1216 فتح الاحد الصمد شرح الصحيح المسند
مشاركة: طارق أبي تيسير، وعبدالحميد البلوشي، وكديم، ومحمد البلوشي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى ، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
قال الشيخ مقبل الوادعي في الصحيح المسند (ج2/ رقم 1216):
مسند أبي جهيم
– قال الإمام أحمد (ج ٤ ص ١٦٩): حَدَّثَنا أبُو سَلَمَةَ الخُزاعِيُّ، حَدَّثَنا سُلَيْمانُ بْنُ بِلالٍ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ، أخْبَرَنِي بُسْرُ بْنُ سَعِيدٍ، قالَ: حَدَّثَنِي أبُو جُهَيْمٍ: أنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَلَفا فِي آيَةٍ مِنَ القُرْآنِ، فَقالَ هَذا: تَلَقَّيْتُها مِن رَسُولِ اللهِ ﷺ، وقالَ الآخَرُ: تَلَقَّيْتُها مِن رَسُولِ اللهِ ﷺ. فَسَألا النَّبِيَّ ﷺ، فَقالَ: «القُرْآنُ يُقْرَأُ عَلى سَبْعَةِ أحْرُفٍ، فَلا تُمارُوا فِي القُرْآنِ، فَإنَّ مِراءً فِي القُرْآنِ كُفْرٌ». هذا حديث صحيحٌ.
وقد اختلف فيه على بسر بن سعيد، فقال الإمام أحمد (ج ٤ ص ٢٠٤): حَدَّثَنا أبُو سَعِيدٍ (١) مَوْلى بَنِي هاشِمٍ قالَ ثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ يَعْنِى المَخْرَمِيَّ قالَ ثَنا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُسامَةَ بْنِ الهادِ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أبِي قَيْسٍ مَوْلى عَمْرِو بْنِ العاصِ عَنْ عَمْرِو بْنِ العاصِ: أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ قالَ «نَزَلَ القُرْآنُ عَلى سَبْعَةِ أحْرُفٍ، عَلى أيِّ حَرْفٍ قَرَأْتُمْ فَقَدْ أصَبْتُمْ، فَلاَ تَتَمارَوْا فِيهِ؛ فَإنَّ المِراءَ فِيهِ كُفْرٌ».
فلعله رُوِيَ عن بسر بن سعيد على الوجهين، والله أعلم.
قال الوادعي رحمه الله في الحاشية: “(١) في الأصل: ثنا سعيد. والصواب ما أثبتناه، واسم أبي سعيد عبد الرحمن بن عبد الله”.
===================
قال الشيخ الألباني: (صحيح) [حم] عن أبي جهيم. الروض النضير ١١٢٤، برقم (٤٤٤٤)، [صحيح الجامع الصغير وزيادته].
والوادعي رحمه الله جعله في الجامع:
1- كتاب العلم، ٧٤ – ما جاء في ذم الجدل لغير فائدة، (١١٥).
و33- كتاب التفسير، ٨ – أنزل القرآن على سبعة أحرف، (٣٨٥٢).
وسيأتي بإذن الله نقل الأحاديث التي لها تعلق بالباب من الجامع.
قال شعَيب الأرنؤوط وآخرون في تحقيقهم للمسند:
“إسناده صحيح على شرط الشيخين. أبو سلمة الخزاعي: هو منصور ابن سلمة.
وأخرجه الطبري في «تفسيره» ١/١٩ من طريق عبد الله بن وهب، عن سليمان بن بلال، بهذا الإسناد.
وأخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» ص٣٣٧ و٣٥٤ عن إسماعيل بن جعفر، عن يزيد بن خصيفة، به.
ولقصة الرجلين شاهد من حديث عمر بن الخطاب، سلف برقم (١٥٨).
ويشهد للمرفوع منه غير ما حديث، انظرها عند حديثي أبي هريرة السالفين برقم (٧٥٠٨) و(٧٩٨٩)”. انتهى.
في تخريج سنن أبي داود رحمه الله (٤٥٩٩ حتى ٤٦٠٨ ): “ورد في الصحيح المسند (١٢١٦)، من حديث أبي جهيم: ((القرآن يقرأ على سبعة أحرف، فلا تماروا في القرآن؛ فإن مراءً في القرآن كفر))، وعلقنا عليه بأنه ورد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وهو في الصحيح المسند (١٣١٨)، من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه، لكن ذكرنا في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن الدارقطني رجح رواية الثوري من طريق عمر بن أبي سلمة، وكذلك النسائي، وروايته ذكرها ابن عدي في الكامل”. انتهى. تخريج سنن أبي داود سيف الكعبي
ذكرنا في فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم (2665)، (٤٩) – كتاب: العلم، (١) – (بابُ: النَّهْيِ عَنِ أُتِّباعِ مُتَشابِهِ القُرْآنِ، والتَّحْذِيرِ مِن مُتَّبِعِيهِ، والنَّهْيِ عَنِ الِاخْتِلافِ في القُرْآنِ)، ذكر ما يتعلق بحديث الباب، والمراد بالاختلاف في القرآن، وما المراد بالمحكم والمتشابه والتأويل وأنواع ذلك.
والحديث ينتظم هنا على النحو التالي:
(المسألة الأولى): بعض ما ورد في الباب
قال الوادعي رحمه الله في (نشر الصحيفة): ذم الجدل والخصومات في الدين
قال سبحانه وتعالى: ﴿وكانَ الإنسانُ أكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾.
* قال الإمام أحمد رحمه الله (ج٦ ص٤٨):
حدثنا إسماعيل حدثنا أيوب عن عبد الله بن أبي مليكة عن عائشة قالت: قرأ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ﴿هُوَ الَّذِيَ أنزَلَ عَلَيْكَ الكِتابَ مِنهُ آياتٌ مُّحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتابِ وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ﴾ إلى قوله: ﴿أُولُواْ الألْبابِ﴾ فقال: «إذا رأيتم الذي يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم».
*قال الإمام أحمد رحمه الله (ج٤ص١٦٩):
ثنا أبو سلمة الخزاعي ثنا سليمان بن بلال حدثني يزيد بن خصيفة أخبرني بسر ابن سعيد قال حدثني أبو جهيم أن رجلين اختلفا في آية من القرآن فقال هذا: تلقيتها من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقال الآخر: تلقيتها من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقال الآخر: تلقيتها من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فسألا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: «القرآن يقرأ على سبعة أحرف فلا تماروا في القرآن فإن مراء في القرآن كفر».
هذا حديث صحيح.
وقد اختلف فيه على بسر بن سعيد فقال الإمام أحمد (ج٤ ص٣٠٤) ثنا أبو سعيد مولى بني هاشم قال ثنا عبد الله بن جعفر – يعني المخرمي- قال ثنا يزيد ابن بد الله بن أسامة بن الهاد عن بسر بن سعيد عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «نزل القرآن على سبعة أحرف فأي حرف قرأتم فقد أصبتم فلا تتماروا فيه فإن المراء فيه كفر».
فلعله روى عن بسر بن سعيد على الوجهين. والله أعلم.
* قال الإمام الترمذي رحمه الله (ج٩ص١٣٠):
حدثنا عبد بن حميد أخبرنا محمد بن بشر العبدي ويعلى بن عبيد عن حجاج بن دينار عن أبي غالب عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل» ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم هذه الآية: ﴿ما ضَرَبُوهُ لَكَ إلّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾.
هذا حديث حسن صحيح إنما نعرفه من حديث حجاج بن دينار وحجاج ثقة مقارب الحديث، وأبو غالب اسمه حزور.
الحديث أخرجه ابن ماجه (ج١ ص١٩).
* وقال البخاري رحمه الله (ج٨ص٢٠٩):
حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا يزيد بن إبراهيم التستري عن ابن أبي مليكة عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم هذه الآية: ﴿هُوَ الَّذِيَ أنزَلَ عَلَيْكَ الكِتابَ مِنهُ آياتٌ مُّحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتابِ وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأمّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنهُ ابْتِغاء الفِتْنَةِ وابْتِغاء تَأْوِيلِهِ﴾ إلى قوله: ﴿أُولُواْ الألْبابِ﴾، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم».
وأخرجه مسلم في أول كتاب العلم من «صحيحه» (ج٤ ص٢٠٥٣).
هذا وقد رواه ابن أبي مليكة عن عائشة ورواه القاسم عن عائشة ولا ضرر في ذلك فابن أبي مليكة قد سمع من عائشة فالحديث كيفما دار دار على ثقة.
* قال الإمام البخاري رحمه الله (ج٣ص١٠) حديث (١١٢٧):
حدثنا أبواليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني على بن حسين أن حسين بن علي أخبره أن علي بن أبي طالب أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم طرقه وفاطمه بنت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليلة فقال: «ألا تصليان؟» فقلت: «يا رسول الله أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف حين قلت له ذلك ولم يرجع إليّ شيئًا ثم سمعته وهو مولٍّ يضرب فخذه وهو يقول: ﴿وكانَ الإنسانُ أكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾.
أخرجه مسلم (ج١ص٥٣٧) فقال رحمه الله: وحدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن عقيل عن الزهري به.
* قال الإمام البخاري رحمه الله (ج٩ص١٠٤) حديث (٥٠٣٦):
حدثنا سعيد بن أبي مريم أخبرنا محمد بن جعفر أخبرنا حميد بن أبي حميد أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد غفر الله له ماتقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني».
أخرجه مسلم (ج٢ص١٠٢٠).
* قال الإمام البخاري رحمه الله (ج٩ ص١٠١):
حدثنا أبو النعمان حدثنا حماد عن أبي عمران الجوني عن جندب بن عبد لاله عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «اقرأوا القرآن ما ائتلفت قلوبكم فإذا اختلفتم فيه فقوموا عنه».
حدثنا عمرو بن علي حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سلام بن أبي مطيع عن أبي عمران الجوني عن جندب قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «اقرأوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فإذا اختلفتم فقوموا عنه».
تابعه الحارث بن عبيد وسعيد بن زيد عن أبي عمران ولم يرفعه حماد بن سلمة وأبان.
وقال غندر عن شعبة عن أبي عمران سمعت جندبًا قوله: وقال ابن عون عن أبي عمران عن عبد الله بن الصامت عن عمر قوله.
وجندب أصح وأكثر.
الحديث أخرجه مسلم (ج٤ص٢٠٥٣) و(٢٠٥٤).
* قال البخاري رحمه الله (ج٨ ص١٨٨):
حدثنا قبيصة حدثنا سفيان عن ابن جريج عن ابن أبي ملكية عن عائشة ترفعه قال: «أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم».
وقال عبد الله: حدثنا سفيان حدثني ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
الحدث أخرجه مسلم (ج٤ص٢٠٥٤).
قال الحافظ رحمه الله في «الفتح» قوله: وقال عبد الله: هو ابن الوليد العدني وسفيان هو الثوري وأورده لتصريحه برفع الحديث عن النبي صلى الله علي وعلى آله وسلم وهو موصول بالإسناد في «جامع سفيان الثوري» من رواية عبد الله بن الوليد هذا.
ويحتمل أن يكون عبد الله هو الجعفي شيخ البخاري وسفيان هو ابن عيينة فقد أخرج الحديث المذكور الترمذي وغيره من رواية ابن عيينة [في الحاشية: “في «الفتح»: ابن علية، وهو تصحيف والصواب: ابن عيينة كما يقتضيه السياق وهو في الترمذي (ج٥ص٢٠٤): حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن ابن جريج وابن أبي عمر وهو محمد بن يحيى العدني يروي عن سفيان بن عيينة فعلم أن ابن أبي علية في «الفتح» تصحيف”].
* قال الإمام مسلم رحمه الله (ج٤ص٢٠٥٣):
حدثنا أبو كامل فضيل بن حسين الجحدري حدثنا حماد بن زيد حدثنا أبو عمران الجوني قال: كتب إليّ عبد الله بن رباح الأنصاري أن عبد الله بن عمرو قال: هجّرت إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يومًا قال: فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يعرف في وجهه الغضب فقال: «إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب».
* قال الإمام أبو عبد الله بن ماجه رحمه الله (ج١ ص٣٣):
حدثنا علي بن محمد ثنا أبو معاوية ثنا داود بن أبي هند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على أصحابه وهم يختصمون في القدر فكأنما يُفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب فقال: «بهذا أمرتم – أو لهذا خلقتم – تضربون القرآن بعضه ببعض بهذا هلكت الأمم قبلكم».
قال: فقال عبد الله بن عمرو: ما غبطت نفسي بمجلس تخلفت فيه عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما غبطت نفسي بذلك المجلس وتخلفي عنه.
قال أبو عبد الرحمن: هذا حديث حسن.
وأخرجه أحمد (ج٢ص١٧٨).
* قال البخاري رحمه الله (ج٩ ص١٠١):
حدثنا سليمان بن حرب حدثنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة عن عبد الله أنه سمع رجلًا يقرأ آية سمع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قرأ خلافهما فأخذت بيده فانطلقت به إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: «كلاكما محسن فاقرآ» أكبر علمي قال: «فإن من كان قبلكم اختلفوا فأهلكهم».
* قال الإمام الترمذي رحمه الله (ج٩ ص١٣٠):
حدثنا عبد بن حميد أخبرنا محمد بن بشر العبد ويعلى بن عبيد عن حجاج بن دينار عن أبي غالب عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل»، ثم تلا رسول الله ﷺ هذه الآية: ﴿ما ضَرَبُوهُ لَكَ إلّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾.
هذا حديث حسن صحيح، إنمما نعرفه من حديث حجاج بن دينار وحجاج ثقة مقارب الحديث وأبو غالب اسمه حزور. اهـ.
الحديث أخرجه ابن ماجه (ج١ص١٩).
* قال البخاري رحمه الله (ج٩ص٢٣):
حدثنا سعيد بن عفير قال حدثني الليث حدثني عقيل عن ابن شهاب قال حدثني عروة بن الزبير أن المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن عبدٍ القاري حدثاه أنهما سمعا عمر بن الخطاب يقول: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم فلببته بردائه فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقلت: كذبت، فإن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقلت: إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال رسول الله صلى الله علي وعلى آله وسلم: «أرسله، اقرأ يا
هشام»، فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «كذلك أنزلت»، ثم قال: اقرأ يا عمر، فقرأت القراءة التي أقرأني فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «كذلك أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه».
أخرجه مسلم (ج١ ص٥٦٠) و(ص٥٦١).
* قال الإمام مسلم رحمه الله (ج١ ص٥٦١):
حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا أبي حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن جده عن أبي بن كعب قال: كنت في المسجد فدخل رجل يصلي، فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه، فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعًا على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه، فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقرءا، فحسّن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم شأنهما، فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما قد غشيني ضرب في صدري ففضت عرقًا، وكأنما انظر إلى الله عز وجل فرقًا، فقال لي: «يا أبيّ أرسل إليّ أن اقرأ القرآن على حرف، فرددت إليه: أن هون على أمتي، فرد إلى الثانية: اقرأه على حرفين، فرددت إليه: أن هون على أمتي، فرد إلى الثانية: اقرأه على حرفين، فرددت إليه: أن هون على أمتي، فرد إلى الثالثة: اقرأه على سبعة أحرف، فلك بكل ردة رددتكها مسألة تسألنيها، فقلت: اللهم اغفر لأمتي اللهم اغفر لأمتي، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إليّ الخلق كلهم حتى إبراهيم صلى الله عليه وعلى آله وسلم».
* قال الإمام أبو داود رحمه الله (ج١٢ ص٣٥٣):
حدثنا أحمد بن حنبل أخبرنا يزيد بن هارون قال أنبأنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم
قال: «المراء في القرآن كفر».
هذا حديث حسن.
الحديث أخرجه الإمام أحمد (ج١٤ص٢٤٠): أخبرنا يزيد بن هارون قال أنبأنا محمد بن عمرو الليثي حدثنا أبو سلمة به.
و (ص٢٤١): حدثنا يحيى عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة به.
فإن قال قائل: فإن الله عز وجل يقول ﴿ولا تُجادِلُوا أهْلَ الكِتابِ إلّا بِالَّتِي هِيَ أحْسَنُ﴾؟ قلنا: هذا إذا كان للجدال ثمرة، والمقصود منه إظهار الحق، وأما إذا كان المقصود به التلبيس وإظهار الغلبة على أصحاب الحق فالواجب هو ترك الجدل والله أعلم.
* قال الإمام أحمد رحمه الله (ج٢ ص١٨١):
حدثنا أنس بن عياض حدثنا أبو حازم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: لقد جلست أنا وأخي مجلسًا ما أحب أن لي به حمر النعم، أقبلت أنا وأخي وإذا مشيخة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم جلوس عند باب من أبوابه فكرهنا أن نفرق بينهم فجلسنا حجرة إذ ذكروا آية من القرآن فتماروا فيها حتى ارتفعت أصواتهم فخرج رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مغضبًا قد أحمر وجهه يرميهم بالتراب ويقول: «مهلًا يا قوم بهذا أهلكت الأمم من قبلكم باختلافهم على أنبيائهم وضربهم الكتب بعضها
ببعض، إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضًا بل يصدق بعضه بعضًا فما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه».
* قال الإمام أحمد رحمه الله (ج٢ ص١٩٥):
ثنا إسماعيل ثنا داود بن أبي هند عن عمرو بن شعيب عن أبه عن جده أن نفرًا كانوا جلوسًا بباب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا، وقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فخرج كأنما فقئ في وجهه حب الرمان فقال: «بهذا أمرتم – أو بهذا بعثتم – أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟ إنما ضلت الأمم قبلكم في مثل هذا إنكم لستم مما ههنا في شيء، انظروا الذي أمرتم به فاعملوا به والذي نهيتم عنه فانتهوا».
* قال البخاري رحمه الله (ج١٣ص٢٥١):
حدثنا إسماعيل حدثني مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «دعوني ما تركتكم فإنا أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم».
الحديث أخرجه مسلم (ج٤ص١٨٣٠).
* قال الإمام البخاري رحمه الله (ج١٣ص٢٨٢):
حدثنا عبدان أخبرنا أبو حمزة سمعت الأعمش قال: سألت أبا وائل هل شهدت صفين؟ قال: نعم، فسمعت سهل بن حنيف يقول: (ح): وحدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبو عوانة عن الأعمش عن أبي وائل قال قال سهل ابن حنيف: يا أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم لقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لرددته وما وضعنا سيوفنا على عواتقنا إلى أمر يفظعنا إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه غير هذا الأمر.
قال: وقال أبو وائل: شهدت صفين وبئست صفين.
الحديث أخرجه مسلم (ج٣ص١٤١١ – ١٤١٢):
* قال الدارمي رحمه الله (ج١ص٧٨):
أخبرنا عفان ثنا حماد بن زيد ثنا عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن عبد الله ابن مسعود قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يومًا خطًا ثم قال: «هذا سبيل الله» ثم خط خطوطًا عن يمينه وعن شماله ثم قال: «هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه» ثم تلا: ﴿وأنَّ هَذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فاتَّبِعُوهُ ولاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ﴾.
* قال الإمام البخاري رحمه الله (ج١ ص١٩٤):
حدثنا إسماعيل بن أبي أويس قال حدثني مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله علي وعلى آله وسلم يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالًا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا».
قال الفربري: حدثنا عباس قال حدثنا قتيبة حدثنا جرير عن هشام نحوه.
وأخرجه مسلم (ج٤ص٣٠٥٨).
صحيح الآثار من الشريعة للآجري واللالكائي والدارمي وغيرهم :
* قال الإمام أبو بكر محمد بن الحسين الآجري في «الشريعة» (ص٥٦):
حدثنا الفريابي قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا يحيى بن آدم قال حدثنا حماد بن زيد عن محمد بن واسع عن مسلم بن يسار أنه كان يقول: إياكم والمراء فإنها ساعة جهل العالم وبها يبتغي الشيطان زلته.
وحدثنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبد الحميد الواسطي قال حدثنا زهير بن محمد المروزي قال حدثنا سريج بن النعمان قال حدثنا حماد بن زيد عن محمد بن واسع عن مسلم بن يسار أنه كان يقول: إياكم والمراء فإنها ساعة جهل العالم بها يبتغي الشيطان زلته.
* قال الإمام الدارمي رحمه الله (ج١ ص١٢٠):
أخبرنا عفان حدثنا حماد بن زيد حدثنا محمد بن واسع قال: كان مسلم ابن يسار يقول: إياكم والمراء فإنها ساعة جهل العالم وبها يبتغي الشيطان زلته.
* قال الآجري رحمه الله (ص٥٦):
حدثنا عمر بن أيوب السقطي قال حدثنا عثمان بن أبي شيبة ققال حثدنا هشيم بن بشير عنالعوام بن حوشب عن معاوية بن قرة قال: الخصومات في الدين تحبط الأعمال.
عمر بن أيوب السقطي ترجمه الخطيب في «التاريخ» (ج١١ ص٢١٩) وقال: وكان ثقة وذكر عن الدارقطني أنه وثقه.
وأخرجه اللالكائي في «شرح أصول اعتقاد أهل السنة» (ج١ ص١٢٩) من طريق يزيد بن هارون عن العوام بن حوشب به.
وحدثنا الفريابي قال حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا حماد بن زيد عن يحيى ابن سعيد قال: إن عمر بن عبد العزيز قال: من جعل دينه غرضًا للخصومات أكثر التنقل.
حدثنا أيضًا الفريابي قال حدثني إبراهيم بن المنذر الحزامي قال حدثنا معن بن عيسى قال: انصرف مالك بن أنس رضي الله عنه يومًا من المسجد وهو متكئ على يدي فلحقه رجل يقال له: أبو الحورية كان يتهم بالارجاء، فقال: يا عبد الله اسمع مني شيئًا أكلمك به وأحاجك وأخبرك برأيي، قال: فإن غلبتني؟ قال: إن غلبتك اتبعني، قال: فإن جاء رجل آخر فكلمنا فغلبنا؟، قال: نتبعه، فقال مالك رحمه الله تعالى: يا عبد الله بعث الله عز وجل محمدًا صلى الله عليه وعلى آله وسلم بدين واحد وأراك تنتقل من دين إلى دين، قال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضًا للخصومات أكثر التنقل.
* قال الآجري رحمه الله (ص٥٧):
وحدثنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبد الحميد الواسطي قال أخبرنا محمد ابن المثنى قال حدثنا حماد بن مسعدة، قال: كان عمران القصير يقول: إياكم والمنازعة والخصومة وإياكم وهؤلاء الذي يقولون: أرأيت أرأيت.
وحدثنا الفريابي قال حدثنا أبو الخطاب زياد بن يحيى قال حدثني سعيد بن عامر قال حدثنا سلام بن أبي مطيع قال: إن رجلًا من أصحاب الأهواء قال لأيوب السختياني: يا أبا بكر أسالك عن كلمة، فولى أيوب وجعل يشير بأصبعه: ولا نصف كلمة.
* قال الآجري رحمه الله في «الشريعة» (ص٦١):
وحدثنا الفريابي قال حدثنا محمد بن داود، قال حدثنا مسلم بن إبراهيم قال حدثني مهدي بن ميمون الأزدي قال سمعت محمدًا – يعني ابن سيرين – وما رآه رجل في شيء فقال له محمد: إن قد أعلم ما تريد وأعلم بالمماراة منك ولكني لا أماريك.
* قال اللالكائي (ج١ ص١٤٥):
أخبرنا أحمد بن عبيد قال أخبرنا محمد بن الحسين قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا يحيى بن معين حدثنا عثمان بن صالح قال حدثنا بكر بن مضر عن الأوزاعي قال: إذا أراد الله بقوم شرًا ألزمهم الجدل ومنعهم العمل. اهـ.
عثمان بن صالح بن صفوان السهمي مولاهم أبو يحيى المصري صدوق.
اهـ «تقريب».
وبكر بن مضر ثقة ثبت كما في «التقريب» أيضًا، والبقية مترجمون.
* قال اللالكائي (ج١ ص١٤٧ – ١٤٨):
أخبرنا أحمد بن عبيد حدثنا محمد بن الحسين حدثنا أحمد بن زهير قال مصعب يعني الزبيري ناظرني إسحاق بن أبي إسرائيل فقال: لا أقول كذى يعني في القرآن فناظرته فقال: لم أقل على الشك ولكني أسكت كما سكت القوم فبكى فأنشدته هذا الشعر فأعجبه وكتبه وهو شعر قيل من أكثر من عشرين سنة:
أأقعد بعدما رجضت عظامي … وكان الموت أقرب ما يليني
أجادل كل معترض خصيم … وأجعل عرضه غرضًا لديني
وأترك ما علمت لرأي غيري … وليس الرأي كالعلم اليقين
وما أنا والخصومة وهي لبس … يصرف في الشمال وفي اليمين
وقد سنت لنا سنن قوام … يلحن بكل فج أو وجين
وكان الحق ليس به خفاء … أغر كغرة الفلق المبين
وما عوض لنا منهاج جهم … بمناهج ابن آمنة الأمين
فأما ما علمت فقد كفاني … وأما ما جهلت فجنبوني
فلست بمكفر أحدًا يصلي … ولم أجرمكم أن تكفروني
وكنا إخوة نرمي جميعًا … ونرمي كل مرتاب ظنين
فما برح التكلف أن تراءت … بشأن واحد فرق الشئون
فأوشك أن يخر عماد بيت … وينقطع القرين من القرين
قال مصعب: رأيت أهل بلدنا – يعني أهل المدينة – ينهون عن الكلام في الدين. اهـ.
* قال الدارمي رحمه الله (ج١ص١٠٢):
أخبرنا سعيد بن عامر عن إسماعيل بن إبراهيم عن يونس (١) قال: كتب إليَّ ميمون بن مهران: إياك والخصومة والجدل في الدين ولا تجادلن عالمًا ولا جاهلًا، أما العالم فإنه يخزن عنك علمه ولا يبالي ما صنعت، وأما الجاهل فإنه يخشن بصدرك ولا يطيعك.
* قال الدارمي رحمه الله (ج١ص١٠٢):
أخبرنا يحيى بن حسان ثنا عبد الله بن إدريس عن إسماعيل بن أبي حكيم قال سمعت عمر بن عبد العزيز يقول: من جعل دينه غرضًا للخصومات أكثر التنقل”. انتهى المراد.
(المسألة الثانية) [ما جاء من أمور العقيدة في القرآن الكريم]
قال العلامة أبو جعفر الطحاوي رحمه الله في بيان عقيدة أهل السنة في القرآن الكريم: “ولا نجادل في القرآن، ونشهد أنه كلام رب العالمين، نزل به الروح الأمين، فعلمه سيد المرسلين محمدا صلى الله عليه وسلم، وهو كلام الله تعالى لا يساويه شيء من كلام المخلوقين، ولا نقول بخلقه”. انتهى
قال الشيخ صالح آل الشيخ معلقا: “وهذه الجملة مشتملة على عقيدة مباركة عظيمة في القرآن.
والإيمان بالقرآن فرض وركن الإيمان؛ لأن من أركان الإيمان، الإيمان بكتب الله المنزلة، وأعظمها الكتاب الذي جعله الله مهيمنا على كل كتاب وهو هذا القرآن العظيم.
فالإيمان به ركن الإيمان، والإيمان به عند أهل السنة والجماعة يشمل:
– الإيمان بأنه كلام الله تعالى.
– وأنه منزل من رب العالمين.
– وأن محمدا صلى الله عليه وسلم علمه إياه جبريل، وجبريل سمعه من رب العالمين ….
– وأن هذا القرآن لا يشبهه شيء من كلام المخلوقين، لا يماثله ولا يدانيه.
– وأنه غير مخلوق؛ لأنه صفة الله عز وجل، وصفات الله سبحانه وتعالى كذاته العلية، فهو سبحانه الخالق – عز وجل – وغيره مخلوق.
[الأدلة]
وهذا التقرير من العلامة الطحاوي مأخوذ من النصوص الكثيرة في الكتاب والسنة التي تدل على هذه الأصول كقوله – عز وجل -: {ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين} [النحل:103] ، وكقوله – عز وجل – {قل نزله روح القدس من ربك بالحق} [النحل:102] ، وكقوله سبحانه {وإنه لتنزيل رب العالمين (192) نزل به الروح الأمين (193) على قلبك لتكون من المنذرين (194) بلسان عربي مبين} [الشعراء:192-195] ، وكقوله – عز وجل – {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه} [التوبة:6] ، وغير ذلك من الآيات التي فيها أن القرآن كلام الله، وأنه منزل من عنده، وأن جبريل عليه السلام هو الذي نزل به على قلب محمد صلى الله عليه وسلم.
[أولاً: [ولا نجادل في القرآن]:
المجادلة في القرآن دلت السنة على أنها مذمومة ومحرمة، وذلك كما روى مسلم في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج عليهم يوما وهم يتجادلون في القرآن هذا ينزع بآية وهذا ينزع بآية، فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان -يعني من الغضب- عليه الصلاة والسلام، فقال لهم: «اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا»، أو كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم، وقد جاء أيضا أن نبينا صلى الله عليه وسلم نهى أن يجهر بعض الناس على بعض في القراءة؛ وذلك لأجل التأدب مع القرآن، وأن لا تكون القراءة سببا للتخاصم أو للمجادلات؛ يعني بسبب القرآن أو في القرآن.
و(المراء) مذموم مطلقا سواء أكان بحق أو بغير حق، وهو المراد به نصرة النفس والاستعلاء، ولو كان بالقرآن، فلا نجادل في القرآن؛ يعني: في أدلته، ولا نجادل في القرآن في صفته؛ بل نسلم للقرآن أنه كلام الله – عز وجل -، ونستسلم لدليل الرحمن – عز وجل -، فالقرآن آيات الرب سبحانه وتعالى.
فالتجادل بالاختلاف في القرآن المبني على الأهواء هذا ليس من صفة أهل الإيمان، وإنما -كما سيأتي- المجادلة تكون لبيان الحق ولبيان وجه الدليل وهذا هو المحمود، فالمجادلة في القرآن مذمومة، ولهذا قال الطحاوي هنا [ولا نجادل في القرآن].
[ثانيًا: [ونشهد أنه كلام رب العالمين]
يعني: نعلن ونخبر مع اعتقادنا ويقيننا بأنه ليس كلام مخلوق بل هو كلام رب العالمين؛ أي: أنه كلام الله عز وجل.
[ثالثًا: [نزل به الروح الأمين]:
الروح الأمين الذي هو جبريل، نزل به من رب العالمين، نزل به سماعا، سمعه جبريل عليه السلام من رب العالمين، وأمره الله – عز وجل – أن ينزل به وحيا على سيد المرسلين (فعلمه سيد المرسلين محمدا صلى الله عليه وسلم) .
[رابعًا: [ولا نقول بخلقه]:
هذا منه تقرير لما أجمع عليه أهل السنة، وذلك خلافا للمعتزلة والعقلانيين والخوارج والرافضة الذين قالوا بخلق القرآن كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
(المسألة الثالثة): ما يتعلق بالمجادلة في القرآن، وما نهي عنه.
[الفرع الأول: معنى المجادلة، وذكر أقسامها، والفرق بينها وبين الجدل، وتوضيح معنى المجادلة في القرآن]:
المجادلة:
عرفت بأنها: إيراد الحجة على القول المختلف فيه من المختلفين.
فإذا اختلفوا في مسألة؛ هذا يورد حجته تقريرا لقوله، وهذا يورد حجته تقريرا لقوله، فتصير مجادلة.
وفي الشرع المجادلة قسمان:
1- مجادلة مذمومة: وهي التي يراد بها الانتصار للنفس وللقول دون تحر للحق.
2- مجادلة محمودة: وهي المجادلة بالتي هي أحسن؛ يعني التي الغرض منها الوصول إلى الحق، وإرشاد الضال، وتبيين حجة الله – عز وجل -، وهي مأمور بها في الشرع.
وهذه هي التي أثنى الله – عز وجل – على عباده بها، وأمرهم بها في قوله: {وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} [النحل:125] ، وكقوله سبحانه في سورة العنكبوت: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} [العنكبوت:46]،
ويشتبه بالمجادلة الجدل، والجدل قال بعض أهل العلم: إنه هو المجادلة؛ لأنه مأخوذ من الجدل، جدل الحبل، وهو لف بعضه على بعض، كأن الأقوال التف بعضها على بعض من الإيراد.
والأظهر أن الجدل نوع من الخصومة؛ لكن لم يمدح في القرآن، فذمه الله – عز وجل – في قوله: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } [الزخرف:57-58] .
{ما ضربوه لك إلا جدلا} يعني: في ذلك ذم لهذا الإيراد، لأنهم ما أرادوا المجادلة ولا أرادوا دفعا للشبهة أو الوصول إلى الحق، وإنما هو جدل.
وهنا ثم بعض البحوث التي كتبت في هذا الموضوع خاصة عند المعاصرين باسم الجدل، (الجدل في القرآن).
والجدل إذا كان يصل معه المتجادلون إلى حقيقة، فإنه في الحقيقة مجادلة؛ {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما} [المجادلة:1] ، فهي مجادلات في القرآن.
وإذا كان المقصود بالجدل في القرآن المجادلات فإن هذا مقبول؛ لكن تكون تسميتها بالجدل هذه يكون فيها بحث اصطلاحي.
وإذا كان المقصود بالجدل في القرآن -مثل ما كتبوا- ما ضرب جدلا لغير وصول إلى الحق، فهذا لا يدخل فيه المجادلات التي للوصول للحق، لأنهم يدخلون فيها ما أقام الله – عز وجل – به الحجة مثل مجادلة الملك مع إبراهيم عليه السلام في قوله {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك} [البقرة:258] ، هذه يدخلونها في الجدل.
فقوله هنا (ولا نجادل في القرآن) المجادلة -كما ذكرنا- إذا كانت بالتي هي أحسن للوصول إلى الحق فهذه مطلوبة شرعا، وأمر الله – عز وجل – بها عباده.
لكنهم يجادلون بالقرآن لا فيه؛ يعني: يجادل غيره بحجة القرآن.
* وفرق ما بين المجادلة بالقرآن وبين المجادلة في القرآن:
– فالمجادلة بالقرآن: أن تورد الحجة من كتاب الله – عز وجل -، وتورد وجه الاستدلال من ذلك.
– أما المجادلة في القرآن: فهو أن يختلف في حجيته، أو تضرب بعض الآيات ببعض، أو أن لا يرد المتشابه إلى المحكم أو أن يخاض في الأمور الغيبية بأمور عقلية، .. ونحو ذلك.
فالمجادلة بالقرآن محمودة لإقامة الحجة، وأما فيه فإنها مذمومة.
[الفرع الثاني: المراد بكون القرآن محكم كله، ومتشابه كله، ومنه ما هو محكم ومنه ما هو متشابه]
الذين جادلوا في القرآن في هذه الأمة، أمة الإجابة كثيرون.
فكل طوائف الضلال ممن لم يستسلم لنص القرآن والسنة فإنه جادل في القرآن.
وذلك أنهم أسسوا مذاهب لهم واعتقادات، فإذا جاءهم الدليل من القرآن على خلاف ما ألفوا أو ما هووه فإنهم يجادلون فيه، يعني: يردون حجة الله – عز وجل – التي في القرآن ويأتون بآية تضرب هذه الآية.
والنبي صلى الله عليه وسلم أتى بعض الصحابة- وهم يتجادلون في القرآن فغضب كما ذكرنا لك.
فالتأدب مع القرآن أن يكون الإيراد به -يعني إيراد الدليل به-، فإن اختلفت الأدلة وجب رد المتشابه إلى المحكم.
فالقرآن حق كله لا يناقض بعضه بعضا؛ بل بعضه يدل على بعض.
[أقسام القرآن:]
1- فالقرآن محكم كله: جعله الله محكما؛ كما قال: {الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} [هود:1] ، وكما قال – عز وجل – {يس (1) والقرآن الحكيم} [يس:1-2] ، حكيم يعني المحكم في أحد أوجه تفسير {القرآن الحكيم} .
2- وكذلك القرآن مع كونه محكما فإنه أيضا متشابه؛ -متشابه كله-:
فالقرآن محكم كله وأيضا هو متشابه كله؛ لأن بعضه يشبه بعضا.
متشابه يعني يشبه بعضه بعضا، وذلك لقوله – عز وجل – الله: {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني} [الزمر:23] ، يعني يشبه بعضه بعضا؛ هذه آية في صفات الله وهذه آية في صفات الله، هذه آيات في تقرير التوحيد -توحيد الربوبية، توحيد الألوهية- وهذه آيات من مثلها، وهذه آيات في الحجاج مع المشركين، وهذه آيات في الحجاج مع المشركين، هذه آيات في قصص الأنبياء وهذه آيات في قصص الأنبياء، .. ونحو ذلك من المعاني.
فهو متشابه، موضوعاته متشابهة مع اختلاف الآيات في ذلك.
3 – أن القرآن محكم بعضه: يعني: بعض آياته محكمة،
ومنه ما هو متشابه.
وهذا هو المعني في قوله سبحانه في أول سورة آل عمران: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات} لاحظ قوله {منه آيات محكمات} يعني: أن بعضا منه آيات محكمات {هن أم الكتاب} يعني: يرجع إليها في تفسير الكتاب {وأخر متشابهات} [آل عمران:7]، وقوله {أخر} يدل على قلة المتشابه بالنسبة إلى المحكم.
فإذا أقسام القرآن ثلاثة:
1- محكم كله.
2- متشابه كله.
3- منه ما هو محكم ومنه ما هو متشابه.
وكل من هذه الأقسام دلت عليها آية أو آيات من القرآن العظيم.
المحكم والمتشابه الذي هو الأخير:
عرف المحكم بأنه: ما اتضحت دلالته.
والثاني المتشابه: وهو ما اشتبهت دلالته.
والمتشابه للعلماء في تفسيره وبيان نوعه أقوال كثيرة.
لكن المحقق عند أهل السنة والجماعة أن المتشابه في القرآن إنما هو متشابه على من نزل عليه.
متشابه على بعض هذه الأمة.
أما المتشابه الكلي بحيث إنه يوجد في القرآن ما لا يعلم معناه، ولا يعلم تأويله مطلقا لكل الأمة، فإن هذا ممتنع؛ لأن القرآن جاء بلسان عربي مبين.
وما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما فيما ساقه ابن كثير وغيره في (أن من القرآن ما لا يعلم تأويله إلا الله) -يعني لا أحد يعلم تأويله-، فيريد به نوعا من التأويل والتفسير.
فالمتشابه متشابه نسبي.
مثل ما سئل ابن عباس أن الله – عز وجل – أخبر أن الناس في يوم القيامة يوقفون فيسألون؛ {وقفوهم إنهم مسئولون} [الصافات:24]، وفي آيات أخر أخبر الله – عز وجل – أنهم لا ينطقون ولا يسألون ونحو ذلك، فكيف يجمع بينهما؟
هذا متشابه، يعني: آيات يشتبه معناها فيجب ردها إلى المحكم.
هذا النوع الثالث المحكم والمتشابه هو الذي تكون فيه المجادلة التي نهى عنها الطحاوي هنا، ونهى عنها أئمة أهل السنة جميعا، المجادلة في القرآن.
لهذا أثنى الله – عز وجل – على الراسخين في العلم بأنهم يردون المتشابه إلى المحكم، ويقولون آمنا به.
* المقصود من ذلك أن أصل الضلال في الفرق وجد من المجادلة في القرآن، والمجادلة في القرآن بأنهم اعتمدوا المتشابه ولم يرجعوا المتشابه إلى المحكم.
فالخوارج إنما خرجت بالمجادلة في القرآن، جادلوا في القرآن فجاءهم ابن عباس رضي الله عنه فجادلهم بالقرآن.
فقالوا: كيف يحكم علي الرجال والله – عز وجل – يقول: {فالحكم لله العلي الكبير} [غافر:12] .
فقال ابن عباس لهم “إن الله – عز وجل – سمى بعض الرجال حكما؛ فقال: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها} [النساء:35]”، وحاجهم في ذلك حتى رجع معه ثلث أو أكثر من الخوارج.
المرجئة، القدرية، المعتزلة، كلهم لم يعتمدوا القرآن كله، وإنما جادلوا فيه فيدخلون في عموم قوله: {وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق} [غافر:5] .
[الفرع الثالث: عقيدة أهل السنة في القرآن]:
قال (ونشهد أنه كلام رب العالمين) إلى قوله (لا يساويه شيء من كلام المخلوقين) ، هذا فيه تقرير لعقيدة أهل السنة في أن القرآن كلام الله.
وقد مر معنا تفصيل الكلام على هذه الجملة من جهة كون القرآن كلاما لله وتفاصيل الأقوال في ذلك.
وأهل السنة يعتقدون:
– أن القرآن حروف وكلمات وجمل وآيات وسور.
– وأنه ألفاظ ومعاني.
– وأن هذه جميعا من الله – عز وجل -.
فالقرآن كلام الله – عز وجل – بحروفه ومعانيه، تكلم به الحق ، فسمعه منه جبريل عليه السلام، فبلغه لنبيه صلى الله عليه وسلم كما سمع.
والقرآن الذي بلغه جبريل محمدا صلى الله عليه وسلم هو القرآن المسموع، كلام الله المسموع وليس كلام الله المكتوب؛ لأن القرآن كتبه الله – عز وجل – في اللوح المحفوظ جميعا، كتب القرآن جميعه في اللوح المحفوظ كما قال سبحانه: {فلا أقسم بمواقع النجوم (75) وإنه لقسم لو تعلمون عظيم (76) إنه لقرآن كريم (77) في كتاب مكنون (78) لا يمسه إلا المطهرون} [الواقعة:75-79] .
{إنه لقرآن كريم} يعني: جميع القرآن كريم، هو أعلى وأفضل وأميز الكلام؛ لأن الكريم من الأشياء هو المتميز على غيره الفاضل الأفضل.
قال {في كتاب مكنون} يعني في اللوح المحفوظ.
{لا يمسه إلا المطهرون} الذين هم الملائكة.
وكذلك قوله – عز وجل – في آية الحاقة.
فالقرآن المكتوب في اللوح المحفوظ، جبريل لم يأخذه مكتوبا وإنما أخذه مسموعا، فهذا اعتقاد أهل السنة والجماعة.
فقوله هنا: “نشهد أنه كلام رب العالمين”، يعني: بحروفه وكلماته وآياته وسوره هو كلام الله – عز وجل -، سمعه جبريل فنزل به مسموعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
غير أهل السنة لهم في ذلك أقوال كثيرة يأتي ذكر تعداد لها عند قوله (ولا نقول بخلقه).
[الفرع الرابع: الروح الأمين هو جبريل عليه السلام]:
في قوله (نزل به الروح الأمين) الروح الأمين هو جبريل عليه السلام.
وسمي روحا: لفضله وتميزه عن الملائكة ولأنه ينزل بالروح من أمر الله – عز وجل – وهو الوحي.
وسمي الأمين أو نعته الله – عز وجل – بالأمين في قوله {نزل به الروح الأمين (193) على قلبك} [الشعراء:193-194] : لأنه مؤتمن على أعظم ما يؤتمن عليه وهو كلام الله – عز وجل – ووحيه في سماواته.
[الفرع الخامس : لماذا كان القرآن معجزا؟]
في قوله: “لا يساويه شيء من كلام المخلوقين”، كلمة “لا يساويه”، هنا يعني لا يكون مساويا له أي كلام لمخلوق.
وهذا للدلالة على إعجاز القرآن، ولهذا أكد بعد قوله: “كلام رب العالمين”، قال: “وهو كلام الله تعالى لا يساويه شيء من كلام المخلوقين”.
وإعجاز القرآن، يعني وجه كون القرآن معجزا للجن والإنس أن يأتوا بمثله من إنزال القرآن إلى قيام الساعة.
وبيانه هو ما ذكره الطحاوي هنا محققا بأنه كلام الله تعالى لا يشبه قول البشر.
وهذا معنى قوله “لا يساويه شيء من كلام المخلوقين”، يعني: لا يشابهه، لا يدانيه، لا يكون مساويا له لأنه معجز.
ولماذا صار معجزا؟ لأنه كلام الله.
[الفرع السادس: أن معتقد الصحابة ومعتقد التابعين وتبع التابعين وأئمة الإسلام أن القرآن كلام الله، منزل، غير مخلوق منه بدأ، وإليه يعود]:
قال في آخر هذه الجملة “ولا نقول بخلقه”.
في قوله: “ولا نقول بخلقه”، بخصوصها يعني:
– أن معتقد الصحابة رضوان الله عليهم ومعتقد التابعين وتبع التابعين وأئمة الإسلام وأئمة أهل السنة والجماعة، ومعتقد عامة المنتسبين إلى الإسلام أن القرآن كلام الله، منزل، غير مخلوق، منه بدأ، وإليه يعود سبحانه وتعالى.
– وأول ما نشأ القول بخلق القرآن من جهة الجعد بن درهم، ثم الجهم بن صفوان، ثم أخذه المعتزلة فنصروه واستدلوا له.
من قال بخلق القرآن طوائف في هذه الأمة منهم: الجهمية والمعتزلة والخوارج والرافضة.
والعقلانيون أيضا في عصرنا الحاضر جماعة من العقلانيين من المنتسبين إلى الإسلام .
[الفرع السابع: ذكر شبهة من قال بخلق القرآن]:
قال هذا التقطع في الكلام إنما هو من صفات من له نفس، من يخرج الحرف ثم يتنفس، ثم يقول كذا ونحو ذلك، وهذه من صفات المخلوقين، فلهذا جعلوه مخلوقا.
ولهم في تباين صفات الخلق، أو كيف خلقه وفي أي شيء خلقه، لهم أقوال كثيرة.
وهذه الشبهة والإيراد مبني أيضا على اعتقاد لهم، وهو أن -أظن أني ذكرته لكم قبل ذلك- حدوث الأجسام إنما كان بدليل الأعراض، يعني حلول العرض في الجسم تبين به حاجة الجسم وافتقار الجسم إلى العرض، والعرض يطرأ ويزول، فلهذا صار الجسم حادثا مما هو معروف، وقد فصلته لكم فيما قبل فيما يسمى بدليل الأعراض.
والقرآن إن قيل إنه صفة الله – عز وجل -، صار – عندهم- أن القرآن يكون في حال ولا يكون في حال؛ لأن القرآن تكلم الله – عز وجل – به ليس دفعة واحدة، وإنما بحسب الوقائع، قالوا هذا يمتنع معه إلا أن يكون مخلوقا.
المقصود أن القول بخلق القرآن مبني على شبهة، ولأجل هذه الشبهة ولأجل إبطالها فإن أئمة أهل الإسلام كفروا في خلق القرآن بالنوع ولم يكفروا كل أحد قال بخلق القرآن حتى تقوم عليه الحجة لأجل الاشتباه في الدليل.
فإذا نقول: من قال بخلق القرآن فهو كافر؛ لكن إذا جاء المعين لابد من إيضاح الحجة له والرد على شبهته؛ وذلك لأن هذه الفتنة عظيمة.
كذلك من توقف في ذلك ولم يستبن له الأمر، أو من أجاب في الفتنة -فتنة خلق القرآن-، فإن أئمة أهل السنة والجماعة لم يكفروا أحدا في ذلك ولم يمتنعوا أيضا عن الرواية ممن توقف في المسألة أو أجاب لأجل الافتتان.
وهذا أصل عظيم مهم في هذا الأصل؛ يعني في مسألة خلق القرآن.
فإذا معتقد أهل السنة والجماعة:
– أن القول بخلق القرآن من أبطل الباطل.
– وأن القول بخلق القرآن كفر؛ لأن معنى القول بأن صفة الله مخلوقة، والقرآن صفة الله كلام الله، فالقول بأن صفة الله مخلوقة هذا تنقص عظيم للرب – عز وجل -، وتنقص الرب – عز وجل – كفر بالله سبحانه وتعالى
لكن ثم اشتباه وشبهة الوضع معها ما ذكرته لك آنفا.
أما الأشاعرة والماتريدية ومن نحا نحوهم فهم يردون على المعتزلة وعلى العقلانيين وعلى الخوارج وعلى الرافضة في مسألة خلق القرآن، يردون عليهم بأنواع من الردود.
* لكن تنتبه إلى أن مبنى هذه الردود على مذهبهم؛ وهو أن كلام الله قديم وأن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم إنما كان في روع جبريل أو أخذه من اللوح المحفوظ -أخذه من المكتوب- أو نزل به من بيت العزة أو نحو ذلك من أقوالهم المعروفة”. انتهى المراد من [كتاب شرح الطحاوية لصالح آل الشيخ = إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل]، بتصرف يسير.
(المسألة الرابعة): فوائد الحديث:
1 – (منها): بيان تحريم الاختلاف في القرآن الكريم، قال القرطبيّ رحمه الله: تلك الآية التي اختلف فيها الصحابيين يَحْتَمِل أن تكون من المحكمات الظاهرة المعنى، فخالف فيها أحدهما الآخر، إما لقصور فهم، وإما لاحتمال بعيد، فأنكر النبيّ – ﷺ – ذلك؛ إذ قد تَرَك الظاهر الواضح، وعدل إلى ما ليس كذلك.
ويَحْتَمِل أن تكون من المتشابه، فتعرّضوا لتأويلها، فأنكر النبيّ – ﷺ – ذلك،
فيكون فيه حجَّة لمذهب السّلف في التسليم للمتشابهات، وتَرْك تأويلها. انتهى [«المفهم» ٦/ ٦٩٨].
2 – (ومنها): بيان أن الاختلاف شرّ، لا خير فيه، ولا سيّما في القرآن.
فقد أخرج أحمد، وابن ماجه بسند صحيح، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه قال: سمع النبيّ – ﷺ – قومًا يتدارؤون، فقال: «إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضَرَبوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما نزل كتاب الله يُصدِّق بعضه بعضًا، فلا تكذّبوا بعضه ببعض، فما عَلِمتم منه فقولوا، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه».
3 – (ومنها): أن المطلوب من المسلمين اتحادهم، وكونهم يدًا واحدة.
4 – (ومنها): النهي عن اختلاف المسلمين في القرآن؛ لأن ذلك يؤدي إلى التفرُّق، والتناحر، والتباغض، والتشاجر، وفيه الهلاك الشامل، كما أخبر النبيّ – ﷺ – في الحديث الماضي بقوله: «إنما أهلك من كان قبلكم اختلافهم في الكتاب».
قال في «الفتح»: وفي الحديث: الحضّ على الجماعة والألفة، والتحذير من الفُرقة، والاختلاف، والنهي عن المراء في القرآن بغير حقّ، ومن شرّ ذلك أن تظهر دلالة الآية على شيء يخالف الرأي، فيُتوسَّل بالنظر، وتدقيقه إلى تأويلها، وحَمْلها على ذلك الرأي، ويقع اللجاج في ذلك، والمناضلة عليه. انتهى.
5 – (ومنها): ما قاله القرطبي رحمه الله: قوله: «فإذا اختلفتم فيه فقوموا»: يَحْتَمِل هذا الخلاف أن يُحْمَل على ما قلناه آنفًا، قال القاضي: وقد يكون أمْره بالقيام عند الاختلاف في عصره وزمنه – ﷺ -؛ إذ لا وجه للخلاف والتنازع حينئذ، لا في حروفه، ولا في معانيه، وهو – ﷺ – حاضرٌ معهم، فيرجعون إليه في مُشْكِله، ويقطع تنازعهم بتبيانه.
قال القرطبيّ: ويظهر لي أن مقصود هذا الحديث: الأمر بالاستمرار في قراءة القرآن، وفي تدبّره، والزجرُ عن كل شيء يقطع عن ذلك، والخلاف فيه
في حالة القراءة قاطع عن ذلك في أي شيء كان من حروفه، أو معانيه،
والقلب إذا وقع فيه شيء لا يمكن ردّه على الفور، فأمَرهم بالقيام إلى أن تزول
تشويشات القلب، ويستفاد هذا من قوله: «اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه
قلوبكم»، فإن القراءة باللسان، والتدبّر بالقلب، فأمَر باستدامة القراءة مُدّة دوام تدبّر القلب، فإذا وقع الخلاف في تلك الحال انصرف اللسان عن القراءة، والقلب عن التدبّر.
وعلى هذا فمن أراد أن يتلو القرآن، فلا يبحثْ عن معانيه في حال قراءته مع غيره، ويُفرد لذلك وقتًا غير وقت القراءة، والله أعلم.
والحاصل: أن الباحثين في فهم معاني القرآن يجب عليهم أن يقصدوا ببحثهم التعاونَ على فهمه، واستخراج أحكامه، قاصدين بذلك وجه الله تعالى، ملازمين الأدب والوقار، فإن اتفقت أفهامهم، فقد كَمُلت نعمة الله تعالى عليهم، وإن اختلفت، وظهر لأحدهما خلاف ما ظهر للآخر، وكان ذلك من مثارات الظنون، ومواضع الاجتهاد، فحقّ كل واحد أن يصير إلى ما ظهر له، ولا يُثَرِّب على الآخر، ولا يلومه، ولا يجادله، وهذه حالة الأقوياء والمجتهدين، وأما من لم يكن كذلك فحقّه الرجوع إلى قول الأعلم، فإنّه عن الغلط أبعدُ وأسلمُ، وأما إن كان ذلك من المسائل العلمية فالصائر إلى خلاف القطع فيها محروم، وخلافه فيها محرّم مذموم، ثم حُكمه على التحقيق: إما التكفير، أو التفسيق. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله [«المفهم» ٦/ ٦٩٩ – ٧٠٠]، وهو بحثٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
6 – (منها): أن القرآن أنزل على سبعة أحرف، قال النوويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: قال العلماء: سبب إنزال القرآن على سبعةٍ التخفيفُ والتسهيل، ولهذا قال النبيّ ﷺ: «هَوّن على أمتي»، كما صُرِّح به في الرواية الأخرى. انتهى [«شرح النووي» ٦/ ٩٩].
7- (ومنها): بيان سعة رحمة اللَّه تعالى وكرمه على عباده؛ إكرامًا لنبيّها ﷺ، حيث كانت رسالته رحمة للعالمين، كما قاله تعالى: ﴿وما أرْسَلْناكَ إلّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧)﴾ [الأنبياء ١٠٧]، فقد وسّع عليهم قراءة كتابه الكريم، فأنزله على سبعة أحرف، حتى لا تتضايق على حرف واحد.
٨ – (ومنها): أنه استُدلّ بقوله ﷺ: «فاقرءوا ما تيسّر منه» على جواز القراءة بكل ما ثبت من القرآن بالشروط التي تقدّمت، وهي شروط لا بدّ من اعتبارها، فمتى اختلّ شرط منها لم تكن تلك القراءة معتمدة.
وقد قرّر ذلك أبو شامة في «الوجيز» تقريرًا بالغًا، وقال: لا يُقطَع بالقراءة بأنها منزلة من عند اللَّه إلا إذا اتفقت الطرق عن ذلك الإمام الذي قام بإمامة المصر بالقراءة، وأجمع أهل عصره، ومن بعدهم على إمامته في ذلك،
قال: أما إذا اختلفت الطرق عنه فلا، فلو اشتملت الآية الواحدة على قراءة مختلفة مع وجود الشرط المذكور جازت القراءة بها بشرط أن لا يختل المعنى، ولا يتغير الإعراب.
وذكر أبو شامة في «الوجيز» أن فتوى وردت من العجم لدمشق، سألوا عن قارئ يقرأ عشرًا من القرآن، فيخلط القراءات؟
فأجاب ابن الحاجب، وابن الصلاح، وغير واحد من أئمة ذلك العصر بالجواز بالشروط التي ذكرناها، كمن يقرأ مثلًا ﴿فَتَلَقّى آدَمُ مِن رَبِّهِ كَلِماتٍ﴾ [البقرة ٣٧] فلا يقرأ لابن كثير بنصب «آدم»، ولأبي عمرو بنصب «كلمات»، وكمن يقرأ ﴿نَغْفِرْ لَكُمْ﴾ [الأعراف ١٦١] بالنون ﴿خَطِيئاتِكُمْ﴾ بالرفع. قال أبو شامة: لاشك في منع مثل هذا، وما عداه فجائز، واللَّه أعلم.
قال الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وقد شاع في زماننا من طائفة من القراء إنكار ذلك، حتى صرَّح بعضهم بتحريمه، فظنّ كثير من الفقهاء أن لهم في ذلك معَتمَدًا، فتابعوهم، وقالوا: أهل كل فنّ أدرى بفنهم، وهذا ذهول ممن قاله، فإن علم الحلال والحرام إنما يُتَلَقّى من الفقهاء، والذي منع ذلك من القراء إنما هو محمول على ما إذا قرأ برواية خاصة، فإنه متى خلطها كان كاذبًا على ذلك القارئ الخاص الذي شرع في إقراء روايته، فمن أقرأ رواية لم يحسن أن ينتقل عنها إلى رواية أخرى، كما قاله الشيخ محيي الدين، وذلك من الأولوية، لا على الحتم، أما المنع على الإطلاق فلا، واللَّه تعالى أعلم. انتهى [«الفتح» ٦٥٣ – ٦٥٤ «كتاب فضائل القرآن» رقم (٤٩٩٢)].
قال الإثيوبي عفا اللَّه تعالى عنه: هذا الذي قاله هؤلاء الأئمة -رحمهم اللَّه تعالى- من جواز قراءة الآية الواحدة بالروايات المختلفة بالشروط المذكورة هو الصواب الحقيق بالقبول، وما عداه مردود؛ لمخالفته للنص الصحيح المنقول: «فاقرؤوا ما تيسر منه»، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
(المسألة الخامسة): الفروع المتعلقة ببَيانِ أنَّ القُرْآنَ أُنْزِلَ عَلى سَبْعَةِ أحْرُفٍ، وبَيانِ مَعْناهُ:
[الفرع الأول]: “عَلى سَبْعَةِ أحْرُفٍ” أي: على سبعة أوجه، يجوز أن يُقْرَأ بكل وجه منها، وليس المراد أن كل كلمة، ولا جملة منه تُقرأ على سبعة أوجه، بل المراد أن غاية ما انتهى إليه عدد القراءات في الكلمة الواحدة إلى سبعة.
[فإن قيل]: فإنا نَجِد بعض الكلمات يُقرأ على أكثر من سبعة أوجه.
[فالجواب]: أن غالب ذلك إما لا يثبت الزيادة، وإما أن يكون من قبيل الاختلاف في كيفية الأداء، كما في المدّ، والإمالة، ونحوهما.
وقيل: ليس المراد بالسبعة حقيقةُ العدد، بل المراد التسهيل والتيسير، ولفظ السبعة يُطْلَق على إرادة الكثرة في الآحاد، كما يُطلق السبعون في العشرات، والسبعمائة في المئين، ولا يراد العدد المعين، وإلى هذا جَنَحَ عياض، ومن تبعه.
وذكر القرطبيّ عن ابن حبان أنه بلغ الاختلاف في معنى الأحرف السبعة إلى خمسة وثلاثين قولًا، ولم يذكر القرطبيّ منها سوى خمسة.
وقال المنذريّ: أكثرها غير مختار، قال الحافظ: ولم أقف على كلام ابن حبان في هذا بعد تتبعي مظانه من صحيحه”، وسأذكر ما انتهى إليّ من أقوال العلماء في ذلك مع بيان المقبول منها والمردود -إن شاء اللَّه تعالى- في آخر هذا الباب. انتهى كلام الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ-.
قال الأتيوبي عفا اللَّه عنه: سأذكر هذا البحث مستوفًى في المسألة الخامسة -إن شاء اللَّه تعالى-.
[الفرع الثاني]: في اختلاف أهل العلم في المراد بالأحرف السبعة:
قال العلامة أبو عبد اللَّه القرطبيُّ في مقدمة تفسيره:
قد اختَلَف العلماء في المراد بالأحرف السبعة على خمسة وثلاثين قولًا، ذكرها أبو حاتم محمد بن حبان البستيّ، نذكر منها في هذا الكتاب خمسة أقوال:
[الأول]: وهو الذي عليه أكثر أهل العلم، كسفيان بن عيينة، وعبد اللَّه بن وهب، والطبريّ، والطحاويّ، وغيرهم: أن المراد سبعة أوجه من المعاني المتقاربة بألفاظ مختلفة، نحو: أقْبِلْ، وتَعالَ، وهَلُمَّ، قال الطحاويّ: وأبين ما ذكر في ذلك حديث أبي بكرة -رضي اللَّه عنه-، قال: «جاء جبريل إلى النبيّ ﷺ، فقال: اقْرَأ على حرف؛ فقال ميكائيل: استزده، فقال: اقرأ على حرفين، فقال ميكائيل: استزده، حتى بلغ إلى سبعة أحرف؛ فقال: اقرأ، فكلٌّ شافٍ كافٍ، إلا أن تخلط آية رحمة بآية عذاب، أو آية عذاب بآية رحمة»؛ على نحو «هلُمَّ»، و«تعال»، و«أقبل»، و«اذهب»، و«أسرع»، و«عجِّلْ».
ورَوى ورْقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ: ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا﴾ [الحديد ١٣] «للذين آمنوا أمهلونا»، «للذين آمنوا أخرونا»، «للذين آمنوا ارقُبُونا».
وبهذا الإسناد عن أبي أنه كان يقرأ: ﴿كُلَّما أضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ﴾ [البقرة ٢٠] «مرُّوا فيه»، «سَعَوْا فيه».
وفي «الصحيحين»: قال الزهريّ: إنما هذه الأحرف في الأمر الواحد ليس يختلف في حلال، ولا حرام.
قال الطحاويّ ﷺ: إنما كانت السعة للناس في الحروف؛ لعجزهم عن أخذ القرآن على غير لغاتهم؛ لأنهم كانوا أميين، لا يكتب إلا القليل منهم، فلما كان يشق على كل ذي لغة أن يتحول إلى غيرها من اللغات، ولو رام ذلك لم يتهيأ له إلا بمشقة عظيمة، فوُسِّع لهم في اختلاف الألفاظ، إذا كان المعنى متفقًا، فكانوا كذلك حتى كثر منهم من يكتب، وعادت لغاتهم إلى لسان رسول اللَّه ﷺ، فقدروا بذلك على تحفظ ألفاظه، فلم يسعهم حينئذ أن يقرؤوا بخلافها.
قال ابن عبد البرُّ: فبان بهذا أن تلك السبعة الأحرف إنما كان في وقت خاصّ لضرورة دَعَت إلى ذلك، ثم ارتفعت تلك الضرورة، فارتفع حكم هذه السبعة الأحرف وعاد ما يقرأ به القرآن على حرف واحد.
قال الإتيوبي عفا اللَّه تعالى عنه: هذا الذي قاله الطحاويّ، وابن عبد البر بعيد من الصواب؛ لأنه يستلزم النسخ لحديث: «أنزل القرآن على سبعة أحرف»، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
روى أبو داود عن أبي بن كعب -رضي اللَّه عنه-، قال: قال رسول اللَّه ﷺ: «يا أبيّ إني أُقرِئت القرآن، فقيل لي: على حرف، أو حرفين؟، فقال الملك الذي معي: قل: على حرفين، فقيل لي: على حرفين، أو ثلاثة؟، فقال الملك الذي معي: قل: على ثلاثة، حتى بلغ سبعة أحرف، ثم قال: ليس منها إلا شافٍ، كافٍ، إن قلت: سميعًا عليمًا، عزيزًا حكيمًا، ما لم تخلط آية عذاب برحمة، أو آية رحمة بعذاب»، حديث صحيح.
وأسند ثابت بن قاسم نحو هذا الحديث عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، عن النبيّ ﷺ، وذكر من كلام ابن مسعود -رضي اللَّه عنه- نحوه.
قال القاضي ابن الطيب [هو محمد بن الطيّب بن محمد بن جعفر القاضي أبو بكر الباقلانيّ المتوفّى سنة (٤٠٣ هـ)] -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وإذا ثبتت هذه الرواية -يريد حديث أبَيّ- حُمِلَ على أن هذا كان مطلقًا، ثم نُسِخَ، فلا يجوز للناس أن يبدلوا اسمًا للَّه تعالى في موضع بغيره مما يوافق معناه أو يخالف.
قال الإتيوبي عفا اللَّه تعالى عنه: دعواه النسخ غير صحيح، بل الذي دلّ عليه هذا الحديث أن اللَّه عزَّ وجلَّ أمر نبيه ﷺ أن يُقْرِئ أمته على سبعة أحرف، ووَسَّع عليه أن يبدل اسمًا باسم آخر، وأما غيره فلا يجوز له أن يبدل اسمًا باسم آخر، كان كان بمعناه، إلا إذا كان ذلك التبديل منقولًا عنه ﷺ، فإذا أقرأ صحابيًا «سميعًا عليمًا»، وأقرأ آخر «عزيزًا حكيمًا»، جازت القراءة بهذا وبهذا، واللَّه تعالى أعلم.
[القول الثاني]: قال قوم: هي سبع لغات في القرآن على لغات العرب كلها، يَمَنِها، ونِزارِها؛ لأن رسول اللَّه ﷺ لم يجهل شيئًا منها، وكان قد أوتي جوامع الكلم، وليس معناه أن يكون في الحرف الواحد سبعة أوجه، ولكن هذه اللغات السبع متفرقة في القرآن، فبعضه بلغة قريش، وبعضه بلغة هُذيل، وبعضه بلغة هوازن، وبعضه بلغة اليمن.
قال الخطابيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: على أن في القرآن ما قد قُرئ بسبعة أوجه، وهو قوله: ﴿وعَبَدَ الطّاغُوتَ﴾ [المائدة ٦٠]، وقوله: ﴿أرْسِلْهُ مَعَنا غَدًا يَرْتَعْ ويَلْعَبْ﴾ [يوسف ١٢] وذكر وجوهًا، كأنه يذهب إلى أن بعضه أنزل على سبعة أحرف، لا كله.
وإلى هذا القول -أي إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، على سبع لغات- ذهب أبو عبيد، القاسم بن سلام، واختاره ابن عطية، قال أبو عبيد: وبعض الأحياء أسعد بها، وأكثر حظًا فيها من بعض.
وذكر حديث ابن شهاب، عن أنس أن عثمان -رضي اللَّه عنهما-، قال لهم حين أمرهم أن يكتبوا المصاحف: ما اختلفتم أنتم وزيد، فاكتبوه بلغة قريش، فإنه نزل بلغتهم، ذكره البخاريُّ.
وذكر حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-، قال: نزل القرآن بلغة الكعبين، كعب قريش، وكعب خُزاعَة، قيل: وكيف ذلك؟ قال: لأن الدار واحدة، قال أبو عبيد: يعني أن خزاعة جيران قريش، فأخذوا بلغتهم.
قال القاضي ابن الطيب: معنى قول عثمان -رضي اللَّه عنه-: فإنه نزل بلسان قريش، يريد معظمه وأكثره، ولم تقم دلالة قاطعة على أن القرآن بأسره مُنزل بلغة قريش فقط؛ إذ فيه كلمات، وحروف هي خلاف قريش، وقد قال اللَّه تعالى: ﴿إنّا جَعَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ [الزخرف ٣]، ولم يقل: قرشيًا، وهذا يدلّ على أنه منزل بجميع لسان العرب، وليس لأحد أن يقول: إنه أراد قريشًا من العرب دون غيرها، كما أنه ليس له أن يقول: أراد لغة عدنان، دون قحطان، أو ربيعة، دون مضر؛ لأن اسم العرب يتناول جميع هذه القبائل تناولًا واحدًا.
وقال ابن عبد البرِّ: قول من قال: إن القرآن نزل بلغة قريش معناه عندي: في الأغلب، واللَّه أعلم؛ لأن غير لغة قريش موجودة في صحيح القراءات، من تحقيق الهمزات ونحوها، وقريش لا تهمز.
وقال ابن عطية: معنى قول النبيّ ﷺ: «أنزل القرآن على سبعة أحرف»، أي فيه عبارة عن سبع قبائل، بلغة جملتها نزل القرآن، فيعبر عن المعنى فيه مرة بعبارة قريش، ومرة بعبارة هُذيل، ومرة بغير ذلك، بحسب الأفصح والأوجز في اللفظ.
ألا ترى أن «فطر» معناه عند غير قريش: ابتدأ خلق الشيء، وعمله، فجاءت في القرآن، فلم تَتَّجِهْ لابن عباس، حتى اختصم إليه أعرابيان في بئر، فقال أحدهما: أنا فَطَرتها، قال ابن عباس: ففهمت حينئذ موضع قوله تعالى: ﴿فاطِرِ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [فاطر ١].
وقال أيضًا: ما كنت أدري معنى قوله تعالى: ﴿رَبَّنا افْتَحْ بَيْنَنا وبَيْنَ قَوْمِنا بِالحَقِّ﴾ [الأعراف ٨٩] حتى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها: تعال أفاتِحْك؛ أي أحاكمك.
وكذلك قال عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-، وكان لا يفهم معنى قوله تعالى: ﴿أوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ﴾ [النحل ٤٧] أي على تنقص لهم.
وكذلك اتفق لقطبة بن مالك -رضي اللَّه عنه-، إذ سمع النبيّ ﷺ يقرأ في الصلاة: ﴿والنَّخْلَ باسِقاتٍ﴾ [ق ١٠]. ذكره مسلم في «باب القراءة في صلاة الفجر» إلى غير ذلك من الأمثلة.
[القول الثالث]: أن هذه اللغات السبع إنما تكون في مُضَر، قاله قوم، واحتجوا بقول عثمان -رضي اللَّه عنه-: نزل القرآن بلغة مضر، وقالوا: جائز أن يكون منها لقريش، ومنها لكنانة، ومنها لأسد، ومنها لهذيل، ومنها لتيم، ومنها لضَبَّة، ومنها لقيس. قالوا: هذه قبائل مضر، تستوعب سبع لغات على هذه المراتب، وقد كان ابن مسعود يحبّ أن يكون الذين يكتبون المصاحف من مضر.
وأنكر آخرون أن تكون كلها من مضر، وقالوا: في مضر شواذّ لا يجوز أن يقرأ القرآن بها، مثل كَشْكَشَة قيس، وتَمْتَمَة تميم، فأما كشكشة قيس، فإنهم يجعلون كاف المؤنث شينًا، فيقولون في ﴿قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا﴾ [مريم ٢٤] جعل ربش تحتش سريًا، وأما تمتمة تميم، فيقولون في الناس: النات، وفي أكياس: أكيات، قالوا: وهذه لغات يُرْغَب عن القرآن بها، ولا يحفظ عن السلف فيها شيء.
وقال آخرون: أما إبدال الهمزة عينًا، وإبدال حروف الحلق بعضها من بعض، فمشهور عن الفصحاء، وقد قرأ به الجِلَّةُ، واحتجوا بقراءة ابن مسعود -رضي اللَّه عنه-: «ليسجننه عَتّى حين»، ذكرها أبو داود، وبقول ذي الرُّمَّة [من الطويل]:
فَعَيْناكِ عَيْناها وجِيدُكِ جِيدُها … ولَوْنُكِ إلا عَنَّها غَيْرُ طائِلِ
يريد «إلا أنها».
[القول الرابع]: ما حكاه صاحب «الدلائل» عن بعض العلماء، وحَكى نحوه القاضي ابن الطيب، قال: تدبرت وجوه الاختلاف في القراءة، فوجدتها سبعًا:
منها: ما تتغير حركته، ولا يزول معناه، ولا صورته، مثل: ﴿هُنَّ أطْهَرُ لَكُمْ﴾ [هود ٧٨] و«أطْهَرَ»، ﴿ويَضِيقُ صَدْرِي﴾ [الشعراء ١٣] و«يُضيق».
ومنها: ما لا تتغير صورته، ويتغير معناه بالإعراب، مثل: ﴿رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أسْفارِنا﴾ [سبأ ١٩]، و«رَبُّنا باعَدَ».
ومنها: ما تبقى صورته، ويتغير معناه باختلاف الحروف، مثل قوله: ﴿نُنْشِزُها﴾ [البقرة ٢٥٩]، و«ننشُرُها».
ومنها: ما تتغير صورته، ويبقى معناه: مثل: ﴿كالعِهْنِ المَنفُوشِ﴾ [القارعة ٥]، و«كالصوف المنفوش».
ومنها: ما تتغير صورته، ومعناه، مثل: ﴿وطَلْحٍ مَنضُودٍ (٢٩)﴾ [الواقعة ٢٩]، «وطلع منضود».
ومنها: بالتقديم والتأخير، كقوله: ﴿وجاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالحَقِّ﴾ [ق ١٩]، «وجاءت سكرة الحق بالموت».
ومنها: بالزيادة والنقصان، مثل قوله: «تسع وتسعون نعجة أنثى»، وقوله: «وأما الغلام فكان كافرًا وكان أبواه مؤمنين»، وقوله: «فإن اللَّه من بعد إكراههن لهن غفور رحيم».
[القول الخامس]: إن المراد بالأحرف السبعة معاني كتاب اللَّه تعالى، وهي أمر، ونهي، ووعد، ووعيد، وقصص، ومجادلة، وأمثال.
قال ابن عطية: وهذا ضعيف؛ لأن هذا لا يسمى أحرفًا، وأيضًا فالإجماع على أن التوسعة لم تقع في تحليل حلال، ولا في تغيير شيء من المعاني.
وذكر القاضي ابن الطيب في هذا المعنى حديثًا عن النبيّ ﷺ، ثم قال: ولكن ليست هذه هي التي أجاز لهم القراءة بها، وإنما الحرف في هذه بمعنى الجهة والطريقة، ومنه قوله تعالى: ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ﴾ [الحج ١١]. فكذلك معنى هذا الحديث على سبع طرائق، من تحليل، وتحريم، وغير ذلك.
وقد قيل: إن المراد بقوله ﷺ: «أنزل القرآن على سبعة أحرف»: القراءات السبع التي قرأ بها القراء السبعة؛ لأنها كلها صحّت عن رسول اللَّه ﷺ، وهذا ليس بشيء؛ لظهور بطلانه. انتهى كلام القرطبيُّ ببعض تصرف [راجع: «الجامع لأحكام القرآن» ١/ ٤٢ – ٤٦].
وقد طوّل الكلام في تحقيق هذه المسألة الحافظ ابن حجر -رَحِمَهُ اللَّهُ- في «فتحه»، [راجع: «الفتح» ٨/ ٦٤٢ – ٦٤٥].
قال الإتيوبي عفا اللَّه تعالى عنه: قد تَلَخّص مما تقدم مما ساقه الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ- من كلام هؤلاء الأئمة الأعلام -رحمهم اللَّه تعالى- أن الراجح هو قول من قال: إن المراد بالأحرف السبعة في حديث الباب هي أوجه القراءة التي تُؤَدّى بها المعاني المتفقة بألفاظ مختلفة، وقد يكون ذلك في لغة واحدة، كما وقع لعمر وهشام بن حكيم -رضي اللَّه عنهما-، فإنهما قرشيان.
وأما بقية الأقوال فلا تخلو من ضعف، وأضعفها قول من قال: إنه من المتشابه الذي لا يُعْرَف معناه، كما اختاره السيوطيّ في شرح النسائيّ، فإنه من المحال أن يكون القرآن أُنزل على سبعة أحرف، ويؤمر الناس أن يقرؤوه على تلك الأحرف، ولا يدرون ما هي الأحرف؟ هذا من أغرب المحال، وأما تفسير من فسّره بالقراءة السبعة المشهورة فكونه غلطًا أظهر من أن يُشْهَر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[الفرع الثالث]: في اختلاف أهل العلم هل الأحرف السبعة المذكورة في الحديث مجموعة في المصحف الموجود اليومَ، أم لا؟:
قد جمع الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ- في «فتحه» أقوال أهل العلم في هذه المسألة، واستوفاها، مُلَخَّصةً، فأحببت إيرادها هنا لغزارة فوائدها، وكثرة عوائدها:
قال -رَحِمَهُ اللَّهُ-: قال أبو شامة -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وقد اختَلَف الناس في الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، هل هي مجموعة في المصحف الذي بأيدي الناس اليوم، أو ليس فيه إلا حرف واحد منها؟ مال الباقلاني إلى الأول، وصَرَّح الطبريّ وجماعة بالثاني، وهو المعتمد.
وقد أخرج ابن أبي داود في «المصاحف» عن أبي الطاهر بن السرح، قال: سألت ابن عيينة عن اختلاف قراءة المدنيين، والعراقيين، هل هي الأحرف السبعة؟، قال: لا، وإنما الأحرف السبعة مثل «هَلُمَّ»، و«تعالَ»، و«أقبل»، أيّ ذلك قلت أجزأك، قال: وقال لي ابن وهب مثله.
والحقّ أن الذي جُمِعَ في المصحف هو المتفق على إنزاله المقطوع به المكتوب بأمر النبيّ ﷺ، وفيه بعض ما اختُلِف فيه من الأحرف السبعة، لا جميعها، كما وقع في المصحف المكي ﴿تَجْرِي تَحْتَها الأنْهارُ﴾ [التوبة ١٠٠] في آخر براءة، وفي غيره بحذف «من»، وكذا وقع من اختلاف مصاحف الأمصار من عدة واوات ثابتة في بعضها دون بعض، وعدة هاآت، وعدة لامات، ونحو ذلك، وهو محمول على أنه نزل بالأمرين معًا، وأمر النبيّ ﷺ بكتابته لشخصين، أو أعلم بذلك شخصًا واحدًا، وأمره بإثباتهما على الوجهين، وما عدا ذلك من القراءة مما لا يوافق الرسم، فهو مما كانت القراءة جُوّزت به توسعةً على الناس وتسهيلًا؛ فلما آل الحال إلى ما وقع من الاختلاف في زمن عثمان، وكَفَّر بعضهم بعضًا اختاروا الاقتصار على اللفظ المأذون في كتابته، وتركوا الباقي.
قال الطبريّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وصار ما اتَّفَقَ عليه الصحابة من الاقتصار، كمن اقتصر مما خُيِّر فيه على خصلة واحدة؛ لأن أمرهم بالقراءة على الأوجه المذكورة لم يكن على سبيل الإيجاب، بل على سبيل الرخصة.
قال الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: ويدل عليه قوله ﷺ في حديث الباب: «فاقرؤوا ما تيسر منه».
وقد قرر الطبريّ ذلك تقريرًا أطنب فيه، ووَهّى من قال بخلافه، ووافقه على ذلك جماعة، منهم أبو العباس بن عمار في «شرح الهداية»، وقال: أصح ما عليه الحذاق أن الذي يقرأ الآن بعض الحروف السبعة المأذون في قراءتها، لا كلها.
وضابطه: ما وافق رسم المصحف، فأما ما خالفه، مثل «أن تبتغوا فضلًا من ربكم في مواسم الحج»، ومثل «إذا جاء فتح اللَّه والنصر»، فهو من تلك القراءات التي تُرِكت، إن صح السند بها، ولا يكفي صحة سندها في إثبات كونها قرآنًا، ولا سيما والكثير منها مما يَحْتَمِل أن يكون من التأويل الذي قرن إلى التنزيل، فصار يظن أنه منه.
وقال البغويُّ في «شرح السنة»: المصحف الذي استقرّ عليه الأمر هو آخر العرضات على رسول اللَّه ﷺ، فأمر عثمان بنسخه في المصاحف، وجَمَعَ الناس عليه، وأذهَبَ ما سوى ذلك قطعًا لمادة الخلاف، فصار ما يخالف خط المصحف في حكم المنسوخ والمرفوع، كسائر ما نُسِخ ورُفِع، فليس لأحد أن يعدو في اللفظ إلى ما هو خارج عن الرسم.
وقال أبو شامة -رَحِمَهُ اللَّهُ-: ظَنّ قوم أن القراءات السبع الموجودة الآن هي التي أريدت في الحديث، وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة، وإنما يَظُنّ ذلك بعض أهل الجهل.
وقال ابن عمار أيضًا: لقد فعل مسبِّعُ هذه السبعة ما لا ينبغي له، وأشكل الأمر على العامة بإيهامه كل من قلَّ نظره أن هذه القراءات هي المذكورة في الخبر، وليته إذ اقتصر نقص عن السبعة، أو زاد ليزيل الشبهة، ووقع له أيضًا في اقتصاره عن كل إمام على راويين أنه صار من سمع قراءة راوٍ ثالثٍ غيرهما أبطلها، وقد تكون هي أشهر، وأصح، وأظهر، وربما بالغ من لا يفهم، فخطأ، أو كفر.
وقال أبو بكر ابن العربيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: ليست هذه السبعة متعينة للجواز، حتى لا يجوز غيرها، كقراءة أبي جعفر، وشيبة، والأعمش، ونحوهم، فإن هؤلاء مثلهم، أو فوقهم.
وكذا قال غير واحد: منهم مكي بن أبي طالب، وأبو العلاء الهمداني، وغيرهم من أئمة القراء.
وقال أبو حيان: ليس في كتاب ابن مجاهد، ومن تبعه من القراءات المشهورة إلا النزر اليسير، فهذا أبو عمرو بن العلاء اشتهر عنه سبعة عشر راويًا، ثم ساق أسماءهم، واقتصر في كتاب ابن مجاهد على اليزيدي، واشتهر عن اليزيدي عشرة أنفس، فكيف يقتصر على السُّوسي، والدُّوري، وليس لهما مزية على غيرهما؛ لأن الجميع مشتركون في الضبط، والإتقان، والاشتراك في الأخذ، قال: ولا أعرف لهذا سببًا إلا ما قُضِيَ من نقص العلم، فاقتصر هؤلاء على السبعة، ثم اقتصر من بعدهم من السبعة على النزر اليسير.
وقال أبو شامة -رَحِمَهُ اللَّهُ-: لم يُرد ابن مجاهد ما نُسِب إليه، بل أخطأ من نَسَب إليه ذلك.
وقد بالغ أبو طاهر ابن أبي هاشم صاحبه في الردّ على من نسب إليه أن مراده بالقراءات السبع الأحرف السبعة المذكورة في الحديث، قال ابن أبي هاشم: إن السبب في اختلاف القراءات السبع وغيرها، أن الجهات التي وجهت إليها المصاحف كان بها من الصحابة من حَمَل عنه أهل تلك الجهات، وكانت المصاحف خالية من النقط والشكل، قال: فثبت أهل كل ناحية على ما كانوا تلقوه سماعًا عن الصحابة بشرط موافقة الخط، وتركوا ما يخالف الخط، امتثالًا لأمر عثمان الذي وافقه عليه الصحابة لما رأوا في ذلك من الاحتياط للقرآن، فمن ثم نشأ الاختلاف بين قراء الأمصار، مع كونهم متمسكين بحرف واحد من السبعة.
وقال مكي بن أبي طالب -رَحِمَهُ اللَّهُ-: هذه القراءات التي يقرأ بها اليوم، وصحت رواياتها عن الأئمة جزء من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ثم ساق نحو ما تقدم، قال: وأما من ظن أن قراءة هؤلاء القراء، كنافع، وعاصم هي الأحرف السبعة التي في الحديث، فقد غلط غلطًا عظيمًا، قال: ويلزم من هذا أن ما خرج عن قراءة هؤلاء السبعة مما ثبت عن الأئمة غيرهِم، ووافق خط المصحف أن لا يكون قرآنًا، وهذا غلط عظيم، فإن الذين صنفوا القراءات من الأئمة المتقدمين -كأبي عبيد القاسم بن سلام، وأبي حاتم السجستاني، وأبي جعفر الطبري، وإسماعيل بن إسحاق القاضي- قد ذكروا أضعاف هؤلاء.
قال الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: قلت: اقتصر أبو عبيدة في كتابه على خمسة عشر رجلًا، من كل مصر ثلاثة أنفس: فذكر من مكة ابنَ كثير، وابن محيصن، وحُميدًا الأعرج، ومن أهل المدينة أبا جعفر، وشيبة، ونافعًا، ومن أهل البصرة أبا عمرو، وعيسى بن عمر، وعبد اللَّه بن أبي إسحاق، ومن أهل الكوفة يحيى بن وثّاب، وعاصمًا، والأعمش، ومن أهل الشام عبد اللَّه بن عامر، ويحيى بن الحارث، قال: وذهب عني اسم الثالث، ولم يذكر في الكوفيين حمزة، ولا الكسائي، بل قال: إن جمهور أهل الكوفة بعد الثلاثة صاروا إلى قراءة حمزة، ولم يجتمع عليه جماعتهم، قال: وأما الكسائيّ، فكان يتخير القراءات، فأخذ من قراءة الكوفيين بعضًا، وترك بعضًا، وقال بعد أن ساق أسماء من نقلت عنه القراءة من الصحابة والتابعين: فهؤلاء هم الذين يُحكى عنهم عُظْمُ القراءة، وإن كان الغالب عليهم الفقه والحديث، قال: ثم قام بعدهم بالقراءات قوم ليست لهم أسنانهم، ولا تقدمهم، غير أنهم تجردوا للقراءة، واشتدت عنايتهم بها، وطلبهم لها، حتى صاروا بذلك أئمة يقتدي الناس بهم فيها، فذكرهم.
وذكر أبو حاتم زيادة على عشرين رجلًا، ولم يذكر فيهم ابن عامر، ولا حمزة، ولا الكسائي، وذكر الطبريّ في كتابه اثنين وعشرين رجلًا.
قال مكي: وكان الناس على رأس المائتين بالبصرة على قراءة أبي عمرو، ويعقوب، وبالكوفة على قراءة حمزة، وعاصم، وبالشام على قراءة ابن عامر، وبمكة على قراءة ابن كثير، وبالمدينة على قراءة نافع، واستمرّوا على ذلك، فلما كان على رأس الثلاثمائة أثبت ابن مجاهد اسم الكسائي، وحذف يعقوب، قال: والسبب في الاقتصار على السبعة -مع أن في أئمة القراء من هو أجلّ منهم قدرًا، ومثلهم أكثر من عددهم- أن الرواة عن الأئمة كانوا كثيرين جدًا، فلما تقاصرت الهمم اقتصروا مما يوافق خط المصحف على ما يسهل حفظه، وتنضبط القراءة به، فنظروا إلى من اشتهر بالثقة، والأمانة، وطول العمر في ملازمة القراءة، والاتفاق على الأخذ عنه، فأفردوا من كل عليه السلام إمامًا واحِدًا، ولم يتركوا مع ذلك نقل ما كان عليه الأئمة غير هؤلاء من القراءات، ولا القراءة به، كقراءة يعقوب، وعاصم الجحدري، وأبي جعفر، وشيبة، وغيرهم.
قال: وممن اختار من القراءات كما اختار الكسائي أبو عبيد، وأبو حاتم، والمفضل، وأبو جعفر الطبري، وغيرهم، وذلك واضح في تصانيفهم في ذلك.
وقد صنف ابن جبير المكي، وكان قبل ابن مجاهد كتابًا في القراءات، فاقتصر على خمسة اختار من كل مصر إمامًا، وإنما اقتصر على ذلك؛ لأن المصاحف التي أرسلها عثمان كانت خمسة إلى هذه الأمصار، ويقال: إنه وجَّهَ بسبعة، هذه الخمسة، ومصحفًا إلى اليمن، ومصحفًا إلى البحرين، لكن لم نسمع لهذين المصحفين خبرًا، وأراد ابن مجاهد وغيره مراعاة عدد المصاحف، فاستبدلوا من غير البحرين واليمن قارئين يكمل بهما العدد، فصادف ذلك موافقة العدد الذي ورد الخبر به، وهو «أن القرآن أنزل على سبعة أحرف»، فوقع ذلك لمن لم يعرف أصل المسألة، ولم يكن له فطنة، فظن أن المراد بالقراءات السبع الأحرف السبعة، ولا سيما، وقد كثر استعمالهم الحرف في موضع القراءة، فقالوا: قرأ بحرف نافع، وبحرف ابن كثير، فتأكد الظن بذلك، وليس الأمر كما ظنه، والأصل المعتمد عليه عند الأئمة في ذلك أنه الذي يصح سنده في السماع، ويستقيم وجهه في العربية، ويوافق خط المصحف، وربما زاد بعضهم الاتفاق عليه، ونعني بالاتفاق كما قال مكي بن أبي طالب ما اتفق عليه قراء المدينة والكوفة، ولا سيما إذا اتفق نافع وعاصم، قال: وربما أرادوا بالاتفاق ما اتفق عليه أهل الحرمين، قال: وأصح القراءات سندًا نافع، وعاصم، وأفصحها أبو عمرو، والكسائيّ.
وقال ابن السمعانيّ في «الشافي»: التمسك بقراءة سبعة من القراء دون غيرهم ليس فيه أثر، ولا سنة، وإنما هو من جمع بعض المتأخرين، فانتشر رأيهم أنه لا تجوز الزيادة على ذلك، قال: وقد صنف غيره في السبع أيضًا، فذكر شيئًا كثيرًا من الروايات عنهم غير ما في كتابه، فلم يقل أحد: إنه لا تجوز القراءة بذلك لخلو ذلك المصحف عنه.
وقال أبو الفضل الرازيّ في «اللوائح» بعد أن ذكر الشبهة التي من أجلها ظن الأغبياء أن أحرف الأئمة السبعة هي المشار إليها في الحديث، وأن الأئمة بعد ابن مجاهد جعلوا القراءات ثمانية أو عشرة لأجل ذلك. قال: واقتفيت أثرهم لأجل ذلك، وأقول: لو اختار إمام من أئمة القراء حروفًا، وجرَّد طريقًا في القراءة بشرط الاختيار لم يكن ذلك خروجًا عن الأحرف السبعة.
وقال الكواشي: كل ما صحّ سنده، واستقام وجهه في العربية، ووافق لفظه خط المصحف الإمام فهو من السبعة المنصوصة، فعلى هذا الأصل بني قبول القراءات عن سبعة كانوا، أو سبعة آلاف، ومتى فقد شرط من الثلاثة، فهو الشاذ.
قال الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وإنما أوسعت القول في هذا لما تجدد في الأعصار المتأخرة من توهم أن القراءات المشهورة منحصرة في مثل «التيسير»، و«الشاطبية»، وقد اشتد إنكار أئمة هذا الشأن على من ظن ذلك، كأبي شامة، وأبي حيان، وآخرُ من صرح بذلك السبكي، فقال في «شرح المنهاج» عند الكلام على القراءة بالشاذ: صرح كثير من الفقهاء بأن ما عدا السبعة شاذّ، توهمًا منه انحصار المشهور فيها، والحق أن الخارج عن السبعة على قسمين:
الأول: ما يخالف رسم المصحف، فلا شك في أنه ليس بقرآن.
والثاني: ما لا يخالف رسم المصحف، وهو على قسمين أيضًا:
الأول: ما ورد من طريق غريبة، فهذا ملحق بالأول.
والثاني: ما اشتهر عند أئمة هذا الشأن القراءة به قديمًا وحديثًا، فهذا لا وجه للمنع منه، كقراءة يعقوب، وأبي جعفر، وغيرهما. ثم نقل كلام البغوي، وقال: هو أولى من يعتمد عليه في ذلك، فإنه فقيه محدث مقرئ، ثم قال: وهذا التفصيل بعينه وارد في الروايات عن السبعة، فإن عنهم شيئًا كثيرًا من الشواذ، وهو الذي لم يأت إلا من طريق غريبة، وإن اشتهرت القراءة من ذلك المنفرد، وكذا قال أبو شامة، ونحن وإن قلنا: إن القراءة الصحيحة إليهم نسبت، وعنهم نقلت، فلا يلزم أن جميع ما نقل عنهم بهذه الصفة، بل فيه الضعيف، لخروجه عن الأركان الثلاثة، ولهذا ترى كتب المصنفين مختلفة في ذلك، فالاعتماد في غير ذلك على الضابط المتفق عليه. انتهى ما في «الفتح» [«الفتح» ٨/ ٦٤٢ – ٦٤٨ «كتاب فضائل القرآن» رقم (٤٩٩٢)].
وإلى الشروط الثلاثة المذكورة أشار المحقّق ابن الجزريُّ في «طيبة النشر» بقوله:
وكُلُّ ما وافَقَ وجْهًا نَحْوِي … وكانَ لِلرَّسْم احْتِمالًا يَحْوِي
وصَحَّ إسْنادًا هُوَ القُرْآنُ … فَهذِهِ الثَّلاثَةُ الأرْكانُ
وحَيْثُما يَخْتَلُّ شَرْطٌ أثْبِتِ … شُذُوذَهُ لَوْ أنَّهُ فِي السَّبْعَةِ
قال الإتيوبي عفا اللَّه تعالى عنه: هذا خلاصة ما نقلوه، وتحقيق ما قالوه، وهو تحقيق نفيس، وبحث أنيس، لمن له رغبة في العلم، وتطلع إلى الفهم، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. [البحر المحيط الثجاج].