1209 فتح الأحد الصمد شرح الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير ومحمد البلوشي وكديم وعبدالحميد البلوشي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى ، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا )
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
قال الشيخ مقبل الوادعي في الصحيح المسند (ج2/ رقم 1209):
مسند أبي بَصْرَةَ رضي الله عنه
قال الإمام النسائي رحمه الله في «عمل اليوم والليلة» (ص ٣٠٥): أخبرنا واصل بن عبد الأعلى قال حدثنا أبو أسامة عن عبد الحميد وهو ابن جعفر عن يزيد عن مرثد بن عبد الله عن أبي بصرة الغفاري: أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إني راكب إلى يهود فمن انطلق معي فإن سلموا عليكم، فقولوا: وعليكم».
هذا حديث صحيحٌ على شرط مسلم.
الحديث أخرجه الإمام أحمد (ج ٦ ص ٣٩٨) فقال: حدثنا أبو عاصم، عن عبد الحميد يعني ابن جعفر، قال: أخبرني يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد بن عبد الله، عن أبي بصرة الغفاري به. ثم قال : ثنا حسن، ثنا ابن لهيعة، قال: حدثنا يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، قال سمعت أبا بصرة … وذكر الحديث.
===================
وفي مسند الإمام أحمد حَدَّثَنا أبُو بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا ابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أبِي حَبِيبٍ، عَنْ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ اليَزَنِيِّ، عَنْ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الجُهَنِيِّ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إنِّي راكِبٌ غَدًا إلى اليَهُودِ فَلا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلامِ، فَإذا سَلَّمُوا عَلَيْكُمْ فَقُولُوا: وعَلَيْكُمْ»، (جة) ٣٦٩٩ [قال الألباني]: صحيح.
– حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ أبِي عَدِيٍّ، عَنْ ابْنِ إسْحاقَ، قالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أبِي حَبِيبٍ، عَنْ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ اليَزَنِيِّ، عَنْ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الجُهَنِيِّ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إنِّي راكِبٌ غَدًا إلى يَهُودَ، فَلا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلامِ، فَإذا سَلَّمُوا عَلَيْكُمْ فَقُولُوا: وعَلَيْكُمْ» قالَ عَبْدُ اللَّهِ: قالَ أبِي «خالَفَهُ عَبْدُ الحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ وابْنُ لَهِيعَةَ، قالا: عَنْ أبِي بَصْرَةَ، حَدَّثَنا أبُو عاصِمٍ، عَنْ عَبْدِ الحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، قالَ أبُو بَصْرَةَ – يَعْنِي فِي حَدِيثِ ابْنِ أبِي عَدِي – عَنْ ابْنِ إسْحاقَ» (حم) ١٧٢٩٥
الحديث سيكون من وجوه:
أورده النسائي رحمه الله في (عمل اليوم والليلة)، ما يَقُول لأهل الكتاب إذا سلمُوا عَلَيْهِ وذكر اخْتِلاف الناقلين للْخَبَر فِي ذَلِك، (٣٨٨).
والوادعي رحمه الله جعله في الجامع:
٣٢ – كتاب الأدب، ٥٢ – كيفية الإجابة على أهل الكتاب، (٣٥٦٣).
33- كتاب التفسير، ٣٥٣ – قوله تعالى: ﴿وإذا جاءُوكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ﴾، (٤٣٤٩).
وفي سنن ابن ماجه، كتاب الأدب، بابُ رَدِّ السَّلامِ عَلى أهْلِ الذِّمَّةِ، (٣٦٩٩)، لكنه عَنْ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الجُهَنِيِّ رضي الله عنه. [صحيح، الإرواء (٥ / ١١٢ – ١١٣ و١٢٧٥)].
وفي شعب الإيمان للبيهقي رحمه الله، 61- مقاربة أهل الدين ومودتهم، وإفشاء السلام، (٨٥١٣).
وفي الأدب المفرد، ٥١٣- باب لا يبدأ أهل الذمة بالسلام، (١١٠٢)، صححه الألباني رحمه الله.
وفي (مصنف ابن أبي شيبة)، فِي رَدِّ السَّلامِ عَلى أهْلِ الذِّمَّةِ، (٢٥٧٦٤).
انظر: أنيس الساري (تخريج أحاديث فتح الباري)، رقم (١٥٢٨).
وانظر: أحكام السلام والتحية واللقاء، تعليق على الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين؛ (من المجلد الثاني) (١٤١٤)، (١٠٦٣)، (١٥٨٦)، (ج٢/ رقم ١١٢١).
وانظر أيضا: أحكام أهل الذمة لابن القيم رحمه الله، ذكر معاملة أهل الذمة عند اللقاء، فصل حكم بداءة أهل الذمة بِالسَّلامِ، (1ج/ص409) تراث.
ومسائل في السلام من اللقاء الشهري للشيخ ابن عثيمين رحمه الله.
الأول: شرح الحديث:
عن أبي بصرة الغفاري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: «إني راكب إلى يهود فمن انطلق معي فإن سلموا عليكم، فقولوا: وعليكم».
وفي رواية (إني راكب غدًا إلى اليهود) للمناظرة، فإذا لقيتموهم ..
وقوله: «يهود» قال في «التاج»: اليَهُودُ اسمُ قَبِيلَةٍ، وقيل: إنما اسمُ هذه القبيلةِ يَهُوذ، فعُرِّب بقلب الذالِ دالًا، قال ابنُ سِيدَه: وليس هذا بِقَوِيٍّ، … وجمْع اليَهُودِيّ: يَهودٌ، كما يقال في المَجوسِيّ: مَجُوسٌ، وفي العَجَمِيّ، والعَرَبِيّ: عَجَمٌ، وعَرَبٌ، وسُمِّيَت اليَهود اشتقاقًا مِن هادُوا؛ أي: تابُوا، وأرادوا باليَهُودِ اليَهُودِيِّينَ، ولكنهم حَذَفُوا ياءَ الإضافَة، كما قالوا: زِنْجِيّ، وزِنْج. انتهى [»تاج العروس«١/ ٢٣٦٦].
وقال الفيّوميّ رحمه الله: هُودٌ: اسم نَبِيّ عليه السلام عربيُّ، ولهذا ينصرف، وهادَ الرَّجل هَوْدًا: إذا رَجَع، فهو هائِدٌ، والجمع هُودٌ، مثلُ بازِل وبُزْلٍ….. انتهى [»المصباح المنير«٢/ ٦٤٢]. [البحر المحيط]
قال: «فمن انطلق معي». وفي رواية (فلا تبدؤوهم بالسلام)؛ لأن الابتداء بالسلام مكرمة وليسوا من أهل المكرمات.
قال: «فإن سلموا عليكم» أي: بدؤوكم بالسلام.
«فقولوا:» في رد سلامهم،
«وعليكم» ما قلتم لنا من السلام. [مرشد ذوي الحجا، بتصرف].
فوائد الباب:
1 – (منها): بيان تحريم ابتداء المسلم لليهوديّ والنصراني بالسلام؛ لأن ذلك أصل النهي، وحَمْله على الكراهة خلاف أصله، وعليه حَمَله الأقل، وإلى التحريم ذهب الجمهور من السلف والخلف، وسيأتي تحقيقه – إن شاء الله تعالى-.
2 – (ومنها): أن مفهوم قوله: «لا تبدءوا» أنه لا يُنْهى عن الجواب عليهم إن سلَّموا، ويدلّ له عموم قوله تعالى: ﴿وإذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأحْسَنَ مِنها أوْ رُدُّوها﴾ [النساء ٨٦] وأحاديث: «إذا سَلَّم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم»، وفي رواية: «إن اليهود إذا سلّموا عليكم يقول أحدهم: السام عليكم، فقولوا: وعليك» وفي رواية: «قل: وعليك»، أخرجها مسلم.
3 – (ومنها): أن فيه الحثّ على إفشاء السلام الذي هو دليل على خفض الجناح للمسلمين، والتواضع، والحثّ على تألّف قلوبهم، واجتماع كلمتهم، وتوادّهم، ومحبّتهم.
4 – (ومنها): الإشارة إلى تعميم السلام، وهو أن لا يخصّ به أحدًا دون أحد، كما يفعله الجبابرة؛ لأن المؤمنين كلهم إخوة، وهم متساوون في رعاية الأخوة.
ثم إن هذا التعميم مخصوص بالمسلمين، فلا يسلّم ابتداء على كافر؛ لقوله – ﷺ -: «لا تبدءوا اليهود، ولا النصارى بالسلام، فإذا لقيتموهم في الطريق، فاضطرّوهم إلى أضيقه»، رواه البخاريّ، وكذلك خُصّ منه الفاسق بدليل آخر، وأما من شُكّ فيه، فالأصل فيه البقاء على العموم، حتى يثبت الخصوص.
ويمكن أن يقال: إن الحديث كان في ابتداء الإسلام لمصلحة التأليف، ثم ورَدَ النهي. [راجع: «عمدة القاري» ١/ ١٥٦ – ١٥٧].
وقال النوويّ في «شرحه»: وفي هذه الأحاديث جُمَلٌ من العلم، ….، وفيها الحثّ على تألُّف قلوب المسلمين، واجتماع كلمتهم، وتوادّهم، واستجلاب ما يُحَصّل ذلك، قال القاضي رحمه الله تعالى: والأُلْفَة إحدى فرائض الدين، وأركان الشريعة، ونظام شَمْلِ الإسلام، قال: وفيه بذل السلام من عَرَفت ولمن لم تعرف، وإخلاص العمل فيه لله تعالى، لا مصانعة، ولا مَلَقًا، وفيه مع ذلك استعمال خُلُق التواضع، وإفشاء شعار هذه الأمة. انتهى[البحر المحيط الثجاج].
الثاني: مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): الأحاديث
1 – عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ، قالَ: «لا تَبْدَءُوا اليَهُودَ ولا النَّصارى بِالسَّلامِ، فَإذا لَقِيتُمْ أحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ، فاضْطَرُّوهُ إلى أضْيَقِهِ»، (م) ١٣ – (٢١٦٧).
– وفِي حَدِيثِ وكِيعٍ: ((إذا لَقِيتُمُ اليَهُودَ))، وفِي حَدِيثِ ابْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ قالَ: ((فِي أهْلِ الكِتابِ))، وفِي حَدِيثِ جَرِيرٍ: ((إذا لَقِيتُمُوهُمْ))، ولَمْ يُسَمِّ أحَدًا مِنَ المُشْرِكِين، (م) ١٣.
– وفي سنن الترمذي وذكر حديث أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه … وقال : وفِي الباب عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وأنَسٍ، وأبِي بَصْرَةَ الغِفارِيِّ صاحِبِ النَّبِيِّ ﷺ: هَذا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، (ت) ١٦٠٢ [قال الألباني]: صحيح.
– وفي سنن أبي داود عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أبِي صالِحٍ، قالَ: خَرَجْتُ مَعَ أبِي إلى الشّامِ، فَجَعَلُوا يَمُرُّونَ بِصَوامِعَ فِيها نَصارى فَيُسَلِّمُونَ عَلَيْهِمْ، فَقالَ: أبِي لا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلامِ، فَإنَّ أبا هُرَيْرَةَ، حَدَّثَنا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، قالَ: «لا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلامِ، وإذا لَقِيتُمُوهُمْ فِي الطَّرِيقِ فاضْطَرُّوهُمْ إلى أضْيَقِ الطَّرِيقِ»، (د) ٥٢٠٥ [قال الألباني]: صحيح
– وعند الإمام أحمد حَدَّثَنا أبُو كامِلٍ، حَدَّثَنا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنا سُهَيْلُ بْنُ أبِي صالِحٍ، به وفيه قالَ زُهَيْرٌ: فَقُلْتُ لِسُهَيْلٍ: اليَهُودُ والنَّصارى؟ فَقالَ: «المُشْرِكُونَ» (حم) ٧٥٦٧
وراجع «الإرواء» (١٢٧١)، «الصحيحة» (٧٠٤ و١٤١١): م.
2 – عَنْ أنَسٍ، أنَّ أصْحابَ النَّبِيِّ ﷺ، قالُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ: إنَّ أهْلَ الكِتابِ يُسَلِّمُونَ عَلَيْنا فَكَيْفَ نَرُدُّ عَلَيْهِمْ؟ قالَ: «قُولُوا وعَلَيْكُمْ»، (م) ٧ – (٢١٦٣)
– وفي سنن أبي داود عَنْ أنَسٍ مثله قالَ أبُو داوُدَ: وكَذَلِكَ رِوايَةُ عائِشَةَ، وأبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الجُهَنِيِّ، وأبِي بَصْرَةَ يَعْنِي الغِفارِيَّ، (د) ٥٢٠٧ [قال الألباني]: صحيح
– وفي مسند أحمد عن أنَسُ بْنُ مالِكٍ: «نُهِينا – أوْ قالَ: أُمِرْنا – أنْ لا نَزِيدَ أهْلَ الكِتابِ عَلى» وعَلَيْكُمْ «(حم) ١٢١١٥
[انظر: مُعامَلَةُ الذِّمِّيّ، المسند الموضوعي الجامع للكتب العشرة].
(المسألة الثانية): في اختلاف أهل العلم في ابتداء الكفّار بالسلام:
ذهب الجمهور من السلف والخلف إلى تحريم ابتدائهم به، وذهب طائفة منهم ابن عباس إلى جواز الابتداء لهم بالسلام، – وهو وجه لبعض الشافعية -، إلا أنه قال المازريّ: إنه يقال: السلام عليك بالأفراد، ولا يقال: السلام عليكم؛ واحتُجّ لهم بعموم قوله تعالى: ﴿وقُولُوا لِلنّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة ٨٣]، وأحاديث الأمر بإفشاء السلام.
والجواب: أن هذه العمومات مخصوصة بحديث الباب.
وهذا إذا كان الذميّ منفردًا، وأما إذا كان معه مسلم جاز الابتداء بالسلام، ينوي به المسلم؛ لأنه قد ثبت أنه – ﷺ – سَلَّم على مجلس فيه أخلاط من المشركين والمسلمين، قاله الصنعانيّ رحمه الله [«سبل السلام» ٤/ ٦٧ – ٦٨].
وقال الإمام أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: وأما ابتداء أهل الذمة بالسلام، فقد اختَلَف فيه السلف ومَن بعدهم،
فكرهت طائفة: أن يُبتدأ أحد منهم بالسلام؛ لحديث أبي هريرة – رضي الله عنه – المذكور في الباب، وقال أحمد بن حنبل: المصير إلى هذا الحديث أولى مما خالفه.
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة، عن إسماعيل بن عياش، عن محمد بن زياد الألهانيّ، وشَرَحبيل بن مسلم، عن أبي أمامة الباهليّ – رضي الله عنه – أنه كان لا يمرّ بمسلم، ولا يهوديّ، ولا نصرانيّ إلا بدأه بالسلام، ورُوي عن ابن مسعود، وأبي الدرداء، وفَضالة بن عُبيد أنهم كانوا يبدأون أهل الذمة بالسلام.
وعن ابن مسعود أنه كتب إلى رجل من أهل الكتاب: السلام عليك، وعنه أيضًا أنه قال: لو قال لي فرعون خيرًا لرددت عليه مثله.
وروى الوليد بن مسلم، عن عروة بن رُويم قال: رأيت أبا أمامة الباهلي يسلّم على كل من لقي من مسلم، وذميّ، ويقول: هي تحية لأهل ملتنا، وأمان لأهل ذمتنا، واسم من أسماء الله، نُفْشيه بيننا.
وقيل لمحمد بن كعب القرظيّ: إن عمر بن عبد العزيز سئل عن ابتداء أهل الذمة، فقال: نَرُدّ عليهم، ولا نبدأهم، فقال: أما أنا فلا أرى باسًا أن نبدأهم بالسلام، قيل له: لم؟ قال: لقول الله تعالى: ﴿فاصْفَحْ عَنْهُمْ وقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩)﴾ [الزخرف ٨٩] ومذهب مالك في ذلك كمذهب عمر بن عبد العزيز، وأجاز ذلك ابن وهب.
قال ابن عبد البرّ: وقد يَحْتَمِل عندي حديث سهيل أن يكون معنى قوله: «لا تبدؤوهم»؟ أي: ليس عليكم أن تبدؤهم كما تصنعون بالمسلمين، وإذا حُمِل على هذا ارتفع الاختلاف.
قال الأتيوبي عفا الله عنه: هذا الاحتمال الذي ذكره ابن عبد البرّ رحمه الله بعيد عن ظاهر الحديث، فالحقّ أن النهي محمول على التحريم، كما هو مذهب الجمهور، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم.
قال: وقد رَوى سفيان بن عيينة عن زَمْعَة بن صالح قال: سمعت ابن طاوس يقول: إذا سلَّم عليك اليهوديّ، أو النصرانيّ فقل: عَلاك السلامُ؛ أي: ارتفع عنك السلام، قال ابن عبد البرّ: هذا لا وجه له، مع ما ثبت عن النبيّ – ﷺ -، ولو جاز مخالفة الحديث إلى الرأي في مثل هذا لاتسع في ذلك القول، وكثرت المعاني.
قال: ومثل قول ابن طاوس في هذا الباب قول من قال: يردّ على أهل الكتاب: عليك السلام بكسر السين؛ يعني: الحجارة، وهذا غاية في ضعف المعنى، ولم يُبَحْ لنا أن نَشتمهم ابتداءً وحسبنا أن نردّ عليهم بمثل ما يقولون في قول: وعليك، مع امتثال السُّنَّة التي فيها النجاة لمن تبعها، وبالله التوفيق. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله تعالى [«التمهيد لابن عبد البرّ» ١٧/ ٩٤].
(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في السلام على من اقترف ذنبًا:
قال الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى في «صحيحه»: «باب من لم يُسَلِّم على من اقتَرَفَ ذنبًا، ومن لم يُرَدّ سلامه حتى تتبيّن توبته، وإلى متى تتبيّن توبة العاصي؟».
قال في «الفتح»:
أما الحُكم الأول: [من لم يُسَلِّم على من اقتَرَفَ ذنبًا]
فأشار إلى الخلاف فيه، وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يُسَلَّم على الفاسق، ولا المبتدع، قال النوويّ: فإن اضطَرَّ إلى السلام، بأن خاف ترتب مفسدة في دين، أو دنيا إن لم يسلِّم سَلَّمَ، وكذا قال ابن العربيّ، وزاد: وينوي أن السلام اسم من أسماء الله تعالى، فكأنه قال: الله رقيبٌ عليكم.
وقال المهلَّب: تركُ السلام على أهل المعاصي سُنَة ماضية، وبه قال كثير من أهل العلم في أهل البدع، وخالف في ذلك جماعة.
وقال ابن وهب: يجوز ابتداء السلام على كل أحد، ولو كان كافرًا، واحتَجَّ بقوله تعالى: ﴿وقُولُوا لِلنّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة ٨٣].
وتُعُقِّب: بأن الدليل أعمّ من الدعوى، وألحق بعض الحنفية بأهل المعاصي من يتعاطى خوارم المروءة، ككثرة المزاح، واللهو، وفُحْش القول، والجلوس في الأسواق لرؤية من يَمُرّ من النساء، ونحو ذلك.
وحَكى ابن رُشْد قال: قال مالك: لا يسلّم على أهل الأهواء، قال ابن دقيق العيد: ويكون ذلك على سبيل التأديب لهم، والتبرّي منهم.
وأما الحُكم الثاني: [من لم يُرَدّ سلامه حتى تتبيّن توبته]
فاختُلِف فيه أيضًا، فقيل: يُستبرأ حاله سنةً، وقيل: ستة أشهر، وقيل: خمسين يومًا، كما في قصة كعب، وقيل: ليس لذلك حدّ محدود، بل المدار على وجود القرائن الدالة على صدق مُدّعاه في توبته، ولكن لا يكفي ذلك في ساعة، ولا يوم، ويختلف ذلك باختلاف الجناية، والجاني.
وقد اعتَرَض الداوديّ على من حدَّه بخمسين ليلةً أخذًا من قصة كعب، فقال: لم يحدّه النبيّ – ﷺ – بخمسين، وإنما أخَّر كلامهم إلى أن أذِن الله فيه؛ يعني: فتكون واقعة حال لا عموم فيها.
وقال النوويّ: وأما المبتدع، ومن اقترف ذنبًا عظيمًا، ولم يَتُب منه، فلا يُسَلَّم عليهم، ولا يُرَدّ السلام، كما قال جماعة من أهل العلم، واحتَجَّ البخاريّ لذلك بقصة كعب بن مالك – رضي الله عنه – انتهى.
قال الحافظ: والتقييد بمن لم يتب جيّد، لكن في الاستدلال لذلك بقصة كعب نظرٌ، فإنه نَدِم على ما صدر منه، وتاب، ولكن أُخّر الكلام معه حتى قَبِل الله توبته، وقضيّته أن لا يُكَلَّم حتى تُقبل توبته.
ويمكن الجواب: بأن الاطلاع على القبول في قصة كعب كان ممكنًا، وأما بعده فيكفي ظهور علامة الندم، والإقلاع، وأمارة صدق ذلك. انتهى ما في «الفتح» [«الفتح» ١٤/ ١٨٨ – ١٨٩، كتاب «الاستئذان» رقم (٦٢٥٥)].
قال الأتيوبي عفا الله عنه: التي يترجّح عندي من هذه الأقوال أنه لا يسلّم على الفاسق، والمبتدع، ولا يردّ سلامهما إلى أن يتوبا، ولا سيّما إذا كان ذلك يدعوهما إلى التوبة، وليس لذلك حدّ محدود، بل المدار على وجود القرائن الدالة على صدق توبته، لكن هذا إذا لم يترتب عليه ضرر، أما إذا كانا ممن يُخشى بطشه، وحصول الضرر لمن ترك ذلك فيسلّم عليهما؛ للضرورة، والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابع): في اختلاف أهل العلم في السلام على أهل مجلس، فيه أخلاط من المسلمين، وغيرهم:
قال النوويّ رحمه الله: السُّنَّة إذا مَرّ بمجلس فيه مسلم وكافر أن يسلّم بلفظ التعميم، ويقصد به المسلمَ،
قال ابن العربيّ رحمه الله: ومثله إذا مَرّ بمجلس يجمع أهل السُّنَّة والبدعة، وبمجلس فيه عدول وظَلمة، وبمجلس فيه محب ومبغض.
وأجاب عياض عن الآية، وكذا عن قول إبراهيم عليه السلام لأبيه بأن القصد بذلك المتاركة والمباعدة، وليس القصد فيهما التحية.
وقد صَرّح بعض السلف بأن قوله تعالى: هـ ﴿وقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩)﴾ [الزخرف ٨٩] نُسخت بآية القتال.
وقال الطبريّ: لا مخالفة بين حديث أسامة في سلام النبيّ – ﷺ – على الكفار، حيث كانوا مع المسلمين، وبين حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – في النهي عن السلام على الكفار؛ لأن حديث أبي هريرة عامّ، وحديث أسامة خاصّ، فيختصّ من حديث أبي هريرة ما إذا كان الابتداء لغير سبب، ولا حاجة، من حقّ صحبة، أو مجاورة، أو مكافأة، أو نحو ذلك، والمراد: منعُ ابتدائهم بالسلام المشروع، فأما لو سلّم عليهم بلفظ يقتضي خروجهم عنه، كأن يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فهو جائز، كما كتب النبيّ – ﷺ – إلى هرقل وغيره: «سلام على من اتبع الهدى».
وأخرج عبد الرزاق عن معمر، عن قتادة قال: «السلام على أهل الكتاب إذا دخلت عليهم بيوتهم: السلام على من اتبع الهدى».
وأخرج ابن أبي شيبة، عن محمد بن سيرين مثله، ومن طريق أبي مالك: «إذا سلَّمت على المشركين، فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فيحسبون أنك سلّمت عليهم، وقد صرفت السلام عنهم». انتهى ما في «الفتح»، وهو بحثّ مفيدٌ، والله تعالى أعلم.
[البحر المحيط الثجاج].
(المسألة الخامسة): فتاوى الشيخ محمد صالح العثيمين رحمه الله فيما يتعلق بالباب
[1] (392) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم السلام على غير المسلمين؟
فأجاب بقوله: البدء بالسلام على غير المسلمين محرم ولا يجوز لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه) ولكنهم إذا سلموا وجب علينا أن نرد عليهم لعموم قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] وكان اليهود يسلمون على النبي، صلى الله عليه وسلم، فيقولون: ”السام عليك يا محمد” والسام بمعنى الموت، يدعون على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالموت. فقال النبي، عليه الصلاة والسلام: (إن اليهود يقولون: السام عليكم فإذا سلموا عليكم فقولوا: وعليكم). فإذا سلم غير المسلم على المسلم وقال: ”السام عليكم” فإننا نقول: ”وعليكم”. وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ”وعليكم”، دليل على أنهم إذا كانوا قد قالوا: السلام عليكم فإن عليهم السلام فكما قالوا نقول لهم، ولهذا قال بعض أهل العلم: إن اليهودي أو النصراني أو غيرهم من غير المسلمين إذا قالوا بلفظ صريح: ”السلام عليكم” جاز أن نقول: عليكم السلام.
ولا يجوز كذلك أن يبدؤوا بالتحية كأهلًا وسهلًا وما أشبهها لأن في ذلك إكرامًا لهم وتعظيمًا لهم، ولكن إذا قالوا لنا مثل هذا فإننا نقول لهم مثل ما يقولون، لأن الإسلام جاء بالعدل وإعطاء كل ذي حق حقه، ومن المعلوم أن المسلمين أعلى مكانة ومرتبة عند الله – عز وجل – فلا ينبغي أن يذلوا أنفسهم لغير المسلمين فيبدؤوهم بالسلام.
إذًا فنقول في خلاصة الجواب: لا يجوز أن يبدأ غير المسلمين بالسلام لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، نهى عن ذلك، ولأن في هذا إذلالًا للمسلم حيث يبدأ بتعظيم غير المسلم، والمسلم أعلى مرتبة عند الله – عز وجل – فلا ينبغي أن يذل نفسه في هذا. أما إذا سلموا علينا فإننا نرد عليهم مثل ما سلموا.
وكذلك أيضًا لا يجوز أن نبدأهم بالتحية مثل أهلًا وسهلًا ومرحبًا وما أشبه ذلك لما في ذلك من تعظيمهم فهو كابتداء السلام عليهم.
[2] (393) وسئل – رحمه الله – : عن حكم السلام على المسلم بهذه الصيغة (السلام على من اتبع الهدى) ؟ وكيف يسلم الإنسان على أهل محل فيهم المسلم والكافر؟
فأجاب قائلًا: لا يجوز أن يسلم الإنسان على المسلم بقوله: (السلام على من اتبع الهدى) لأن هذه الصيغة إنما قالها الرسول، صلى الله عليه وسلم، حين كتب إلى غير المسلمين، وأخوك المسلم قل له : السلام عليكم، أما أن تقول: (السلام على من اتبع الهدى) فمقتضى هذا أن أخاك هذا ليس ممن اتبع الهدى.
وإذا كانوا مسلمين ونصارى فإنه يسلم عليهم بالسلام المعتاد يقول : السلام عليكم يقصد بذلك المسلمين.
[3] (394) سئل فضيلة الشيخ أعلى الله درجته في دار كرامته: هل يجوز لنا أن نبدأ الكفار بالسلام؟ وكيف نرد عليهم إذا سلموا علينا؟
لا يخلو من إحدى حالين:
الحال الأولى: أن يفصحوا باللام فيقولوا: ”السلام عليكم” فلنا أن نقول: عليكم السلام، ولنا أن نقول: وعليكم.
الحال الثانية: إذا لم يفصحوا باللام مثل أن يقولوا: ”السام عليكم” فإننا نقول: ”وعليكم” فقط
[4] (395) سئل فضيلة الشيخ: الكافر إذا مد يده للمصافحة فما الحكم؟
وإذا مد يده إليك للمصافحة فمد يدك إليه وإلا فلا تبدأه.
[5] (396) سئل فضيلة الشيخ: ورد في الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: (لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه) أليس في العمل بهذا تنفير عن الدخول في الإسلام؟.
المعنى أنكم كما لا تبدؤونهم بالسلام لا تفسحوا لهم، فإذا لقوكم فلا تتفرقوا حتى يعبروا بل استمروا على ما أنتم عليه واجعلوا الضيق عليهم إن كان في الطريق ضيق، وليس في الحديث تنفير عن الإسلام بل فيه إظهار لعزة المسلم، وأنه لا يذل لأحد إلا لربه عز وجل. [مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين]