1202 فتح الأحد الصمد شرح الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير ومحمد البلوشي وكديم وعبدالحميد البلوشي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
قال الشيخ مقبل الوادعي في الصحيح المسند (ج2/ رقم 1202):
مسند يزيد والد السائب رضي الله عنهما
قال أبو داود رحمه الله (ج (13) ص (346)): حدثنا محمد بن بشار أخبرنا يحيى عن ابن أبي ذئب ح وأخبرنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي أخبرنا شعيب بن إسحاق عن ابن أبي ذئب عن عبد الله بن السائب بن يزيد عن أبيه عن جده: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول «لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعبًا ولا جادًّا».
وقال سليمان: «لعبًا ولا جدًّا، ومن أخذ عصا أخيه فليردها». لم يقل ابن بشار: ابن يزيد، وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
هذا حديث صحيحٌ، رجاله رجال الصحيح، إلا عبد الله بن السائب، وقد وثَّقه النسائي وابن سعد.
الحديث أخرجه الترمذي (ج (6) ص (378)) وقال: هذا حديث حسن غريب، ولا نعرفه إلا من حديث ابن أبي ذئب.
===================
الحديث سيكون من وجوه:
ذكر الحديث الإمام أبوداود رحمه الله في السنن،40 – كتاب الأدب، بابُ: مَن يَاخُذُ الشَّيْءَ عَلى المِزاحِ، ((5003)).
والوادعي رحمه الله جعله في الجامع: (32) – كتاب الأدب، (76) – النهي عن المزاح ((319)).
وفي الترغيب والترهيب للمنذري، كتاب الأدَب وغَيره التَّرْغِيب فِي الحياء وما جاءَ فِي فَضله والترهيب من الفُحْش والبذاء، (15) – التَّرْهِيب من ترويع المُسلم ومن الإشارَة إلَيْهِ بسلاح ونَحْوه جادا أو مازحا، ((4244)).
وانظر: عون الصمد شرح الذيل والمتم له على الصحيح المسند ((213)).
الأول: شرح الحديث:
(ثنا محمد بن بشار، ثنا يحيى) القطان ([عن ابن أبي ذئب]، ح، وثنا سليمان بن عبد الرحمن) التميمي الدمشقي، أخرج له والجماعة سوى مسلم، (ثنا شعيب بن إسحاق) بن عبد الرحمن الأموي الدمشقي، أخرج له الشيخان، (عن) محمد بن عبد الرحمن (ابن أبي ذئب، عن عبد اللَّه بن السائب بن يزيد) الكندي، وثقه النسائي وابن سعد.
(عن أبيه، عن جده) يزيد بن سعيد بن ثمامة الكندي، حليف بني عبد شمس، أسلم يوم فتح مكة. شرح سنن أبي داود لابن رسلان رحمه الله.
[وهو صحابي، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والترمذي].
بوب أبو داود رحمه الله [باب: من يأخذ الشيء على المزاح] يعني: أن ذلك منهي عنه إذا ترتب عليه فزع الإنسان أو ذعر الإنسان أو حزن الإنسان، بأن يظن أنه سرق وما إلى ذلك، فإن ذلك غير سائغ.
والمزاح، هو: كون الإنسان يأتي بشيء يكون فيه مازحًا، والرسول لا كان يمزح، ولكن كان لا يقول في مزحه إلا حقًا.
وأورد أبو داود حديث يزيد بن سعيد الكندي رضي الله عنه والد السائب بن يزيد، أن النبي لا قال: [(لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعبًا ولا جادًا)] يعني: لا يأخذه على سبيل المزح ولا على سبيل الحقيقة.
قوله: [(ولا جادًا)] يعني: أنه يأخذه ليتموله أو ليختص به.
قوله: [(لاعبًا)] أي: مازحًا؛ لأن ذلك يفزعه
قوله: [(ومن أخذ عصا أخيه فليردها إليه)] يعني: وسواء كان ذلك جادًا أو مازحًا؛ لأنه لا يجوز له أن يأخذ من أخيه شيئًا إلا عن طيب نفس منه.
ويذكر الحديث في مسألة: رد عين المغصوب لصاحبه واجب، وهي من المسائل المجمع عليها. انظر: موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي (4/ 123 – 126).
وفي بحث (الترويح في العصر وأهدافه)، من مجلة البحوث الإسلامية – الصادرة من (الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد)، في الأنشطة المحرمة “أ- النشاط الترويحي الذي يصاحبه أو يكون فيه سخرية بالآخرين، أو لمز، أو ترويع لهم”. انتهى.
الثاني: مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): الأحاديث
1) جاء في جامع الوادعي رحمه الله بابين عن المزاح، وهما التالي:
” (76) – النهي عن المزاح
(319) – أورد فيه حديث الباب.
(77) – جواز المزح إذا لم يكن فيه ما يجرح الصدر ولا يضيع الوقت
(3620) – .. قالت عائشة رضي الله عنها: لا أزال هائبة لعمر بعدما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، صنعت حريرة، وعندي سودة بنت زمعة جالسة، فقلت لها: كلي. فقالت: لا أشتهي ولا آكل. فقلت: لتأكلن أو لألطخن وجهك. فلطخت وجهها، فضحك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو بيني وبينها، فأخذت منها فلطخت وجهي، ورسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يضحك، إذ سمعنا صوتًا جاءنا ينادي: يا عبد الله بن عمر! فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «قوما فاغسلا وجوهكما؛ فإن عمر داخل»، فقال عمر: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام عليكم، أأدخل؟ فقال: «ادخل ادخل». هذا حديث حسنٌ.
في «النهاية»: والحريرة: الحساء المطبوخ والدسم والماء.”. انتهى من الجامع.
2) مما ورد من الأخْلاقِ الذَّمِيمَةِ المِزاح الكاذِب
(1) – حَدَّثَنا بُنْدارٌ قالَ: حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ سَعِيدٍ قالَ: حَدَّثَنا ابْنُ أبِي ذِئْبٍ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ السّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ لا: «لا يَاخُذْ أحَدُكُمْ عَصا أخِيهِ لاعِبًا أوْ جادًّا، فَمَن أخَذَ عَصا أخِيهِ فَلْيَرُدَّها إلَيْهِ»: وفِي البابِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وسُلَيْمانَ بْنِ صُرَدَ، وجَعْدَةَ، وأبِي هُرَيْرَةَ وهَذا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لا نَعْرِفُهُ إلّا مِن حَدِيثِ ابْنِ أبِي ذِئْبٍ والسّائِبُ بْنُ يَزِيدَ لَهُ صُحْبَةٌ قَدْ سَمِعَ مِنَ النَّبِيِّ لا أحادِيثَ وهُوَ غُلامٌ، وقُبِضَ النَّبِيُّ لا وهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ، ووالِدُهُ يَزِيدُ بْنُ سَعِيدٍ لَهُ أحادِيثُ هُوَ مِن أصْحابِ النَّبِيِّ لا، وقَدْ رَوى عَنِ النَّبِيِّ لا، والسّائِبُ بْنُ يَزِيدَ هُوَ ابْنُ أُخْتِ نَمِرٍ، (ت) (2160) [قال الألباني]: حسن.
(2) – حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمانَ الأنْبارِيُّ، حَدَّثَنا ابْنُ نُمَيْرٍ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَسارٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبِي لَيْلى، قالَ: حَدَّثَنا أصْحابُ مُحَمَّدٍ لا، أنَّهُمْ كانُوا يَسِيرُونَ مَعَ النَّبِيِّ لا، فَنامَ رَجُلٌ مِنهُمْ، فانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إلى حَبْلٍ مَعَهُ فَأخَذَهُ، فَفَزِعَ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ لا: «لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا»، (د) (5004) [قال الألباني]: صحيح.
3) مِزاحُ النَّبِيّ لا
(1) – حَدَّثَنا عَبّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ البَغْدادِيُّ قالَ: حَدَّثَنا عَلِيُّ بْنُ الحَسَنِ قالَ: أخْبَرَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ المُبارَكِ، عَنْ أُسامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّكَ تُداعِبُنا، قالَ: «إنِّي لا أقُولُ إلّا حَقًّا»: هَذا حَدِيثٌ حَسَنٌ، (ت) (1990) [قال الألباني]: صحيح.
(2) – حَدَّثَنا قُتَيْبَةُ قالَ: حَدَّثَنا خالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الواسِطِيُّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ، أنَّ رَجُلًا اسْتَحْمَلَ رَسُولَ اللَّهِ لا فَقالَ: «إنِّي حامِلُكَ عَلى ولَدِ النّاقَةِ» فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، ما أصْنَعُ بِوَلَدِ النّاقَةِ؟ فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ لا: «وهَلْ تَلِدُ الإبِلَ إلّا النُّوقُ؟»: هَذا حَدِيثٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، (ت) (1991) [قال الألباني]: صحيح.
(المسألة الثانية):
” «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذُله، ولا يَكْذِبه، ولا يحقره» هذا مأخوذ من قوله تعالى: {إنَّما المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأصْلِحُوا بَيْنَ أخَوَيْكُمْ} [الحجرات (10)]، فإذا كان المؤمنون إخوةً أُمروا فيما بينهم بما يوجب تآلف القلوب، واجتماعها، ونُهُوا عما يوجب تنافر القلوب، واختلافها، وهذا من ذلك، وأيضًا فإن الأخ من شأنه أن يوصل لأخيه النفعَ، ويكفّ عنه الضرر، وهذا من أعظم الضرر الذي يجب كفّه عن الأخ المسلم، وهذا لا يختص بالمسلم، بل هو محرّم في حق كل أحد.
وسيأتي الكلام على الظلم مستوفًى عند ذكر حديث أبي ذر -رضي الله عنه- الإلهيّ: «يا عبادي إني حرّمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرّمًا، فلا تَظالموا … ».
ومن ذلك خِذلان المسلم لأخيه، فإن المؤمن مأمور أن ينصر أخاه، كما قال النبيّ لا: «انصر أخاك ظالِمًا، أو مظلومًا»، قال: يا رسول الله أنصره مظلومًا، فكيف أنصره ظالِمًا؟ قال: «تمنعه من الظلم، فذلك نصرك إياه»، خرّجه البخاريّ بمعناه، من حديث أنس، وخرّجه مسلم بمعناه من حديث جابر، وخرّجه أبو داود من حديث أبي طلحة الأنصاريّ، وجابر بن عبد الله،
عن النبيّ لا قال: «ما من امرئ مسلم يَخذُل امرءًا مسلمًا في موضع تُنتهك فيه
حرمته، وُينتقص فيه من عِرضه، إلا خذله الله في موضع يحب فيه نُصرته، وما
من امرئ ينصر مسلمًا في موضع يُنتقص فيه من عرضه، وتُنتهك فيه حرمته إلا
نصره الله في موضع يحب فيه نُصرته» [في إسناده إسماعيل بن بشير: مجهول، كما في «التقريب»، وحسَّنه بعضهم لشواهده، راجع: ما كُتب في هامش «جامع العلوم» (2) / (274)].
وخرّج الإمام أحمد من حديث أبي أمامة بن سهل، عن أبيه -رضي الله عنه-، عن
النبيّ لا قال: «من أُذلّ عنده مؤمن، فلم ينصره، وهو يقدر على أن ينصره،
أذلّه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة» [في سنده ابن لهيعة].
وخرّج البزار من حديث عمران بن حصين -رضي الله عنهما- عن النبيّ لا قال: «من
نصر أخاه بالغيب، وهو يستطيع، نصره الله في الدنيا والآخرة» [صحيح].
ومن ذلك كَذِب المسلم لأخيه، فلا يحلّ له أن يحدّثه، ويَكْذِبه، بل لا
يحدّثه إلا صدقًا.
وفي «مسند الإمام أحمد» عن النواس بن سمعان -رضي الله عنه- عن النبيّ لا
قال: «كَبُرت خيانةً أن تحدّث أخاك حديثًا، هو لك مصدِّق، وأنت به
كاذب» [في سنده عمر بن هارون، وهو متروك].
ومن ذلك احتقار المسلم لأخيه المسلم، وهو ناشئ عن الكِبْر، كما قال
النبيّ لا: «الكِبْر بَطَر الحقّ، وغَمْط الناس»، خرّجه مسلم، من حديث ابن
مسعود -رضي الله عنه-، وخرّجه الإمام أحمد، وفي رواية له: «الكِبْر سَفَهُ الحقّ، وازدراء
الناس»، وفي رواية زيادة: «فلا يراهم شيئًا».
وغَمْط الناس: الطعن عليهم، وازدراؤهم، قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِن قَوْمٍ عَسى أنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنهُمْ ولا نِساءٌ مِن نِساءٍ عَسى أنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنهُنَّ} [الحجرات (11)]، فالمتكبّر ينظر إلى نفسه بعين الكمال، وإلى غيره بعين النقص، فيحتقرهم، ويزدريهم، ولا يراهم أهلًا لأن يقوم بحقوقهم، ولا أن يقبل من أحدهم الحقّ إذا أورده عليه. انتهى ما كتبه ابن رجب رحمه اللهُ [«جامع العلوم والحكم» (2) / (273) – (275)].
(المسألة الثالثة): معالم المزاح
الأول:
معنى المزَاح لغةً واصطلاحًا:
معنى المزَاح لغةً:
المزاح: الدُّعابة، وهو نقيضُ الجِدِّ، من مزَح يمزَح مَزحًا ومِزاحًا ومُزاحًا ومُزاحة، وقد مازحه ممازحة ومِزاحًا، والاسم المزاح، والمزاحة أيضًا [((لسان العرب)) لابن منظور (2/ 593)].
معنى المزَاح اصطلاحًا:
المبَاسطة إلى الغير على جهة التَّلطُّف والاستعطاف، دون أذيَّة. [((تاج العروس)) للزبيدي (7/ 117)].
ويراد بالمزاح – عمومًا – المداعبة التي هي نقيض الجد، وله ألفاظ مترادفة تلتقي به إجمالاً في الدلالات والأحكام الشرعية؛ منها: الدعابة، والفكاهة، والملاعبة، والهزل، وغيرها.
فرع:
الفرق بين المزَاح وبعض الصِّفات
– الفرق بين المزَاح والهَزْل:
أنَّ الهَزْل يقتضي تواضع الهازل لمن يهْزِل بين يديه، والمزَاح لا يقتضي ذلك، فالملِك يُمَازِح خدمه وإن لم يتواضع لهم تواضع الهازل لمن يهْزِل بين يديه، والنَّبي يُمَازِح، ولا يجوز أن يُقال يهْزِل. ويقال لمن يسخر: يهْزِل، ولا يقال: يمزح [((الفروق اللُّغويَّة)) للعسكري (ص 255)].
– الفرق بين المزاح والاستهزاء:
أنَّ المزَاح لا يقتضي تحقير من يمازِحه، ولا اعتقاد ذلك، فالتَّابع يُمَازِح المتبوع من الرُّؤساء والملوك، ولا يقتضي ذلك تحقيرهم ولا اعتقاد تحقيرهم، ولكن يقتضي الاستئناس بهم، والاستهزاء يقتضي تحقير المسْتَهْزَأ به، واعتقاد تحقيره. [((الفروق اللُّغويَّة)) للعسكري (ص 254)].
وقيل: المزاح: الإيهام للشَّيء في الظَّاهر، وهو على خلافه في الباطن، من غير اغترارٍ للإيقاع في مكروه. والاستهزاء: الإيهام لما يجب في الظَّاهر، والأمر على خلافه في الباطن، على جهة الاغترار [((الفروق اللُّغويَّة)) للعسكري (ص 255)].
– الفرق بين المزَاح والمجُون:
أنَّ المجُون هو صلابة الوجه، وقلَّة الحياء، من قولك: مَجَن الشَّيء، يَمْجُن مُجُونًا، إذا صَلُبَ وغَلُظَ، ومنه سُمِّيت الخشبة التي يَدقُّ عليها القَصَّار الثَّوب: مِيجَنة. والمجُون كلمة مُولَّدة، لم تعرفها العرب، وإنَّما تعرف أصلها … [((الفروق اللُّغويَّة)) للعسكري (ص 255)].
– الفرق بين المزَاح والمدَاعَبة:!
فرَّق بعضهم بين المدَاعَبة والمزَاح بأنَّ المدَاعَبة: ما لا يُغْضِب جِدُّه، والمزَاح: ما يُغْضِب جِدُّه [((التيسير بشرح الجامع الصَّغير)) للمناوي (1/ 367)].
والثاني:
الأحاديث الواردة في المزَاح
– عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنِّي لأمزح، ولا أقول إلَّا حقًّا)) [رواه الطَّبراني في ((المعجم الصَّغير)) (2/ 59) (779). وحسَّن إسناده الهيثمي في ((مجمع الزَّوائد)) (8/ 92)، وصحَّحه الألباني في ((صحيح الجامع)) (2494)].
قال المناوي وهو يشرح هذا الحديث: (إنِّي لأمزح. أي: بالقول، وكذا بالفعل، وتخصيصه بالأوَّل ليس عليه مُعَوَّل. ولا أقول إلَّا حقًّا. لعصمتي عن الزَّلل في القول والعمل، وذلك كقوله لامرأة … ((لا يدخل الجنَّة عجوز)) [صححه الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (2987)]، وقوله لأخرى: ((لأحملنَّك على ولد النَّاقة))،
وقيل لابن عيينة: المزَاح سُبَّة. فقال: بل سُنَّة، ولكن مَن يُحْسِنه. وإنَّما كان يمزح لأنَّ النَّاس مأمورون بالتَّأسِّي به، والاقتداء بهديه، فلو ترك اللَّطافة والبشاشة، ولزم العُبُوس والقُطُوب، لأخذ النَّاس مِن أنفسهم بذلك على ما في مخالفة الغريزة من الشَّفَقة والعناء، فمَزح ليمزحوا) [((فيض القدير)) (3/ 13)].
– عبد الرحمن بن أبي ليلى قال ((حدثنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهم كانوا يسيرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير فنام رجل منهم فانطلق بعضهم إلى نبل معه، فأخذها، فلما استيقظ الرجل فزع فضحك القوم فقال: ما يضحككم؟ فقالوا: لا إلا أنَّا أخذنا نبل هذا ففزع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل لمسلم أن يروع مسلمًا)) [صححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (5004)، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (1470) وقال: رجاله ثقات].
قال الطَّحاوي: (ففي هذا الحديث، ذكر ما فعله الرَّجل المذكور فيه، مِن أَخْذ كِنَانة صاحبه -ليرْتَاع بفقدها- على أنَّ ذلك عنده مباحٌ له، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: ((لا يحلُّ لمسلم أن يروِّع مسلمًا))، فكان قوله ذلك له -بعد فعله ما فعله- ممَّا هو من جنس ما كان فعله نُعَيْمان بسويبط، وما كان فعله عبد الله بن حذافة -في حديث علقمة المدلجي- بأصحابه ليضحكوا من ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ليلى لفاعل ما ذُكر فعله إيَّاه فيه: ((لا يحلُّ لمسلم أن يروِّع مسلمًا)). فكان ذلك تحريمًا منه لمثل ذلك، ونسخًا لما كان قد تقدَّمه، ممَّا ذكرناه في هذا الباب، ممَّا تعلَّق به من تعلَّق ممَّن يذهب إلى إباحة مثله، إن كان مباحًا حينئذ، واللهَ نسأله التوفيق) [((شرح مشكل الآثار)) (4/ 309، 310)].
– عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحسنَ الناسِ خُلُقًا، وكان لي أخٌ يُقالُ له أبو عُمَيرٍ -قال: أحسِبُه- فَطيمٌ، وكان إذا جاء قال: (يا أبا عُمَيرٍ، ما فعَل النُّغَيرُ؟ نُغَرٌ كان يَلعَبُ به)) [رواه البخاري (6129)، ومسلم (2510)].
قال ابن حجر وهو يعدِّد فوائد الحديث: (وفيه جواز الممَازَحة، وتكرير المزْح، وأنَّها إباحة سنَّة لا رخصة، وأنَّ مُمَازَحة الصَّبي الذي -لم يميِّز- جائزة، وتكرير زيارة الممْزُوح معه، وفيه ترك التَّكبُّر والتَّرفُّع،
والفرق بين كون الكبير في الطَّريق فيتَوَاقَر، أو في البيت فيَمْزَح) [((فتح الباري)) لابن حجر (10/ 584)].
والثالث:
أقوال السلف والعلماء في المزَاح
المزَاح منه ما هو مذموم، ومنه ما هو محمود، فكلُّ ما جاء في ذَمِّه، فالمقصود به المذموم من المزَاح:
– قال عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه: (مَن أكثرَ مِن شيءٍ عُرف به، ومَن مازح، استُخِفَّ به، ومن كَثُر ضَحِكه، ذهبت هيبته). [((الموشى)) للوشاء (ص 13)].
– عن عيسى بن عبد العزيز، أنَّ عمر بن عبد العزيز كتب إلى عدي بن أرطأة: (اِنْهَ مَن قِبَلَك عن المزَاح، فإنَّه يُذْهِب المروءة، ويُوغِر الصَّدر) ((المروءة)) لابن المرزبان (ص 50).
– أوصى يَعْلَى بن مُنْيَة بثلاثٍ، فقال -في كلامٍ طويل-: (إيَّاكم والمزَاح؛ فإنَّه يُذهب بالبهاء، ويُعْقِب المذمَّة، ويزري بالمروءة) [((المروءة)) لابن المرزبان (54 – 55)].
– قال عمر بن عبد العزيز: (امتنعوا من المزَاح، تسلم لكم الأعراض) [((الموشى)) للوشاء (ص 14)].
– عن ابن المنكدر قال: (قالت لي أمِّي: يا بُنيَّ، لا تُمَازِح الصِّبيان فتهون عليهم.
وقد كانت أدركت النَّبي صلى الله عليه وسلم) ((الموشى)) للوشاء.
– قال سعيد بن العاص لابنه: (يا بُنَيَّ، لا تُمَازِح الشَّريف، فيحقد عليك، ولا تُمَازِح الدَّنيَّ، فيجترئ عليك). [رواه ابن أبي الدُّنْيا في ((الصَّمت)) (ص 211). وانظر: ((الموشى)) للوشاء (ص 15)].
– كان العبَّاس رضي الله عنه يقول: (مَزَح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصار المزْح سنَّة) [((اللَّطائف والظَّرائف)) للثَّعالبي (ص 151)].
– قيل لسفيان بن عيينة: المزَاح هُجنة. فقال: (بل سنَّة، ولكن الشَّأن فيمن يُحسِنه، ويضعه مواضعه) [((اللَّطائف والظَّرائف)) للثَّعالبي (ص 151)].
– قال سالم بن قتيبة لأهل بيته: (لا تُمَازِحوا فيُستَخَفَّ بكم، ولا تدخلوا الأسواق فترقَّ أخلاقكم) [((اللَّطائف والظَّرائف)) للثَّعالبي (ص 153)].
– قال الأحنف: (مَن كَثُر مِزَاحه ذهبت هيبته، ومَن كَثُر ضَحِكه استُخِفَّ به) [((اللَّطائف والظَّرائف)) للثَّعالبي (ص 153)].
– قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: (لا يكون المزَاح إلَّا مِن سَخَفٍ أو بَطَر) [ذكره الرَّاغب الأصفهاني في ((محاضرات الأدباء)) (1/ 345).].
– قال علي رضي الله عنه: (ستٌّ مِن المروءة، ثلاثٌ في الحضر، وثلاثٌ في السَّفر، وأمَّا اللَّاتي في الحضر: فتلاوة كتاب الله، وعِمَارة مساجد الله، واتِّخاذ الإخوان في الله، وأمَّا اللَّاتي في السَّفر: فبذل الزَّاد، وحُسْن الخُلُق، والمزَاح في غير معاصي). [ذكره ابن حمدون في ((التذكرة الحمدونيَّة)) (8/ 131) والزَّمخشري في ((ربيع الأبرار)) (3/ 12)].
والرابع:
حُكم المزَاح
المزَاح مباحٌ، وقد يُسْتَحبُّ؛ إذا كان فيه تَطْيِيب نفس المخَاطَب، ومؤانسته بالضَّوابط الشَّرعية،
وقد يكون منهيًّا عنه؛ إذا أفرط فيه صاحبه أو داوم عليه، أو كان فيه تحقيرٌ أو استهزاء أو كذب، أو ترويع لمسلم أو نحوه ممَّا فيه ضرَر.
وفي (الزواجر عن اقتراف الكبائر)، لابن حجر الهيتمي رحمه الله، قال:
“الكَبِيرَةُ الثّامِنَةَ عَشْرَةَ والتّاسِعَةَ عَشْرَةَ بَعْدَ الثَّلاثِمِائَةِ: تَرْوِيعُ المُسْلِمِ والإشارَةُ إلَيْهِ بِسِلاحٍ أوْ نَحْوِهِ”،انتهى، ثم أورد جملة من الأحاديث في الباب.
وقال ابن حجر: (أخرج التِّرمذي -وحسَّنه- من حديث أبي هريرة قال: قالوا: يا رسول الله، إنَّك تداعبنا! قال: ((إنِّي لا أقول إلَّا حقًّا)). وأخرج من حديث ابن عبَّاس -رفعه- ((لا تمار أخاك، ولا تمازحه … )) الحديث.
والجمع بينهما: أنَّ المنهيَّ عنه ما فيه إفراط أو مداومة عليه؛ لما فيه من الشُّغل عن ذكر الله، والتَّفكُّر في مهمَّات الدِّين، ويؤول -كثيرًا- إلى قسوة القلب، والإيذاء والحقد، وسقوط المهابة والوَقَار،
والذي يَسلَم من ذلك هو المباح، فإن صادف مصلحة -مثل تَطْيِيب نفس المخَاطَب ومؤانسته- فهو مستحبٌّ. قال الغزالي: مِن الغلط أن يُتَّخذ المزَاح حرفةً، ويُتَمَسَّك بأنَّه صلى الله عليه وسلم مَزَح، فهو كمن يدور مع الزنج حيث دار، وينظر رقصهم، ويتمسَّك بأنَّه صلى الله عليه وسلم أذن لعائشة أن تنظر إليهم) [((فتح الباري)) (10/ 526، 527)].
وقال المرتضى الزبيدي: (قال الأئمَّة: الإكثار منه، والخروج عن الحدِّ، مخلٌّ بالمروءة والوَقَار، والتَّنزُّه عنه بالمرَّة والتَّقبُّض، مخلٌّ بالسُّنَّة والسِّيرة النَّبويَّة المأمور باتِّباعها والاقتداء، وخير الأمور أوسطها) [((تاج العروس)) (7/ 117)].
وقال القاري: (صرَّح العلماء بأنَّ المزَاح -بشرطه- من جملة المستحبَّات). [((مرقاة المفاتيح)) (9/ 3722)].
والخامس:
أقسام المزَاح
سئل العلامة ابن عثيمين في فتاوى نور على الدرب: بارك الله فيكم، هذا شاب يسأل ويقول: بأنه كثير المزاح مع الأصدقاء والإخوان في الرحلات وفي المناسبات يقول بأنه عرف بهذا العمل هل يلحقه اثم بهذا؟
الجواب الشيخ: إذا كان هذا المزاح حقًا بحيث لا يتضمن كذبًا، ولا يتضمن سخرية بأحد، وإنما هو مرح من أجل شرح صدور إخوانه وأصحابه فإنه لا بأس به، بل قد يكون مأجورًا عليه بالبنية الطيبة؛ إذا قصد بذلك دفع السآمة عن إخوانه وإدخال السرور عليهم،
أما إذا تضمن كذبًا أو سخرية بأحد فإنه لا يجوز؛ لأن النبي لا قال ((ويل لمن حدث وكذب ليضحك به القوم ويل له ثم ويل له))، وأما السخرية فهي حرام أيضًا؛ لأن المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه، والسخرية به من أكبر خدش عرض أخيه.
النَّوع الأوَّل: المزَاح المذموم
المزاح المذموم هو ما اشتمل على محظور من المحظورات كترويع المسلمين أو الكذب، أو غلب على صاحبه وأفرط فيه.
يقول النَّوويُّ: (المزَاح المنهيَّ عنه، هو الذي فيه إفراط ويُداوَم عليه، فإنَّه يورث الضَّحك وقسوة القلب، ويشغل عن ذكر الله والفِكْر في مهمَّات الدِّين، ويؤول في كثيرٍ من الأوقات إلى الإيذاء، ويُورث الأحقاد، ويُسقط المهابة والوَقَار) [((الأذكار)) (326)].
* أضرار المزَاح المذموم
1 – الإفراط والمبالغة في المزَاح مَضْيَعة للوقت، وشاغلٌ عن ما هو أهمُّ، فالمداومة عليه تدلُّ عدم تقدير للزَّمن المهْدَر الذي كان ينبغي أن يستغلَّ فيما هو أولى.
2 – الإكثار من المزَاح، يجلب كثرة الضَّحك، وقسوة القلب، وقد مرَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم على قوم يتضاحكون ويتمازحون، فقال لهم -عليه الصَّلاة والسَّلام-: ((أكثروا من ذكر هاذم اللَّذَّات)) [قال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (3453): حسن صحيح]، فنبَّههم إلى ما يُلين قلوبهم، بدل ما هم فيه من كثرة الضَّحك الذي يقسِّي القلب.
3 – المزَاح المذموم يؤول في كثيرٍ من الأحيان إلى الإيذاء، وتوريث الأحقاد، فينبغي تجنُّبه.
4 – المزاح المذموم وكثرته، يُذهِب المهابة من قلوب النَّاس لهذا المكثر من المزاح، ويُذهِب عنه الوَقار.
* الوسائل المعينة على ترك المزَاح المذموم
1 – التَّفكُّر في الأضرار التي قد تنتج عن المزَاح المذموم، واستحضار عواقبه السَّيئة.
2 – مراقبة الله واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم باجتناب المزاح الذي فيه ترويع للمسلمين وغير ذلك مما نهي عنه.
3 – شَغْل النَّفس بما ينفع، فالاشتغال بالنَّافع يُبعد المرء عن ممارسة الضَّار.
4 – ذكر الموت، ولقد أرشد إليه النَّبي صلى الله عليه وسلم، حين مرَّ بقوم يتضاحكون ويتمازحون، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ((أكثروا من ذكر هاذم اللَّذَّات)).
النَّوع الثَّاني: المزَاح المحمود
وهو ما سَلِم من المحظورات الشرعية، ولم يغلب على صاحبه، وكانت فيه مصلحة، وتحققت فيه الضوابط الشرعية.
قال النَّوويُّ: (فأمَّا ما سَلِم من هذه الأمور، فهو المباح الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله على النُّدرة؛ لمصلحة تَطْيِيب نفس المخَاطَب ومؤانسته، وهو سنَّةٌ مستحبَّة) [((مرقاة المفاتيح)) لملا علي القاري (7/ 3061)].
* ضوابط المزَاح المحمود:
1 – ألا يكون فيه استهزاء بشيء من أمور الدِّين:
فالاستهزاء بالدِّين، يُعتبر ناقضًا مِن نواقض الإسلام، ومُخْرِجًا لصاحبه من الملَّة، قال سبحانه وتعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التَّوبة: 65 – 66].
2 – أن لا يتضمَّن المزَاح سخريةً أو استهزاءً بالآخرين:
وما أكثر هذه الآفة في المزَّاحين، ولا يخفى أنَّ السُّخرية بالآخرين، تُعتبر كبيرةً من الكبائر، قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11].
3 – أن يكون هذا المزَاح بصدق:
فلا يُدخِل المازح فيه الكذبَ من أجل إضحاك من حوله، فقد جعل النَّبي صلى الله عليه وسلم هذا ضابطًا لمزْحِه الذي يجب علينا أن نتأسَّى به فيه، وذلك عندما قال له الصَّحابة -رضوان الله عليهم-: يا رسول الله، إنَّك تداعبنا! قال: ((إنِّي لا أقول إلَّا حقًّا)). [صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن التِّرمذي)) (1990)]. وقال -عليه الصَّلاة والسَّلام-: ((ويلٌ للذي يحدِّث فيكذب ليضحك به القوم، ويلٌ له، ويلٌ له)) [حسَّنه التِّرمذي، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4990)].
4 – أن لا يترتَّب عليه ضرر على الآخرين:
وذلك مثل ترويع الشَّخص بقصد المزَاح معه، وتقدم حديث الرجل الذي أخذوا نبله فروعوه فنهاهم صلى الله عليه وسلم
5 – أن لا يتَّخذ المرء المزَاح دَيْدَنه وعادته:
وإنَّما يكون كالملح في الطَّعام، فإنَّ الإكثار من المزَاح مُذْهِب للمروءة، ويُفقد الشَّخص الهيبة، وقد يؤدِّي إلى أن يجعل الشَّخص عرضةً لسخرية الآخرين منه. كما ينبغي عليه ألا يبالغ في المزَاح، ولا يطيل فيه.
قال الشيخ ابن باز رحمه الله: “المزاح القليل لا بأس به، كان يمزح النبي لا قليلاً ولا يقول إلا حقاً، إذا كان المزح قليلاً بحق فلا بأس، أما الكثرة من المزاح أو بالكذب هذا لا يجوز، لكن المزح القليل إذا كان بحق لا بأس بذلك”. [حكم المزاح وضوابطه، نور على الدرب].
6 – أن يراعي الشَّخصَ الذي يمزح معه:
فما كلُّ أحدٍ يُمْزَح معه، ولا بدَّ من إنزال النَّاس منازلهم في المزَاح، فقد قيل: (لا تمازح الشَّريف فيحقد عليك، ولا الدَّنيَّ فيجترئ عليك). [((التَّمثيل والمحاضرة)) للثعالبي (ص 448)]. فلا يكون مع مَن لا يليق بهم المزْح؛ ممَّن يحرجهم لمكانتهم، ولا يكون مع السُّفهاء؛ حتى لا يجترئوا على المازح.
7 – أن يخلو من المعاصي التي كثيرًا ما تصاحب المزَاح غير المنضبط:
وذلك كالغيبة والهَمْز واللَّمز.
8 – اختيار الوقت المناسب للمزاح:
وهذا من الضَّوابط المهمَّة للمَزْح، فليس كلُّ وقتٍ يَصلُح للمِزَاح، ولا كلُّ زمانٍ تليق فيه الدُّعابة.
* فوائد المزَاح المحمود
– المزَاح المعتدل يحبِّب الشَّخص إلى النَّاس، ويُكسبه وُدَّهم، ويجعله مرغوبًا محبوبًا.
– مؤانسة الأصحاب، وإدخال السُّرور عليهم.
– التَّخفيف عن النَّفس، وإبعاد الملَالة والسَّأَم عنها.
* نماذج من المزَاح المحمود:
1) – نماذج من مزاح النَّبي صلى الله عليه وسلم
– عن أنس رضي الله عنه: ((أنَّ رجلًا من أهل البادية كان اسمه زاهرًا، يهدي النَّبي صلى الله عليه وسلم الهديَّة من البادية، فيجهِّزه النَّبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج، فقال رسول الله: إنَّ زاهرًا باديتنا، ونحن حاضروه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّه، وكان رجلًا دميمًا، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبيع متاعه، فاحتضنه من خلفه، ولا يبصره الرَّجل، فقال: أرسلني، مَنْ هذا؟ فالتفت، فعرف النَّبي صلى الله عليه وسلم، فجعل لا يَالُو ما ألصق ظهره بصدر النَّبي صلى الله عليه وسلم حين عرفه، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من يشتري العبد؟ فقال: يا رسول الله، إذًا والله تجدني كاسدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكن -عند الله- لست بكاسد. أو قال: لكن -عند الله- أنت غال)) [صحح إسناده الألباني على شرط الشيخين في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (4815)].
– عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أنَّ رجلًا استحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((إنِّي حاملك على ولد النَّاقة. فقال: يا رسول الله، ما أصنع بولد النَّاقة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهل تلد الإبل إلا النُّوق؟)) [صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4998)].
2) – نماذج من مزاح السَّلف
– كان علي رضي الله عنه فيه دعابة، فقد قال عمر رضي الله عنه: (أرجو ألَّا يخالف إن شاء الله، وما أظنُّ أن يلي إلَّا أحد هذين الرَّجلين: علي أو عثمان؛ فإن وليَ عثمان، فرجل فيه لين، وإن وليَ علي ففيه دعابة) رواه الطَّبري في ((تاريخ الرُّسل والملوك)) (2/ 580 – 581).
– عن بكر بن عبد الله قال: (كان أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم، يَتبادَحون بالبطِّيخ، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرِّجال). رواه البخاري في ((الأدب المفرد)) (266) وصحَّحه الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (201).
– قال عطاء بن السَّائب: (كان سعيد بن جبير لا يقصُّ علينا إلَّا أبكانا بوعظه، ولا يقوم من مجلسنا حتى يضحكنا بمزحه) ((اللَّطائف والظَّرائف)) للثعالبي (ص 151).
– قال غالب القطَّان: (أتيت ابن سيرين يومًا، فسألت عن هشام، فقال: تُوفِّي البارحة، أما شعرت؟! فقلت: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، فضحك، فقلت: لعلَّه أراد النَّوم) ((شرح السُّنَّة)) للبغوي (13/ 184).
– قال ابن سيرين: (ليس من حُسْن الخُلُق، الغَضَب من المزْح) ((الذخائر والعبقريات)) للبرقوقي (2/ 184).
3) – نماذج من مزاح العلماء المعاصرين:
– هذا الموقف حدث للشَّيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى، حيث يقول راوي القصَّة:
(صلى الشَّيخ في الحرم المكي، وعند خروجه استقلَّ سيَّارة تاكسي، وأراد التَّوجُّه إلى مِنى، وأثناء الطَّريق أراد السَّائق أن يتعرَّف على الرَّاكب، فقال من الشَّيخ؟ فأجابه الشَّيخ: محمد بن عثيمين. فأجابه السَّائق: أنت الشَّيخ ابن عثيمين؟! -ظنًّا منه أنَّه يمزح معه- فقال: نعم. فقال السَّائق -وهو يهزُّ رأسه متعجبًا من جرأته في تقمُّص شخصية الشَّيخ ابن عثيمين، فقال الشَّيخ للسَّائق: ومن الأخ؟ فأجاب السَّائق: أنا الشَّيخ عبد العزيز بن باز. وكان ذلك في حياة ابن باز مفتي عام المملكة، فأجابه الشَّيخ: لكن ابن باز ضرير، ولا يمكن أن يسوق سيَّارة! ولما تبيَّن للسَّائق أنَّه الشَّيخ ابن عثيمين، اعتذر منه، وكان في غاية الحرج.
وهذا يدلُّنا على تواضع الشَّيخ، ومداعبته لعامة النَّاس) [((الجامع لحياة العلامة محمد بن صالح العثيمين)) لوليد بن أحمد الحسين (ص: 41 – 42)].
– ركب أحد طلبة العلم مع الشَّيخ الألباني رحمه الله في سيَّارته، وكان الشَّيخ يُسرع في السَّير. فقال له الطَّالب: خفِّف يا شيخ! فإنَّ الشَّيخ ابن باز يرى أنَّ تجاوُز السُّرعة إلقاء بالنَّفس إلى التَّهلكة.
فقال الشَّيخ الألباني رحمه الله: هذه فتوى من لم يجرِّب فنَّ القيادة. فقال الطَّالب: هل أُخْبِر الشَّيخ ابن باز؟ قال الألباني: أخبره.
فلمَّا حدَّث الطَّالب الشَّيخ ابن باز رحمه الله بما قال الشَّيخ الألباني، ضحك؛ وقال: قل له هذه فتوى من لم يجرِّب دفع الدِّيات!! [((الإمام الألباني دروس ومواقف وعبر)) لعبد العزيز السدحان (ص 108)].
سادسا:
أقوالٌ وأمثالٌ في المزَاح:
– كان يقال: لكلِّ شيء بَذْر، وبَذْر العداوة المزَاح [((الموشى)) للوشاء (ص 13)].
– المزْح أوَّله فرحٌ، وآخره ترحٌ. [((التَّمثيل والمحاضرة)) للثَّعالبي (ص 448)].
– أوَّل أسباب القطيعة: المراء والمزْح [((التَّمثيل والمحاضرة)) للثَّعالبي (ص 449)].
– وقال أبو عبيد: (من أمثال أكثم بن صيفي: المزْحَة تُذهب المهابة. يقول: إذا عُرف بها الرَّجل، قلَّت هيبته) [((الأمثال)) لابن سلَّام (ص 85)].
– من كَثُر مَزْحه، لم يسلم من استخفافٍ به، أو حقدٍ عليه [((التَّمثيل والمحاضرة)) للثَّعالبي (ص 449)].
– من كَثُر مِزَاحه، تنازعه الحقد والهوان [((التَّمثيل والمحاضرة)) للثَّعالبي (ص 449)].
– وقال الحجَّاج بن يوسف لابن القرِّيَّة: (ما زالت الحكماء تكره المزَاح، وتنهى عنه، فقال: المزَاح من أدنى منزلته إلى أقصاها عشرة أبواب: المزاح أوَّله فرح، وآخره تَرح. المزاح نقائض السُّفهاء، كالشِّعر نقائض الشُّعراء. والمزَاح يوغر صدر الصَّديق، ويُنفِّر الرَّفيق. والمزاح يُبدِي السَّرائر؛ لأنَّه يُظهر المعَاير. والمزاح يُسقِط المروءة، ويُبدِي الخَنا. لم يجر المزْح خيرًا، وكثيرًا ما جرَّ شرًّا. الغالب بالمزاح واترٌ، والمغلوب به ثائرٌ. والمزاح يجلِب الشَّتمَ صغيرُه، والحربَ كبيرُه، وليس بعد الحرب إلَّا عفوٌ بعد قُدْرة. فقال الحجَّاج: حسبك، الموت خيرٌ من عفوٍ معه قُدْرة) [((زهر الآداب وثمر الألباب)) للقيرواني (2/ 521)].
والسابع: المزَاح في واحة الشِّعر
قال الشَّاعر:
ولا تمزحْ فإنَّ المزحَ جهلٌ وبعضُ الشَّرِّ يبدؤُه المزَاحُ [((العين)) للخليل بن أحمد (3/ 167)]
وقال بعض الشُّعراء:
مازحْ أخاك إذا أردتَ مزاحًا وتوقَّ منه في المزَاحِ جماحًا
فلربَّما مَزَح الصَّديق بمَزْحَة كانت لبابِ عَدَاوةٍ مفتاحًا [((الموشى)) للوشاء (ص 14)]
وقال مسعر بن كِدَام الهلالي لابنه:
ولقد منحتك، يا كِدَام، نصيحتي فاسمعْ لقولِ أبٍ عليك شفيقِ
أمَّا المزَاحةُ والمرَاءُ فدعْهما خُلُقان لا أرضاهما لصديقِ
إنِّي بلوتُهما، فلم أحمدْهما لمجاورٍ جاورته، ورفيقِ [((الموشى)) للوشاء (ص 15)]
وقال آخر:
إنَّ المزَاح يورثُ الضَّغينة وحَمْل ضَغن في الحشا مؤونة [((اللَّطائف والظَّرائف)) للثَّعالبي (ص 153)]
قال وهب بن جرير بن حازم الجهضمي البصري:
دعِ المزَاحَ فقد يُزري بصاحبِه وربَّما آلت العقبى إلى غضبِ [((المجموع اللَّفيف)) للأفطسي (ص 221)]
وقال الشَّاعر:
امزحْ بمقدارِ الطَّلاقةِ واجتنبْ مزَحًا تُضاف به إلى سوءِ الأدبْ
لا تُغْضِبنْ أحدًا إذا مَازحتَه إنَّ المزَاحَ على مُقدمةِ الغَضَبْ [((غرر الخصائص الواضحة)) للوطواط (ص: 238، 239)]
وقال أبو جعفر الطَّبري:
لي صاحبٌ ليس يخلو لسانُه من جِراحِ
يجيدُ تمزيقَ عرضي على سبيلِ المزَاحِ [((غرر الخصائص الواضحة)) للوطواط (ص 239)]
وقال شاعر:
ألا رُبَّ قولٍ قد جرى من مُمَازح فساق إليه الموت في طَرْف الحبلِ
فإنَّ مِزَاحَ المرءِ في غيرِ حينِه دليلٌ على فرطِ الحَمَاقةِ والجهلِ [((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (4/ 73)]
وقال الشَّاعر:
إنَّ الصَّديقَ يريدُ بسطَك مازحًا فإذا رأى منك الملَالة يُقْصِرُ
وترَى العدوَّ إذا تيقَّن أنَّه يُؤذيك بالمزْحِ العنيفِ يُكثِّر [((المستطرف)) للأبشيهي (ص 469)]
وقال ناصح الدِّين ابن الدَّهان:
لا تجعل الهَزْل دأبًا فهو منقصةٌ والجِدُّ تعلو به بين الورى القيمُ [((مجاني الأدب)) لرزق الله شيخو (2/ 119)].
وقال ابن رشيق القيرواني:
وجانبوا المزْح إنَّ الجِدَّ يتبعُه ورُبَّ موجعةٍ في إثرِ تقبيلِ [((دواوين الشِّعر العربي على مرِّ العصور)) (25/ 248)]. [موسوعة الأخلاق، بتصرف يسير].
والثامن:
الأحكام المتعلقة بالمزاح
أولاً: المزاح في نية العبادة يبطلها؛ وذلك لأن النية شرط لصحة العبادة، والمازح لم ينوِ حقيقة العبادة؛ فلم تصح منه ….
• إذا أخل المازح بالعبادة، فإن كان ما أخل به ركنًا أو واجبًا، بطَلَتْ تلك العبادة؛ لأن ترك الأركان والواجبات عمدًا يبطل العبادة، وإن كان سنة فإنه يفوِّتُ على نفسه الأجر العظيم المترتب على اتباع السنن.
• أن المزاح بالعبادة يعرض فاعلَه للإثم؛ لأنه من باب الاستهزاء بالدين، والاستهزاء بالدين محرم.
ثانيًا: أن التصرفات المالية المحضة، وما غلب عليه شبهة التمليك، يشترط فيها الرضا، وما كان كذلك لا ينعقد مع المزاح؛ فلا ينعقد البيع والإجارة والإبراء مع المزاح؛ لأنها تصرفات مالية محضة، فيشترط لها تمام الرضا، والمازح غير راضٍ بالحكم.
ولا تنعقد الهبة والوصية من المازح؛ لأن فيها شبهة تمليك، وما كان كذلك يشترط فيه تمام الرضا.
ثالثًا: لا يؤثر المزاح فيما ورد فيه نص من الشارع بلزومه معه، فيصحُّ عقد النكاح والطلاق والرجعة مع المزاح؛ لورود النص الشرعي بعدم تأثير المزاح فيها، كما يصح عتق المازح؛ وذلك لموافقته لمقصد الشارع من تشوُّفه للعتق، وحرصه عليه؛ ولورود نصوص عن السلف في صحته، وكذلك يصح انعقاد اليمين من المازح؛ وذلك لورود النص فيها، ومنعًا للتلاعب بأحكام الشرع، وسدًّا لذريعة تعطيل الأحكام.
رابعا: أن المزاح بالجناية لا يوجب الحدَّ؛ وذلك لشبهة الخطأ، والحدود تدرأ بالشبهات، فتجب فيه الدية والكفارة.
خامسًا: أن أخذ متاع الغير على سبيل المزاح لا يعد موجبًا لحد السرقة؛ لتمكُّنِ الشبهة في عدم قصد السرقة وإرادة اللعب، ويجب على السارق ردُّ المسروق أو ضمانه إن تلف.
سادسًا: تحريم قذف المسلم ولو على سبيل المزاح؛ لأنه يؤدي إلى لُحوق الأذى بالمقذوف، ولا يجب على القاذف الحد؛ وذلك لتمكن شبهة إرادة المزاح واللعب.
سابعًا: تحريم ترويع المسلم ولو على سبيل المزاح؛ لورود النص الشرعي في ذلك، ولأنه يتعارض مع مصلحة الدين في حفظ العقل.
ثامن: من الآداب التي ينبغي أن يتحلَّى بها القاضي ترك المزاح، سواء كان مع أحد الخصمين أم مع غيرهما، وسواء كان ذلك في مجلس الحكم أم غيره؛ وذلك لأن صدور المزاح من القاضي يذهب مهابة القضاء، ويجرئ عليه الناس.
تاسعا: من شروط قبول الشهادة والرواية عدالة الشاهد والراوي، ومن لوازم العدالة، ترك ما يخل بالمروءة، ومما يخل بالمروءة كثرة المزاح كما نص عليه الفقهاء، مع مراعاة أن خوارم المروءة خاضعة للعرف.
عشرًا: صحة الإقرار من المازح؛ وذلك لأن القول بعدم وقوعه يؤدي إلى ضياع حقوق الناس؛ لأن كل من أقرَّ بحق قد يدعي أنه مازح في إقراره به؛ حتى لا يثبت عليه؛ فيؤدي ذلك إلى ضياع الحقوق واختلاط الأحكام، فيلزم بما أقر به سدًّا لذريعة التخلُّص من الأحكام. [أحكام المزاح في الفقه الإسلامي].