى من سبع أرضين.
وقد يستدل للقول بأن أرواح المؤمنين في الجنة وأرواح الكفار في النار من القرآن بأدلة منها قوله تعالى: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ} [الواقعة]
إلى قوله: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة]، هو دخول النار مع إحرافها وإنضاجها فجعل هذا كله متعقبا للاحتضار والموت.
وكذلك قوله تعالى في قصة المؤمنين في سورة يس: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس]، وإنما قال هذا بعد ما قتلوه ورأى ما أعد الله له {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر] على تأويل من تأول ذلك عند الاحتضار.
وكذلك قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ * قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ فِي النَّارِ} [الأعراف: 37، 38].
ونظير هذه الآية قوله: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 28].
ومما يستدل به أيضا لذلك، ما رواه مجالد، عن الشعبي، عن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن خديجة، قال: “أبصرتها على نهر من أنهار الجنة في بيت من قصب لا لغو فيه ولا نصب” 1 خرجه البزار.
وخرج الطبراني بإسناد منقطع عن فاطمة، قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: أين أمنا خديجة؟ قال: “في بيت قصب بين مريم وآسية امرأة فرعون” قالت: ممن هذا القصب؟ قال: “من القصب المنظوم بالدرر واللؤلؤ والياقوت” 2.
وخرج أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجم الأسلمي الذي اعترف عنده بالزنا قال: ” والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها” 1.
__________
1 ضعيف: أخرجه أبو داود “ح 4428″، وابن حبان “ح 1513/ زوائد”.
فصل: ما يمنع من دخول أرواح المؤمنين والشهداء الجنة
وإنما تدخل أرواح المؤمنين والشهداء الجنة إذا لم يمنع من ذلك مانع من كبائر تستوجب العقوبة أو حقوق آدميين حتى يبرأ منها.
ففي الصحيحين، عن أبي هريرة أن مدعما قتل يوم خيبر قال الناس: هنيئا له الجنة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “بلى، والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا” 2.
وعن سمرة بن جندب قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ها هنا أحد من بني فلان؟ ” ثلاثا فلم يجبه أحد ثم أجابه رجل فقال: “إن فلانا الذي توفي احتبس عن الجنة من أجل الدين الذي عليه فافتكوه أو فافدوه وإن شئتم فأسلموه إلى عذاب الله” 3.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي بألفاظ مختلفة.
وخرج البزار، من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وفي حديثه قال: “إن صاحبكم محبوس على باب الجنة”، أحسبه قال: “بدين”.
وخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث ثوبان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من فارق الروح الجسد وهو بريء من ثلاث، دخل الجنة: من الكبر والغلول والدين” 4.
وخرج الطبراني، من حديث أنس قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل يصلي عليه فقال:
__________
2 أخرجه البخاري “ح 4234″، ومسلم “ح 115”.
3 حسن أخرجه أحمد “5/ 11، 20″، وأبو داود “ح 3341″، والنسائي “ح 4699”.
4 صحيح: أخرجه احمد “5/ 281″، الترمذي “ح 1573″، وابن ماجه “ح 2412” وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه.
“على صاحبكم دين”؟ فقالوا: نعم قال: “فما ينفعكم أن أصلي على رجل مرتهن في قبره لا تصعد روحه إلى السماء ولو ضمن رجل دينة قمت فصليت عليه فإن صلاتي تنفعه”. وفي المعنى أحاديث متعددة.
وخرج ابن أبي الدنيا “من عاش بعد الموت”، من طريق سيار بن حسن قال: خرج أبي وعبد الواحد بن زيد يريدان الغزو فهجموا على ركية عميقة واسعة فأدلوا حبالهم بقدر فإذا القدر قد وقعت في الركية قال: فقرنوا حبال الرفقة بعضها ببعض ثم دخل أحدهما إلى الركي فلما صار ببعضها إذا هو بهمهمة في الركي فرجع فصعد فقال: أتسمع ما أسمع؟ قال: نعم فناولني العمود فأخذ العمود فدخل في الركية فإذا هو برجل جالس على ألواح وتحته الماء فقال: أجني؟ قال: بل إنسي قال: ما أنت؟ قال: أنا رجل من أهل أنطاكية وإني مت فحبسني ربي هنا بدين علي وإن ولدي بإنطاكية لا يذكروني ولا يقضون عني فخرج الذي كان في الركية فقال لصاحبه غزوة بعد غزوة فدع أصحابنا يذهبون فساروا إلى أنطاكية فسألوا عن الرجل وعن بنيه فقالوا: نعم إنه لأبونا وقد بعنا ضيعة لنا فامشوا معنا حتى نقضي عنه دينه قال: فذهبوا معهم حتى قضوا ذلك الدين ثم رجعوا من أنطاكية حتى أتوا موضع الركية ولا يشكون أنها ثم فلم يكن ركية ولا شيء فأمسوا فباتوا هناك فإذا الرجل قد أتاهم في منامهم وقال: جزاكم الله خيرا فإن الله حولني إلى مكان كذا وكذا من الجنة حيث قضي ديني.
وروى في كتاب “المنامات” حدثني زكريا بن الحارث النضري قال: رئي محمد بن عباد في النوم فقيل: ما فعل الله بك؟ فقال: لولا ديني دخلت الجنة.
وقال طائفة: الأرواح في الأرض ثم اختلفوا.
فقالت فرقة منهم: الأرواح تستقر على أفنية القبور وهذا القول هو الذي ذكره عبد الله ابن الإمام أحمد في سؤاله المتقدم وحكى ابن حزم هذا القول عن عامة أصحاب الحديث. وقال ابن عبد البر: كان ابن وضاح يذهب إليه ويحتج بحديث النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى المقبرة فقال: “السلام عليكم دار قوم مؤمنين”1 فهذا يدل على أن الأرواح بأفنية القبور.
ورجح ابن عبد البر أن أرواح الشهداء في الجنة وأرواح غيرهم على أفنية القبور تسرح حيث شاءت.
وذكر عن مالك أنه قال: بلغني أن الأرواح مرسلة تذهب حيث شاءت.
وعن مجاهد قال: الأرواح على القبور سبعة أيام من يوم دفن الميت لا يفارقه ذلك.
واستدل هو وغيره بحديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: ” إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار يقال: هذا مقعدك إلى يوم القيامة” 1. وهذا يدل على أن الأرواح ليست في الجنة وإنما تعرض عليها بكرة وعشيا وكذا ذكره ابن عطية وغيره.
ولا حجة لهم فيه لوجهين:
أحدهما: أنه يحتمل أن يكون العرض بكرة وعشيا على الروح المتصل بالبدن والروح وحدها في الجنة فتكون البشارة والتخويف للجسد في هذين الوقتين باتصال الروح به وأما الروح أبدا في تنعم أو عذاب.
والثاني: أن الذي يعرض بالغدواة والعشي هو مسكن ابن آدم الذي يستقر فيه في الجنة أو النار وليست الأرواح مستقرة فيه مدة البرزخ وإن كانت في الجنة أو النار.
ولهذا جاء في حديث البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم: “إن المؤمن إذا فتح له في قبره باب إلى الجنة وقيل له: هذا منزلك قال: رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي”.
وأما السلام على أهل القبور فلا يدل على استقرار أرواحهم على أفنية قبورهم فإنه يسلم على قبور الأنبياء والشهداء وأرواحهم في أعلى عليين ولكن مع ذلك لها اتصال سريع في الجسد ولا يعلم كنه ذلك وكيفيته على الحقيقة إلا الله عز وجل.
ويشهد لذلك الأحاديث المرفوعة والموقوفة، على أصحابه، ومنهم عبد الله بن عمرو ابن العاص، في أن النائم يعرج بروحه إلى العرش مع تعليها ببدنه وسرعة عودها إليه عنه استيقاظه فأرواح الموتى المجردة عن أبدانهم أولى بعروجها إلى السماء وعودها إلى القبر مثل تلك السرعة والله أعلم.
وخرج ابن منده من طريق علي بن زيد عن سعيد بن المسيب أن سليمان قال لعبد الله بن سلام: إن أرواح المؤمنين في برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت وإن أرواح الكفار في سجين وعلي بن زيد ليس بالحافظ خالفه يحيى بن سعيد الأنصاري مع عظمته وجلالته وحفظه.
فروى عن سعيد بن المسيب قال فيه: إن أرواح المؤمنين تذهب في الجنة حيث شاءت كما سبق ذكره.
وقد تقدم عن مالك: أن الأرواح مرسلة تذهب حيث شاءت وخرجه ابن أبي الدنيا عن خالد بن خداش قال: سمعت مالكا يقول ذلك.
وخرج أيضا، عن حسين بن علي العجلي حدثنا أبو نعيم حدثنا شريك عن يعلى بن عطاء عن أبيه عن عبد الله بن عمرو قال: مثل المؤمن حين تخرج نفسه أو قال روحه مثل رجل كان في سجن فإخرج منه فهو يتفسح في الأرض ويتقلب فيها.
ومما استدل به على أن الأرواح في الأرض حديث البراء بن عازب الذي تقدم سياق بعضه وفيه صفة قبض روح المؤمن: “فإذا انتهى إلى العرش كتب كتابه في عليين ويقول الرب سبحانه وتعالى: ردوا عبدي إلى مضجعه فإني وعدتهم أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى فترد إلى القبر” وذكر الحديث، وقال في روح الكافر: “فيصعد بها إلى السماء فتغلق دونه فيقول الرب سبحانه وتعالى: ردوا عبدي إلى مضجعه فإني وعدتهم أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى” وفي رواية: ” ويقول الله ردوا عبدي إلى الأرض فإني وعدتهم أني أردهم فيها” ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55] وهذا يدل على أن أرواح المؤمنين تستقر في الأرض ولا تعود إلى السماء بعد عرضها ونزولها إلى الأرض وهناك أرواح تبقى في الجنة لا سيما الشهداء.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة في صفة قبض روح المؤمن قال: ثم يصعد به إلى ربه عز وجل فيقول: ردوه إلى آخر الأجلين وقال مثله في الكافر وقال فيه: رد النبي صلى الله عليه وسلم ربطة على أنفه يعني لما ذكر نتن ريحه وهذا يشهد برفع الحديث كله.
وخرج ابن أبي الدنيا من حديث قسامة بن زهير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن المؤمن إذا احتضر أتته الملائكة بحريرة فيها مسك وضبائر الريحان فتسل روحه كما تسل الشعرة من العجين وتقول: أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية مرضيا عنك إلى رضوان الله وكرامته فإذا خرجت روحه وضعت على ذلك المسك وطويت عليها الحريرة وبعث بها إلى عليين وإن الكافر إذا احتضر أتته الملائكة بمسح فيه جمرة فتنزع روحه انتزاعا شديدا ويقال: أيتها النفس الخبيثه اخرجي ساخطة ومسخوطا عليك إلى هوان الله وعذابه فإذا أخرجت روحه وضعت على تلك الجمرة فإن لها نشيشا يطوى عليها المسح ويذهب بها إلى سجين”.
وخرجه النسائي وغيره من حديث قتادة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه مخالف لما قبله وذكر في روح المؤمن: حين ينتهون بها إلى السماء العليا، وقال في روح الكافر: حين ينتهون بها إلى الأرض السفلى.
وقد ذكرنا فيما تقدم عن ابن مسعود: أن الروح بعد السؤال في القبر ترفع إلى عليين وتلا قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين: 18].
وقالت فرقة: تجتمع في موضع من الأرض كما روى همام بن يحيى المسعودي عن قتادة قال: حدثني رجل عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن عمرو قال: إن أرواح المؤمنين تجتمع بالجابية وأما أرواح الكفار فتجتمع بسبخة بحضرموت يقال له: برهوت خرجه ابن منده.
ورواه هشام الدستوائي عن قتادة عن سعيد بن المسيب من قوله لم يذكر عبد الله بن عمرو خرجه من طريق ابن أبي الدنيا وقد تبين أن قتادة لم يسمعه من سعيد إنما بلغه عنه ولم يدر عمن أخذه.
وخرج ابن منده من طريق فرات الفزاري عن أبي الطفيل عن علي قال: شر واد بئر في الأحقاف: برهوت بحضرموت ترده أرواح الكفار.
قال: رواه حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف عن ابن مهران عن ابن عباس عن علي قال: أبغض بقعة في الأرض واد بحضرموت يقال له: برهوت فيه أرواح الكفار وفيه بئر ماؤه في النار أسود كأنه قيح تأوي إليه الهوام.
وروى بإسناده عن شهر بن حوشب أن كعبا رأى عبد الله بن عمرو وقد تكالب الناس عليه يسألونه فقال رجل لرجل: سله أين أرواح المؤمنين؟ قال: بالجابية وأرواح الكفار ببرهوت.
وبإسناده عن سفيان عن أبان بن تغلب قال: قال رجل: بت فيه – يعني وادي برهوت – كأنما حشدت فيه أرواح الكفار وهم يقولون: يا دومة فحدثنا رجل من أهل الكتاب: هو الملك الذي على أرواح الكفار.
قال سفيان: وسألنا الحضرميين فقالوا: لا يستطيع أن يبيت فيه أحد بالليل.
وقال ابن قتيبة في كتابه غريب الحديث: ذكر الأصمعي عن رجل من أهل برهوت – يعني البلد الذي فيه هذا البئر – قال: تجد الرائحة المنتنة الفظيعة جدا ثم نمكث فيأتينا الخبر بأن عظيما من عظماء الكفار قد مات فنرى أن تلك الرائحة منه.
قال: وقال ابن عيينة: أخبرني رجل أنه أمسى ببرهوت فكأن فيه أصوات الحاج قال: وسألت أهل حضرموت فقالوا: لا يستطيع أحدنا أن يمسي فيه.
وقال ابن أبي الدنيا حدثنا الحسن بن عبد العزيز حدثنا عمرو بن أبي سلمة عن عمرو بن سليمان قال: مات رجل من اليهود وعنده وديعة لمسلم وكان لليهودي ابن مسلم فلم يعرف موضع الوديعة فأخبر شعيبا الجبائي فقال: أئت برهوت فإن دونه عين بتسقيب فإذا جئت في يوم السبت فامش عليها حتى تأتي عينا هناك فادع أباك فإنه يجيبك فاسأله عما تريد ففعل ذلك الرجل ومضى حتى أتى العين فدعا أباه مرتين أو ثلاثا فأجابه فقال: أين وديعة فلان؟ فقالت: تحت إسكفة الباب فادفعها إليه.
وفي كتاب حكايات لأبي عمرو أحمد بن محمد النيسابوري حدثنا بكر بن محمد بن عيسى الطرطوسي حدثنا حامد بن يحيى بن سليم قال: كان عندنا رجل بمكة من أهل خراسان يودع الودائع فيؤديها فأودعه رجل عشرة آلاف دينار وغاب وحضر الخراساني الوفاة فما ائتمن أحدا من أولاده فدفنها في بعض بيوته ومات فقدم الرجل وسأل بنيه فقالوا: ما لنا بها علم فاسأل العلماء الذين بمكة وهم يومئذ متوافرون فقالوا: ما نراه إلا من أهل الجنة وقد بلغنا أن أرواح أهل الجنة في زمزم فإذا مضى من الليل ثلثه أو نصفه فائت زمزم فقف على شفيرها ثم ناده فإنا نرجو أن يجيبك فإن أجابك فاسأله عن مالك فذهب كما قالوا فنادى أول ليلة وثانية وثالثة فلم يجب فرجع إليهم فقال: ناديت ثلاثا فلم أجب؟ فقالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون ما نرى صاحبك إلا من أهل النار فاخرج إلى اليمن فإن بها واديا يقال له: برهوت فيه أرواح أهل النار فقف على شفيرها فناده في الوقت الذي ناديت في زمزم فذهب كما قيل له في الليل فنادى يا فلان بن فلان فأجابه من أول صوت فقال له: ويحك ما أنزلك ها هنا وقد كنت صاحب خير؟ قال: كان لي أهل بخراسان فقطعتهم حتى مت فأخذني الله فأنزلني هذا المنزل وأما مالك فإني لم آمن عليه ولدي وقد دفنته في موضع كذا فرجع صاحب المال إلى مكة فوجد المال في المكان الذي أخبره.
ورجحت طائفة من العلماء أن أرواح الكفار في بئر برهوت منهم القاضي أبو يعلى من أصحابنا في كتابه المعتمد وهو مخالف لنص أحمد: أن أرواح الكفار في النار.
ولعل لبئر برهوت اتصالا في جهنم في قعرها كما روي في البحر أن تحته جهنم والله أعلم ويشهد لذلك ما سبق من قول أبي موسى الأشعري: روح الكافر بوادي حضرموت في أسفل الثرى من سبع أرضين.
وقال صفوان بن عمرو: سألت عامر بن عبد الله اليماني هل لأنفس المؤمنين مجمع؟ فقال: يقال: إن الأرض التي يقول الله: {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} قال: هي الأرض التي تجتمع أرواح المؤمنين فيها حتى يكون البعث خرجه ابن منده وهذا غريب جدا وتفسير الآية بذلك ضعيف.
وخرج ابن أبي الدنيا في كتاب “من عاش بعد الموت” من طريق عبد الملك بن قدامة عن عبد الله بن دينار عن أيوت اليماني عن رجل من قومه يقال له:
عبد الله إنه ونفرا من قومه ركبوا البحرن وإن البحر أظلم عليهم أياما ثم انجلت عنهم الظلمة وهم قرب قرية قال عبد الله: فخرجت ألتمس الماء فإذا أبواب المدينة مغلقة تجأجأ فيها الريح فهتفت بها فلم يجبني أحد فبينا أنا كذلك إذا طلع علي فارسان تحت كل واحد منهما قطيفة بيضاء فسألاني عن أمري فأخبرتهما بالذي أصابنا في البحر وإني خرجت أطلب الماء فقالا لي: يا عبد الله! أسلك في هذه السكة فإنك ستنتهي إلى بركة فيها ماء فاسق منها ولا يهولنك ما ترى فيها ن قال: فسألتهما عن تلك البيوت المغلقة التي تجأجأ فيها الريح فقالا: هذه بيوت فيها أرواح الموتى.
قال: فخرجت حتى انتهيت إلى البركة فإذا فيه رجل معلق مصلوب على رأسه يريد أن يتناول الماء بيده وهو لا يناله فلما رآني هتف بي وقال: يا عبد الله اسقني وقال: فغرقت بالقدح لأناوله فقبض بيدي فقال: بل العمامة ثم ارم بالقدح لأونالك فقبضت يدي ثم بللت العمامة لأرمي بها إليك فقبضت يدي فأخبرني من أنت؟ فقال: أنا ابن آدم أنا أول من سفك دما في الأرض.
وروى أبو نعيم بإسناده عن ابن وهب حدثنا عبد الرحمن بن زيد نب أسلم قال: بينما رجل في مركب في البحر إذا انكسر بهم مركبهم فتعلق بخشبه فطرحته في جزيرة فخرج يمشي فإذا هو بماء فتبعه فدخل في شعب فإذا برجل في رجليه سلسلة منوط فيها بينه وبين الماء شبر فقال: اسقني رحمك الله قال: فإخذت ملء كفى ماء فرفع بالسلسلة فذهب بالماء فلما ذهب الماء حط الرجل قال: ففعلت ذلك ثلاث مرات أو أربعا قال: فلما رأيت ذلك منه قلت له: ما لك ويحك؟ قال: أنا ابن آدم الذي قتل أخاه والله ما قتلت نفس ظلما منذ قتلت أخي إلا يعذبني الله بها لأني أول من سن القتل.
وروى عاصم بن محمد الرازي في كتاب الرهبان حدثنا عصمه العباداني قال: كنت أجول في بعض الفلوات إذ نظرت ديرا وفيه صومعة وفيها راهب فناديته فأشرف علي فقلت له: من أين تأتيك الميرة؟ قال: من مسيرة شهر قلت: حدثني بأعجب ما رأيت في هذه المواضع قال: بينا أنا ذات يوم أدير بصري في هذه البرية القفر وأتفكر في عظمة الله وقدرته إذ رأيت طائرا أبيض مثل النعامة كبيرا وقد وقع على تلك الصخرة – وأومى بيده إلى صخرة بيضاء – فتقيأ رأسا ثم رجلا ثم ساقا وإذا هو كلما تقيأ عضوا التمت بعضها إلى بعض أسرع من البرق فإذا هم بالنهوض نقره الطائر فقطع أعضاءه ثم يرجع فيبتله فلم يزل على ذلك أياما فكثر تعجبي منه وازددت يقينا بعظمه الله وعلمت أن لهذه الأجساد حياتا بعد الموت وذكر أنه سأل عن ذلك الرجل يوما عن أمره فقال: أنا عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي بن أبي طالب أمر الله هذا الملك أن يعذبني إلى يوم القيامة قال: قال لي الملك: قد أتاني النبي صلى الله عليه وسلم فأمرني أن أخرج بهذا الجسد إلى جزيرة من البحر الأسود التي تخرج منها هوام أهل النار فأعذبه إلى يوم القيامة.
وقد رويت هذه الحكاية من وجه آخر خرجها ابن النجار في تاريخه من طريق السلفي بإسناد له إلى الحسن بن محمد بن عبيد اليشكري حدثنا إسماعيل بن أحمد بن علي بن أحمد بن يحيى بن النجم، سنة عشر وثلاثمائة أنه حضر مع يوسف بن أبي التياح ببلاد سنباط حضر مجلسه وحدثنا عن راهب سماه فأحض يوسف الراهب فحدثه الراهب بعد الإمتناع أن ملكا نفاه إلى جزيرة على البحر منفردة قال: لرأيت يوما طائرا فذكر شبيها بالحكاية.
ورويت من وجه آخر من طريق أبي عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم الرازي صاحب السداميات المشهورة عن علي بن هارون عن محمود الوارق حدثنا أبو محمد بن عبد الرحمن بن عمر البزار سمعت أبا بكر محمد بن أحمد بن أبي الأصبغ قال: قدم علينا شيخ غريب فذكر أنه كان نصرانيا سنين وأنه تعبد في صومعة قال: فبينما هو ذات يوم جالسا إذ جاءه طائر كالنسر أو كالكركي فذكر شبيها بالحكاية مختصرا.
وكل ما ورد من هذه الآثار فإنه محمول على أن الأرواح تنتقل من مكان إلى مكان ولا يدل على أنها تستقر في موضع من الأرض والله أعلم.
ويشهد لهذا ما روي عن شهر بن حوشب قال: كتب عبد الله بن عمرو إلى أبي بن كعب يسأله أين تلتقي أرواح أهل الجنة وأهل النار فقال: أما أرواح أهل الجنة فبالبادية وأما أرواح الكفار فبحضرموت ذكره ابن منده تعليقا.
وقالت: طائفة من الصحابة: الأرواح عند الله عز وجل وقد صح ذلك عن عمرو وقد سبق قوله.
وكذلك روي عن حذيفة خرجه ابن منده من طريق داود الأودي عن الشعبي عن حذيقة قال: إن الأرواح موقوفة عند الرحمن – عز وجل تنتظر موعدها حتى ينفخ فيها وهذا إسناد ضعيف وهذا لا ينافي ما وردت به الإخبار من محل الأرواح على ما سبق.
وقال طائفة: أرواح بني آدم عند أبيهم آدم عن يمينه وشماله وهذا يستدل له بما في الصحيحين عن أنس عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “فرج سقف بيتي وأنا بمكة”، فذكر الحديث وفيه: “فلما فتح علونا السماء الدنيا فإذا رجل قاعد عن يمينه أسودة وعلى يساره أسودة فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى فقال: مرحبا بالنبي الصالح والإبن الصالح قلت لجبريل: من هذا؟ قال: هذا آدم وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه فأهل اليمين منهم أهل الجنة والأسود الذي عن شماله أهل النار فإذا نظر عن يمينه ضحك وإذا نظر عن شماله بكى”. وذكر بقية الحديث.
أخرجه البخاري “ح 349″، مسلم “ح 163”.
(1/ 123)
وظاهر هذا اللفظ يقتضي أن أرواح الكفار في السماء وهذا مخالف لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} [الأعراف: 40].
وكذلك حديث البراء وأبي هريرة وغيرهما أن السماء لا تفتح لروح الكافر وأنها تطرح طرحا وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31].
ولذا حمله بعضهم على أن هذه الأرواح التي عن يمين آدم وشماله هي أرواح بنيه التي لم تخلق أجسادهم بعد وهذا في غاية البعد مع منازعة بعضهم في خلق الأرواح قبل أجسادها.
وقد ورد من حديث أبي هريرة ما يزيل هذا الإشكال كله من رواية أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية وغيره عن أبي هريرة فذكر حديث الإسراء بطوله إلى أن قال: ثم صعد به إلى السماء الدنيا فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال: جبريل قيل: ومن معك؟ قال: محمد قالوا: وقد أرسل إليه؟ قال: قال:
نعم: حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء قال: فدخل فإذا هو برجل تام الخلقة لم ينقص من خلقه شيء كما ينقص من الناس عن يمينه باب يخرج منه ريح طيبة وعن شماله باب يخرج منه ريح خبيثه إذا نظر عن يمينه ضحك واستبشر وإذا نظر عن شماله بكى وحزن والباب الذي عن يمينه باب الجنة فإذا نظر من يدخل من ذريته الجنة ضحك واستبشر والباب الذي عن شماله جهنم فإذا نظر من يدخل من ذريته جهنم بكى وذكر الحديث وقد خرجه بتمامه البزار في مسنده وأبو بكر الخلال وغير واحد وفيه التصريح بأن أرواح ذريته في الجنة والنار وأنه ينظر إلى أهل الجنة من باب عن يمينه وإلى أهل النار من باب عن شماله وهذا لا يقتضي أن تكون الجنة والنار في السماء الدنيا وإنما معناه أن آدم في السماء الدنيا يفتح له بابان في الجنة والنار ينظر منهما إلى أرواح ولده فيها وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم الجنة والنار في صلاة الكسوف، وهو في الأرض، وليست الجنة في الأرض وروي أنه رآهما ليلة الإسراء في السماء وليست النار في السماء.
ويشهد لذلك أيضا ما في حديث أبي هارون العبدي – مع ضعفه – عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء الطويل إلى أن ذكر السماء الدنيا: “وإذا أنا برجل كهيئته يوم خلقه الله عز وجل لم يتغير منه شيء وإذا تعرض عليه أرواح ذريته فإذا كان روح طيبة وريح طيبة إجعلوا كتابه في عليين وأن كانت روح كافر قال: روح خبيثة وريح خبيثة إجعلوا كتابه في سجين قلت: يا جبريل من هذا؟ قال: أبوك آدم”، وذكر الحديث ففي هذا أنه تعرض عليه أرواح ذريته في السماء الدنيا وأنه يأمر بجعل الأرواح في مسقرها من عليين وسجين فدل على أن الأرواح ليس محل مستقرها في السماء الدنيا.
وزعم ابن حزم أن الله خلق الأرواح جملة قبل الأجساد وأنه جعلها في برزخ وذلك البرزخ عند منقطع العناصر يعني حين لا ماء ولا هواء ولا نار وأنه إذا خلق الأجساد أدخل فيها تلك الأرواح ثم يعيدها عند قبضها إلى ذلك البرزخ وهو الذي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة أسري به عند سماء الدنيا أرواح أهل السعادة عن يمين آدم.
_
وأهل الشقاوة عن يساره وذلك عند منقطع العناصر وتجعل أرواح الأنبياء والشهداء في الجنة.
قال: وذكر محمد بن نصر المروزي عن أسحاق بن راهوية أنه ذكر هذا الذي قلناه بعينه قال: وعلى هذا أجمع أهل العلم قال ابن حزم: وهو قول جميع أهل الإسلام غيره.
فكيف يكون قول جميع أهل الإسلام وكلامه يقتضي أن الأرواح رآها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء تحت السماء الدنيا والحديث يدل على أنه إنما رآها فوق السماء الدنيا وما حكاه عن محمد بن نصر عن إسحاق بن راهويه فلا يدل على ما قاله بوجه فإن محمد بن نصر حكى عن إسحاق بن راهويه إجماع أهل العلم أن الله استخرج ذرية آدم من صلبه قبل خلق أجسادهم فاستنطقهم واستشهدهم على أنفسهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف: 172] ولم يذكر أكثر من هذا وهذا لا يدل على شيء مما قاله ابن حزم في مستقر الأرواح البتة بل ولا على أن الأرواح بقيت على حالها بل في بعض الأحاديث أه ردها إلى صلب آدم ولم يقل إسحاق ولا غيره من المسلمين: أن مستقر الأرواح حيث منقطع العناصر بل وليس هذا من جنس كلام المسلمين بل من جنس كلام المتفلسفة.
وقد خرج ابن جرير الطبري في كتاب الأدب له من طريق أبي معشر عن محمد بن كعب عن المغيرة بن عبد الرحمن قال: قال سلمان لعبد الله بن سلام: إن مت قبلي فأخبرني عمن تلقى وإن مت قبلك أخبرتك بما ألقى فقال له الناس: يا عبد الله كيف تخبرنا وقد مت؟ قال: ما من روح تقبض من جسد إلا كانت بين السماء والأرض حتى يرده في جسده الذي أخذ منه هذا لا يثبت وهو منقطع وأبو معشر: ضعيف وقد سبق رواية سعيد بن المسيب لهذه القصة بغير هذا اللفظ وهو الصحيح.
وقد تقدم في سؤال عبد الله بن الإمام أحمد لأبيه عن الأرواح هل تموت بموت الأجساد؟ وهذا يدل على أن هذا قد قيل أيضا وهو كذلك.
وقد حكى عن طائفة من المتكلمين وذهب إليه جماعة من فقهاء الأندلس قديما منهم عبد الأعلى بن وهب بن محمد بن عمر بن لبابة ومن متأخريهم كالسهيلي وأبي بكر بن العربي وغيرهما قال أبو الوليد بن الفرضي في “تاريخ الأندلس”: أخبرني سليمان بن أيوب قال: سألت محمد بن عبد الملك بن أيمن عن الأرواح؟ فقال لي: كان محمد بن عمر بن لبابة يذهب إلى أنها تموت وسألته عن ذلك؟ فقال: كان يذهب عبد الأعلى بن وهب فيما قال ابن أيمن فقلت له: إن عبد الأعلى كان قد طالع كتب المعتزلة ونظر في كلام المتكليمن فقال: إنما قلدت عبد الأعلى ليس من هذا شيء انتهى.
وقد استدل أرباب هذا القول بقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185].
وقد حق كما أخبر الله به لا مرية فيه لكن الشأن في فهم معناه فإن النفس يراد بها مجموع الروح والبدن.
كما في قوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس].
وقوله سبحانه وتعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32].
وقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29].
وقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38].
وقوله تعالى: {يَوْمَ تَاتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل: 111].
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: “ما من نفس منفوسة إلا الله خالقها” 1.
أخرجه البخاري “ح 7409″، “ح 1438”.
وقوله عليه السلام: “ما من نفس منفوسة اليوم يأتي عليها مائة سنة وهي حية يومئذ” 2.
أخرجه مسلم “ح 2538”.
وفي رواية: “لا يأتي مائة سنة وعلى الأرض نفس منفوسة اليوم” 3.
أخرجه مسلم “ح 2539″.
والمراد موت الأحياء الموجودين في يومه ذلك ومفارقة أرواحهم لأبدانهم قبل المائة سنة ليس المراد عدم أرواحهم واضمحلالها فكذلك قوله سبحانه وتعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}، إنما ارماد كل مخلوق فيه حياة فإنه يذوق الموت وتفارق روحه بدنه فإن أراد أنها تعدم وتتلاشى فليس بحق وقد اشتد نكير العلماء لهذه المقالة حتى قال سحنون بن سعيد
وغيره: هذا قول أهل البدع والنصوص الكثيرة الدالة على بقاء الأرواح بعد مفارقتها الأبدان ترد ذلك وتبطله ولكن تخيل بعض المتأخرين موت الأرواح عند النفخة الأولى مستدلا بقوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68]، ورد عليه آخرون وقالوا: إنما المراد به يموت من لم يكن مات قبل ذلك ولكن ورد عن طائفة من السلف في قوله: {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} أن المستثنى هم الشهداء روي ذلك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الطور الطويل ومن وجه آخر بإسناد أجود من إسناد حديث الطور وهذا يدل على أن للشهداء حياة يشاركون فيها الأحياء وقد قيل في الأنبياء مثل ذلك أيضا.
وعلى هذا حمل طائفة من العلماء منهم البيهقي وأبو العباس القرطبي قول النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى}، ” فأكون أنا أول من يبعث فإذا موسى آخذ بالعرش فلا أدري أجوزي بصعقة الطور أم بعث قبلي” وفي رواية: “أو كان ممن استثنى الله”
أخرجه بنحوه البخاري “ح 34ز8″، ومسلم “ح 2373″، ورواه بهذا اللفظ ابن ماجه “ح 4274”.
ولأن حياة الأنبياء أكمل من حياة الشهداء بلا ريب فشملهم حكم الأحياء أيضا ويصعقون مع الأحياء حينئذ لكن صعقة غشي لا صعقة موت إلا موسى تردد فيه أصعق أم كان ممن استثنى الله، صلى الله عليه وسلم لا محال، فكيف يتردد النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كله؟!.
والفرق بين حياة الشهداء وغيرهم من المؤمنين الذين أرواحهم في الجنة من وجهين:
أحدهما: أن أرواح الشهداء يخلق لها أجساد أو هي الطير التي تكون في حواصلها ليكمل بذلك نعيمها ويكون أكمل من نعيم الأرواح المجردة عن الأجساد فإن الشهداء بذلوا أجسادهم للقتل في سبيل الله فعوضوا عنها بهذه الأجساد في البرزخ.
والثاني: أنهم يرزقون من الجنة وغيرهم لم يثبت له في حقه مثل ذلك فإنه جاء أنهم يعلقون في شجر الجنة وروي يعلقون بفتح اللام وضمها فقيل: إنهما بمعنى وأن المراد الأكل من الشجر قال ابن عبد البر وقيل: رواية الضم معناها الأكل ورواية
الفتح معنا التعلق ذكره ابن الجوزي وبكل حال فلا يلزم مساواتهم للشهداء في كمال تنعمهم في الأكل والله أعلم.
وقد ذهب طائفة من المتكلمين إلى أن الروح عرض لا تبقى بعد الموت وحملوا ما وردد من عذاب الأرواح ونعميها بعد الموت على أحد أمرين:
1 – إما أن العرض الذي هو الحياة يعاد إلى جزء من البدن.
2 – أو على أن يخلق في بدن آخر.
وهذا الثاني باطل قطعا لأنه يلزم منه أن يعذب بدن غير بدن الميت مع روح غير روحه فلا يعذب حينئذ بدن الميت ولا روحه ولا ينعمان أيضا وهذا باطل قطعا والأول باطل أيضا بالنصوص الدالة على بقاء الروح منفردة عن البدن بعد مفارقتها له وهي كثيرة جدا وقد سبق ذكر بعضها.
وقد احتج بعضهم على فناء الأرواح وموتها بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل المقابر قال: “السلام عليكم أيتها الأرواح الفانية والأبدان البالية والعظام النخرة التي خرجت من الدنيا وهي بالله مؤمنة اللهم أدخل عليهم روحا منك وسلاما منا” وهذا الحديث خرجه ابن السني من حديث عبد الوهاب بن جابر التيمي حدثنا حبان بن علي عن الأعمش عن أبي رزين عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا لا يثبت رفعه وعبد الوهاب لا يعرف وحبان ضعيف ولو صح، حمل على أنه أراد بفناء الأرواح ذهابها من الأجساد المشاهدة كما في قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] وبعض الأبدان باقية كأجساد الأنبياء وغيرهم وإنما تفارق أرواحها أجسادها.
وذكر عن ابن عباس أنه سئل أين تكون الأرواح إذا فارقت الأجساد؟ فقال: أين يكون السراج إذا طفي والبصر إذا عمي ولحم المريض إذا مرض؟ فقالوا: إلى أين؟ قال: فكذا الأرواح وهذا لا يصح عن ابن عباس والله أعلم.