1200 فتح الأحد الصمد شرح الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير ومحمد البلوشي وكديم وعبدالحميد البلوشي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى ، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا )
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
قال الشيخ مقبل الوادعي في الصحيح المسند (ج2/ رقم 1200):
مسند يزيد بن الأسود رضي الله عنه
قال أبو داود رحمه الله (ج ٢ ص ٢٨٣): حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة أخبرني يعلى بن عطاء عن جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه: أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم – وهو غلام شاب-، فلما صلى، إذا رجلان لم يصليا في ناحية المسجد، فدعا بهما، فجيئ بهما ترعد فرائصهما، فقال «ما منعكما أن تصليا معنا؟» قالا: قد صلينا في رحالنا، فقال: «لا تفعلوا، إذا صلى أحدكم في رحله، ثم أدرك الإمام ولم يصل، فليصل معه؛ فإنها له نافلة».
حدثنا ابن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن يعلى بن عطاء عن جابر بن يزيد عن أبيه قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الصبح بمنى … بمعناه.
وأخرجه الترمذي (ج ٢ ص ٣) وقال: حديث حسن صحيح.
والنسائي (ج ٢ ص ١١٢)، وأحمد (ج ٤ ص ١٦٠)، وعبد الرزاق (ج ٢ ص ٤٢١)، وابن أبي شيبة (ج ٢ ص ٢٧٥).
* وقال الإمام أحمد رحمه الله (ج ٤ ص ١٦١): حدثنا بهز حدثنا أبو عوانة عن يعلى بن عطاء عن جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه قال: حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حجة الوداع قال فصلى بنا رسول الله صلاة الصبح أو الفجر قال ثم انحرف جالسًا أو استقبل الناس بوجهه فإذا هو برجلين من وراء الناس لم يصليا مع الناس فقال «ائتوني بهذين الرجلين» قال فآتي بهما ترعد فرائصهما فقال «ما منعكما أن تصليا مع الناس؟» قالا يا رسول الله إنا قد كنا صلينا في الرحال قال «فلا تفعلا إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الصلاة مع الإمام فليصلها معه فإنها له نافلة» قال فقال أحدهما استغفر لي يا رسول الله فاستغفر له قال ونهض الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ونهضت معهم وأنا يومئذ أشب الرجال وأجلده قال فما زلت أزحم الناس حتى وصلت إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فأخذت بيده فوضعتها إما على وجهي أو صدري قال فما وجدت شيئًا أطيب ولا أبرد من يد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: وهو يومئذ في مسجد الخيف.
هذا حديث صحيحٌ.
===================
الحديث سيكون من وجوه:
ذكر الحديث الإمام أبوداود رحمه الله في السنن،كتاب الصلاة، ٥٧ – باب فيمن صلّى في منزله ثمَّ أدرك الجماعة يصلي معهم، (٥٧٥).
قال محققو سنن أبي داود: “إسناده صحيح.
وأخرجه الترمذي (٢١٧)، والنسائي في «الكبرى» (٩٣٣) من طريق هشيم بن بشير، عن يعلى بن عطاء، بهذا الإسناد.
وهو في «مسند أحمد» (١٧٤٧٤)، و«صحيح ابن حبان» (١٥٦٤) و(١٥٦٥).وانظر ما بعده.
قوله: «في ناحية المسجد» هو مسجد الخَيْف بمنى، كما في رواية هشيم.
وقوله: «تُرعَد» أي: ترجف وتضطرب «فرائصها» جمع فريصة، وهي لحمة في الجنب ترتعد عند الفزع”. انتهى.
وبوب الترمذي رحمه الله في أبواب الصلاة، بابُ ما جاءَ فِي الرَّجُلِ يُصَلِّي وحْدَهُ ثُمَّ يُدْرِكُ الجَماعَةَ، (٢١٩).
وفي المجتبى للنسائي رحمه الله، كتاب الإمامة، ٥٤ – إعادَةِ الفَجْرِ مَعَ الجَماعَةِ لِمَن صَلّى وحْدَهُ، (٨٥٨).
والحديث في المحرر لابن عبد الهادي (٣٧٣) كتاب الصلاة، وبلوغ المرام (٤٠٠)، كتاب الصلاة، باب صلاة الجماعة والإمامة.
ومصنف ابن أبي شيبة، ٣ – كِتابُ الصَّلَوات، كِتابُ صَلاةِ التَّطَوُّعِ والإمامَةِ وأبْوابٌ مُتَفَرِّقَةٌ، يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ ثُمَّ يُدْرِكُ جَماعَةً، (٦٦٤٢).
وذكر الحديث الوادعي رحمه الله جعله في الجامع:
كتاب الصلاة، ” ١٣ – إذا صلى الرجل في بيته ثم أتى المسجد فوجد الناس يصلون يصلي معهم وتكون الصلاة الثانية له نافلة، برقم (٨١٧).
وبوب في الجامع أيضًا: “٩ – الإنكار على من دخل المسجد والناس يصلون ولم يصل معهم”، (٣٤٢٧) إلا أنه لم يورد حديث الباب وسيأتي إيراده في موضوعه إن شاء الله، وراجع الحديث من التعليق على الصحيح المسند (١٤٩٣) فيه فوائد.
الأول: شرح الحديث:
(عَنْ جابِرِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ الأسْوَدِ) السوائي، وثقه النسائي (عَنْ أبِيهِ) يزيد بن الأسود، ويقال: [ابن أبي] الأسود، حليف قريش نزل الكوفة. [انظر: شرح سنن أبي داود لابن رسلان]
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب فيمن صلى في منزله ثم أدرك الجماعة يصلي معهم، يعني: أن الإنسان إذا صلى وحده أو صلى مع جماعة، ثم جاء وأدرك الجماعة تصلي فإنه يصلي معهم، فتكون الأولى له فريضة والثانية نافلة؛ لأنه أدى الفرض بصلاته الأولى سواء كان وحده أو في جماعة، لكنه إذا وجد جماعة تصلي فيشرع له أو يسن له أن يصلي معهم، ولا يجلس في المسجد والناس يصلون؛ لأن هذه الهيئة مستنكرة، ومن يفعلها يساء به الظن، فكون الناس يصلون وهو جالس هذا شيء لا ينبغي.
وأورد أبو داود رحمه الله حديث يزيد بن الأسود رضي الله عنه: أنه صلى مع النبي ﷺ، وكان ذلك في منى في مسجد الخيف في حجة الوداع
وقوله: (ترعد فَرائِصُهُما) جمع فريصة بالصاد المهملة وهي اللحمة من الجنب والكتف التي لا تزال ترعد أي تتحرك من الدابة، واستعير للإنسان؛ لأن له فريصة وهي ترجف عند الخوف.
وقال الأصمعي: الفريصة اللحمة بين الكتف والجنب، وسبب ارتعاد فرائصهما لما اجتمع في رسول الله ﷺ من الهيبة العظيمة والحرمة الجسيمة لكل من رآه مع كثرة تواضعه. [قاله ابن رسلان رحمه الله].
وكان عليه الصلاة والسلام مهيبًا مع رفقه وقربه من الناس وسهولته وحسن خلقه ﷺ، فكان أصحاب رسول الله ﷺ يهابونه، كما جاء عن عمرو بن العاص رضي الله عنه في صحيح مسلم أنه قال: إنه ما ملأ عينه من رسول الله ﷺ إجلالًا وهيبة له عليه الصلاة والسلام .
و صلاتهما في الرحال يحتمل أن يكون كل واحد صلى وحده، أو أنهما صليا مع بعض، أو أنهما صليا جماعة مع من كان معهما في الخيام؛ لأنهم كانوا ينزلون في منى حجاجًا، ومن المعلوم أن الحجاج يصلون جماعات كثيرة، وكل مجموعة يصلون مع بعض، والرسول ﷺ كان يؤم الناس ويصلي بهم في مسجد الخيف فصلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وقوله: (قالا: إنا صلينا في رحالنا) المقصود بالرحل هنا: المنزل.
و”فيه: أن الصلاة أمانة فيصدق من ذكر أنه صلاها ولا يطالب ببينة على فعلها”. قاله ابن رسلان رحمه الله.
قال ابن رسلان رحمه الله:
والحديث مطلق يدل: على أن أي صلاة يمكن أن تعاد بدون استثناء، وبعض أهل العلم استثنى المغرب والفجر والعصر، وقال: إن المغرب ثلاثية، والعصر لا يصلى بعدها، والصبح لا يصلى بعدها، لكن الحديث -كما سيأتي في الراوية الثانية- كان في صلاة الصبح، ومعنى هذا: أنه ولو كان وقت نهي فإن هذه مستثناة لأن لها سبب، وهو وجود الجماعة، فدل هذا على أن إعادة الجماعة الثانية بعد صلاة الفجر لا بأس بها؛ لأنه جاء في السنة ما يدل على ذلك، فيكون قوله ﷺ (لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس)، يخص منه ماله سبب، وهذه الصلاة هي ذات سبب؛ فتدخل جميع الصلوات تحت هذا الإطلاق، سواءً كانت بعدها نهي كالصبح والعصر، أو ثلاثية كالمغرب، والحديث جاء في صلاة بعدها وقت نهي، فدل ذلك على استثناء مثل هذه الصلاة من النهي.
والحديث فيه أيضًا: صلاة المتنفل خلف المفترض كما ذكرنا. [انظر: شرح سنن أبي داود للعباد، ].
جدُّ «يزيد»: المُطّلِبُ بن أسد بن عبد العُزّى بن القُصَيِّ القُرَشي”.[ المفاتيح في شرح المصابيح].
سواء كان صلى في رحله في جماعة أو صلى منفردًا، فإطلاقه في الأمر بالإعادة من غير تفصيل عن صلاته في بيته يدل على الأمر بالإعادة في الحالين؛ لأن ترك الاستفصال في المقال منزل منزلة العموم في المقال كما هو مقرر عند الأصوليين.
قال ابن عبد البر: قال جمهور الفقهاء: إنما يعيد الصلاة مع الإمام في جماعة من صلى وحده في بيته وأهله أو في غير بيته،
وأما من صلى في جماعة وإن قَلَّت فإنه لا يعيد في جماعة أكثر منها ولا أقل، وكل من صلى عندهم مع آخر فقد صلى في جماعة، فلا يعيد في أخرى قلَّت أو كثرت، ولو أعاد في جماعة أخرى لأعاد في ثالثة ورابعة إلى ما لا نهاية له، وهذا لا يخفى فساده. قال: وممن قال هذا القول مالك بن أنس وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم، ومن حجتهم قوله ﷺ: «لا تصلى صلاة في يوم مرتين»”. انتهى من شرح سنن أبي داود لابن رسلان رحمه الله.
الثاني: مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): الأحاديث
قال الشيخ الوادعي رحمه الله في الجامع: ” ١٣ – إذا صلى الرجل في بيته ثم أتى المسجد فوجد الناس يصلون يصلي معهم وتكون الصلاة الثانية له نافلة
٨١٧ – [حديث الباب]
٨١٨ – قال الإمام أحمد رحمه الله (ج ٤ ص ٢١٥): حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن ابن إسحاق قال حدثني عمران بن أبي أنس عن حنظلة بن علي الأسلمي عن رجل من بني الديل قال: صليت الظهر في بيتي ثم خرجت بأباعر لي لأصدرها إلى الراعي فمررت برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو يصلي بالناس الظهر فمضيت فلم أصل معه فلما أصدرت أباعري ورجعت ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال لي «ما منعك يا فلان أن تصلي معنا حين مررت بنا؟» قال فقلت يا رسول الله إني قد كنت صليت في بيتي قال «وإن».
هذا حديث حسنٌ. “. انتهى.
– عَنْ أبِي ذَرٍّ، قالَ: قالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «كَيْفَ أنْتَ إذا كانَتْ عَلَيْكَ أُمَراءُ، يُؤَخِّرُونَ الصَّلاة عَنْ وقْتِها، أوْ يُمِيتُونَ الصَّلاةَ عَنْ وقْتِها؟» قالَ: قُلْتُ: فَما تَأْمُرُنِي؟ قالَ: «صَلِّ الصَّلاةَ لِوَقْتِها، فَإنْ أدْرَكْتَها مَعَهُمْ فَصَلِّ، فَإنَّها لَكَ نافِلَةٌ»، ولَمْ يَذْكُرْ خَلَفٌ: «عَنْ وقْتِها».
رواه مسلم في صحيحه [١٤٦٦] (٦٤٨)، “(٤٢) – بابُ الأمْرِ بِالصَّلاةِ فِي وقْتِها، وماذا يَفْعَلُ الإنْسانُ إذا أخَّرَها الإمامُ؟”.
(المسألة الثانية): صَلاةُ الجَماعةِ
المَبحَثُ الأوَّل: فَضلُ صلاةِ الجَماعةِ
قال ابنُ تَيميَّة رحمه الله: (اتَّفق العلماءُ على أنَّها من أوكدِ العبادات، وأجلِّ الطاعات، وأعظم شعائرِ الإسلام) ((مجموع الفتاوى)) (23/222).
ووقد ورَدَ في فضْلِ صلاةِ الجماعةِ أحاديثُ كثيرةٌ، منها:
– عن ابنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((صلاةُ الجماعةِ تَفضُلُ على صلاةِ الفذِّ بسَبعٍ وعِشرينَ دَرجةً ))[رواه البخاري (645)، ومسلم (650)].
– عن عُثمانَ بنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن صلَّى العِشاءَ في جماعةٍ، فكأنَّما قامَ نِصفَ اللَّيل، ومَن صلَّى الصبحَ في جماعةٍ فكأنَّما صلَّى اللَّيلَ كُلَّه ))[رواه مسلم (656)].
– عن أبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((يَتعاقبونَ فيكم ملائكةٌ باللَّيلِ وملائكةٌ بالنَّهار، ويَجتمعون في صلاةِ الفجرِ وصلاةِ العَصرِ، ثم يَعرُجُ الذين باتوا فيكم، فيسألُهم ربُّهم- وهو أعلمُ بهم- كيف تركتُم عبادي؟ فيقولون: تَركناهُم وهم يُصلُّون، وأتيناهم وهم يُصلُّون))[أخرجه البخاري (555)، (7429)، ومسلم (632)].
– عن عُثمانَ بنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن توضَّأَ للصلاةِ فأَسْبَغَ الوضوءَ، ثمَّ مشَى إلى الصَّلاةِ المكتوبةِ فصلَّاها مع الناسِ، أو مع الجماعةِ، أو في المسجِدِ، غَفَرَ اللهُ له ذُنوبَه))[أخرجه مسلم (232)].
– عن أُبيِّ بن كَعبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((صلاةُ الرَّجُلِ مع الرَّجُلِ أَزْكى من صلاتِه وحْدَه، وصلاتُه مع الرَّجُلينِ أزْكى من صلاتِه مع الرجُلِ، وما كثُرَ فهو أحبُّ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ ))[رواه أبو داود (554)، والنسائي (2/104)، وأحمد (5/140) (21302). صحَّحه عليُّ بن الـمَديني كما في ((خلاصة البدر المنير)) (1/185)، وقال العقيلي في ((الضعفاء الكبير)) (2/116): من حديث شُعبة صحيح. وقال النووي في ((المجموع)) (4/197): إسنادُه صحيحٌ إلَّا عبد الله بن أبي بصير الراوي عن أبي فسكتوا عنه. وقال الذهبي في ((المهذب)) (2/1033): إسناده صالح، وله طُرق عن أبي إسحاق تختلف. وقال ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (1/166): في إسناده اختلاف، والأرجحُ أنه صحيح. وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (2/160): له شاهدٌ قويٌّ. وصحَّحه ابن باز في ((فتاوى نور على الدرب)) (11/428)، وحسَّنه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (554)].[الموسوعة الفقهية].
المَبحَث الثَّاني: الحِكمةُ من صَلاةِ الجماعةِ
من حِكمِ صَلاةِ الجَماعةِ ما يلي:
1- زرْعُ المودَّة والمحبَّة بين المسلمين، مع كونِها وسيلةً للتعارُفِ فيما بينهم.
2- إظهارُ شَعيرةٍ من أعظمِ شعائرِ الإسلامِ.
3- تعويدُ الأمَّةِ الإسلاميَّةِ على الاجتماعِ، وعدَمِ التفرُّقِ.
4- تعويدُ المسلمِ على ضَبطِ النَّفسِ؛ فمتابعةُ الإمامِ في الصَّلاة يُدرِّبُه على ضبطِ النَّفْس.
5- شعورُ المسلمينَ بالمساواةِ.
6- تفقُّدُ أحوالِ المسلمين من الفُقراء والمرضَى؛ لمساعدتهم، والمتهاونينَ في الصَّلاةِ لنُصحِهم، والجاهلين بأحكامِ الصَّلاة؛ لتعليمهم.
7- زيادةُ نشاطِ المسلمِ واجتهادِه في العبادةِ إذا رأى المجتهدين مِن المسلمين في العِبادَةِ.
8- اجتماعُ المسلمين في أوقاتٍ مُعيَّنةٍ يُربِّيهم على المحافظةِ على الأوقاتِ.
المَبحَث الثالث: حُكمُ صَلاةِ الجماعةِ، وعلى مَن تجِبُ.
المَطلَب الأوَّل: حُكمُ صلاةِ الجماعةِ
الفرعُ الأوَّل: حُكمُ صَلاةِ الجماعةِ للرِّجالِ
صلاةُ الجماعةِ واجبةٌ وجوبًا عينيًّا على الرِّجال، وهو مذهبُ الحَنابِلَة، وبعضِ الحَنَفيَّة، ووجهٌ عند الشافعيَّة، وهو قولُ طائفةٍ من السَّلفِ، اختارَه البخاريُّ، وابنُ المنذرِ، وابنُ حَزْمٍ، وابنُ تيميَّة، وابنُ باز، وابن عُثَيمين.
الفرعُ الثَّاني: حُكمُ صلاةِ الجَماعةِ للنِّساءِ
يُستحبُّ للنِّساءِ أن يُصلِّينَ جماعةً مع بعضهنَّ البعض، وهذا مذهبُ الشافعيَّة، والحَنابِلَة، وبه قالت طائفةٌ من السَّلف، واختاره ابنُ حَزمٍ، وابنُ القيِّم، واختارَه ابنُ باز.
وإنْ كانت الجماعة لا تتأكَّد في حقِّ النساء كتأكُّدها في حقِّ الرجال. [يُنظر: ((المجموع)) للنووي (4/188)].
المَطلَب الثاني: حُكمُ المُمتنِعينَ عن إظهارِ صلاةِ الجَماعَةِ
إذا تَمالَأَ أهلُ بلدٍ على ترْكِ إظهارِ صلاةِ الجَماعةِ قُوتِلوا، وهذا باتِّفاقِ المذاهبِ الفقهيَّة الأربعة: الحَنَفيَّة، والمالِكيَّة، والشافعيَّة، والحَنابِلَة.
قال ابن هُبَيرة رحمه الله: (أجمَعوا على أنَّ صلاة الجماعة مشروعةٌ، وأنَّه يجب إظهارُها في الناس، فإذا امتنع من ذلك أهل بلد قُوتِلوا عليها). ((اختلاف الأئمَّة العلماء)) (1/129).
قال الحطاب المالكي رحمه الله: (صرَّح كثيرٌ من أهل المذهب بأنَّه إذا تمالأ أهلُ بلد على تركها قُوتِلوا). ((مواهب الجليل)) (2/396)، وينظر: ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (1/319).
وذلك للآتي:
أولًا: القياسُ على مقاتلةِ أهلِ البلدِ إذا اجتَمْعوا على تَرْكِ الأذانِ[((الإنصاف)) للمرداوي (2/149)].
ثانيًا: أنَّها من شعائرِ الإسلامِ، ومِن خصائصِ هذا الدِّينِ، وفي الاجتماعِ على ترْكها إماتةٌ لها [((مراقي الفلاح)) للشرنبلالي (ص: 109)، ((طرح التثريب)) للعراقي (2/313)].
المَبحَث الرابع: الأعذارُ المُسقِطَةُ لصلاةِ الجماعةِ
المَطلَبُ الأوَّل: المَطَرُ.
المَطلَب الثَّاني: الوَحْلُ.
المَطلَب الثَّالث: الرِّيحُ الشَّديدةُ.
المَطلَب الرَّابع: البَرْدُ الشَّديدُ.
المَطلَب الخامسُ: حضورُ طعامٍ .
المَطلَبُ السَّادسُ: المَرضُ .
المَطلَب السَّابع: غَلبةُ النَّومِ.
المَطلَب الثَّامِن: الخوفُ .
المَطلَبُ التاسِعُ: صلاةُ الجماعةِ لِمَن أكَل ثُومًا، أو بصلًا ونحوَهما.
المطلب العاشر: مدافعة الأخبثين.
[وقد سبق في شروح أحاديث سابقة تفصيل ذلك، وكذلك مسألة: ما تُدْرَك به صلاة الجماعة].
المَبحَث الخامس: إعادةُ الصَّلاةِ في جماعةٍ
يُسنُّ لِمَن صلَّى الفريضةَ ثم أُقيمتِ الصَّلاةُ في المسجدِ أن يُعيدَ الصَّلاةَ مع الجماعةِ، وهو مذهبُ المالِكيَّة، والشافعيَّة، والحَنابِلَة، وهو قولُ داودَ.
واستثنى الحنابلةُ أيضًا صلاة المغرب؛ قال المرداويُّ: (قوله: “فإنْ صلَّى ثم أُقيمَتِ الصلاة وهو في المسجد استُحِبَّ له إعادتُها”، وكذا لو جاء مسجدًا في غيرِ وقتِ نهيٍ ولم يقصدْه للإعادةِ وأُقيمت، هذا المذهبُ، وعليه جماهيرُ الأصحابِ، وجزم به في الوجيز والمحرَّر، وغيرهما، وقدَّمه في الفروع، والرعايتين، والحاويين، والفائق، والحواشي، وغيرهم… الصَّحيح من المذهب: أنَّه لا يُستحَبُّ إعادةُ المغرب، وعليه جماهيرُ الأصحابِ) ((الإنصاف)) (2/154)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (2/82)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (2/6).
قال ابنُ عبد البَرِّ: (وهو قولُ داود بن علي في إعادةِ الصَّلواتِ كلِّها في جماعةٍ) ((الاستذكار)) (2/158).
الأَدِلَّةُ مِنَ السُّنَّة:
1- عن أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((صلِّ الصَّلاةَ لوقتِها، فإنْ أدركتَ معهم فصلِّ ولا تقُلْ: إنِّي صليتُ؛ فلا أُصلِّي ))[رواه مسلم (648)].
2- [حديث الباب، وسبق إيراد بعض الأحاديث المتعلقة بالباب].[الموسوعة الفقهية].
الفروع المتعلقة بإعادة الصلاة:
الفرع الأول: في اختلاف أهل العلم في الصلاة خلف أئمة الجْور، ومن لا يُرضى حاله؛ من الخوارج، وأهل البدع:
ذهبت طائفة إلى جواز الصلاة خلفهم:
قال الإمام الحافظ أبو بكر بن أبي شيبة في «مصنفه»: ثنا عيسى بن يونس، عن الأوزاعي، عن عُمَير بن هانئ، قال: شَهِدت ابن عمر، والحجاجُ محاصر ابنَ الزبير، فكان منزل ابن عمر بينهما، فكان ربما حضر الصلاة مع هؤلاء، وربما حضر الصلاة مع هؤلاء.
حدّثنا حاتم بن إسماعيل، عن جعفر، عن أبيه، قال: كان الحسن بن عليّ، والحسين يصليان خلف مروان، قال: فقيل له: أما كان أبوك يصلي إذا رجع إلى البيت؛ قال: فيقول: لا واللَّه، ما كانوا يزيدون على صلاة الأئمة.
حدّثنا حفص بن غياث، عن الأعمش، عن إبراهيم، قال: كانوا يصلون خلف الأمراء، ما كانوا.
حدّثنا هشيم، عن أبي حُرَّة، عن الحسن، قال: لا يضر المؤمن صلاته خلف المنافق، ولا ينفع المنافق صلاة المؤمن خلفه.
حدّثنا أبو أسامة، عن حبيب بن جزي، قال: سألت أبا جعفر عن الصلاة خلف الأمراء؟ قال: صلِّ معهم.
حدّثنا كثير بن هشام، عن جعفر بن بُرقان، قال: سألت ميمونًا عن الصلاة خلف الأمراء؟ فقال: صلِّ معهم.
حدّثنا كثير بن هشام، عن جعفر بن برقان، قال: سألت ميمونًا عن رجل، فذكر أنه من الخوارج، فقال: أنت لا تصلّ له، إنما تصلِّ للَّه، قد كنا نصلي خلف الحجاج، وكان حروريًا أزرقيًا [قال في «القاموس»: الأزارقة من الخوارج نُسبوا إلى نافع بن الأزرق. انتهى].
حدّثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، قال: كان عبد اللَّه يصلي معهم إذا أخروا عن الوقت قليلًا، ويرى أن مَأثَم ذلك عليهم.
حدّثنا وكيع عن سفيان، عن العلاء بن المسيب، عن رجل، عن سعيد بن جبير، أنه كان يصلي مع الحجاج عند أبواب كِنْدَة، وخرج عليه.
حدّثنا وكيع، ثنا بَسّام، قال: سألت أبا جعفر عن الصلاة مع الأمراء؟ فقال: صلّ معهم، فإنا نصلي معهم، قد كان الحسن والحسين يبتدران الصلاة خلف مروان.
حدّثنا وكيع، ثنا سفيان، عن إبراهيم بن أبي حفصة، قال: قلت لعليّ بن حسين: إن أبا حمزة الثُّمالي، وكان فيه غلوّ يقول: لا نصلي خلف الأئمة، ولا نناكح إلا من يرى مثل ما رأينا، فقال علي بن حسين: بل نصلي خلفهم، ونناكحهم بالسنة.
حدّثنا وكيع، ثنا سفيان، عن الأعمش، قال: كانوا يصلون خلف الأمراء، ويحتسبون بها.
حدّثنا وكيع، عن سفيان، عن عقبة الأسدي، عن زيد بن أبي سليمان أن أبا وائل كان يجمِّع مع المختار.
حدّثنا وكيع، ثنا سفيان عن مسلم، عن أبي فَرْوة، قال: رأيت عبد الرحمن بن أبي ليلى، وأشار إلى محمد بن سعد، والحجاج يخطب أن اسكت.
حدّثنا الفضل بن دُكَين، عن الأعمش، عن القاسم بن محْيمِرَة أنه كان يصلي خلف الحجاج. انتهى «مصنف ابن أبي شيبة» [«المصنّف» ٢/ ٣٧٨ – ٣٧٩].
وأخرج البيهقيّ بسنده عن مكحول، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه ﷺ: «الجهاد واجب عليكم مع كل أمير بَرًّا كان أو فاجرًا، والصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم برًّا كان، أو فاجرًا، وإن عمل الكبائر، والصلاة واجبة على كل مسلم برًّا كان، أو فاجرًا، وإن عمل الكبائر»، قال البيهقيّ: وهذا إسناده صحيح، إلا أن فيه إرسالًا بين مكحول وأبي هريرة. [«معرفة السنن والآثار» ٢/ ٤٠٠].
وأخرج أيضًا بسنده عن عمير بن هانئ، قال: بعثني عبد الملك بن مروان بكتب إلى الحجاج، فأتيته، وقد نصب على البيت الحرام أربعين مَنجَنِيقًا، فرأيت ابن عمر إذا حضرت الصلاة مع الحجاج صلى معه، وإذا حضر ابن الزبير صلى معه؛ فقلت له: يا أبا عبد الرحمن أتصلي مع هؤلاء، وهذه أعمالهم؛ فقال: يا أخا أهل الشام، ما أنا لهم بحامد، ولا نطيع مخلوقًا في معصية الخالق، قال: قلت: ما تقول في أهل الشام؟ قال: ما أنا لهم بحامد. قلت: فما تقول في أهل مكة؟ قال: ما أنا لهم بعاذر؛ يقتتلون على الدنيا، يتهافتون في النار تهافت الذباب في المرق، قلت: فما تقول في هذه البيعة التي أخذ علينا مروان؟ قال: قال ابن عمر: كنا إذا بايعنا رسول اللَّه ﷺ على السمع والطاعة يلقننا «فيما استطعتم».
وأخرج أيضًا بسنده عن يونس بن عبيد، عن نافع، قال: كان ابن عمر يسلم على الخشبية [«الخشبيّة» هم: أصحاب المختار بن أبي عُبيد، قاله في «مجمع البحار»، وفي «القاموس»: الخشبيّة -محرّكةً- قوم من الجهميّة. انتهى]، والخوارج، وهم يقتتلون، فقال: من قال: حيّ على الصلاة أجبته، ومن قال: حيّ على الفلاح أجبته، ومن قال: حيّ على قتل أخيك المسلم، وأخذ ماله، قلت: لا. انتهى [«السنن الكبرى» ٣/ ١٢٢].
*) ومنعت طائفة الصلاة خلف أهل البدع، وأمر بعضهم من صلى خلفهم بالإعادة، كان سفيان الثوري يقول في الرجل يكذّب بالقدر: لا تقدموه.
وقال أحمد في الجهميّ يصلى خلفه: يعيد، والقدريّ إذا كان يردّ الأحاديث، ويخاصم فليعد، والرافضيّ يصلى خلفه: يعيد. وقال أحمد: لا يصلى خلف أحد من أهل الأهواء إذا كان داعية إلى هواه.
وقد حُكي عن مالك أنه قال: لا يصلى خلف أهل البدع من القدرية، وغيرهم، ويصلى خلف أئمة الجور، قاله ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ- [«الأوسط» ٤/ ٢٣٢].
وقال العلامة العينيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وكان أبو حنيفة -رَحِمَهُ اللَّهُ- لا يرى الصلاة خلف المبتدعة، ومثله عن أبي يوسف. انتهى [«عمدة القاري» ٥/ ٢٣٢].
وقال النوويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- في «المجموع» ما حاصله:
مَن كُفِّر ببدعته لا تصح الصلاة وراءه، ومن لا يكفر تصح؛ فمِمَّن يكفر: من يجسم تجسيمًا صريحًا، ومن ينكر العلم بالجزئيات، وأما من يقول بخلق القرآن فهو مبتدع، واختَلَف أصحابنا في تكفيره، فأطلق أبو علي الطبري في «الإفصاح»، والشيخ أبو حامد الإسفرايني، ومتابعوه، القول بأنه كافر، قال أبو حامد، ومتابعوه: المعتزلة كفار، والخوارج ليسوا بكفار، ونقل المتولي تكفير من يقول بخلق القرآن عن الشافعيّ، وقال القفال، وكثيرون من الأصحاب: يجوز الاقتداء بمن يقول بخلق القرآن وغيره من أهل البدع، قال صاحب «العمدة»: هذا هو المذهب.
قال النووي: وهذا هو الصواب، فقد قال الشافعيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: أقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية؛ لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم، ولم يزل السلف والخلف يرون الصلاة وراء المعتزلة، ونحوهم، ومناكحتهم، وموارثتهم، وإجراء سائر الأحكام عليهم.
وتأول الإمام الحافظ الفقيه أبو بكر البيهقي، وغيره من أصحابنا المحققين ما نُقل عن الشافعي، وغيره من العلماء، من تكفير القائل بخلق القرآن على أن المراد كفران النعمة، لا كفران الخروج عن الملة، وحَمَلَهم على هذا التأويل ما ذكرته من إجراء أحكام الإسلام عليهم [«المجموع شرح المهذّب» ٤/ ٢٥٣ – ٢٥٤].
قال الشافعيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: ومَن صلى صلاةً مِن بالغ مسلم، يقيم الصلاة، أجزأته، ومَن خلفه صلاتُهم، وإن كان غير محمود الحال في دينه، أيّ غاية بلغ، يخالف الحمد في الدين، وقد صلى أصحاب النبيّ ﷺ خلف من لا يَحْمَدون فعاله، من السلطان وغيره. انتهى كلام الشافعيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- [«الأمّ» ١/ ١٤٠].
وقال ابن المنذر: إن كفر ببدعته لم تجز الصلاة وراءه، وإلا فتجوز، وغيره أولى [«المجموع» ٤/ ٢٥٤].
وقال أبو محمد بن حزم -رَحِمَهُ اللَّهُ-:
ما نعلم أحدًا من الصحابة -رضي اللَّه عنهم- امتنع من الصلاة خلف المختار، وعبيد اللَّه بن زياد، والحجاج، ولا فاسق أفسق من هؤلاء، وقد قال اللَّه تعالى: ﴿وتَعاوَنُوا عَلى البِرِّ والتَّقْوى ولا تَعاوَنُوا عَلى الإثْمِ والعُدْوانِ﴾ [المائدة ٢].
ولا برّ أبرّ من الصلاة وجمعِها في المساجد، فمن دعا إليها ففرض إجابته، وعونه على البر والتقوى الذي دعا إليهما، ولا إثم بعد الكفر آثم من تعطيل الصلوات في المساجد، فحرام علينا أن نعين على ذلك، وكذلك الصيام، والحج، والجهاد؛ من عمل شيئًا من ذلك عملناه معه، ومن دعانا إلى إثم لم نجبه، ولم نعنه عليه.
وكل هذا قول أبي حنيفة، والشافعي، وأبي سليمان -يعني داود الظاهري- رحمهم اللَّه تعالى. انتهى كلام ابن حزم -رَحِمَهُ اللَّهُ- [«المحلّى» ٤/ ٢١٤].
وقال العلامة الشوكانيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- ما ملخصه: قد ثبتٌ إجماع أهل العصر الأول من بقية الصحابة، ومن معهم من التابعين إجماعًا فعليًا، ولا يبعد أن يكون قوليًا على الصلاة خلف الجائرين؛ لأن الأمراء في تلك الأعصار كانوا أئمة الصلوات الخمس، فكان الناس لا يؤمهم إلا أمراؤهم، في كل بلدة فيها أمير ….
وقد أخرج البخاري عن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- أنه كان يصلي خلف الحجاج بن يوسف.
وأخرج مسلم، وأهل السنن أن أبا سعيد الخدريّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- صلى خلف مروان صلاة في قصة تقديمه الخطبة على الصلاة، وإخراج منبر النبيّ ﷺ، وإنكار بعض الحاضرين.
وأيضًا قد ثبتٌ أنه ﷺ أخبر بأنه يكون على الأمة أمراء يميتون الصلاة ميتة الأبدان، ويصلونها لغير وقتها، فقالوا: يا رسول ﷺ اللَّه، بم تأمرنا؟ فقال: «صلوا الصلاة لوقتها، واجعلوا صلاتكم مع القوم نافلة»، ولا شك أن من أمات الصلاة، وفَعَلها في غير وقتها غير عدل، وقد أذن النبيّ ﷺ بالصلاة خلفه نافلة، ولا فرق بينها وبين الفريضة في ذلك.
والحاصل أن الأصل عدم اشتراط العدالة، وأن كل من صحت صلاته لنفسه صحت صلاته لغيره.
فالقائل بأن العدالة شرط، كما رُوي عن العترة، ومالك، وجعفر بن مبشر، وجعفر بن حرب محتاج إلى دليل، ينقل عن ذلك الأصل.
ثم إن محل النزاع إنما هو في صحة الصلاة خلف من لا عدالة له، وأما أنها مكروهة فلا خلاف في ذلك. انتهى كلام الشوكانيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- باختصار، وهو تحقيقٌ نفيس جدًّا. قاله الأتيوبي
(الفرع الثاني): في اختلاف أهل العلم في حكم مَن صلى صلاة، ثم وجَد جماعة:
ذهب جمهور الفقهاء -كما قال الحافظ أبو عمر -رَحِمَهُ اللَّهُ- إلى أن من صلى في بيته وحده، ثم دخل المسجد، فأقيمت تلك الصلاة يصليها معهم، ولا يخرج حتى يصلي، وأما من صلى جماعة، فلا يعيد،
وممن قال بهذا القول مالك بن أنس، وأبو حنيفة، والشافعي، وأصحابهم.
واحتجُّوا بحديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- مرفوعًا: «لا تصلوا صلاة في يوم مرتين»، أخرجه أبو داود، والنسائيّ، وصححه ابن خزيمة، وابن حبّان.
وذهب أحمد بن حنبل، وإسحاق ابن راهويه، وهو قول داود إلى أنه يصليها ثانية في جماعة، قال أحمد: ولا يجوز له أن يخرج إذا أقيمت الصلاة حتى يصليها، وإن كان قد صلى في جماعة واحتجّ بقول أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- في الذي خرج عند الإقامة من المسجد: أما هذا فقد عصى أبا القاسم ﷺ.
ورُوي عن أبي موسى الأشعري، وحذيفة بن اليمان، وأنس بن مالك، وصلة بن زفر، والشعبيّ، والنخعيّ إعادة الصلاة في جماعة لمن صلاها في جماعة، وبه قال حماد بن زيد، وسليمان بن حرب.
واتفق أحمد بن حنبل، وإسحاق ابن راهويه على أن معنى حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- عن النبيّ ﷺ قال: «لا تصلوا صلاة في يوم واحد مرتين»، قالا: إنما ذلك أن يصلي الإنسان الفريضة، ثم يقوم، فيصليها ثانية، ينوي بها الفرض مرة أخرى، يعتقد ذلك، فأما إذا صلاها مع الإمام على أنها سنّة تطوع، فليس بإعادة للصلاة.
قال أبو عمر: قد علمنا أن رسول اللَّه ﷺ إنما أمر الذي صلى في أهله وحده أن يعيد في جماعة من أجل فضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ؛ ليتلافى ما فاته من فضل الجماعة، إذا كان قد صلى منفردًا، والمصلي في جماعة قد حصل له الفرض والفضل، فلم يكن لإعادته الصلاة وجه، إلا أن يتطوع بها، وسنة التطوع أن يصلي ركعتين؛ لحديث: «صلاة الليل والنهار مثنى مثنى»، وللنهي عن القصد إلى التطوع بعد العصر والصبح. انتهى كلام أبي عمر -رَحِمَهُ اللَّهُ- باختصار [«التمهيد» ٤/ ٢٤٣ – ٢٤٧].
قال الأتيوبي عفا اللَّه تعالى عنه: فيما قاله أبو عمر نظرٌ لا يخفى، بل الظاهر إطلاق الإعادة للجميع، سواء صلى وحده، أو مع الجماعة؛ عملًا بظاهر النصّ؛ لأن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال يُنَزَّل منزلة العموم في المقال، فإنه ﷺ ما استفصل مِحْجَنًا -رضي اللَّه عنه-، لَمّا قال له: قد صليت في أهلي، هل صلى وحده، أم صلى مع الجماعة؟ بل قال له: «إذا جئت، فصل مع الناس»[ أخرجه النسائيّ من طريق زيد بن أسلم، عن رجل من بني الديل، يقال له: بسر بن مِحْجَن، عن مِحْجن، حديث صحيح]، وكذا ما استفصل الرجلين، هل صلّيا وحدهما، أم صلّيا مع جماعة، بل قال لهما: «فصلّيا معهم»
والحاصل أن الراجح قول أحمد، وإسحاق، ومن قال بقولهما من مشروعيّة إعادة من صلى إذا وجد جماعة مطلقًا، سواء صلى وحده، أو مع جماعة، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.[البحر المحيط الثجاج]
(الفرع الثالث): في اختلاف أهل العلم، هل تعاد جميع الصلوت، أم لا؟:
قال أبو عمر -رَحِمَهُ اللَّهُ-: واختلف الفقهاء فيما يعاد من الصلوات مع الإمام لمن صلاها في بيته، فقال مالك -رَحِمَهُ اللَّهُ-: تعاد الصلوات كلها مع الإمام، إلا المغرب وحدها، فإنه لا يعيدها؛ لأنها تصير شفعًا، قال: ومن صلى في جماعة، ولو مع واحد، فإنه لا يعيد تلك الصلاة إلا أن يعيدها في مسجد النبيّ ﷺ، أو المسجد الحرام، أو المسجد الأقصى، وقال: إنه لا يدري أيُّ صلاتيه فريضته، وإنما ذلك إلى اللَّه، يجعلها أيتها شاء، ولا يقول: إنها نافلة، ونقل مثل ذلك عن ابن عمر، وابن المسيب رحمهما اللَّه تعالى.
قال الأتيوبي عفا اللَّه تعالى عنه: لكن هذا مُعارِضٌ للنصوص الصحيحة الصريحة؛ حيث جعلت الثانية هي النافلة، ففي حديث الباب: «كانت لك نافلة»، وفي حديث الرجلين: «فإنها لكما نافلة»، وفي حديث ابن مسعود عند النسائيّ: «فصلوها معهم، واجعلوها سُبْحة»، فكلّها نصوص صريحة، في كون الثانية نافلةً، وتأويلهم بأن النافلة بمعنى فضيلة، وزيادة خير، وليس بمعنى التطوع، كما في قوله تعالى: ﴿نافِلَةً لَكَ﴾ [الإسراء ٧٩] تأويل بعيد؛ إذ لا دليل عليه.
وأما حديث: «فصلّ معهم، وإن كنت قد صلّيت، تكن لك نافلة، وهذه مكتوبة»، [ أخرجه أبو داود (٥٧٧) من طريق سعيد بن السائب، عن نوح بن صعصعة، عن يزيد بن عامر، قال: جئت والنبي ﷺ في الصلاة، به حديث ضعيف؛ لأن في سنده نوح بن صعصعة مجهول الحال، كما قال الدارقطنيّ، ومع هذا فقد خالف حديثه أحاديث الأثبات، فهو منكر، لا يصلح للاحتجاج به فتبصّر، راجع «شرح النسائيّ» ١٠/ ٣٣٨]،
وراجع لضعف الحديث قالَ الألباني: ضَعِيف جدا. سلسلة الأحادِيث الضعيفة برقم ٢١٢٦].
وقال أبو حنيفة وأصحاب أبو حنيفة -رحمهم اللَّه-: لا يعيد المصلي وحده العصر مع الإمام، ولا الفجر ولا المغرب، ويصلي معه الظهر والعشاء، ويجعل صلاته مع الإمام نافلة. قال محمد بن الحسن: لأن النافلة بعد العصر والصبح لا تجوز، ولا تعاد المغرب؛ لأن النافلة لا تكون وترًا في غير الوتر.
وقال الأوزاعيّ: يعيد جميع الصلوات، إلا المغرب والفجر، وهو قول عبد اللَّه بن عمر -رضي اللَّه عنهما-؛ لحديث: «لا وتران في ليلة»، وحديث: «لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس»، وأما العصر فقد ثبت جواز الصلاة بعدها ما كانت الشمس بيضاء نقية، والنهي الوارد محمول على ما بعد ذلك.
وهذا مذهب جماعة من السلف، كابن عمر، وقد استوفي هذا البحث في هذا في «شرح النسائيّ» في [باب الرخصة في الصلاة بعد العصر] برقم (٥٧٣)، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.
وقال الشافعيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: تعاد الصلوات كلها؛ لحديث محجن الذي تقدّمت الإشارة إليه، حيث لم يخص له ﷺ صلاةً من صلاة، بل قال له: «فصلِّ مع الناس، وإن كنت قد صليت»، قال: والأولى هي الفريضة، والثانية سنة، وهو قول داود بن علي الظاهريّ، إلا أنه يرى الإعادة في الجماعة على من صلى وحده فرضًا، ولا يحتسب عنه بما صلى وحده [وهذا يردّه ما صحّ أنه ﷺ لما قال له رجل: أصلي معهم؟ قال: «نعم إن شئت»، فخيّره، فالحقّ أن الإعادة مستحبّة، فتبصّر]، وأما من صلى في جماعة، ثم أدرك جماعة أخرى، فالإعادة ههنا استحباب.
واختلف عن الثوريّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-، فروي عنه: يعيد الصلوات كلها، كقول الشافعيّ، وروي عنه مثل قول مالك، ولا خلاف عنه أن الثانية تطوع.
وقال أبو ثور -رَحِمَهُ اللَّهُ-: يعيدها كلها إلا الفجر والعصر، إلا أن يكون في مسجد، فتقام الصلاة، فلا يخرج حتى يصليها، وحجته النهي عن صلاة النافلة بعد العصر، وبعد الصبح. انتهى كلام ابن عبد البر -رَحِمَهُ اللَّهُ- بالاختصار.
قال الأتيوبي عفا اللَّه تعالى عنه: أرجح المذاهب عندي مذهب الإمام الشافعي، وداود رحمهما اللَّه من إعادة جميع الصلوات، من غير استثناء شيء من الصلوات؛ لقوة دليله؛ حيث عمم النبيّ ﷺ بقوله: «فصلِّ مع الناس، وإن كنت قد صليت» من غير استثناء شيء، بل حديث يزيد بن الأسود في قصّة الرجلين، نصّ صريح في أن ذلك كان بعد الصبح.
وأن الصواب أيضًا كون الأولى هي الفريضة، والثانية هي النافلة؛ لما أسلفناه من الأدلة الواضحة، فتبصّر بالإنصاف، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.[البحر المحيط الثجاج]
وقوله: (كانَتْ لَكَ نافِلَةً، وإلّا كُنْتَ قَدْ أحْرَزْتَ صَلاتَكَ) قال القرطبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: أي قد فعلتها في وقتها، وعلى ما يجب أداؤها، وفيه جواز فعل الصلاة مرّتين، ويُحمَل النهي عن إعادة الصلاة على إعادتها من غير سبب. انتهى.
وقال النوويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: معناه: إذا علمت من حالهم تأخيرها عن وقتها المختار، فصلّها لأول وقتها، ثم إن صَلَّوها لوقتها المختار فصلّها أيضًا معهم، وتكون صلاتك معهم نافلةً، وإلا كنت قد أحرزت صلاتك بفعلك في أول الوقت، أي حَصَّلتها، وصُنْتَها، واحتَطْتَ لها. انتهى. [البحر المحيط الثجاج]
(الفرع الرابع): مختلف الحديث
قال ابن قتيبة الدينوري (المتوفى: ٢٧٦هـ) رحمه الله في (تأويل مختلف الحديث):
-٢٩- قالُوا: أحادِيثُ فِي الصَّلاةِ مُتَناقِضَةٌ- إعادَةُ الصَّلاةِ مَعَ الجَماعَةِ!
قالُوا: رُوِّيتُمْ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ يَعْلى بْنِ عَطاءٍ، عَنْ جابِرِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ الأسْوَدِ، عَنْ أبِيهِ أنَّهُ صَلّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وإذا رَجُلانِ لَمْ يُصَلِّيا فِي ناحِيَةِ المَسْجِد، فَدَعا بها فَجاءا تُرْعَدُ فَرائِصُهُما.
فَقالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: «ما مَنَعَكُما أنْ تُصَلِّيا مَعَنا؟» قالا: قَدْ صَلَّيْنا فِي رِحالِنا.
قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: «فَلا تَفْعَلُوا، إذا صَلّى أحَدُكُمْ فِي رَحْلِهِ، ثُمَّ أدْرَكَ الإمامَ ولَمْ يُصَلِّ، فَلْيُصَلِّ مَعَهُ فَإنَّها لَهُ نافِلَةٌ».
ثُمَّ رُوِّيتُمْ عَنْ مَعْنِ بْنِ عِيسى عَنْ سَعِيدِ بْنِ السّائِبِ الطّائِفِيِّ، عَنْ نُوحِ بْنِ صَعْصَعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عامِرٍ، قالَ: جِئْتُ والنَّبِيُّ ﷺ فِي الصَّلاةِ، فَجَلَسْتُ ولَمْ أدْخُلْ مَعَهُمْ، فانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: «ألَمْ تُسْلِمْ يا يَزِيدُ»؟ قُلْتُ: بَلى يا رَسُولَ اللَّهِ.
قالَ: «فَما مَنَعَكَ أنْ تَدْخُلَ مَعَ النّاسِ فِي صَلاتِهِمْ؟».
قُلْتُ: إنِّي كُنْتُ صَلَّيْتُ فِي مَنزِلِي، وأنا أحْسَبُ أنْ قَدْ صَلَّيْتُمْ.
فَقالَ: «إذا جِئْتَ لِلصَّلاةِ، فَوَجَدْتَ النّاسَ يُصَلُّونَ، فَصَلِّ مَعَهُمْ، وإنْ كُنْتَ قَدْ صَلَّيْتَ تَكُنْ لَكَ نافِلَة، وهَذِه مَكْتُوبَة» [
ثُمَّ رُوِّيتُمْ: عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ عَنْ حُسَيْنٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ سُلَيْمانَ مَوْلى مَيْمُونَة قالَ: أتيت بن عُمَرَ وهُوَ عَلى البَلاطِ، وهُمْ يُصَلُّونَ، فَقُلْتُ: ألا تُصَلِّي مَعَهُمْ؟
قالَ: قَدْ صَلَّيْتُ، أوَما سَمِعْتَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «لا تُصَلُّوا صَلاةً فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ؟».
قالُوا: وهَذا تَناقُضٌ واخْتِلافٌ، وكُلُّ حَدِيثٍ مِنها يُوجِبُ غَيْرَ ما يُوجِبُهُ الآخَرُ.
قالَ أبُو مُحَمَّدٍ:
ونَحْنُ نَقُولُ: إنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الأحادِيثِ تَناقُضٌ ولا اخْتِلافٌ.
أمّا الحَدِيثُ الأوَّلُ، فَإنَّهُ قالَ: «إذا صَلّى أحَدُكُمْ فِي رَحْلِهِ، ثُمَّ أدْرَكَ الإمامَ ولَمْ يُصَلِّ، فَلْيُصَلِّ مَعَهُ، فَإنَّها لَهُ نافِلَةٌ».
يُرِيدُ: أنَّ الصَّلاةَ الَّتِي صَلّى مَعَ الإمامِ نافِلَةٌ، والأُولى هِيَ الفَرِيضَةُ؛ لِأنَّ النِّيَّةَ قَدْ تَقَدَّمَتْ بِأدائِها حَتّى كَمَلَتْ وتَقَضَّتْ، والأعْمالُ بِالنِّيّاتِ.
وأمّا الحَدِيثُ الثّانِي، فَقالَ: «إذا جِئْتَ لِلصَّلاةِ، فَوَجَدْتَ النّاسَ يُصَلُّونَ، فَصَلِّ مَعَهُمْ، وإنْ كُنْتَ قَدْ صَلَّيْتَ تَكُنْ لَكَ نافِلَةً، وهَذِهِ مَكْتُوبَةٌ».
كَأنَّهُ قالَ: تَكُنْ لَكَ هَذِهِ الصَّلاةُ الَّتِي صَلَّيْتَ مَعَ الإمامِ نافِلَةً، وهَذِهِ الأُخْرى الَّتِي صَلَّيْتَها فِي بَيْتِكَ مَكْتُوبَةٌ.
ولَوْ جُعِلَ مَكانَ قَوْلِهِ «هَذِهِ» و«تِلْكَ» مَكْتُوبَةٌ، كانَ أوْضَحَ لِلْمَعْنى ولا فَرْقَ بَيْنَهُما، وإنَّما يُشْكَلُ بِقَوْلِهِ: «وهَذِهِ» فَأغْفَلَ بَعْضُ الرُّواةِ «هَذِهِ» فِي المَوْضِعِ الأوَّلِ، وذَكَرَهُ فِي المَوْضِعِ الثّانِي، وجَعَلَهُ مَكانَ «تِلْكَ».
وقَدْ ذَكَرْتُ لَكَ مِثْلَ هَذا مِن إغْفالِ النَّقَلَةِ لِلْحَرْفِ، والشَّيْءُ اليَسِيرُ يَتَغَيَّرُ بِهِ المَعْنى.
وأمّا الحَدِيثُ الثّالِثُ الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ ابْنُ عُمَرَ، أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «لا تُصَلُّوا صَلاةً فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ»؛ فَإنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «لا تُصَلُّوا فَرِيضَةً فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ»؛ كَأنَّكَ صَلَّيْتَ فِي مَنزِلِكَ الظُّهْرَ مَرَّةً، ثُمَّ صَلَّيْتَها مَرَّةً أُخْرى، أوْ صَلَّيْتَها مَعَ إمامٍ، ثُمَّ أعَدْتَها مَعَ إمامٍ آخَرَ.
فاسْتَعْمِلْ ما سُمِعَ مِن هَذا الحَدِيثِ فِي المَوْضِعِ الَّذِي أطْلَقَ فِيهِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ ويَجْعَلَهُ نافِلَةً -ولَعَلَّهُ لَمْ يَكُنْ سَمِعَ هَذا ولَمْ يَبْلُغْهُ.
ومَن صَلّى فِي مَنزِلِهِ الفَرِيضَةَ، وصَلّى مَعَ الإمامِ تِلْكَ الصَّلاةَ وجَعَلَها نافِلَةً، لَمْ يُصَلِّ صَلاةً فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ؛ لِأنَّ هاتَيْنِ صَلاتانِ مُخْتَلِفَتانِ، إحْداهما فَرِيضَة، والأُخْرى نافة”. انتهى.
وسيأتي في إجابة أبو العباس الحفيد ابن تيمية رحمه الله أن الإعادة لسبب مشروع.
(المسألة الثالث):
قال الشيخ حمود بن عبد الله التويجري (ت ١٤١٣) رحمه الله في كتابه (غربة الإسلام) في فصل: في تفريق أهل المذاهب في الصلاة، قال:
“فصل
وقد تلاعب الشيطان بجَهَلة المقلدين للأئمة الأربعة مالك، والشافعي، وأحمد، وأبي حنيفة، وحسَّن لهم التفرق والاختلاف الذي نهى الله عنه وذم أهله، فصاروا في بعض الأمصار يصلي كل أهل مذهب وحدهم، ولا يصلون مع أهل المذهب الآخر، وربما اجتمع الكل في بعض المساجد الكبار فيقوم فريق منهم يصلون وحدهم والباقون من أهل المذاهب جلوس ينتظرونهم، فإذا فرغوا قام أهل المذهب الثاني يصلون وحدهم، فإذا فرغوا قام أهل المذهب الثالث يصلون وحدهم، فإذا فرغوا قام أهل المذهب الرابع يصلون وحدهم، وهذا خلاف ما كان عليه رسول الله ﷺ وأصحابه والتابعون لهم بإحسان، ولم يحدث هذا التفرق والاختلاف إلا بعد القرون المفضلة، وما زال جهال المقلدين متمسكين به إلى زماننا، ولكن ذلك في بعض الأمصار دون بعض، وقد كان معمولًا به في الحرمين الشريفين في الأزمان الماضية، حتى يسر الله محوه على أيدي النجديين ، ولله الحمد والمنة….
و ذكر الأحاديث السابقة جميعها حديث الباب وحديث محجن وغيرها مما ذكرناه
وقال :
وإذا كان اعوجاج الصفوف من أسباب اختلاف القلوب، فما الظن باختلاف الجماعة الواحدة وتفرقهم في المسجد الواحد كل فريق منهم يصلون وحدهم، ولا يستجيزون الصلاة مع الآخرين، فهذا أحرى باختلاف القلوب وتنافرها، فالله المستعان”. انتهى.
(المسألة الرابعة): فوائد وفقه الحديث:
١ – (منها): الحثّ بالصلاة في أول وقتها، وأن من صلّى أول الوقت، ثم أُقيمت الجماعة صلّى معهم ثانيًا.
٢ – (ومنها): مشروعيّة إعادة الصلاة، وفيه خلاف بين العلماء، سبق تحقيقه والحمد لله.
٣ – (ومنها): بيان أن الإمام إذا أخَّر الصلاة عن أول الوقت المستحبّ ينبغي للشخص أن يصليها في أول الوقت منفردًا، ثم يصليها مع الإمام إن أدركه، فيجمع بين فضيلتي أول الوقت، والجماعة.
قال النوويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: فلو أراد الاقتصار على إحداهما، فهل الأفضل الاقتصار على فعلها منفردًا في أول الوقت، أم الاقتصار على فعلها جماعة في آخر الوقت؟ فيه خلاف مشهور لأصحابنا -يعني الشافعية- واختلفوا في الراجح، والمختارُ استحباب الانتظار إن لم يَفْحُش التأخير.
٤ – (ومنها): الحثّ على موافقة الأمراء في غير معصية؛ لئلا تتفرق الكلمة، وتقع الفتنة، ولهذا قال أبو ذرّ -رضي اللَّه عنه- في الرواية الآتية: «إن خليلي أوصاني أن أسمع، وأطيع، وإن كان عبدًا مجدَّع الأطراف».
٥ – (ومنها): أن فيه عَلَمًا من أعلام النبوة، حيث أخبر النبيّ ﷺ بما سيكون بعده من تحوّل الأمراء عن طريق الحقّ، بحيث إنهم لا يبالون بتأخير الصلاة التي هي من أعظم أركان الدين، فكيف بما دونها من تغيير السنن، وإحداث البدع، وهذا من معجزاته ﷺ، حيث وقع طبْقًا لما أخبر به، قال اللَّه تعالى: ﴿وما يَنْطِقُ عَنِ الهَوى (٣) إنْ هُوَ إلّا وحْيٌ يُوحى (٤)﴾ [النجم ٣، ٤].
٦ – (ومنها): اهتمامه ﷺ بأصحابه الذين يتأخرون بعده، ويتولى عليهم من يغيّر الأمور، فأرشدهم إلى كيفية معايشتهم، وحَثَّهم على عدم الخروج عليهم، وأمرهم بالإحسان معهم إذا أحسنوا، واجتنابهم إذا أساءوا.
٧ – (ومنها): أن العالم ينبغي له أن يبدأ بالمسألة من غير أن يُسألَ، إذا كان الناس في حاجة إليها.
٨ – (ومنها): أنه ينبغي للجاهل أن يطلب من العالم حَلَّ المسألة، وتوضيحها إذا لم يتبين له وجهها، فإن أبا ذر -رضي اللَّه عنه- قال: «فما تأمرني»، فقد سأل كيف يكون حلّ هذه المشكلة، فبيّن له ﷺ بأن يحرز بين المصلحتين: مصلحة الصلاة في وقتها، ومصلحة عدم مخالفة الجماعة.
٩ – (ومنها): بيان جواز الصلاة خلف أئمة الجور، وقد سبق تحقيق الخلاف فيه قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. [البحر المحيط الثجاج، بتصرف يسير].
وجاء في (توضيح الأحكام من بلوغ المرام) للبسام رحمه الله:
10 – (ومنها): يدل على صحة الصلاة في البيت، ولو من دون عذر، ولكنه يأثم بترك الجماعة في المسجد بدون عذر، كما تقدم في حديث أبي هريرة وغيره.
11 – (ومنها): يدل على أنّ صلاة الفريضة هي الأولى؛ سواء كانت في جماعة أو صلاها وحده، وأنّ المعادة هي النافلة.
12 – (ومنها): فيه وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويكون بالحكمة والموعظة الحسنة.
13 – (ومنها): حضور الجماعة، وعدم الدخول مع الإمام فيها مما يسيء الظن؛ بأنّ المتخلف يكره الإمام، أو بأنّه لا يصلي، أو غير ذلك من الظنون، والإنسان يطلب منه دفع سوء الظن عن نفسه، ولا يعتبر هذا رياء.
14 – (ومنها): أنّ العبادة إذا انتهت لا يجوز إلغاؤها، وإنما قد وقعت موقعها، ولو صلح إلغاؤها لأمرَ هذين الرجلين بإلغاء الصلاة التي وقعت في البيت، وجعل الفريضة هي التي مع الجماعة، والأولى نافلة. انتهى.
(المسألة الخامسة): الفتاوى
[1]
[مَسْألَةٌ: إعادَة الصَّلاةِ مِن غَيْرِ سَبَبٍ]
٢٣٦ – ١٥٢ – مَسْألَةٌ:
فِي حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ الأسْوَدِ قالَ: «شَهِدْت حَجَّةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وصَلَّيْتُ مَعَهُ صَلاةَ الصُّبْحِ فِي مَسْجِدِ الخِيفِ، فَلَمّا قَضى الصَّلاةَ وانْحَرَفَ فَإذا هُوَ بِرَجُلَيْنِ فِي أُخْرَياتِ القَوْمِ لَمْ يُصَلِّيا، فَقالَ: عَلَيَّ بِهِما، فَإذا بِهِما تَرْعَدُ فَرائِصُهُما، فَقالَ: ما مَنَعَكُما أنْ تُصَلِّيا مَعَنا؟ فَقالا: يا رَسُولَ اللَّهِ، إنّا كُنّا صَلَّيْنا فِي رِحالِنا، قالَ: فَلا تَفْعَلا، إذا صَلَّيْتُما فِي رِحالِكُما ثُمَّ أتَيْتُما مَسْجِدَ جَماعَةٍ فَصَلِّيا مَعَهُمْ، فَإنَّها لَكُما نافِلَةٌ».
والثّانِي: عَنْ «سُلَيْمانَ بْنِ سالِمٍ قالَ: رَأيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ جالِسًا عَلى البَلاطِ، والنّاسُ يُصَلُّونَ، فَقُلْت: يا عَبْدَ اللَّهِ، مالَك لا تُصَلِّي؟ فَقالَ: إنِّي قَدْ صَلَّيْتُ، وإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: لا تُعادُ صَلاةٌ مَرَّتَيْنِ» فَما الجَمْعُ بَيْنَ هَذا، وهَذا؟
الجَوابُ: الحَمْدُ لِلَّهِ. أمّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَهُوَ فِي الإعادَةِ مُطْلَقًا مِن غَيْرِ سَبَبٍ.
ولا رَيْبَ أنَّ هَذا مَنهِيٌّ عَنْهُ، وأنَّهُ يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أنْ يَقْصِدَ إعادَةَ الصَّلاةِ مِن غَيْرِ سَبَبٍ يَقْتَضِي الإعادَةَ، إذْ لَوْ كانَ مَشْرُوعًا لِلصَّلاةِ الشَّرْعِيَّةِ عَدَدٌ مُعَيَّنٌ، كانَ يُمْكِنُ الإنْسانَ أنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ مَرّاتٍ، والعَصْرَ مَرّاتٍ، ونَحْوِ ذَلِكَ، ومِثْلُ هَذا لا رَيْبَ فِي كَراهَتِهِ.
وأمّا حَدِيثُ ابْنِ الأسْوَدِ: فَهُوَ إعادَةٌ مُقَيَّدَةٌ بِسَبَبٍ اقْتَضى الإعادَةَ وهُوَ قَوْلُهُ: «إذا صَلَّيْتُما فِي رِحالِكُما، ثُمَّ أتَيْتُما مَسْجِدَ جَماعَةٍ، فَصَلِّيا مَعَهُمْ، فَإنَّها لَكُما نافِلَةٌ» فَسَبَبُ الإعادَةِ هُنا حُضُورُ الجَماعَةِ الرّاتِبَةِ، ويُسْتَحَبُّ لِمَن صَلّى ثُمَّ حَضَرَ جَماعَةً راتِبَةً أنْ يُصَلِّيَ مَعَهُمْ.
لَكِنْ مِن العُلَماءِ مَن يَسْتَحِبُّ الإعادَةَ مُطْلَقًا، كالشّافِعِيِّ، وأحْمَدَ ومِنهُمْ مَن يَسْتَحِبُّها إذا كانَتْ الثّانِيَةُ أكْمَلَ، كَمالِكٍ.
فَإذا أعادَها فالأُولى هِيَ الفَرِيضَةُ، عِنْدَ أحْمَدَ وأبِي حَنِيفَةَ، والشّافِعِيِّ فِي أحَدِ القَوْلَيْنِ.
لِقَوْلِهِ فِي هَذا الحَدِيثِ: «فَإنَّها لَكُما نافِلَةٌ» وكَذَلِكَ قالَ فِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إنّهُ سَيَكُونُ أُمَراءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلاةَ عَنْ وقْتِها، فَصَلُّوا الصَّلاةَ لِوَقْتِها، ثُمَّ اجْعَلُوا صَلاتَكُمْ مَعَهُمْ نافِلَةً» وهَذا أيْضًا يَتَضَمَّنُ إعادَتَها لِسَبَبٍ، ويَتَضَمَّنُ أنَّ الثّانِيَةَ نافِلَةٌ.
وقِيلَ الفَرِيضَةُ أكْمَلُهُما. وقِيلَ ذَلِكَ إلى اللَّهِ.
ومِمّا جاءَ فِي الإعادَةِ لِسَبَبٍ الحَدِيثُ الَّذِي فِي سُنَنِ أبِي داوُد لَمّا قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «ألا رَجُلٌ يَتَصَدَّقُ عَلى هَذا يُصَلِّي مَعَهُ».
فَهُنا هَذا المُتَصَدِّقُ قَدْ أعادَ الصَّلاةَ لِيَحْصُلَ لِذَلِكَ المُصَلِّي فَضِيلَةُ الجَماعَةِ، ثُمَّ الإعادَةُ المَأْمُورُ بِها مَشْرُوعَةٌ عِنْدَ الشّافِعِيِّ وأحْمَدَ ومالِكٍ وقْتَ النَّهْيِ، وعِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ لا تُشْرَعُ وقْتَ النَّهْيِ.
وأمّا المَغْرِبُ: فَهَلْ تُعادُ عَلى صِفَتِها؟ أمْ تُشْفَعُ بِرَكْعَةٍ؟ أمْ لا تُعادُ عَلى ثَلاثَةِ أقْوالٍ مَشْهُورَةٍ لِلْفُقَهاءِ.
ومِمّا جاءَ فِيهِ الإعادَةُ لِسَبَبٍ ما ثَبَتَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ فِي بَعْضِ صَلَواتِ الخَوْفِ صَلّى بِهِمْ الصَّلاةَ مَرَّتَيْنِ، صَلّى بِطائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ صَلّى بِطائِفَةٍ أُخْرى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ومِثْلُ هَذا حَدِيثُ مُعاذِ بْنِ جَبَلٍ لَمّا كانَ يُصَلِّي خَلْفَ النَّبِيِّ ﷺ فَهُنا إعادَةٌ أيْضًا، وصَلاةٌ مَرَّتَيْنِ.
والعُلَماءُ المُتَنازِعُونَ فِي مِثْلِ هَذا: وهِيَ مَسْألَةُ اقْتِداءِ المُفْتَرِضِ بِالمُتَنَفِّلِ عَلى ثَلاثَةِ أقْوالٍ: فَقِيلَ: لا يَجُوزُ كَقَوْلِ أبِي حَنِيفَةَ وأحْمَدَ فِي إحْدى الرِّواياتِ.
وقِيلَ: يَجُوزُ كَقَوْلِ الشّافِعِيِّ وأحْمَدَ فِي رِوايَةٍ ثانِيَةٍ. وقِيلَ: يَجُوزُ لِلْحاجَةِ مِثْلَ حالِ الخَوْفِ، والحاجَةِ إلى الِائْتِمامِ بِالمُتَطَوِّعِ، ولا يَجُوزُ لِغَيْرِها كَرِوايَةٍ ثالِثَةٍ عَنْ أحْمَدَ.
ويُشْبِهُ هَذا إعادَةُ صَلاةِ الجِنازَةِ لِمَن صَلّى عَلَيْها أوَّلًا؛ فَإنَّ هَذا لا يُشْرَعُ بِغَيْرِ سَبَبٍ بِاتِّفاقِ العُلَماءِ، بَلْ لَوْ صَلّى عَلَيْها مَرَّةً ثانِيَةً ثُمَّ حَضَرَ مَن لَمْ يُصَلِّ فَهَلْ يُصَلِّي عَلَيْها
؟ عَلى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَماءِ: قِيلَ: يُصَلِّي عَلَيْها، وهُوَ مَذْهَبُ الشّافِعِيِّ وأحْمَدَ، ويُصَلِّي عِنْدَهُما عَلى القَبْرِ، لِما ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ وعَنْ غَيْرِ واحِدٍ مِن الصَّحابَةِ، أنَّهُمْ صَلَّوْا عَلى جِنازَةٍ بَعْدَ ما صَلّى عَلَيْها غَيْرُهُمْ.
وعِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ ومالِكٍ يُنْهى عَنْ ذَلِكَ، كَما يَنْهَيانِ عَنْ إقامَةِ الجَماعَةِ فِي المَسْجِدِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، قالُوا: لِأنَّ الفَرْضَ يَسْقُطُ بِالصَّلاةِ الأُولى، فَتَكُونُ الثّانِيَةُ نافِلَةً، والصَّلاةُ عَلى الجِنازَةِ لا يُتَطَوَّعُ بِها.
وهَذا بِخِلافِ مَن يُصَلِّي الفَرِيضَةَ فَإنَّهُ يُصَلِّيها بِاتِّفاقِ المُسْلِمِينَ، لِأنَّها واجِبَةٌ عَلَيْهِ، وأصْحابُ الشّافِعِيِّ وأحْمَدَ يُجِيبُونَ بِجَوابَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّ الثّانِيَةَ تَقَعُ فَرْضًا عَمَّنْ فَعَلَها، وكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِي سائِرِ فُرُوضِ الكِفاياتِ: أنَّ مَن فَعَلَها أسْقَطَ بِها فَرْضَ نَفْسِهِ، وإنْ كانَ غَيْرُهُ قَدْ فَعَلَها فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أنْ يَكْتَفِيَ بِإسْقاطِ ذَلِكَ، وبَيْنَ أنْ يُسْقِطَ الفَرْضَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ.
وقِيلَ: بَلْ هِيَ نافِلَةٌ، ويَمْنَعُونَ قَوْلَ القائِلِ: إنّ صَلاةَ الجِنازَةِ لا يُتَطَوَّعُ بِها، بَلْ قَدْ يُتَطَوَّعُ بِها، إذا كانَ هُناكَ سَبَبٌ يَقْتَضِي ذَلِكَ.
ويَنْبَنِي عَلى هَذَيْنِ المَأْخَذَيْنِ أنَّهُ إذا حَضَرَ الجِنازَةَ مَن لَمْ يُصَلِّ أوَّلًا: فَهَلْ لِمَن صَلّى عَلَيْها أوَّلًا أنْ يُصَلِّيَ مَعَهُ تَبَعًا؟ كَما يَفْعَلُ مِثْلَ هَذا فِي المَكْتُوبَةِ، عَلى وجْهَيْنِ.
قِيلَ: لا يَجُوزُ هُنا؛ لِأنَّ فِعْلَهُ هُنا نَفْلٌ بِلا نِزاعٍ. وهِيَ لا يُنْتَفَلُ بِها.
وقِيلَ: بَلْ لَهُ الإعادَةُ؛ فَإنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمّا صَلّى عَلى القَبْرِ، صَلّى خَلْفَهُ مَن كانَ قَدْ صَلّى أوَّلًا. وهَذا أقْرَبُ، فَإنَّ هَذِهِ الإعادَةَ بِسَبَبٍ اقْتَضاهُ، لا إعادَةً مَقْصُودَةً وهَذا سائِغٌ فِي المَكْتُوبَةِ والجِنازَةِ، واَللَّهُ أعْلَمُ.
وصَلّى اللَّهُ عَلى مُحَمَّدٍ وآلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.[ الفتاوى الكبرى لابن تيمية ].
[2]
[مَسْألَةٌ فِيمَن يَجِدُ الصَّلاةَ قَدْ أُقِيمَتْ]
٢٣٧ – ١٥٣ – مَسْألَةٌ:
فِيمَن يَجِدُ الصَّلاةَ قَدْ أُقِيمَتْ فَأيُّهُما أفْضَلُ صَلاةُ الفَرِيضَةِ؟ أوْ يَأْتِي بِالسُّنَّةِ ويَلْحَقُ الإمامَ ولَوْ فِي التَّشَهُّدِ؟ وهَلْ رَكْعَتا الفَجْرِ سُنَّةٌ لِلصُّبْحِ أمْ لا؟
الجَوابُ: قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «إذا أُقِيمَتْ الصَّلاةُ فَلا صَلاةَ إلّا المَكْتُوبَةَ» وفِي رِوايَةٍ «فَلا صَلاةَ إلّا الَّتِي أُقِيمَتْ»، فَإذا أُقِيمَتْ الصَّلاةُ فَلا يَشْتَغِلُ بِتَحِيَّةِ المَسْجِدِ ولا بِسُنَّةِ الفَجْرِ، وقَدْ اتَّفَقَ العُلَماءُ عَلى أنَّهُ لا يَشْتَغِلُ عَنْها بِتَحِيَّةِ المَسْجِدِ.
ولَكِنْ تَنازَعُوا فِي سُنَّةِ الفَجْرِ: والصَّوابُ أنَّهُ إذا سَمِعَ الإقامَةَ فَلا يُصَلِّي السُّنَّةَ لا فِي بَيْتِهِ ولا فِي غَيْرِ بَيْتِهِ. بَلْ يَقْضِيها إنْ شاءَ بَعْدَ الفَرْضِ.
والسُّنَّةُ أنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ طُلُوعِ الفَجْرِ رَكْعَتَيْنِ سُنَّةً، والفَرِيضَةُ رَكْعَتانِ، ولَيْسَ بَيْنَ طُلُوعِ الفَجْرِ والفَرِيضَةِ سُنَّةٌ إلّا رَكْعَتانِ.
والفَرِيضَةُ تُسَمّى صَلاةَ الفَجْرِ، وصَلاةُ الغَداةِ وكَذَلِكَ السُّنَّةُ تُسَمّى سُنَّةَ الفَجْرِ وسُنَّةَ الصُّبْحِ، ورَكْعَتَيْ الفَجْرِ، ونَحْوَ ذَلِكَ، واَللَّهُ أعْلَمُ.[ الفتاوى الكبرى لابن تيمية ].
[3]
الفتوى رقم (٢٩٧٥)
س: رجل صلى العشاء مع رجل آخر وهو الإمام ثم وجد جماعة يصلون تلك الصلاة فأعاد صلاته معهم مأموما، فهل يصح ذلك أم لا؟
ج: يستحب لمن صلى صلاة مكتوبة إماما أو مأموما أو منفردا ووجد بعد ذلك جماعة يصلون تلك الصلاة أن يصليها معهم، وهي له نافلة والأولى فريضة، لما روى الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي رحمهم الله عن يزيد بن الأسود رضي الله عنه أنه «صلى مع رسول الله ﷺ صلاة الصبح فلما صلى رسول الله ﷺ إذا هو برجلين لم يصليا فدعا بهما فجيئ بهما ترتعد فرائصهما فقال لهما ما منعكما أن تصليا معنا قالا: قد صلينا في رحلنا قال: فلا تفعلا إذا صليتما في رحلكما ثم أدركتما الإمام ولم يصل فصليا معه فإنها لكما نافلة»
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو … الرئيس
عبد الله بن قعود … عبد العزيز بن عبد الله بن باز
[4]النية شرط في الإمامة
س: هل يشترط في الإمامة نية الإمامة، وإذا دخل رجل فوجد آخر يصلي فهل يأتم به، وهل يشرع الائتمام بالمسبوق؟
ج: تشترط النية في الإمامة، لقوله ﷺ: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» وإذا دخل رجل المسجد وقد فاتته الجماعة فوجد من يصلي وحده فلا بأس أن يصلي معه مأموما بل ذلك هو الأفضل؛ «لقول النبي ﷺ لما رأى رجلا قد دخل المسجد بعد ما صلى الناس: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي» معه وبذلك يحصل فضل صلاة الجماعة لهما جميعا، وهي نافلة بالنسبة لمن قد صلى.
وقد كان معاذ رضي الله عنه يصلي مع النبي ﷺ صلاة العشاء فرضه، ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة، فهي له نافلة ولهم فرض، وقد أقره النبي ﷺ على ذلك.
أما المسبوق فلا حرج أن يصلي معه من فاتته صلاة الجماعة، رجاء حصول فضل الجماعة، وإذا أكمل المسبوق صلاته قام من لم يكمل صلاته فأتمها لعموم الأدلة، وهذا الحكم عام لجميع الصلوات الخمس؛ «لقول النبي ﷺ لأبي ذر رضي الله عنه لما ذكر له من يأتي من الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها: صل الصلاة لوقتها فإن أدركتها معهم فصل معهم فإنها لك نافلة ولا تقل صليت فلا أصلي». والله ولي التوفيق.[مجموع فتاوى ابن باز]