: 12 لطائف السنة
سيف بن دورة الكعبي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا)
——-‘——‘——–‘
——-‘——-‘——-‘
——-‘——-‘——-‘
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله أي الناس أفضل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله)) قالوا: ثم من؟ قال: ((مؤمن في شِعْبٍ من الشِعاب يتقي الله ويدع الناس من شره)) 1.
رواه البخاري (2634) ومسلم (1888).
لطيفة: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ويدع الناس من شره فيه إشارة إلى لزوم التواضع وعدم الاغترار والعجب بالاعتزال وإلا اعتزاله إنما كان بسبب شرور الناس. … قاله الأثيوبي
فلما كان هو ليس عنده صبر على هذه الشرور وليس عنده تلطف في الإنكار. وإنكاره قد يسبب شرور ومفاسد عظيمة فاعتبر هذا شر ارتكبه.
مفردات الحديث:
قوله: (شِعب) انفراج بين جبلين.
شرح الحديث:
قوله: (أي الناس أفضل) في رواية مالك من طريق عطاء بن يسار مرسلاً ووصله الترمذي والنسائي وابن حبان عن ابن عباس (خير الناس منزلاً) 1، وفي رواية للحاكم: (أي الناس أكمل إيماناً) 2 وكأن المراد بالمؤمن من قام بما تعين عليه القيام به، ثم حصل هذه الفضيلة، وليس المراد من اقتصر على الجهاد وأهمل الواجبات العينية، وحينئذ فيظهر فضل المجاهد لما فيه من بذل نفسه وماله لله تعالى، ولما فيه من النفع المتعدي، وإنما كان المؤمن المعتزل يتلوه في الفضيلة؛ لأن الذي يخالط الناس لا يسلم من ارتكاب الآثام، فقد لا يفي هذا بهذا وهو مقيد بوقوع الفتن3.
إن أحب شيء إلى الله عز وجل بعد الإيمان الصلاة على أول وقتها، ثم الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس والعلم والرأي والكلام، كما قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111].
ولقد انقسم الناس -قديمًا وحديثًا- في موضوع الجهاد في سبيل الله إلى ثلاث طوائف:
1 – فطائفة يغلب عليها الحماس، والاندفاع، والإقدام، ومن حرصها على ذلك أفرطت في موضوع الجهاد، ولذلك وقعت في مزالق كبيرة، وكان لهذا الأمر من السّلبيات ما لا يخفى.
2 – وطائفة في مقابل هذه الطّائفة، فرّطت في الجهاد في سبيل الله، وتسعى دائمًا لإضاعة وإماتة هذا الرّكن العظيم، وإذا دعا داعي الجهاد، انتفضت خوفًا وفرقًا وذعُرًا، وذهبت تلتمس الأعذار للتخلّف والقعود.
3 – أمّا الطائفة الثالثة فهي التي توسّطت بين الطّائفتين، فأحّبت الجهاد، ورغبت فيه، وسعت إليه، ولكن ذلك لم يدفعهم لأن يستعجلوا الشيء قبل أوانه، ولذلك التزموا بالضّوابط الشّرعية في الإعداد للجهاد، وإعلانه، والاستمرار فيه.4
قوله: (مؤمن في شعب) في رواية مسلم عن الزهري (رجل معتزل) 5.
قوله: (شِعب) الشعب ما انفرج بين جبلين، وليس المراد نفس الشعب خصوصاً، بل المراد الانفراد والاعتزال، وذكر الشعب مثالا لأنه خال عن الناس غالبا6.
قوله: (يتقي الله) في رواية مسلم عن الزهري: (يعبد الله) 7 وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما (معتزل في شعب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعتزل شرور الناس) 8، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً مر بشعب فيه عين عذبة فأعجبه، فقال: لو اعتزلت، ثم استأذن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (لا تفعل فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاماً) 9.
وفي هذا الحديث دليل لمن قال بتفضيل العزلة على الاختلاط، وفي ذلك خلاف مشهور، فمذهب الشافعي وأكثر العلماء أن الاختلاط أفضل بشرط رجاء السلامة من الفتن، ومذهب طوائف أن الاعتزال أفضل، وأجاب الجمهور عن هذا الحديث بأنه محمول على الاعتزال في زمن الفتن والحروب، أو هو فيمن لا يسلم الناس منه ولا يصبر عليهم أو نحو ذلك من الخصوص، وقد كان الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وجماهير الصحابة والتابعين والعلماء والزهاد مختلطين، فيُحَصِلُون منافع الاختلاط كشهود الجمعة والجماعة والجنائز وعيادة المرضى وحلق الذكر وغير ذلك10؛.
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن المخالطة إن كان فيها تعاون على البر والتقوى فهي مأمور بها، وإن كان فيها تعاون على الإثم والعدوان فهي منهي عنها، وذكر أن العبد لا بد له من الانفراد بنفسه: في دعائه، وذكره، وصلاة النافلة، ومحاسبة نفسه، وإصلاح قلبه، ومما يختص به من الأمور التي لا يشركه فيها غيره.11
قال القاضي عياض: هذا عام مخصوص، وتقديره هذا من أفضل الناس، وإلا فالعلماء أفضل وكذا الصديقون كما جاءت به الأحاديث12.
وفي الانفراد فضلٌ لما فيه من السلامة من الغيبة واللغو ونحو ذلك، وأما اعتزال الناس أصلاً فقال الجمهور: محل ذلك عند وقوع الفتن، ويؤيد ذلك ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (يأتي على الناس زمان يكون خير الناس فيه منزلة رجل آخذ بعنان فرسه في سبيل الله كلما سمع بهيعة استوى على متنه، ثم طلب الموت مظانه، ورجل في شعب من هذه الشعاب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويدع الناس إلا من خيره) 13.
قال ابن عبد البر: إنما أوردت هذه الأحاديث بذكر الشعب والجبل؛ لأن ذلك في الأغلب يكون خالياً من الناس، فكل موضع يبعد على الناس فهو داخل في هذا المعنى.14
مما يستفاد من الحديث:
1. … عظم منزلة الجهاد في سبيل الله.
2. … أن الجهاد من أفضل الأعمال.
3. حسن تصرف النبي صلى الله عليه وسلم حيث أرشد السائل إلى ما يناسبه بأن الجهاد أفضل، وإلا فقد جاء في بعض الأحاديث أن الصلاة على وقتها أفضل, وبعضهم أرشدهم إلى طاعة والديه، وغير ذلك.
4. إذا كثرت المنكرات ولم يستطع الإنسان تغييرها أو مجاهدة نفسه في الصبر عليها، وكثرت الفتن فعليه أن يعتزل الناس وتلك الفتن حتى يسلم.
—‘—-
1 رواه مالك في الموطأ (959) والنسائي (2569) وابن حبان (604) وصححه الألباني.
2 رواه الحاكم قي المستدرك (2390) قال الذهبي قي التلخيص: على شرط البخاري ومسلم.
3 فتح الباري لابن حجر (6/ 6).
4الوسطية في ضوء القرآن الكريم (1/ 253).
5 رواه مسلم (1888).
6 صحيح مسلم (3/ 1503).
7 المرجع السابق.
8 رواه والنسائي (2569) وصححه الألباني.
9 رواه الترمذي (1650) وحسنه الألباني: انظر حديث رقم: 7379 في صحيح الجامع.
10 شرح سنن ابن ماجه (1/ 286).
11 انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (10/ 425 – 426).
12 شرح السيوطي على مسلم (4/ 485).
13 أخرجه ابن حبان (4600) قال شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن.
14 فتح الباري لابن حجر (6/ 6 – 7).