1219 فتح الاحد الصمد شرح الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير، وعبدالحميد البلوشي، وكديم، ومحمد البلوشي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى ، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا).
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
قال الشيخ مقبل الوادعي في الصحيح المسند (ج2/ رقم 1219):
مسند أبي حُمَيْدٍ رضي الله عنه
١٢١٩ – قال الإمام أحمد رحمه الله (ج ٥ ص ٤٢٥): حدثنا أبو عامر حدثنا سليمان بن بلال عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن عبد الملك بن سعيد بن سويد عن أبي حميد وأبي أسيد: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال «إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم وتلين له أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم قريب، فأنا أولاكم به، وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم، وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم بعيد فأنا أبعدكم منه».
وشك فيهما عبيد بن أبي قرة فقال: عن أبي حميد أو أبي أسيد، وقال: «ترون أنكم منه قريب».
وشك أبو سعيد في أحدهما في: «إذا سمعتم الحديث عني».
هذا حديث حسنٌ.
وهو لا ينفي النظر في رجال السند، وسلامة المتن من العلة والشذوذ للأدلة الأخرى، وليس للصوفية فيه حجة أنهم يصححون ما شاؤوا، بل لا بد من الرجوع إلى قواعد المصطلح، والله أعلم.
الحديث أخرجه البزار كما في «كشف الأستار» (ج ١ ص ١٠٥) فقال رحمه الله: حدثنا محمد بن المثنى، ثنا أبو عامر، حدثنا سليمان بن بلال، عن ربيعة بن عبد الرحمن، عن عبد الملك بن سعيد بن سويد، قال: سمعت أبا حميد وأبا أسيد يقولان … وذكر الحديث.
وقال بعده: لا نعلمه يروى من وجه أحسن من هذا.
===================
الحديث سبق في مسند أبي أسيد رضي الله عنه 1207 في الصحيح المسند وبيان تعليل الأئمة له
الحديث سيكون من وجوه:
الوادعي رحمه الله جعله في الجامع الصحيح:
في ١ – كتاب العلم، جعله في بابين: ١١٨ – تأويل الحديث الذي ظاهره الشناعة أو رده، (١٧٠، ١٧١).
و١٤٥ – العلماء الراسخون في علم السنة يعلمون أن الحديث المكذوب ليس من حديث رسول الله ﷺ. (٢٨٨، ٢٨٩).
و١٤ – كتاب الشمائل المحمدية، ٩ – حسن أخلاقه ﷺ، (٢١٤٠، ٢١٤١).
وفي (صحيح ابن حبان): كتاب العلم، ذِكْرُ الإخْبارِ عَمّا يُسْتَحَبُّ لِلْمَرْءِ كَثْرَةُ سَماعِ العِلْمِ، ثُمَّ الِاقْتِفاءُ والتَّسْلِيمُ، (٦٣). حسن – «الصحيحة» (٧٣٢).
وفي (غاية المقصد فى زوائد المسند) للهيثمي رحمه الله، كتاب العلم، باب معرفة أهل الحديث صحيحه وضعيفه، (٢٢١).
وقال الألباني رحمه الله في (سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم (٧٣٢)): “رواه ابن سعد (١ / ٣٨٧ – ٣٨٨): أخبرنا عبد الملك بن مسلمة ابن قعنب قال:
أخبرنا سليمان بن بلال عن ربيعة عن عبد الملك بن سعيد عن أبي حميد أو أبي
أسيد مرفوعا.
قلت –أي الألباني رحمه الله-: وهذا سند حسن، وهو على شرط مسلم، ورواه عبد الغنى المقدسي في «العلم» (٢ / ٤٣ / ٢) من طريق أخرى عن سليمان بن بلال به.
ورواه ابن وهب في «المسند» (٨ / ١٦٤ / ٢) أخبرني القاسم بن عبد الله عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن به. وابن حبان (٩٢) والبزار كما في «الأحكام الكبرى» رقم (١٠١)، وبينت في تعليقي عليه وجه كونه حسنا ومن صححه، وأن الحديث (خاص بطبقة معينة من أهل العلم)
وأخرجه البخاري في «التاريخ الكبير» (٢ / ١ / ٤٣٤) من طريق ابن أبي ذئب عن
سعيد المقبري عن النبي ﷺ نحوه، وقال يحيى عن أبي هريرة وهو وهم ليس فيه أبو هريرة، إنما هو سعيد بن كيسان. قلت: فهو شاهد مرسل قوي.”. انتهى.
وقال محققو المسند [ط: الرسالة، برقم (١٦٠٥٨)]: “إسناده صحيح على شرط مسلم كسابقه.
وأخرجه البزار (١٨٧) (زوائد)، وابن حبان (٦٣) من طريق أبي عامر العقدي، بهذا الإسناد. وقال البزار: لا نعلمه يروى من وجه أحسن من هذا.
وأخرجه ابن سعد ١/٣٨٧ عن عبد الله بن مسلمة القعنبي، عن سليمان بن بلال، به. إلا أن في المطبوع منه: عن أبي حُميد أو أبي أُسيد على الشك.
وأورده الهيثمي في «مجمع الزوائد» ١/١٤٩- ١٥٠، وقال: رواه أحمد والبزار، ورجاله رجال الصحيح.
وقد سلف نحوه من حديث أبي هريرة (٨٨٠١)، وسيكرر ٥/٤٢٥ سندًا ومتنًا.
قال السندي: قوله: «إذا سمعتم الحديث عني»، أي: مرويًا عني، وهذا إنما يكون إذا سمع من غيره لا منه ﷺ، ولذلك عُدِّي بعن لا بمن، إذِ السماع منه لا يتصور فيه ذلك.
قوله: «تعرفه قلوبكم»، أي: يقبله القلب، ولا يلحق به الوحشة للنفس، وهذا إما بالعرض على أصول الدين المعلومة، فإذا لم يكن مخالفًا يقبله القلب، أو بمعرفة رجال الإسناد، فإنهم إذا كانوا ثقاتٍ أثباتًا يتسارع القلب إلى القبول، ويحتمل أن يكون هذا الحديث من قبيل “استفتِ قلبك، البِرُّ ما اطمأنت إليه النفس، وأطمأنّ إليه القلبُ، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك «حديث حسن، رواه أحمد [٤/٢٢٨] والدارمي [٢/٢٤٦] وغيرهما كما في الأربعين للنووي، رحمه الله تعالى.
وهذا محمول على الأمر المشتبه، وإلا فما ثبت الأمرُ به في الشرع بلا معارض فهو برّ، وما ثبت النهي عنه كذلك فهو إثم، والمراد أن قلب المؤمن ينظر بنور الله إذا كان قوي الإيمان …، وهذا يقتضي أنه ينبغي الرجوعُ إلى الأصول المعلومة الثابتة من الدين فيما اشتبه من الحديث، والله تعالى أعلم.”. انتهى.
الأول: شرح الحديث:
“لعله: (وتُرون) يعني: تظنون، أما (تَرون) بالفتح تعلمون…، هذا الحديث يحتاج إلى تأمل في صحة هذا المعنى؛ لأن فيه فتح باب أن الإنسان يقول: هذا الحديث مناسب، لكن لو صح فهو محمول على أهل العلم والفقه”. [ شرح صحيح ابن حبان – الراجحي].
وقوله: “((إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم)) تقبله وتعلم أنه من كلامي وطريقتي وتقبل ما فيه من المعاني وأنها من هديي، ((وتلين له أشعاركم وأبشاركم)) تنشط له ولا تقشعر منه ولا تأباه وتنفر عنه، ((وترون أنه منكم قريب)) ترون ما فيه من أمر ونهي وترغيب وتزهيد مما تأتون به وتنتهون عنه، ((فأنا أولاكم به)).
واعلم أنه ﷺ بعث متمما لمكارم الأخلاق داعيًا إلى دار السلام، مذكرًا للمؤمنين منذرًا للعاصين مزهدًا في الدنيا مرغبًا في الأخرى، واصفًا لربه بأشرف الصفات وأتمها وأكملها، مخبرًا برسله بتصديق بعضهم بعضًا في دعاء الخلق إلى الله تعالى، آمرًا بكل معروف ناهيًا عن كل منكر،
وهذا واضح للقلوب العارفة بالله ورسله وقلوب العلماء الممارسين لكلامه ﷺ، كان يقول بعض علماء السنة: إني لأعرف نفس رسول الله ﷺ وكلامه كما يعرف الشعراء من مارس كلامهم نفس بعضهم من بعض. وهذا ما أفاده قوله: ((وإذا سمعتم الحديث)) ينقل لكم ((عني تنكره قلوبكم، وتنفر عنه أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه بعيد منكم)) تقدم تفسير قربه منهم فالبعيد ضده، ((فأنا أبعدكم منه))، فهذا تبعيد للعلماء العارفين وأئمة الدين فيما يسمعونه من الأحاديث ومعيار صادق في ذلك، (حم ع عن أبي أسيد) بضم الهمزة عن خط المصنف، قال والصواب خلافه وهو الساعدي صحابي معروف (وأبي حميد) تقدم الكلام عليه رمز المصنف لضعفه وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح”. انتهى من التنوير شرح الجامع الصغير للصنعاني رحمه الله تعالى.
وفي حاشية (صحيح موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان): “هذا الخطاب النبوي الكريم خاص بالمقربين منه ﷺ من أصحابه، والملازمين له في كل أحواله، العارفين بسنته وهديه، ثم الذين ساروا على منهجهم وهديهم من أهل العلم بالكتاب والسنة الصحيحة أمثال الإمام أحمد وابن معين وابن المديني والبخاري ومسلم، وابن أبي حاتم، وابن حبان، ونحوهم من الأئمة النقاد؛ كالذهبي والعسقلاني، وما أقلهم في كل زمان، وبخاصة في زماننا هذا.
وهو أصل لما يعرف عند المحدثين بنقد المتن، ومنه الحديث المنكر والشاذ، وما أحسن ما قاله ابن القيم – رحمه الله – في رسالته «المنار المنيف» (ص ٤٣): «وسئلت: هل يمكن معرفة الحديث الموضوع بضابط؛ من غير أن ينظر في سنده؟
فهذا سؤال عظيم القدر، وإنما يعلم ذلك من تضلع في معرفة السنن الصحيحة واختلطت بلحمه ودمه، وصار له فيها مَلَكَةٌ، وصار له اختصاص شديد بمعرفة السنن والآثار، ومعرفة سيرة رسول الله ﷺ وهديه؛ فيما يأمر به، وينهى عنه، ويخبر عنه، ويدعو إليه، ويحبه، ويكرهه، ويشرعه لأمته، بحيث كأنه مخالط للرسول ﷺ كواحد من أصحابه.
فمثل هذا؛ يعرف – من أحوال الرسول وهديه وكلامه، وما يجوز أن يخبر به، وما لا يجوز – ما لا يعرفه غيره، وهذا شأن كل متبع مع متبوعه؛ فإن للأخص به، الحريص على تتبع أقواله وأفعاله – من العلم بها، والتمييز بين ما يصح أن ينسب إليه وما لا يصح – ما ليس لمن لا يكون كذلك، وهذا شأن المقلدين مع أئمتهم، يعرفون أقوالهم ونصوصهم، والله أعلم».
وما أحسن ما قاله بعضهم:
أهل الحديث همو أهل النبي وإن … لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا”. انتهى من الحاشية.
وسيأتي كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله في محله إن شاء الله تعالى فيما يتعلق بذلك.
الثاني: مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى):
ذكر الحافظ ابن رجب – رحمه الله – بحثًا نفيسًا يتعلّق بهذه الأحاديث، فقال بعد أن أوردها: وهذه الأحاديث مشتملة على تفسير البرّ والإثم، وبعضها في تفسير الحلال، والحرام، فحديث النّوّاس بن سِمعان فسّر به النبيّ ﷺ البرّ بحُسن الخُلُق، وفسّره في حديث وابصة [يقصد رحمه الله: حديث وابصة – رضي الله عنه -: هو ما أخرجه أحمد في «مسنده» (٤/ ٢٢٨) عن وابصة بن معبد – رضي الله عنه -، قال: أتيت رسول الله ﷺ، وأنا أريد أن لا أدع شيئًا من البرّ والإثم إلّا سألته عنه، وحوله عصابة من المسلمين، يستفتونه، فجعلت أتخطاهم، فقالوا:
«إليك يا وابصة عن رسول الله ﷺ»، فقلت: دعوني، فأدنوَ منه، فإنه أحب الناس إليّ أن أدنو منه، قال: «دعوا وابصة، ادْنُ يا وابصة» مرتين، أو ثلاثًا، قال: فدنوت منه، حتى قعدت بين يديه، فقال: «يا وابصة أخبرك، أو تسألني؟» قلت: لا، بل أخبرني، فقال: «جئت تسألني عن البرّ والإثم»، فقال: نعم، فجَمَع أنامله، فجعل ينكت بهنّ في صدري، ويقول: “يا وابصة استفت قلبك، واستفت نفسك – ثلاث مرات – البرّ ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في النفس، وتردّد في الصدر، وإن أفتاك الناس، وأفتوك». انتهى.
قال النوويّ – رحمه الله – في «الأربعين»: حديث حسن، وكذا حسّنه الألبانيّ – رحمه الله – لغيره، وضعّفه ابن رجب، لضعف بعض رجاله، ولانقطاعه، راجع: «جامع العلوم والحكم» ٢/ ٩٣ – ٩٤.
قال الجامع -أي: الأثيوبي- عفا الله عنه: الذي يظهر لي أن تحسينه لشواهده هو الحقّ، فإن أحاديث الباب التي أوردناها في الشرح تشهد له، فتأملها بالإمعان، وبالله تعالى التوفيق(حاشية البحر الثجاج)] وغيره بما اطمأنت إليه النفس والقلب، كما فسَّر الحلال والحرام بذلك في حديث أبي ثعلبة، وإنما اختُلِف في تفسير البرّ؛ لأنّ البرّ يُطلق باعتبارين معيَّنين:
أحدهما: باعتبار معاملة الخَلْق بالإحسان إليهم، وربما خُصّ بالإحسان إلى الوالدين، فيقال: برّ الوالدين، ويُطلق كثيرًا على الإحسان إلى الخَلْق عمومًا، وقد صنّف ابن المبارك كتابًا سمّاه»كتاب البرّ والصلة«، وكذلك في »صحيح البخاريّ«، و»جامع الترمذيّ«، و»كتاب البرّ والصلة«، ويتضمن هذا الكتاب الإحسان إلى الخَلْق عمومًا، ويقدَّم فيه برّ الوالدين على غيرهما.
ومن هذا المعنى قول النبيّ ﷺ:»الحج المبرور ليس له جزاء إلّا الجَنَّة«.
وفي»المسند«أنه ﷺ سئل عن بِرّ الحج، فقال:»إطعام الطعام، وإفشاء السلام«، وفي رواية أخرى:»قال: وطِيب الكلام«، وكان ابن عمر – رضي الله عنهما – يقول: البرّ شيء هَيِّن: وجهٌ طَلْقٌ، وكلامٌ ليّن.
وإذا قُرن البرّ بالتقوي، كما في قوله تعالى: ﴿وتَعاوَنُوا عَلى البِرِّ والتَّقْوى﴾ [المائدة ٢]
فقد يكون المراد بالبرّ: معاملة الخلق بالإحسان، وبالتقوى: معاملة الحقّ بفعل طاعته، واجتناب محرماته، وقد يكون أريدَ بالبرّ فِعْل الواجبات، وبالتقوى اجتناب المحرمات، وقوله تعالى: ﴿ولا تَعاوَنُوا عَلى الإثْمِ والعُدْوانِ﴾ [المائدة ٢] قد يراد بالإثم: المعاصي، وبالعدوان: ظُلْم الخَلْق، وقد يراد بالإثم: ما هو محرّم في نفسه، كالزنا، والسرقة، وشُرْب الخمر، وبالعدوان: تجاوُز ما أُذن فيه إلى ما نُهي عنه مما جنسه مأذون فيه، كقَتْل ما أبيح قَتْله بقصاص، ومن لا يباح فيه، وأخْذ زيادة على الواجب من الناس في الزكاة، ونحوها، ومجاوزة الجَلْد الذي أُمر به في الحدود ونحو ذلك.
والمعنى الثاني من معنى البرّ: أن يراد به فِعْل جميع الطاعات الظاهرة والباطنة؛ كقوله تعالى: ﴿لَيْسَ البِرَّ أنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ ولَكِنَّ البِرَّ مَن آمَنَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ والمَلائِكَةِ والكِتابِ والنَّبِيِّينَ وآتى المالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبى واليَتامى والمَساكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ والسّائِلِينَ وفِي الرِّقابِ وأقامَ الصَّلاةَ وآتى الزَّكاةَ والمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذا عاهَدُوا والصّابِرِينَ فِي البَأْساءِ والضَّرّاءِ وحِينَ البَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ (١٧٧)﴾ [البقرة ١٧٧]، وقد رُوي عن النبيّ ﷺ أنه سئل عن الإيمان، فتلا هذه الآية،
وقد يكون جواب النبيّ ﷺ في حديث النّوّاس شاملًا لهذه الخصال كلِّها؛ لأنّ حُسْن الخُلُق قد يراد به التخلق بأخلاق الشريعة، والتأدب بآداب الله تعالى التي أدّب بها عباده في كتابه، كما قال لرسوله ﷺ: ﴿وإنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤)﴾ [القلم ٤]، وقالت عائشة – رضي الله عنها -: كان خُلُقه ﷺ القرآن، تعني: أنه يتأدّب بآدابه، فيفعل أوامره، ويتجنب نواهيه، فصار العمل بالقرآن له خُلُقًا، كالجبلَّة، والطبيعة، لا يفارقه، وهذا من أحسن الأخلاق، وأشرفها، وأجملها، وقد قيل: إن الدين كلّه خُلُقٌ.
وأما في حديث وابصة، فقال: «البر ما اطمأنّ إليه القلب، واطمأنت إليه النفس»، وفي رواية: «ما انشرح إليه الصدر»، وفسّر الحلال بنحو ذلك، كما في حديث أبي ثعلبة وغيره،
وهذا يدلّ على أنّ الله فَطَر عباده على معرفة الحقّ، والسكون إليه، وقَبوله، ورَكز في الطباع محبة ذلك، والنفور عن ضدّه، وقد يدخل هذا في قوله في حديث عياض بن حِمار: “إني خَلَقت عبادي حنفاء، مسلمين، فأتتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم، فحرَّمَتْ عليهم ما
أحللتُ لهم، وأمَرَتْهم أن يُشركوا بي ما لَمْ أُنَزِّل به سلطانًا«، وقولِهِ:»كلّ مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه، أو ينصرانه، أو يمجّسانه، كما تُنتج البهيمة بهيمةً جمعاء، هل تحسُّون فيها من جدعاء؟ «، قال أبو صريرة – رضي الله عنه -:»اقرأوا إن شئتم: ﴿فَأقِمْ وجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ الآية [الروم ٣٠]، ولهذا سَمّى الله تعالى ما أمره به معروفًا، وما نهى عنه منكرًا، فقال تعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ والإحْسانِ وإيتاءِ ذِي القُرْبى ويَنْهى عَنِ الفَحْشاءِ والمُنْكَرِ والبَغْيِ﴾ الآية [النحل ٩٠]، وقال تعالى في صفة الرسول ﷺ: ﴿ويُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ ويُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبائِثَ﴾ الآية [الأعراف ١٥٧]، وأخبر أن قلوب المؤمنين تطمئنّ بذكره، فالقلب الذي دخله نور الإيمان، وانشرح به، وانفسح سكن للحقّ، واطمأنّ به، ويقبله، وينْفُر عن الباطل، ويكرهه، ولا يقبله.
وقال معاذ بن جبل – رضي الله عنه -: احَذِّركم زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلال على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحقّ، فقيل لمعاذ: ما يدريني أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة، وأن المنافق قد يقول كلمة الحقّ؟ قال: اجتَنِب من كلام الحكيم المشتهرات التي يقال: ما هذه؟ ولا يَثنِينّك ذلك عنه، فإنه لعله أن يراجع، وتلقّ الحقَّ إن سمعته، فإن على الحقّ نورًا. خرّجه أبو داود، وفي رواية له: قال: بل ما تشابه عليك من قول الحكيم حتى تقول: ما أراد بهذه الكلمة؟
فهذا يدلّ على أنّ الحقّ والباطل لا يلتبس أمرهما على المؤمن البصير، بل يَعْرِف الحقّ بالنور عليه، فيقبله قلبه، وينفر عن الباطل، فينكره، ولا يعرفه.
ومن هذا المعنى قول النبيّ ﷺ: «سيكون في آخر الزمان قوم يُحدّثونكم بما لا تسمعون أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم»؛ يعني: أنهم يأتون بما تستنكره قلوب المؤمنين، ولا تعرفه، وفي قوله: «أنتم ولا آباؤكم» إشارة إلى أن ما استقرّت معرفته عند المؤمنين، مع تقادم العهد، وتطاول الزمان، فهو الحقّ، وأن ما أُحدث بعد ذلك، فما يُستنكَر فلا خير فيه.
فدلّ حديث وابصة – رضي الله عنه -، وما في معناه على الرجوع إلى القلوب عند الاشتباه، فما سكن إليه القلب، وانشرح إليه الصدر، فهو البرّ، والحلال، وما كان خلاف ذلك، فهو الإثم، والحرام.
وقوله في حديث النوّاس بن سِمعان – رضي الله عنه -: «الإثم ما حاك في الصدر، وكَرِهت أن يطّلع عليه الناس» إشارة إلى أن الإثم ما أثّر في الصدر حرجًا، وضِيقًا، وقَلَقًا، واضطرابًا، فلم ينشرح له الصدر، ومع هذا فهو عند الناس مستنكر، بحيث ينكرونه عند اطّلاعهم عليه، وهذا أعلى مراتب معرفة الإثم عند الاشتباه، وهو ما استنكر الناس فاعله، وغير فاعله.
ومن هذا المعنى قول ابن مسعود – رضي الله عنه -: ما رآه المؤمنون حسنًا، فهو عند الله حسنٌ، وما رآه المؤمنون قبيحًا فهو عند الله قبيح.
وقوله في حديث وابصة، وأبي ثعلبة: «وإن أفتاك المفتون»؛ يعني: أن ما حاك في حدر الإنسان، فهو إثم، وإن أفتاه غيره بأنه ليس بإثم، فهذه مرتبة ثانية، وهو أن يكون الشيء مستنكَرًا عند فاعله، دون غيره، وقد جعله أيضًا إثْمًا،
وهذا إنما يكون إذا كان صاحبه ممن شُرِح صدره للإيمان، وكان المفتي يفتي له بمجرد ظنّ، أو ميل إلى هوي، من غير دليل شرعيّ، فأما ما كان مع المفتي به دليل شرعيّ، فالواجب على المستفتي الرجوع إليه، وإن لَمْ ينشرح له صدره، وهذا كالرخصة الشرعية، مثل الفِطْر في السفر، والمرض، وقَصْر الصلاة في السفر، ونحو ذلك، مما لا ينشرح به صدور كثير من الجهال، فهذا لا عبرة به،
وقد كان النبيّ ﷺ أحيانًا يأمر أصحابه بما لا تنشرح به صدور بعضهم، فيمتنعون من قوله، فيغضب من ذلك، كما أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة، فكرهه من كرهه منهم، وكما أمرهم بنحر هَدْيهم، والتحلل من عمرة
الحديبية، فكرهوه، وكرهوا مفاوضته لقريش على أنّ يرجع من عامه، وعلى أنّ من أتاه منهم يردّه إليهم.
وفي الجملة، فما ورد النصّ به، فليس للمؤمن إلّا طاعة الله تعالى ورسوله ﷺ، كما قال تعالى: ﴿وما كانَ لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إذا قَضى اللَّهُ ورَسُولُهُ أمْرًا أنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِن أمْرِهِمْ﴾ الآية [الأحزاب ٣٦]، وينبغي أن يُتَلَقّى ذلك بانشراح الصدر والرضا، فإن ما شرعه الله تعالى ورسوله ﷺ يجب الإيمان، والرضا به، والتسليم له، كما قال تعالى: ﴿فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (٦٥)﴾ [النساء ٦٥].
وأما ما ليس فيه نصّ من الله، ولا رسوله ﷺ، ولا عمن يُقتدى بقوله من الصحابة، وسلف الأمة، فإذا وقع في نفس المؤمن المطمئنّ قلبه بالإيمان، المنشرح صدره بنور المعرفة واليقين، منه شيءٌ، وحَكّ في صدره بشبهة موجودة، ولم يجد من يفتي فيه بالرخصة إلّا من يُخْبر عن رأيه، وهو ممن لا يوثَق بعلمه، وبدينه، بل هو معروف باتباع الهوي، فهنا يرجع المؤمن إلى ما حاك في صدره، وإن أفتاه هؤلاء المفتون.
وقد نَصّ الإمام أحمد على مثل هذا أيضًا، قال المروزيّ في «كتاب الورع»: قلت لأبي عبد الله: إن القُطَيعة أرفق بي من سائر الأسواق، وقد وقع في قلبي من أمرها شيء، فقال: أمْرها أمر قذر، متلوث، قلت: فتكره العمل فيها؛ قال: دع عنك هذا، إن كان لا يقع في قلبك شيء، قلت: قد وقع في قلبي منها، فقال: قال ابن مسعود: الإثم حَوّاز القلب، قلت: إنما هذا على المشاورة، قال: أي شيء يقع في قلبك؛ قلت: قد اضطرب على قلبي، قال:
الإثم هو حوّاز القلوب.
قال ابن رجب – رحمه الله -: وقد سبق في شرح حديث النعمان بن بشير – رضي الله عنهما -: «الحلال بَيّن، والحرام بين» (تقدّم في»البحر المحيط” برقم [٤١/ ٤٠٨٧] (١٥٩٩))، وفي شرح حديث الحسين بن عليّ – رضي الله عنهما -: «دع ما يريبك …»، وشرح حديث: «إذا لَمْ تستح فاصنع ما شئت»، شيء يتعلق بتفسير هذه الأحاديث المذكورة ههنا.
وقد ذكر طوائف من الفقهاء من الشافعية، والحنفية، المتكلمين في أصول الفقه مسألة الإلهام هل هو حجّة أم لا؟ وذكروا فيه اختلافًا بينهم، وذكر طائفة من أصحابنا – يعني: الحنبليّة – أن الكشف ليس بطريق إلى الإحكام، وأخذه القاضي أبو يعلى من كلام أحمد في ذمّ المتكلمين في الوساوس، والخطرات، وخالفهم طائفة من أصحابنا في ذلك، وقد ذكرنا نصًّا عن أحمد ههنا بالرجوع إلى حَوّاز القلوب، وإنما ذَمّ أحمد وغيره المتكلمين على
الوساوس، والخطرات من الصوفية، حيث كان كلامهم في ذلك لا يستند إلى دليل شرعيّ، بل إلى مجرد رأي، وذوق، كما كان يُنكر الكلام في مسائل الحلال والحرام بمجرد الرأي، من غير دليل شرعيّ، فأما الرجوع إلى الأمور المشتبهة إلى حَوّاز القلوب، فقد دلت عليه النصوص النبوية، وفتاوي الصحابة، فكيف ينكره الإمام أحمد بعد ذلك؛ لا سيما، وقد نَصّ على الرجوع إليه موافقة لهم، وقد سبق الحديث: «إن الصدق طمأنينة، والكذب ريبة» (حديث صحيح)،
فالصدق يتميز من الكذب بسكون القلب إليه، ومعرفته، وبنفوره عن الكذب، وإنكاره، كما قال الربيع بن خُثيم: إن للحديث نورًا كنور النهار، تعرفه، وظلمةَ كظلمة الليل، تُنْكره.
وخرّج الإمام أحمد من حديث ربيعة، عن عبد الملك بن سعيد بن سويد، عن أبي حميد، وأبي أسيد بأن رسول الله ﷺ قال: «إذا سمعتم الحديث عني…. لكن هذا الحديث معلول، فإنه رواه بكرٍ بن الأشجّ عن عبد الملك بن سعيد، عن عباس بن سهل، عن أُبَيّ بن كعب من قوله، قال البخاريّ: هو أصح من يحيى بن آدم، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة، عن النبيّ ﷺ قال: «إذا حُدّثتم عني حديثأ تعرفونه، ولا تنكرونه، فصدقوه، فإني أقول ما يُعْرَف، ولا يُنكَر، وإذا حُدّثتم عني بحديث تنكرونه، ولا تعرفونه، فلا تصدّقوا
به، فإني لا أقول ما يُنْكَر، ولا يُعرَف»، وهذا الحديث معلول أيضًا، وقد اختلفوا في إسناده على ابن أبي ذئب، ورواه الحفاظ عنه، عن سعيد مرسلًا، والمرسل أصحّ عند الأئمة الحفاظ، منهم: ابن معين، والبخاريّ، وأبو حاتم الرازيّ، وابن خزيمة، وقال: ما رأيت أحدًا من علماء الحديث يُثْبت وصْله.
وإنما تُحمل مثل هذه الأحاديث على تقدير صحتها على معرفة أئمة أهل الحديث ممن يعلم هذا العلم، فيتفقون على الجواب فيه، من غير مواطأة، وقد امتُحِن هذا منهم غير مرّة، في زمن أبي زرعة، وأبي حاتم، فوُجِد الأمر على ذلك، فقال السائل: أشهد أن هذا العلم إلهام.
….وقيل له بعد موت أبي زرعة: تعرف اليوم أحدًا يعرف هذا؛ قال: لا.
وجاء بعد هؤلاء جماعة، منهم: النسائيّ، والعُقيليّ، وابن عديّ، والدارقطنيّ، وقلَّ من جاء بعدهم من هو بارع في معرفة ذلك، حتى قال أبو الفرج ابن الجوزيّ في أول كتابه«الموضوعات»: قَلّ من يفهم هذا، بل عُدم، والله أعلم. انتهى ما كتبه الحافظ ابن رجب – رحمه الله – بطوله [«جامع العلوم والحكم» للحافظ ابن رجب – رحمه الله – ٢/ ٩٥ – ١٠٨]، وهو بحث نفيسٌ، وتحقيق أنيس، والله تعالى أعلم.[نقله الأثيوبي في البحر الثجاج]
(المسألة الثانية): فيما يتعلق بالمفتي والمستفتي
أولاً: أن يكون عند المستفتِي من الورع عند الوقوع في الشبهات والحرام.
قال المناوي رحمه الله في فيض القدير: “(استفت نفسك) المطمئنة الموهوبة نورا يفرق بين الحق والباطل، والصدق والكذب”.
قال أبو العباس القرطبي رحمه الله تعالى: “لكنَّ هذا إنَّما يصحُّ ممَّن نوَّر الله قلبه بالعلم، وزيَّن جوارحه بالورع، بحيث يجد للشبهة أثراً في قلبه. كما يحكى عن كثير من سلف هذه الأمَّة، كما نقل عنهم في “الحلية” و”صفة الصَّفوة”، وغيرهما من كتب ذلك الشَّأن”.[ المفهم (4/492)].
قال محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله تعالى في شرح الأربعين: ” ( الإثم ما حاك في نفسك) أي: تردد وصرت منه في قلق ( ( وكرهت أن يطلع عليه الناس) ) لأنه محل ذم وعيب، فتجدك مترددا فيه وتكره أن يطلع الناس عليك.
وهذه الجملة إنما هي لمن كان قلبه صافيا سليما، فهذا هو الذي يحوك في نفسه ما كان إثما ويكره أن يطلع عليه الناس.
أما المتمردون الخارجون عن طاعة الله الذين قست قلوبهم فهؤلاء لا يبالون، بل ربما يتبجحون بفعل المنكر والإثم، فالكلام هنا ليس عاما لكل أحد بل هو خاص لمن كان قلبه سليما طاهرا نقيا؛ فإنه إذا هم بإثم وإن لم يعلم أنه إثم من قبل الشرع تجده مترددا يكره أن يطلع الناس عليه، وهذا ضابط وليس بقاعدة، أي علامة على الإثم في قلب المؤمن”.
قال الشيخ عبدالمحسن العباد حفظه الله تعالى: ” الذي اختلف فيه الإنسان يرجع إلى أهل العلم ممن يثق بعلمه ودينه في أمر يعمل به، فإذا أرشده من يثق بعلمه ودينه أخذ به، وأما استفتاء القلب فالمقصود بذلك: أن الإنسان إذا كان سأل عن شيء وأُخبر بأنه حلال، وكان في نفسه شيء منه أو غير مطمئن إليه أو أنه يعلم في هذا الأمر الخاص به ما يجعله غير مطمئن، فإن السلامة في ذلك أن يترك هذا الشيء الذي هو غير مطمئن إليه”[ شرح الأربعين النووية العباد].
ثانيًا:
قال ابن القيم رحمه الله :
“لا يجوز العمل بمجرد فتوى المفتي إذا لم تطمئن نفسه، وحاك في صدره من قبوله، وتردد فيها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : (استفت نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك) .
فيجب عليه أن يستفتي نفسه أولا، ولا تخلصه فتوى المفتي من الله إذا كان يعلم أن الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه ، كما لا ينفعه قضاء القاضي له بذلك ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (من قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من نار) .
والمفتي والقاضي في هذا سواء ، ولا يظن المستفتي أن مجرد فتوى الفقيه تبيح له ما سأل عنه إذا كان يعلم أن الأمر بخلافه في الباطن ، سواء تردد أو حاك في صدره ، لعلمه بالحال في الباطن ، أو لشكه فيه ، أو لجهله به ، أو لعلمه جهل المفتي ، أو محاباته في فتواه ، أو عدم تقيده بالكتاب والسنة ، أو لأنه معروف بالفتوى بالحيل والرخص المخالفة للسنة ، وغير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بفتواه ، وسكون النفس إليها” انتهى.[“إعلام الموقعين” (4/254)].
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
“أي : حتى وإن أفتاك مفتٍ بأن هذا جائز ، ولكن نفسك لم تطمئن ولم تنشرح إليه فدعه ، فإن هذا من الخير والبر ، إلا إذا علمت في نفسك مرضا من الوسواس والشك والتردد فلا تلتفت لهذا ، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما يخاطب الناس أو يتكلم على الوجه الذي ليس في قلب صاحبه مرض” انتهى. [“شرح رياض الصالحين” (2/284)].
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1- فيه استفتاء القلب فيما لا نص فيه.
2- وفي الحديثِ: التَّورُّعُ عن الوُقوعِ في الشُّبهاتِ والتَّحرُّزُ للنَّفسِ.
3- القلب السَّليم من الشَّهوات والشُّبُهات يُسْتَفْتَى. [البحر الثجاج]
جاء في (جامع العلوم والحكم):
4- إن الحق والباطل لا يلتبسان على المؤمن البصير.
5- إن الفتوى لا تزيل الشبهة إذا كان المستفتي ممن شرح الله صدره بنور الإيمان.
6- إن المستفتى يستفتى من هو أعلم منه وأتقى لله.
7- إن الإنسان لا يقدم على شيء لا تطمئن نفسه عليه. انتهى.
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى:
8 – جواز الرجوع إلى القلب والنفس لكن بشرط أن يكون هذا الذي رجع إلى قلبه ونفسه ممن استقام دينه؛ فإن الله عز وجل يؤيد من علم الله منه صدق النية.
9 – أن الصوفية وأشباههم استدلوا بهذا الحديث على أن الذوق دليل شرعي يرجع إليه؛ لأنه قال: ( استفت قلبك) فما وافق عليه القلب فهو بر.
فيقال: هذا لا يمكن لأن الله تعالى أنكر على من شرعوا دينا لم يأذن به الله، ولا يمكن أن يكون ما أنكره الله حقا أبدا.
ثم إن الخطاب هنا لرجل صحابي حريص على تطبيق الشريعة، فمثل هذا يؤيده الله عز وجل ويهدي قلبه حتى لا يطمئن إلا إلى أمر محبوب إلى الله عز وجل.
10 – أن لا يغتر الإنسان بإفتاء الناس لا سيما إذا وجد في نفسه ترددا؛ فإن كثيراً من الناس يستفتي عالما أو طالب علم فيفتيه ثم يتردد ويشك؛ فهل لهذا الذي تردد وشك أن يسأل عالما آخر؟
الجواب: نعم، بل يجب عليه أن يسأل عالما آخر إذا تردد في جواب الأول.
11 – أن المدار في الشرعية على الأدلة لا على ما أشتهر بين الناس؛ لأن الناس قد يشتهر عندهم شيء ويفتون به وليس بحق، فالمدار على الأدلة الشرعية، والله الموفق.
12- إن المؤمن الذي قلبه صافٍ سليم يحوك في نفسه الإثم وإن لم يعلم أنه إثم، بل يتردد فيه لقوله (( والإثم ما حاك في نفسك) ) وهو يخاطب النواس بن سمعان وأمثاله، وموقف الإنسان إذا حاك في نفسه شيء هل هو إثم أو غير إثم، أن يدع هذا؛ حتى يتبين لقوله صلى الله عليه وسلم ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) ولا تتجاسر فتقع في الشبهات ومن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
13- إن الرجل المؤمن يكره أن يطلع الناس على آثامه؛ لقوله ( ( وكرهت أن يطلع عليه الناس) ) أما الرجل الفاجر المتمرد فلا يكره أن يطلع الناس على آثامه، بل من الناس من يفتخر ويفاخر بالمعصية، كما يوجد في الفسقة الذين يذهبون إلى بلاد كلها فجور وخمور، ثم يأتي مفتخرا فيتحدث أنه فجر بكم إمرأة، وأنه شرب كم كأسا من الخمر فتكون السيئة عنده حسنة، ويكون مستهترا بأحكام الله عز وجل، ومثل هذا يستتاب فإن تاب وإلا قتل؛ لأن هذا من أعظم السخرية بدين الله عز وجل، يأتي يتبجح بما وصفه الله بأنه فاحشة كالزنى ويأتي يتبجح بشرب من لعن النبي صلي الله عليه وسلم شاربه فأين الدين وأين الإيمان.
وإذا عومل مثل هذا بما يستحق ارتدع كثير من الناس عن مثل هذه الأمور.
والله المستعان. انتهى من شرح الأربعين، بتصرف.
تنبيه: سبق التعليق على ما يتعلق بالباب في التعليق على صحيح مسلم كتاب البر والصلة والآداب، بَابُ تَفْسِيرِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ، وفي الصحيح المسند (ج2/ رقم 1207) مع بعض الإضافات.
وراجع أيضا شرحنا على الصحيح المسند (ج2/ رقم 1212):
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج ٤ ص ١٩٤): حَدَّثَنا زَيْدُ بْنُ يَحْيى الدِّمَشْقِيُّ، قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ العَلاءِ(١)، قالَ: سَمِعْتُ مُسْلِمَ بْنَ مِشْكَمٍ، قالَ: سَمِعْتُ الخُشَنِيَّ، يَقُولُ: قُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ، أخْبِرْنِي بِما يَحِلُّ لِي، ويُحَرَّمُ عَلَيَّ، قالَ: فَصَعَّدَ النَّبِيُّ ﷺ وصَوَّبَ فِيَّ النَّظَرَ، فَقالَ: «البِرُّ ما سَكَنَتْ إلَيْهِ النَّفْسُ، واطْمَأنَّ إلَيْهِ القَلْبُ، والإثْمُ ما لَمْ تَسْكُنْ إلَيْهِ النَّفْسُ، ولَمْ يَطْمَئِنَّ إلَيْهِ القَلْبُ، وإنْ أفْتاكَ المُفْتُونَ))
وقالَ: ((لا تَقْرَبْ لَحْمَ الحِمارِ الأهْلِيِّ، ولا ذا نابٍ مِنَ السِّباعِ)).