1201 فتح الأحد الصمد شرح الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير ومحمد البلوشي وكديم وعبدالحميد البلوشي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى ، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا )
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
قال الشيخ مقبل الوادعي في الصحيح المسند (ج2/ رقم 1201):
قال أبو داود رحمه الله (ج ٢ ص ٣٢٢): حدثنا مسدد أخبرنا يحيى عن سفيان حدثني يعلى بن عطاء عن جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه، قال: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فكان إذا انصرف انحرف.
هذا حديث صحيحٌ، وجابر بن يزيد ما روى عنه إلا يعلى بن عطاء، ولكن وثَّقه النسائي كما في «تهذيب الكمال».
الحديث رواه النسائي (ج ٢ ص ٦٧).
===================
الحديث سيكون من وجوه:
ذكر الحديث الإمام أبوداود رحمه الله في السنن، 2- كتاب الصلاة، بابُ الإمامِ يَنْحَرِفُ بَعْدَ التَّسْلِيمِ، (614).
والوادعي رحمه الله جعله في الجامع: (4) كتاب: الصلاة، ١٥٤ – الإمام ينحرف يمينا وشمالا أو يوجه إلى المأمومين بعد التسليم، رقم (1043).
وانظر: صحيح البخاري رحمه الله، كتاب الصلاة، باب: يستقبل الإمام الناس إذا سلم، وصحيح مسلم رحمه الله، ٦ – كِتابُ صَلاةِ المُسافِرِينَ وقَصْرِها، ٧ – بابُ جَوازِ الِانْصِرافِ مِنَ الصَّلاةِ عَنِ اليَمِينِ، والشِّمالِ، والمجتبى للنسائي رحمه الله، كتاب السهو، ١٠٠ – (بابُ الانْصِرافِ مِن الصَّلاةِ).
الأول: شرح الحديث:
قال الإمام أبو داود رحمه الله تعالى في باب: (بابُ: الإمامِ يَنْحَرِفُ بَعْدَ التَّسْلِيمِ)
أي: يتحوّل إلى شقه الأيمن أو الأيسر بعد الفراغ من الصلاة.
وفي بعض النسخ: باب ما جاء في الإمام ينحرف بعد السلام. (المنهل العذب المورود).
قال أبو داود رحمه الله حَدَّثَنا مُسَدَّدٌ، ثَنا يَحْيى) القطان، (عَنْ سُفْيانَ) الثوري، (حَدَّثَنِي يَعْلى بْنُ عَطاءٍ) نزيل واسط، أخرج له مسلم، (عَنْ جابِرِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ الأسْوَدِ، عَنْ أبِيهِ، قالَ: «صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللهُ تَعالى عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ فَكانَ إذا انْصَرَفَ انْحَرَفَ».
أي: ينحرف إلى جهة المأمومين ويستقبلهم بوجهه، ولا يبقى إلى جهة القبلة إلا بمقدار ما يقول: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، اللهم! أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام.
وهذا هو الذي جاءت به السنة عن رسول الله ﷺ.
وعلى هذا: فالانصراف لا يكون بعد التسليم مباشرة؛ فقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول قبل أن ينحرف: (أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، اللهم! أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام). [شرح الشيخ عبدالمحسن العباد للسنن، بتصرف].
وقوله: (انحرف) أي: مال عن شقه الأيمن أو الأيسر، أي: إذا انصرف من الصلاة فإنه ينحرف إلى جهة المأمومين؛ وروى ابن حبان عن قبيصة بن هلب رجل من طيء، عن أبيه: أنه صلى مع النبي ﷺ فكان ينصرف عن شقيه.
وقد بوب البخاري لذلك فقال : “باب: يستقبل الإمام الناس إذا سلم”، وذكر حديث سمرة بن جندبٍ رضي الله عنه، قال: “كان رسول الله إذا صلى صلاةً أقبل علينا بوجهه”.
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها، أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: ((اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ذا الجلال والاكرام)).
قال الحافظ ابن حجر : المراد بالنفي المذكور نفي استمراره جالسا على هيئته قبل السلام إلا بقدر أن يقول ما ذكر، فقد ثبت انه كان إذا صلى أقبل على أصحابه. انتهى.
قال ابن القيم رحمه الله : ” كان صلى الله عليه وسلم إذا سلم استغفر ثلاثاً، وقال: “اللهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ، ومنكَ السلاَمُ، تَبَارَكْتَ يَا ذَا الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ” ولم يمكث مستقبِلَ القِبلة إلا مقدارَ ما يقولُ ذلك ، بل يُسرع الانتقالَ إلى المأمومين ، وكان ينفتِل عن يمينه وعن يساره ” . [انتهى من ” زاد المعاد ” (1 /295)].
قال ابن رسلان رحمه الله: قال أصحابنا: إذا أراد أن ينفتل في المحراب ويقبل على الناس للذكر والدعاء وغيرهما جاز أن ينفتل كيف شاء، وأما الأفضل فقال البغوي: الأفضل أن ينفتل عن يمينه [«شرح السنة» ٣/ ٢١٣]، وفي كيفيته وجهان:
أحدهما -وبه قال أبو حنيفة-: يدخل يمينه في المحراب ويساره إلى الناس، ويجلس على يمين المحراب،
والثاني -وهو الأصح-: يدخل يساره في المحراب، ويمينه إلى القوم، ويجلس على يسار المحراب [«المجموع» ٣/ ٤٩٠]، وجزم البغوي في «شَرح السُّنَّة» بالثاني، واستدل له بهذا الحديث رواية مسلم، وفي آخره: فسمعته يقول: «رب قني عذابك يوم تبعث أو تجمع عبادك»، فإذا انصرف فينصرف في جهة حاجته أي جهة كانت، وإن لم يكن له حاجة كان جهة اليمين أولى.
قال السبكي: وليس تخصيص جهة بسنة، وروى ابن حبان بسنده عن ابن مسعود: أن رسول الله ﷺ كان عامة ما ينصرف من الصلاة عن يساره إلى الحجرات [«صحيح ابن حبان» (١٩٩٩)]، وبوب عليه: باب: ذكر العلة التي من أجلها كان المصطفى ﷺ ينصرف من صلاته عن يساره، والله سبحانه وتعالى أعلم”. انتهى من [شرح لابن رسلان رحمه الله].
إذا في حال انتهائه من السلام واستقباله للمأمومين يجوز له أن ينصرف عن يمينه أو ينصرف يساره، كل ذلك ثابت في السنة، وإن كان بعض العلماء استحب الانصراف عن اليمين.
قال البخاري: باب الانفتال والانصراف عن اليمين والشمال، وفي صحيح مسلم : عَنِ السُّدِّىِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسًا كَيْفَ أَنْصَرِفُ إِذَا صَلَّيْتُ عَنْ يَمِينِي أَوْ عَنْ يَسَارِي؟ قَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَكْثَرُ مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَنْصَرِفُ عَنْ يَمِينِهِ.
قال في عون المعبود: قال النووي في حديث ابن مسعود: لا يجعلن أحدكم للشيطان من نفسه جزءا لا يرى إلا أن حقا عليه أن لا ينصرف إلا عن يمينه.
أكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن شماله. وفي حديث أنس: أكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه.
وفي رواية كان ينصرف عن يمينه.
وجه الجمع بينهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل تارة هذا وتارة هذا، فأخبر كل واحد بما اعتقد أنه الأكثر فيما يعلمه.
فدل على جوازهما ولا كراهية في واحد منهما.
وسيأتي نقل كلام النووي بتمامه في آخر البحث حيث توسعنا في المسألة.
وقال ابن بطال في شرح صحيح البخاري: فالانفتال والانصراف عن اليمين والشمال جائز عند العلماء لا يكرهونه؛ لما ثبت عن الرسول في هذا الباب ، وإن كان انصرافه عليه السلام عن يمينه أكثر ؛ لأنه كان يحب التيامن في أمره كله، وإنما نهى ابن مسعود عن التزام الانصراف من جهة اليمين ؛ خشية أن يجعل ذلك من اللازم الذي لا يجوز غيره. انتهى.
وفي الصحيح المسند برقم
1334- قال الإمام أحمد رحمه الله ( 7378) : حدثنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن أبي الأوبر عن أبي هريرة رضي الله عنه عن صلى الله عليه وسلم( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قائما وقاعدا وحافيا ومنتعلا ).
حدثنا حسين بن محمد حدثنا سفيان، وزاد فيه( وينفتل عن يمينه وعن يساره ).
نقلنا كلام النووي واعتبرناه أقوى طريق للجمع بين النصوص .
الثاني: مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): الأحاديث الواردة في كَيْفِيَّةُ اَلِانْصِرافِ مِن الصَّلاة
1 – حديث الباب (د) ٦١٤ [قال الألباني]: صحيح.
2 – عَنِ السُّدِّيِّ، قالَ: سَألْتُ أنَسًا: كَيْفَ أنْصَرِفُ إذا صَلَّيْتُ؟ عَنْ يَمِينِي، أوْ عَنْ يَسارِي؟ قالَ: «أمّا أنا فَأكْثَرُ ما رَأيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَنْصَرِفُ عَنْ يَمِينِهِ»، (م) ٦٠ – (٧٠٨).
3 – عَنِ الأسْوَدِ، قالَ: قالَ عَبْدُ اللَّهِ: لاَ يَجْعَلْ أحَدُكُمْ لِلشَّيْطانِ شَيْئًا مِن صَلاَتِهِ يَرى أنَّ حَقًّا عَلَيْهِ أنْ لاَ يَنْصَرِفَ إلّا عَنْ يَمِينِهِ «لَقَدْ رَأيْتُ النَّبِيَّ ﷺ كَثِيرًا يَنْصَرِفُ عَنْ يَسارِهِ»، (خ) ٨٥٢.
– عَنْ عُمارَةَ، عَنِ الأسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قالَ: «لا يَجْعَلَنَّ أحَدُكُمْ لِلشَّيْطانِ مِن نَفْسِهِ جُزْءًا، لا يَرى إلّا أنَّ حَقًّا عَلَيْهِ أنْ لا يَنْصَرِفَ إلّا عَنْ يَمِينِهِ، أكْثَرُ ما رَأيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَنْصَرِفُ عَنْ شِمالِهِ».، (م) ٥٩ – (٧٠٧)
– عَنِ الأسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قالَ: «لا يَجْعَلُ أحَدُكُمْ نَصِيبًا لِلشَّيْطانِ مِن صَلاتِهِ، أنْ لا يَنْصَرِفَ إلّا عَنْ يَمِينِهِ، وقَدْ رَأيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، أكْثَرُ ما يَنْصَرِفُ عَنْ شِمالِهِ»، قالَ عُمارَةُ: «أتَيْتُ المَدِينَةَ بَعْدُ، فَرَأيْتُ مَنازِلَ النَّبِيِّ ﷺ عَنْ يَسارِهِ»، (د) ١٠٤٢ [قال الألباني]: صحيح ق دون قوله عمارة أتيت.
– عن عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الأسْوَدِ، حَدَّثَهُ أنَّ أباهُ الأسْوَدَ، حَدَّثَهُ أنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ، حَدَّثَهُ: «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كانَ عامَّةُ ما يَنْصَرِفُ عَنْ يَسارِهِ إلى الحُجُراتِ». [رقم طبعة با وزير] = (١٩٩٦)، (حب) ١٩٩٩ [قال الألباني]: حسن صحيح – «صحيح أبي داود» (٩٥٧)، وهو مختصر (١٩٩٤). * [يَزِيدَ] قال الشيخ: في الأصل «زيد». * [ابْنِ] قال الشيخ: في الأصل «أبي».
– وروى الترمذي عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ هُلْبٍ، عَنْ أبِيهِ قالَ:»كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَؤُمُّنا، فَيَنْصَرِفُ عَلى جانِبَيْهِ جَمِيعًا: عَلى يَمِينِهِ وعَلى شِمالِهِ «، وفِي البابِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وأنَسٍ، وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وأبِي هُرَيْرَةَ،» حَدِيثُ هُلْبٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ «وعَلَيْهِ العَمَلُ عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ: أنَّهُ يَنْصَرِفُ عَلى أيِّ جانِبَيْهِ شاءَ، إنْ شاءَ عَنْ يَمِينِهِ، وإنْ شاءَ عَنْ يَسارِهِ، وقَدْ صَحَّ الأمْرانِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ» ويُرْوى عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ أنَّهُ قالَ: «إنْ كانَتْ حاجَتُهُ عَنْ يَمِينِهِ أخَذَ عَنْ يَمِينِهِ، وإنْ كانَتْ حاجَتُهُ عَنْ يَسارِهِ أخَذَ عَنْ يَسارِهِ»، (ت) ٣٠١ [قال الألباني]: حسن صحيح.
4 – عَنْ عائِشَةَ رضي الله عنها، قالَتْ: كانَ النَّبِيُّ ﷺ إذا سَلَّمَ لَمْ يَقْعُدْ إلّا مِقْدارَ ما يَقُولُ: «اللهُمَّ أنْتَ السَّلامُ ومِنكَ السَّلامُ، تَبارَكْتَ ذا الجَلالِ والإكْرامِ» وفِي رِوايَةِ ابْنِ نُمَيْرٍ «يا ذا الجَلالِ والإكْرامِ»، (م) ١٣٦ – (٥٩٢).
– قال الترمذي حَدَّثَنا هَنّادٌ قالَ: حَدَّثَنا مَرْوانُ بْنُ مُعاوِيَةَ، وأبُو مُعاوِيَةَ، عَنْ عاصِمٍ الأحْوَلِ، بِهَذا الإسْنادِ نَحْوَهُ، وقالَ: «تَبارَكْتَ يا ذا الجَلالِ والإكْرامِ»، وفِي البابِ عَنْ ثَوْبانَ، وابْنِ عُمَرَ، وابْنِ عَبّاسٍ، وأبِي سَعِيدٍ، وأبِي هُرَيْرَةَ، والمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، «حَدِيثُ عائِشَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ» وقَدْ رَوى خالِدٌ الحَذّاءُ هَذا الحَدِيثَ، مِن حَدِيثِ عائِشَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الحارِثِ نَحْوَ، حَدِيثِ عاصِمٍ وقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ كانَ يَقُولُ بَعْدَ التَّسْلِيمِ: «لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ ولَهُ الحَمْدُ، يُحْيِي ويُمِيتُ، وهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لا مانِعَ لِما أعْطَيْتَ، ولا مُعْطِيَ لِما مَنَعْتَ، ولا يَنْفَعُ ذا الجَدِّ مِنكَ الجَدُّ» ورُوِيَ أنَّهُ كانَ يَقُولُ: «سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمّا يَصِفُونَ، وسَلامٌ عَلى المُرْسَلِينَ والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ»، (ت) ٢٩٩ [قال الألباني]: صحيح. [ المسند الموضوعي، بتصرف يسير].
5- حديثُ سَمُرَةَ بنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه قال: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ» [أخرجه البخاريُّ في «الصلاة» باب: يستقبل الإمامُ الناسَ إذا سلَّم (٨٤٥) مِن حديث سَمُرَة بنِ جندبٍ رضي الله عنه].
6- حديث البراء بنِ عازبٍ رضي الله عنه قال: «كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْبَبْنَا أَنْ نَكُونَ عَنْ يَمِينِهِ يُقْبِلُ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، قَالَ: فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: رَبِّ قِنِي عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ أَوْ تَجْمَعُ عِبَادَكَ» [أخرجه مسلم في «صلاة المسافرين» (٧٠٩) من حديث البراء بنِ عازبٍ رضي الله عنهما.].
ويدلُّ على أنه كان يجلس صَلَّى الله عليه وآله وسلَّم قبل انصرافه يسيرًا ما أخرجه مسلمٌ مِن حديث البراء بنِ عازبٍ رضي الله عنه قال: «رَمَقْتُ الصَّلاَةَ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدْتُ قِيَامَهُ، فَرَكْعَتَهُ، فَاعْتِدَالَهُ بَعْدَ رُكُوعِهِ، فَسَجْدَتَهُ، فَجَلْسَتَهُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، فَسَجْدَتَهُ، فَجَلْسَتَهُ مَا بَيْنَ التَّسْلِيمِ وَالانْصِرَافِ، قَرِيبًا مِنَ السَّوَاءِ». [أخرجه مسلمٌ في «الصلاة» (٤٧١)، من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.])،
قال النوويُّ: «دليلٌ على أنه صلَّى الله عليه وسلَّم كان يجلس بعد التسليم شيئًا يسيرًا في مُصلَّاه» [«شرح مسلم» للنووي (٤/ ١٨٨)].
(المسألة الثانية): في اختلاف أهل العلم في الانصراف من الصلاة:
قال الإمام البخاريّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- في «صحيحه»: «باب الانفتال والانصراف عن اليمين والشمال»، «وكان أنس ينفتل عن يمينه، وعن يساره، ويَعِيب على من يتوخّى، أو يتعمّد الانفتال عن يمينه». انتهى [«صحيح البخاريّ» بنسخة «الفتح» ٢/ ٣٩٣ رقم (٨٥٢)].
قوله: «وكان أنس بن مالك إلخ» وصله مسدَّد في «مسنده الكبير» من طريق سعيد، عن قتادة، قال: «كان أنس…»، فذكره، وقال فيه: «ويعيب على من يتوخى ذلك أن لا ينفتل إلا عن يمينه، ويقول: يدور كما يدور الحمار».
قال: وظاهر هذا الأثر عن أنس يخالف ما رواه مسلم، من طريق إسماعيل بن عبد الرحمن السُّدّيّ، قال: سألت أنسًا كيف أنصرف إذا صليت، عن يميني، أو عن يساري؟ قال: أما أنا فأكثر ما رأيت النبيّ ﷺ ينصرف عن يمينه.
ويُجمع بينهما بأن أنسًا عاب من يعتقد تحتُّم ذلك ووجوبه، وأما إذا استوى الأمران فجهة اليمين أولى. انتهى [«الفتح» ٢/ ٣٣٨].
وقال الحافظ ابن رجب -رَحِمَهُ اللَّهُ-: الانفتال: هو الانحراف عن جهة القبلة إلى الجهة التي يجلس اليها الإمام بعد انحرافه، كما سبق ذكره، وحكمه: حكم الانصراف بالقيام من محل الصلاة، وقد نصّ عليه إسحاق وغيره.
وقد ذكر البخاريّ، عن أنسٍ، أنه كان ينفتل عن يمينه ويساره، ويَعِيب على من يتوخى الانفتال عن يمينه – يعني: يتحراه ويقصده.
وفي «مسند الإمام أحمد» من رواية أبي الأوبر الحارثيّ، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، قال: كان النبي ﷺ ينفتل عن يمينه وشماله.
وخرّج الإمام أحمد وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن جده، قال: رأيت النبي ﷺ ينفتل عن يمينه وعن يساره في الصلاة، وفي رواية للإمام أحمد: «ينصرف» بدل: «ينفتل».
وخرّج مسلمٌ في هذا الباب حديث البراء بن عازب، قال: كنا إذا صلينا خلف رسول اللَّه ﷺ أحببنا أن نكون عن يمينه فيقبل علينا بوجهه، وخرّجه من روايةٍ أخرى ليس فيها: «ثم يقبل علينا بوجهه»،
ولكن رُوي تفسير هذه اللفظة بالبداءة بالتفاته إلى جهة اليمين بالسلام، خرّجه الإسماعيلي في «حديث مسعرٍ» من جمعه، ولفظه: كان يعجبنا أن نصلي مما يلي يمين رسول اللَّه ﷺ؛ لأنه كان يبدأ بالسلام عن يمينه، وفي رواية أخرى له: أنه كان يبدأ بمن على يمينه، فيسلم عليه.
قال أبو داود: كان أبو عبد اللَّه -يعني: أحمد- ينحرف عن يمينه، وقال ابن منصورٍ: كان أحمد يقعد ناحية اليسرى، ويتساند، قال القاضي أبو يعلى: وهما متفقان؛ لأنه إذا انحرف عن يمينه حصل جلوسه ناحية يساره.
قال: وقال ابن أبي حاتمٍ: سمعت يقول [قال الأتيوبي في الحاشية: “هكذا النسخة، ولعله: «سمعت أبي يقول»، فليُحرّر”انتهى]: تدبرت الأحاديث التي رُويت في استقبال النبي ﷺ الناس بوجهه، فوجدت انحرافه عن يمينه أثبت.
وقال ابن بطة من أصحابنا -يعني الحنبليّة-: يجلس عن يسرة القبلة، ونَقَل حربٌ، عن إسحاق، أنه كان يُخَيِّر في ذلك كالانصراف.
وللشافعية وجهان: أحدهما: التخيير كقول إسحاق، والثاني: أن الانفتال عن يمينه أفضل،
* ثم لهم في كيفيته وجهان:
أحدهما: -وحكوه عن أبي حنيفة-: أنه يدخل يمينه في المحراب ويساره إلى الناس، ويجلس على يمين المحراب.
والثاني: -وهو أصح عند البغوي وغيره-: بالعكس.
واستدلوا له بحديث البراء بن عازب الذي خرَّجه مسلمٌ.
* وأما الانصراف: فهو قيام المصلي وذهابه من موضع صلاته إلى حاجته، فيذهب حيث كانت حاجته، سواءٌ كانت من جهة اليمين أو اليسار، ولا يستحب له أن يقصد جهة اليمين مع حاجته إلى غيرها، هذا قول جمهور العلماء، ورُوي عن عليّ، وابن مسعود، وابن عمر، والنخعيّ، وعطاء، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق.
* وإنما كان أكثر انصراف النبي ﷺ عن يساره؛ لأن بيوته كانت من جهة اليسار، وقد خرَّجه الإمام أحمد مصرِّحًا بذلك من رواية ابن إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، أن ابن مسعودٍ حدثه، أن النَّبيّ ﷺ كانَ عامةً ما ينصرف من الصَّلاة على يساره إلى الحجرات.
* فإن لم يكن له حاجةٌ في جهةٍ من الجهات، فقال الشافعي وكثيرٌ من الحنابلة: انصرافه إلى اليمين أفضل، فإن النبي ﷺ كان يعجبه التيمن في شأنه كله.
وحَمَل بعضهم على ذلك حديث السُّدّيّ، قال: سألت أنسًا: كيف أنصرف إذا صليت عن يميني، أو عن يساري؟ فقال: أما أنا فأكثر ما رأيت النبيّ ﷺ ينصرف عن يمينه، خرّجه مسلمٌ.
والسُّدّيّ، هو: إسماعيل بن عبد الرحمن، وقد تكلم فيه غير واحدٍ، ووثقه أحمد وغيره، وعن يحيى فيه روايتان، ولم يخرج له البخاريّ.
قال ابن رجب: وأظنه ذكر ها هنا الأثر الذي علّقه عن أنسٍ ليعلل به هذا الذي رواه عنه السديّ، واللَّه أعلم.
وحَكى ابن عبد البر، عن الحسن وطائفة من العلماء: أن الانصراف عن اليمين أفضل.
وقد حكاه ابن عمر عن فلانٍ، وأنكره عليه، ولعله يريد به ابن عباسٍ -رضي اللَّه عنهما-.
وسئل عطاءٌ: أيهما يستحب؟ قال: سواءٌ، ولم يفرق بين أن يكون له حاجة، أو لا.
وخرّج الإمام أحمد والنسائي من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-: «أن النبيّ ﷺ كان ينصرف عن يمينه وشماله»، وهو من رواية بقية، عن الزُّبَيديّ، أنّ مكحولًا حدثه، أن مسروق بن الأجدع حدثه، عن عائشة -رضي اللَّه عنها-، وهذا إسنادٌ جيدٌ، لكن رواه عبد اللَّه بن سالمٍ الحمصيّ -وهو ثقةٌ ثبتٌ-، عن الزبيديّ، عن سليمان بن موسى، عن مكحولٍ بهذا الإسناد، قالَ الدارقطني: وقوله أشبه بالصواب، وسليمان بن موسى، مختلفٌ في أمره.
ورَوى قَبِيصة بن الهُلْب، عن أبيه، قالَ: «كانَ رسول اللَّه ﷺ يؤمّنا، فينصرف على جانبيه جميعًا، عن يمينه وشماله»، خرَّجه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذيّ، وقال: حديثٌ حسنٌ، وعليه العمل عندَ أهل العلم، قالَ: وصح الأمران عن النبيّ ﷺ. انتهى [«فتح الباري» لابن رجب -رَحِمَهُ اللَّهُ- ٧/ ٤٤٤ – ٤٤٩].
ومن باب: الانصراف من الصلاة عن اليمين والشمال
قوله ﷺ: لا يجعلن أحدكم للشيطان من نفسه جزءًا: هذا الحديث يدل على أن ملازمة الانصراف عن اليمين من الصلاة غير جائز، وأن له أن ينصرف عن يمينه وشماله، وهو مذهب كافة العلماء، غير أن الحسن ذهب إلى استحباب الانصراف عن اليمين، وهو الظاهر من حديث أنس، وما حكاه ابن مسعود وأنس في هذين الحديثين يدل على أن النبي – ﷺ – كان يفعل الأمرين جميعًا، وأن ذلك واسع، وليس فيه سنة يدام عليها؛ إذ قد (١) رأى ابنُ مسعود النبيَّ – ﷺ – في أكثر حالاته ينصرف عن شماله، ورأى أنس عكس ذلك، فكان ذلك دليلا على ما قلناه، والله أعلم.
المفهم للقرطبي ٢/٣٤٨
قال الأتيوبي عفا اللَّه تعالى عنه: قد تبيّن من الأحاديث السابقة أن الانصراف لمن كانت له حاجة يكون من جهتها، وإلا فالانصراف من اليمين هو الأفضل؛ لأنه ﷺ كان يُعجبه التيامن، وبهذا تجتمع الأحاديث المختلفة في هذا الباب، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.[البحر المحيط الثجاج].
(المسألة الثالثة): توجيه لكراهية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لمن يرى وجوب عدم الانصراف إلا عن يمينه
روى مسلم في (صحيحه)، عَنْ عُمارَةَ، عَنِ الأسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه، قالَ: «لا يَجْعَلَنَّ أحَدُكُمْ لِلشَّيْطانِ مِن نَفْسِهِ جُزْءًا، لا يَرى إلّا أنَّ حَقًّا عَلَيْهِ أنْ لا يَنْصَرِفَ إلّا عَنْ يَمِينِهِ، أكْثَرُ ما رَأيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَنْصَرِفُ عَنْ شِمالِهِ». [(م) ٥٩ – (٧٠٧)].
(أحَدُكُمْ لِلشَّيْطانِ مِن نَفْسِهِ جُزْءًا) الظاهر أنه على حذف مضاف؛ أي: من عبادة نفسه حظًّا للشيطان، أو المعنى: من عند نفسه، لا من تسلط الشيطان وغلبته، يعني: أنه لا ينبغي له أن يفتح بابًا للشيطان بنفسه باعتقاد ما ليس بواجب واجبًا، واللَّه تعالى أعلم.
وفي رواية البخاريّ: «من صلاته» (لا يَرى) -بفتح أوله-، أي: يعتقد، ويجوز الضم؛ أي: يَظُنّ.
ووجه ارتباط هذه الجملة بما قبلها، هو إما أن يكون بيانًا للجعل، أو يكون استئنافًا، تقديره: كيف يجعل جزءًا للشيطان من نفسه؟، فقال: «يرى أن حتمًا عليه أن لا ينصرف إلخ»، في «العمدة».
(إلّا أنَّ حَقًّا عَلَيْهِ) أي: وجوبًا. والمعنى: يرى أن حقًّا عليه عدم الانصراف إلا عن يمينه.
(أكْثَرُ ما رَأيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَنْصَرِفُ عَنْ شِمالِهِ) وفي رواية النسائيّ: «قَدْ رَأيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أكْثَرَ انْصِرافِهِ عَنْ يَسارِهِ».
وجملة القسم مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، وقعت جوابًا لسؤال مقدر، تقديره: لماذا كان اعتقاد وجوب الانصراف عن اليمين نصيبًا للشيطان؟ قال: لأني قد رأيت أكثر انصراف رسول اللَّه ﷺ عن يساره.
والحاصل أن هذا الاعتقاد حظّ من حظوظ الشيطان من صلاة العبد؛ لأنه مخالف لهدي رسول اللَّه ﷺ، فإنه كان ينصرف عن الجهتين، وأكثر انصرافه عن اليسار، فمن اعتقد وجوب الانصراف من جهة معيّنة، فقد خالف السنة، واتبع خُطُوات الشيطان، واللَّه تعالى أعلم. [البحر المحيط الثجاج].
(المسألة الرابعة):
[فإن قيل]: وقع التعارض بين حديث ابن مسعود -رضي اللَّه عنه- هذا وبين حديث أنس -رضي اللَّه عنه- الآتي، حيث عبّر كل منهما بأفعل التفضيل، فقال أنس -رضي اللَّه عنه-: «أما أنا فأكثر ما رأيت رسول اللَّه ﷺ ينصرف عن يمينه»، وقال ابن مسعود -رضي اللَّه عنه-: «أكثر ما رأيت رسول اللَّه ﷺ ينصرف عن شماله»، فكيف الجمع بينهما؟
[قلت]: جمع العلماء بينهما بأوجه، فقال النوويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وجه الجمع بينهما أن النبيّ ﷺ كان يفعل تارةً هذا، وتارةً هذا، فأخبَر كل واحد بما اعتقد أنه الأكثر فيما يعلمه، فدلّ على جوازهما، ولا كراهة في واحد منهما،
وأما الكراهة التي اقتضاها كلام ابن مسعود -رضي اللَّه عنه-، فليست بسبب أصل الانصراف عن اليمين أو الشمال، وإنما هي في حقّ مَن يَرى أن ذلك لا بدّ منه، فإن من اعتقد وجوب واحد من الأمرين مخطئ، ولهذا قال: «يَرى أنّ حقًّا عليه»، فإنما ذَمَّ من رآه حقًّا عليه.
قال: ومذهبنا أنه لا كراهة في واحد من الأمرين، لكن يُستحبُّ أن ينصرف في جهة حاجته، سواء كانت عن يمينه أو شماله، فإن استوى الجهتان في الحاجة وعدمها، فاليمين أفضل؛ لعموم الأحاديث المصرحة بفضل اليمين في باب المكارم ونحوها، هذا صواب الكلام في هذين الحديثين، وقد يقال فيهما خلاف الصواب، واللَّه أعلم. انتهى كلام النوويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- [«شرح النوويّ» ٥/ ٢٢٠].
وقال الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: ويمكن أن يُجمع بينهما بوجه آخر، وهو أن يُحمَل حديث ابن مسعود -رضي اللَّه عنه- على حالة الصلاة في المسجد؛ لأن حُجرة النبيّ ﷺ كانت من جهة يساره، ويُحْمَل حديث أنس على ما سوى ذلك، كحال السفر.
ثم إذا تعارض اعتقاد ابن مسعود وأنس -رضي اللَّه عنهما- رُجّح ابن مسعود؛ لأنه أعلم، وأسنّ، وأكثر ملازمةً للنبيّ ﷺ، وأقرب إلى موقفه في الصلاة من أنس، وبأن في إسناد حديث أنس من تُكلّم فيه، وهو السُّدّيّ، وبأنه متّفقٌ عليه، بخلاف حديث أنس في الأمرين، وبأن رواية ابن مسعود تُوافق ظاهر الحال؛ لأن حُجرة النبيّ ﷺ كانت على جهة يساره.
قال: ثم ظهر لي أنه يمكن الجمع بين الحديثين بوجه آخر، وهو أن من قال: كان أكثر انصرافه عن يساره نظر إلى هيئته في حال الصلاة، ومن قال: أكثر انصرافه عن يمينه نظر إلى هيئته في حال استقباله القوم بعد سلامه من الصلاة، فعلى هذا لا يختصّ الانصراف بجهة معيّنة، ومن ثَمَّ قال العلماء: يستحبّ الانصراف إلى جهة حاجته، لكن قالوا: إذا استوت الجهتان في حقّه فاليمين أفضل؛ لعموم الأحاديث المصرّحة بفضل التيامن، كحديث عائشة -رضي اللَّه عنها-: «كان يُحبّ التيامن ما استطاع، في طهوره، وتنعّله، وترجّله، وفي شأنه كله»، متفق عليه.
قال الأتيوبي عفا اللَّه عنه: عندي الأولى في الجمع هو ما تقدّم عن النوويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-، وحاصله أن كلّا منهما قال: إنه أكثرُ حَسَبَ اعتقاده، وإلا فالواقع يؤيّد ما قاله ابن مسعود -رضي اللَّه عنه-، حيث إن أكثر صلاته ﷺ كان في مسجده، وكانت حُجره إلى جهة اليسار، فيكون أكثر انصرافه إليها.
وقد وقع التصريح بذلك عند أحمد من طريق عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، أن ابن مسعود -رضي اللَّه عنه- حدّثه: «أن النبيّ ﷺ كان عامّة ما ينصرف من الصلاة على يساره إلى الحُجُرات».
فتبيّن بهذا أن الانصراف إلى جهة الحاجة هو السنة، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. [البحر المحيط الثجاج].
(المسألة الخامسة): الحكمة من ذلك
“الحكمة في هذا تظهر في عدة أمور ذكرها العلماء، وهي:
أولًا: القبلة إنما هو من أجل الصلاة، ولما فرغت الصلاة انتهت المهمّة.
ثانيًا: لو استمر الإمام إلى جهة القبلة فقد يأتي البعض متأخرًا والإمام مستقبل القبلة فيظن أن الصلاة ما فُرغ منها، ولكنه بانصرافه وباتجاهه إلى المأمومين يُعلم بأن الصلاة قد انتهت.
والسنة قد جاءت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام بالكيفية التي ذكرنا، فيقتدي الإمام بالنبي الكريم عليه الصلاة والسلام فيما جاء به”. قاله الشيخ عبد المحسن العباد [شرح السنن].
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله : ” سِيَاقُ سَمُرَةَ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ كَانَ يُوَاظِبُ عَلَى ذَلِكَ ، قِيلَ الْحِكْمَةُ فِي اسْتِقْبَالِ الْمَأْمُومِينَ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ ، وَقِيلَ الْحِكْمَةُ فِيهِ تَعْرِيفُ الدَّاخِلِ بِأَنَّ الصَّلَاةَ انْقَضَتْ إِذْ لَوِ اسْتَمَرَّ الْإِمَامُ عَلَى حَالِهِ لَأَوْهَمَ أَنَّهُ فِي التَّشَهُّدِ مَثَلًا، وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: اسْتِدْبَارُ الْإِمَامِ الْمَأْمُومِينَ إِنَّمَا هُوَ لِحَقِّ الْإِمَامَةِ فَإِذَا انْقَضَتِ الصَّلَاةُ زَالَ السَّبَبُ، فَاسْتِقْبَالُهُمْ حِينَئِذٍ يَرْفَعُ الْخُيَلَاءَ وَالتَّرَفُّعَ على الْمَأْمُومين ” انتهى من [فتح الباري، (2/ 334)].
وقال بعض أهل العلم : ” كان من عادته – صلى الله عليه وسلم – أنه إذا سلم تحول عن القبلة ، وانحرف يميناً أو شمالاً ، ولم يمكث مستقبل القبلة ، فإن كان هناك حاجة وضرورة إلى خطاب الناس جلس مستقبلاً لجميع المؤتمين ، وخاطبهم وكلمهم، وإن لم يكن هناك شيء يتعلق بخطاب القوم فتارة جلس منحرفاً يمنة بأن يجعل يمينه إلى القوم ويساره إلى القبلة ، وتارة جلس منحرفاً يسرة بأن جعل يساره إلى القوم ويمينه إلى القبلة، وتارة لا يجلس، بل يذهب إلى جهة حاجته سواء كانت عن يمينه أو عن شماله “. انتهى من [مرعاة المفاتيح، (3/ 303)].
(المسألة السادسة): سبب التفات الإمام
“الالتفات مستحب وليس بواجب، وكذلك مسألة قد يعني تخفى على بعض الناس وهي: مسألة الإمام إذا سلم من الصلاة، السنة أنه ينصرف للمأمومين ويعطيهم وجهه ولا يطول بقاءه مستقبل القبلة؛ لأنه إنما استدبرهم من أجل حاجة الصلاة، فإذا فرغ منها زالت الحاجة، فشرع له أن يستقبلهم ويجعل وجهه إلى وجوههم، هذا هو الأدب الشرعي، لكن بعدما يستغفر ثلاثاً، وبعد ما يقول: «اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام» بعد هذا ينصرف إليهم ويعطيهم وجهه، يقابلهم، لا يكن يميناً ولا شمالاً، بل يقابلهم مقابلة كفعل النبي ﷺ، ولكن يكون بعد أن يقول: «أستغفر الله، ثلاثاً، اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام!» يقوله الإمام ثم ينصرف إلى المأمومين، ويعطيهم وجهه مستوياً . نعم. إن شاء انصرف عن يمينه وإن شاء انصرف عن شماله. نعم . لكن يقابلهم مقابلة. نعم. ثم يأتي ببقية الأذكار، إذا انصرف أتى ببقية الأذكار …”.
[أحكام السلام والانصراف بعد انتهاء الصلاة، نور على الدرب لابن باز رحمه الله].
(المسألة السابعة):
ويُستثنى في ذلك الجلوسُ بعد الفجر فيُستحبُّ للإمام أَنْ يمكث جالسًا بعد استقباله للناس إلى أَنْ تطلع الشمس؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، ولما في ذلك من الأجر الكبير، فقد روى مسلم (670) عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا صَلَّى الْفَجْرَ جَلَسَ فِي مُصَلاهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَسَنًا.
قال النوويُّ: «فيه استحبابُ الذِّكر بعد الصبح ومُلازَمةِ مجلسها ما لم يكن عذرٌ». [«شرح مسلم» للنووي (١٥/ ٧٩)].
وروى مسلم أيضا (670) عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ قَالَ : قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَكُنْتَ تُجَالِسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : نَعَمْ . كَثِيرًا كَانَ لَا يَقُومُ مِنْ مُصَلَّاهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الصُّبْحَ أَوْ الْغَدَاةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَإِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ قَامَ وَكَانُوا يَتَحَدَّثُونَ فَيَأْخُذُونَ فِي أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَيَضْحَكُونَ وَيَتَبَسَّمُ.
وروى الترمذي (586) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((مَنْ صَلَّى الْغَدَاةَ فِي جَمَاعَةٍ ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ )) والحديث حسنه الألباني في صحيح الترمذي.
(المسألة الثامنة): متى يستحب للمأموم أن ينصرف؟
رواه مسلم (426) عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ : (أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنِّي إِمَامُكُمْ ، فَلَا تَسْبِقُونِي بِالرُّكُوعِ ، وَلَا بِالسُّجُودِ ، وَلَا بِالْقِيَامِ ، وَلَا بِالِانْصِرَافِ ، فَإِنِّي أَرَاكُمْ أَمَامِي وَمِنْ خَلْفِي).
قال النووي رحمه الله : “قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تَسْبِقُونِي بِالرُّكُوعِ ، وَلَا بِالْقِيَامِ ، وَلَا بِالِانْصِرَافِ ) فِيهِ تَحْرِيم هَذِهِ الْأُمُور وَمَا فِي مَعْنَاهَا , وَالْمُرَاد بِالِانْصِرَافِ : السَّلَام ” انتهى.
وقال الإمام الشافعي رحمه الله في “الأم” (1/151): “وللمأموم أن ينصرف إذا قضى الإمام السلام قبل قيام الإمام، وأن يؤخر ذلك حتى ينصرف بعد انصراف الإمام، أو معه أحب إلي له”. انتهى .
وقال ابن قدامة رحمه الله في “المغني” (1/328) : “ويستحب للمأمومين أن لا يثبوا قبل الإمام, لئلا يذكر سهوا فيسجد”. انتهى .
ويدل على جواز الانصراف بمجرد السلام؛ ما رواه البخاري (875) عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَلَّمَ قَامَ النِّسَاءُ حِينَ يَقْضِي تَسْلِيمَهُ وَيَمْكُثُ هُوَ فِي مَقَامِهِ يَسِيرًا قَبْلَ أَنْ يَقُومَ . قَالَ أحد رواة الحديث : نَرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِكَيْ يَنْصَرِفَ النِّسَاءُ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُنَّ أَحَدٌ مِنْ الرِّجَالِ.
قال ابن باز رحمه الله وسأل عن قول : لا يجوز للمأموم أن يفارق المسجد ما لم ينصرف الإمام إليه، هل هذا صحيح أم لا؟
الشيخ –أي: ابن باز رحمه الله- : محتمل، والأقرب أنه غير صحيح، لكنه يستحب له، يستحب له، والأولى له ألا ينصرف لقول النبي ﷺ: إني إمامكم، فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولابالقيام ولا بالانصراف، والمشهور في الانصراف هنا أنه السلام، ما هو بالانصراف إليهم، المشهور بالانصراف أنه السلام مثلما قال ثوبان: كان النبي ﷺ إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً انصرف يعني سلم.
أما الانصراف إليهم فالأولى أن يصبروا حتى ينصرف إليهم، هذا هو الأولى، ولكن لو قاموا قبل ذلك فالظاهر أنه لا حرج، إذ الانصراف في الحديث المراد به السلام، نعم. هذا هو الظاهر من الأحاديث. نعم”.[أحكام السلام والانصراف بعد انتهاء الصلاة، نور على الدرب لابن باز رحمه الله].
والأفضل له المكوث لما ورد عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال : ((الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ ، مَا لَمْ يُحْدِثْ ، تَقُولُ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ)) [رواه البخاري (445) ومسلم (649)].
وقد بوب عليه الإمام البيهقي رحمه الله: “باب الترغيب في مكث المصلي في مصلاه لإطالة ذكر الله تعالى في نفسه”. انتهى. [السنن الكبرى، (2/185)].
وللحفاظ على الأذكار في هذا الموقت وعدم نسيانه، فعن ابن جريج قال : قلت لعطاء: أحب إليك أن لا تقوم حتى تفرغ من تسبيحك ؟
قال: نعم.
قلت : لم ؟
قال : لأنهم يقولون : لا تزال الملائكة تصلي على المرء ما لم يقم من مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث .
قال : وإني لأحب أن يكون ذلك في دبر المكتوبة .
قلت : أتستحب أن لا تتكلم حتى تفرغ منه ؟
قال : نعم والله ! ولكن ما يَدَعُونَنِا . [رواه عبد الرزاق في المصنف، (2/239)]
وحتى لا يختلط الرجال بالنساء على ممرات المساجد؛ فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَلَّمَ قَامَ النِّسَاءُ حِينَ يَقْضِي تَسْلِيمَهُ ، وَيَمْكُثُ هُوَ فِي مَقَامِهِ يَسِيرًا قَبْلَ أَنْ يَقُومَ . قَالَ : نَرَى – وَاللَّهُ أَعْلَمُ – أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِكَيْ يَنْصَرِفَ النِّسَاءُ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُنَّ أَحَدٌ مِنْ الرِّجَالِ) رواه البخاري (875) .
قال الشافعي رحمه الله: “وأستحب أن يذكر الإمامُ الله شيئاً في مجلسه قدر ما يتقدم من انصرف من النساء قليلا كما قالت أم سلمة ثم يقوم ، وإن قام قبل ذلك أو جلس أطول من ذلك : فلا شيء عليه،
وللمأموم أن ينصرف إذا قضى الإمامُ السلامَ قبل قيام الإمام ، وأن يؤخر ذلك حتى ينصرف بعد انصراف الإمام أو معه أحب إلي له” انتهى . [الأم (1/127)].
(المسألة التاسعة): فقه وفوائد الحديث:
١ – (منها): بيان جواز الانصراف من الصلاة عن اليمين وعن اليسار.
٢ – (ومنها): بيان أن اعتقاد مشروعية ما ليس مشروعًا حظٌّ من حظوظ الشيطان .
٣ – (ومنها): ما قاله ابن المُنَيّر -رَحِمَهُ اللَّهُ-: فيه أن المندوبات قد تنقلب مكروهات، إذا رُفعت عن رُتبتها؛ لأن التيمن مستحبّ في كل شيء؛ أي: من أمور العبادة، لكن لمّا خَشِي ابن مسعود -رضي اللَّه عنه- أن يعتقدوا وجوبه أشار إلى كراهته، واللَّه أعلم. انتهى [«الفتح» ٢/ ٣٩٤]، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. [البحر المحيط الثجاج، بتصرف يسير].