1197 فتح الأحد الصمد شرح الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير ومحمد البلوشي وكديم وعبدالحميد البلوشي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى ، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا )
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
قال الشيخ مقبل الوادعي في الصحيح المسند (ج2/ رقم 1197):
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج ٣ ص ٤٩١): قال حدثنا الوليد بن مسلم قال حدثني الوليد بن سليمان يعني ابن أبي السائب قال حدثني حيان أبو النضر قال: دخلت مع واثلة بن الأسقع على أبي الأسود الجرشي في مرضه الذي مات فيه فسلم عليه وجلس قال فأخذ أبو الأسود يمين واثلة فمسح بها على عينيه ووجهه لبيعته بها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال له واثلة: واحدة أسألك عنها قال وما هي قال كيف ظنك بربك قال [ص ٢٤٤] فقال أبو الأسود وأشار برأسه أي حسن قال واثلة أبشر إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول «قال الله عز وجل أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء».
قال حدثنا الوليد بن مسلم قال حدثني سعيد بن عبد العزيز وهشام بن الغاز أنهما سمعاه من حيان أبي النضر يحدث به ولا يأتيان على حفظ الوليد بن سليمان.
هذا حديث صحيحٌ، رجاله رجال الصحيح، إلا حيان أبا النضر، وترجمته في «الجرح والتعديل» وقد قال أبو حاتم: صالح، ووثَّقه ابن مَعِين.
وحيان أبو النضر لم يترجم له الحافظ في «تعجيل المنفعة» وهو مما يلزم؛ إذ ليس موجودًا في «تهذيب التهذيب».
والحديث أخرجه الدارمي (ج ٢ ص ٣٩٥) فقال رحمه الله: أخبرنا أبو النعمان، ثنا عبد الله بن المبارك، ثنا هشام بن الغاز به.
وأخرجه الحاكم (ج ٤ ص ٢٤٠) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
* وقال ابن حبان رحمه الله كما في «الإحسان» (ج ٢ ص ٤٠١): أخبرنا عمران بن موسى بن مجاشع قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا شبابة قال: حدثنا هشام بن الغاز قال: حدثنا حيان أبو النضر عن واثلة بن الأسقع قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: «قال الله تبارك وتعالى: أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء».
هذا حديث صحيحٌ. وحيان أبو النضر ترجمه ابن أبي حاتم ونقل عن أبيه أنه قال: صالح، وعن يحيى بن مَعِين أنه قال: ثقة. اهـ
وشيخ ابن حبان عمران بن موسى بن مجاشع وصفه الذهبي في «العِبَر» بأنه [ص ٢٤٥] حافظ، محدث جرجان في زمانه (ص ٣٢٢ و٣٢٣).
وقال السهمي في «تاريخ جرجان»: إن الإسماعيلي وصفه بأنه صدوق، محدث جرجان.اهـ
* وقال ابن حبان رحمه الله كما في «الإحسان» (ج ٢ ص ٤٠٧): أخبرنا عمر بن محمد الهمداني قال: حدثنا عمرو (١) بن عثمان قال: حدثنا أبي قال: حدثنا محمد بن المهاجر عن يزيد بن عبيدة عن حيان أبي النضر قال: خرجت عائدًا ليزيد بن الأسود
فلقيت واثلة بن الأسقع وهو يريد عيادته فدخلنا عليه فلما رأى واثلة بسط يده وجعل يشير إليه فأقبل واثلة حتى جلس فأخذ يزيد بكفي واثلة فجعلهما على وجهه فقال له واثلة: كيف ظنك بالله؟ قال: ظني بالله -والله- حسن قال: فأبشر فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: «قال الله جل وعلا: أنا عند ظن عبدي بي، إن ظن خيرًا وإن ظن شرًّا».
رجال السند معروفون، إلا عمر بن محمد الهمداني فما وجدت ترجمته، ولا يضر؛ فقد أخرجه الطبراني في «الكبير» (ج ٢٢ ص ٨٧) فقال رحمه الله: حدثنا أحمد بن خليد، ثنا أبو توبة الربيع بن نافع، ثنا محمد بن مُهاجِرٍ، عن يزيد بن عبيدة، عن حيان أبي النضر، قال: لقيت واثلة بن الأسقع … فذكر الحديث المرفوع.
ورجال الطبراني معروفون، إلا أحمد بن خليد، وقد ترجمه الذهبي في «النبلاء» (ج ١٣ ص ٤٨٩) وقال: كان صاحب رحلة ومعرفة وطال عمره، ثم قال: ما علمت به بأسًا.
وفي الحاشية ذكر الوادعي رحمه الله: (١) هو عمرو بن عثمان بن سعيد بن دينار القرشي الحمصي، مترجم في «الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم، وأبوه مترجم في «تهذيب التهذيب».
===================
الحديث سيكون من وجوه:
الأول: الشيخ الوادعي رحمه الله جعله في الجامع:
5-كتاب الجنائز، ١ – المريض يحسن الظن بالله، (1145).
و15- كتاب دلائل النبوة، ١٢ – التبرك به ﷺ، والبركة من الله، (2262).
و34- كتاب التوحيد، ٧٨ – حسن الظن بالله، ومن حسن الظن به تعالى إثبات صفات الكمال الواردة في الكتاب والسنة، (4575). وبوب فيه أيضًا: ٤٦ – فضل التوكل على الله، (4521).
وفي 32-كتاب الأدب، بوب بباب:١٣٣ – حسن الظن بالله، (3788)، إلا أنه أورد في حديث عن أنس بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال «يقول الله عز وجل أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني». فقط.
الثاني: شرح الحديث:
وقوله تعالى: «أنا عند ظن عبدي بي». أي: أعامله على حسب ظنه، وأفعل به ما يتوقعه مني، فليُحْسِن رجاءه، أو أنا قادر على أن أعمل به ما ظن أني أعامله به، فالمراد: الحثّ على تغليب الرجاء على الخوف، والظنّ على بابه، ذكره القاضي –رحمه الله-.
قال: ويمكن تفسيره بالعلم، والمعنى: أنا عند يقينه بي، وعِلمه بأن مصيره إليّ، وحسابه عليّ، وأن ما قضيت من خير وشرّ، فلا مردّ له، لا معطي لِما منعت، ولا رادّ لِما أعطيت؛ أي: إذا تمكن العبد في مقام التوحيد، ورسخ في مقام الإيمان، والوثوق به، قَرُب منه، ورفع دونه الحجاب، بحيث إذا دعاه أجاب، وإذا سأله استجاب.
وجزم بعض المتأخرين بثاني احتماليه، فقال: معناه: عند يقينه بي، فالاعتماد عليّ، والوثوق بوعدي، والرهبة من وعيدي، والرغبة فيما عندي، أعطيه إذا سألني، وأستجيب له إذا دعاني، كلّ ذلك على حسب ظنه، وقوّة يقينه، والظن قد يَرِد بمعنى اليقين، قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ﴾ [البقرة ٤٦]؛ أي: يوقنون، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر؛ أي: إن ظن بي خيرًا أفعل به خيرًا، وإن ظن بي شرًّا أفعل به شرًّا.
قال العلامة ابن القيم –رحمه الله-: وأعظم الذنوب عند الله تعالى إساءة الظن به، فإن من أساء الظن به ظَنّ به خلاف كماله الأقدس، وظنَّ به ما يناقض أسماءه وصفاته، ولهذا توعّد عليه بما توعّد به غيره، فقال: ﴿عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ولَعَنَهُمْ وأعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ﴾ [الفتح ٦]، وقال: ﴿وذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أرْداكُمْ﴾ [فصلت ٢٣].
وقال الكرمانيّ–رحمه الله-: وفيه إشارة إلى ترجيح جانب الرجاء على الخوف؛ أي: لأن العاقل إذا سمعه لا يَعْدِل إلى ظنّ إيقاع الوعيد، وهو جانب الخوف، بل إلى ظنّ وقوع الوعد، وهو جانب الرجاء، وهو كما قال المحققون مقيَّد بالمحتضِر، وفي غيره أقوال، ثالثها الاعتدال. انتهى [«فيض القدير» ٢/ ٣١٢].
قال الحافظ –رحمه الله-: وكأنه أخذه من جهة التسوية، فإن العاقل إذا سمع ذلك لا يعدل إلى ظن إيقاع الوعيد، وهو جانب الخوف؛ لأنه لا يختاره لنفسه، بل يعدل إلى ظن وقوع الوعد، وهو جانب الرجاء، وهو كما قال أهل التحقيق: مقيُّد بالمحتضِر، ويؤيد ذلك حديث: «لا يموتنّ أحدكم إلا وهو يحسن الظنّ بالله»، وهو عند مسلم من حديث جابر -رضي الله عنه -، وأما قبل ذلك ففي الأولى أقوال، ثالثها الاعتدال.
وقال ابن أبي جمرة –رحمه الله-: المراد بالظن هنا: العلم، وهو كقوله: ﴿وظَنُّوا أنْ لا مَلْجَأ مِنَ اللَّهِ إلّا إلَيْهِ﴾ [التوبة ١١٨] [»بهجة النفوس” ٤/ ٢٧٥].
وقال المناويّ –رحمه الله-: «أنا عند ظن عبدي بي» إن ظن بي خيرًا فله مقتضى ظنه، وإن ظن بي شرًّا؛ أي: أني أفعل به شرًّا فله ما ظنَّه، فالمعاملة تدور مع الظنّ، فذا حسنُ ظنه بربه وفّى له بما أمَل وظنّ، والتطيّر سوء الظنّ بالله، وهروب عن قضائه، فالعقوبة إليه سريعة، والمقت له كائن، ألا ترى إلى العصابة التي فرَّت من الطاعون، كيف أماتهم؟
وقال الحكيم الترمذيّ: الظن:
فالمؤمن نور التوحيد في قلبه، فإذا هجست نفسه لعارض أضاء النور، فاستقرت النفس، فاطمأن القلب، فحَسُن ظنه؛ لأن ذلك النور يُريه من علائم التوحيد، وشواهده، ما تسكن النفس إليه، وتعلم أن الله كافيه وحَسْبه في كل أموره، وأنه كريم رحيم عطوف به، فهذا حسن الظن بالله.
وأما إذا غلب شَرَهُ النفس، وشهواتها، فيفور دخان شهواتها، كدخان الحريق، فيُظلم القلب، وتغلب الظلمة على الضوء، فتحيى النفس بهواجسها، وأفكارها، وتضطرب، ويتزعزع القلب عن مستقره، وتفقد الطمأنينة، انتهى [«فيض القدير» ٤/ ٤٩١].
وقال القرطبيّ –رحمه الله-: «المفهم»: قيل: معنى «ظن عبدي بي»: ظن الإجابة عند الدعاء، وظن القبول عند التوبة، وظن المغفرة عند الاستغفار، وظن المجازاة عند فعل العبادة بشروطها، تمسّكًا بصادق وعْده، وجزيل فضله، قال: ويؤيده قوله في الحديث الآخر: «ادعوا الله، وأنتم موقنون بالإجابة».
فإن اعتقد، أو ظن أن الله لا يقبل التوبة، وأنها لا تنفعه، فهذا هو اليأس من رحمة الله، وهو من الكبائر، ومن مات على ذلك وُكِل إلى ما ظَنّ كما في بعض طرق الحديث المذكور: «فليظنّ بي عبدي ما شاء» [رواه أحمد، وصححه ابن حبّان]،
قال: وأما ظن المغفرة مع الإصرار، فذلك محض الجهل، والغِرّة، وهو يجرّ إلى مذهب المرجئة، وقد قال -ﷺ-: «الكيّس من دان نفسه، وعمِل لِما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنّى على الله» [رواه الترمذيّ، وحسّنه]، والظنّ تغليب أحد المجوَّزين بسبب يقتضي التغليب، فلو خلا عن السبب المغلِّب لم يكن ظنًّا، بل غِرّةً وتمنّيًا. انتهى [«المفهم» ٧/ ٥ – ٦].
وقال ابن القيِّم: (كلما كان العبد حَسن الظَّن بالله، حَسن الرَّجاء له، صادق التوكُّل عليه: فإنَّ الله لا يخيِّب أمله فيه البتَّة؛ فإنَّه سبحانه لا يخيِّب أمل آملٍ، ولا يضيِّع عمل عاملٍ، وعبَّر عن الثقة وحُسْن الظَّن بالسَّعة؛ فإنَّه لا أشرح للصَّدر، ولا أوسع له بعد الإيمان من ثقته بالله، ورجائه له، وحُسْن ظنِّه به). [((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/471)].
وقال أيضًا: (فعلى قدر حُسْن ظنِّك بربِّك ورجائك له، يكون توكُّلك عليه؛ ولذلك فَسَّر بعضهم التَّوكُّل بحُسْن الظَّن بالله، والتَّحقيق: أنَّ حُسْن الظَّن به يدعوه إلى التوكُّل عليه، إذ لا يُتَصَوَّر التَّوكُّل على من ساء ظنك به، ولا التَّوكُّل على من لا ترجوه). [((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/121)].
وقال داود الطَّائي: (ما نعوِّل إلا على حُسْن الظَّن بالله تعالى، فأمَّا التَّفريط فهو المستولي على الأبدان). [((محاسبة النفس)) لابن أبي الدنيا (1/46)].
فقه وفوائد الحديث:
1 – (منها): الحثّ على تحسين الظنّ بالله تعالى عند الموت .
2 – (ومنها): استحباب تنبيه المحتضر على إحسان ظنه بالله سبحانه وتعالى وذكر آيات الرجاء، وأحاديث العفو عنده، وتبشيره بما أعَدَّه الله تعالى للمسلمين، وذكر حسن أعماله عنده؛ ليُحْسِن ظنه بالله تعالى، ويموت عليه، وهذا الأدب مستحب بالاتفاق، وموضع الدلالة له من هذا الحديث قول عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – لأبيه: «أما بَشّرَك رسول الله – ﷺ – بكذا؟».
وكان السلف يستحبّون هذا التذكير، روي عن المعتمر أنه قال لابنه: يا بُنيّ حدّثني بالرخص لعلي ألقى الله تعالى، وأنا أحسن الظنّ به. وروي مثل ذلك عن ابن حنبل، ثم إن الرجاء يورث محبّة لقاء الله تعالى التي هي سبب لمحبته لقاء عبده.
فقد أخرج الشيخان عن أنس، عن عبادة بن الصامت – رضي الله عنه -، عن النبيّ – ﷺ – قال: «من أحب لقاء الله، أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله، كره الله لقاءه …» الحديث.
وأخرجا أيضًا عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال النبيّ – ﷺ -: «يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني …» الحديث.
وحديث الباب.
3 – (ومنها): ما قاله التوربشيّ رحمه الله: الخوف والرجاء كالجناحين للسائرين إلى الله عزوجل ، لكن في الصحة ينبغي أن يغلِّب الخوف ليتدرّج به فيها إلى تكثير الأعمال الصالحة، فإذا جاء الموت، وانقطع العمل، ينبغي أن يغلِّب الرجاء، وحُسن الظن بالله تعالى؛ لأن الوفادة حينئذ إلى ملك كريم رؤوف رحيم. انتهى [«الكاشف عن حقائق السنن» ٤/ ١٣٦٥]، والله تعالى أعلم.
4 – (ومنها): الحثّ على العمل الصالح المفضي إلى حسن الظن.
5 – (ومنها): التنبيه على تأميل العفو، وتحقيق الرجاء في روح الله تعالى، قال النوويّ رحمه الله: قد تتبعت الأحاديث الصحيحة في الخوف والرجاء، فوجدت أحاديث الرجاء أضعاف أحاديث الخوف، مع ظهور الرجاء فيها. انتهى، قيل: لو لم يكن إلا حديث واحد، وهو حديث: «سبقت -أو غلبت- رحمتي غضبي» لكفى دليلًا على ترجيح الرجاء، ويعضده آية: ﴿ورَحْمَتِي وسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف ١٥٦].
6- (ومنها): إثبات القول لله تعالى، وأنه يتكلّم إذا شاء بما شاء، ويكلّم من شاء إذا شاء.
[البحر المحيط].
======
الثالث: مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): معالم في حُسْن الظَّن
أولاً: معنى حُسْن الظَّن لغةً واصطلاحًا:
معنى الحُسْن لغةً:
الحُسْن نقيض القُبْح، والحَسَنَة: خلاف السَّيئة. والمحَاسِن: خلاف المساوي. [انظر: ((الصحاح)) للجوهري (5/2099)].
معنى الظَّن لغةً:
الظَّن: شك ويقين، إلا أنَّه ليس بيقين عيان، إنَّما هو يقين تدبُّر… وجمع الظَّن الذي هو الاسم: ظُنُون.[انظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (13/272)].
معنى الظَّن اصطلاحًا:
قال الجرجاني: (الظَّن هو الاعتقاد الرَّاجح مع احتمال النَّقيض، ويستعمل في اليقين والشَّك، وقيل: الظَّن أحد طرفي الشَّك بصفة الرُّجحان). [((التعريفات)) (1/187)].
معنى حُسْن الظَّن اصطلاحًا:
ترجيح جانب الخير على جانب الشَّر. [((نضرة النعيم)) (5/1797)].
وقد سبق هذا.
ثانيًا: الفرق بين الظَّن وصفات أخرى
– الفرق بين الظَّن والحُسْبَان:
قيل: الظَّن ضرب من الاعتقاد، وقد يكون حُسْبَان لكن ليس باعتقاد.
قال أبو هلال: أصل الحُسْبَان من الحِساب، تقول: أَحْسَبه بالظَّن قد مات. كما تقول: أَعُدُّه قد مات. ثمَّ كَثُر حتى سُمي الظَّن: حُسْبَانًا على جهة التَّوسع، وصار كالحقيقة بعد كثرة الاستعمال.
وفرق بين الفعل منهما، فيقال في الظَّن: حَسِب. وفي الحِسَاب: حَسَب.
ولذلك فرق بين المصدرين فقيل: حَسَب وحُسْبَان، والصحيح في الظَّن ما ذكرناه. [انظر: ((الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (1/343)].
– الفرق بين الشَّك والظَّن والوَهْم:
الشَّك: خلاف اليقين، وأصله اضطراب النَّفس، ثم استعمل في التَّردُّد بين الشَّيئين سواء استوى طرفاه، أو ترجَّح أحدهما على الآخر. قال تعالى: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ} [يونس: 94] أي: غير مستيقن. وقال الأصوليون: هو تردُّد الذهن بين أمرين على حدٍ سواء.
وقيل: التَّردُّد بين الطَّرفين إن كان على السَّواء فهو الشَّك، وإلا فالرَّاجح: ظنٌّ، والمرجوح: وهمٌ. [انظر: ((الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (1/304)].
– الفرق بين الظَّن والتَّصَوُّر:
أنَّ الظَّن ضربٌ من أفعال القلوب، يحدث عند بعض الأمارات، وهو رُجْحان أحد طرفي التَّجوُّز، وإذا حدث عند أمارات غلبت وزادت بعض الزيادة، فظَنَّ صاحبه بعض ما تقتضيه تلك الأمارات، سمي ذلك: غلبة الظَّن، ويستعمل الظَّن فيما يُدرك وفيما لا يُدرك.
والتَّصَوُّر يستعمل في المدْرَك دون غيره، كأنَّ المدْرَك إذا أدركه المدْرِك تصَوَّر نفسه، والشَّاهد أنَّ الأعراض التي لا تُدرك لا تُتَصوَّر، نحو: العلم والقدرة، والتَّمثُّل مثل التَّصَوُّر إلَّا أنَّ التَّصَوُّر أبلغ؛ لأنَّ قولك: تَّصَوَّرت الشَّيء. معناه: أنِّي بمنزلة من أبصر صورته، وقولك: تمثَّلته. معناه: أنِّي بمنزلة من أبصر مثاله، ورؤيتك لصورة الشَّيء أبلغ في عِرفَان ذاته من رؤيتك لمثاله. [انظر: ((الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (1/342)].
ثالثًا: التَّرغيب في حُسْن الظَّن
[أولًا]: التَّرغيب في حُسْن الظَّن في القرآن الكريم
1- قال الله تبارك وتعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ}. [النور: 12].
قال ابن عاشور في تفسيره: (فيه تنبيه على أنَّ حقَّ المؤمن إذا سمع قَالَةً في مؤمن، أن يبني الأمر فيها على الظَّن لا على الشَّك، ثم ينظر في قرائن الأحوال وصلاحية المقام، فإذا نسب سوء إلى من عرف بالخير، ظنَّ أن ذلك إفك وبهتان، حتى يتضح البرهان.
وفيه تعريض بأنَّ ظنَّ السُّوء الذي وقع هو من خصال النِّفاق، التي سرت لبعض المؤمنين عن غرورٍ وقلة بَصارَة، فكفى بذلك تشنيعًا له).[((التحرير والتنوير)) لابن عاشور (18/174- 175)].
2- وقال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} [الحجرات: 12].
قال ابن حجر الهيتمي: (عقَّب تعالى بأمره باجتناب الظَّن، وعلَّل ذلك بأنَّ بعض الظَّن إثم، وهو ما تخيَّلت وقوعه من غيرك من غير مستند يقيني لك عليه، وقد صمَّم عليه قلبك، أو تكلَّم به لسانك من غير مسوِّغ شرعي). [((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) للهيتمي (2/9)].
ويقول الطبري: (يقول تعالى ذكره: يا أيُّها الذين صدقوا الله ورسوله، لا تقربوا كثيرًا من الظَّن بالمؤمنين، وذلك إن تظنوا بهم سوءًا، فإنَّ الظَّان غير محق، وقال جلَّ ثناؤه: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ} ولم يقل: الظَّن كلَّه، إذ كان قد أَذِن للمؤمنين أن يظنَّ بعضهم ببعض الخير، فقال: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ} [النور: 12]، فأَذِن الله جلَّ ثناؤه للمؤمنين أن يظنَّ بعضهم ببعض الخير، وأن يقولوه، وإن لم يكونوا من قِيلِه فيهم على يقين…. عن ابن عباس، قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ} يقول: نهى الله المؤمن أن يظنَّ بالمؤمن شرًّا. وقوله: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} يقول: إنَّ ظنَّ المؤمن بالمؤمن الشَّر لا الخير، إِثْمٌ؛ لأنَّ الله قد نهاه عنه، فَفِعْل ما نهى الله عنه إِثْمٌ) [((تفسير الطبري)) (22/303-304)].
[ثانيًا]: التَّرغيب في حُسْن الظَّن في السُّنَّة النَّبويَّة
1- عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((إيَّاكم والظَّن، فإنَّ الظَّن أكذب الحديث، ولا تحسَّسوا، ولا تجسَّسوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا)) [أخرجه البخاري (6724)].
قال النَّووي: (المراد: النَّهي عن ظنِّ السَّوء، قال الخطَّابي: هو تحقيق الظَّن وتصديقه دون ما يهجس في النَّفس، فإنَّ ذلك لا يُمْلَك.
ومراد الخطَّابي أنَّ المحَرَّم من الظَّن ما يستمر صاحبه عليه، ويستقر في قلبه، دون ما يعرض في القلب ولا يستقر، فإنَّ هذا لا يكلَّف به). [ ((شرح النووي على مسلم)) (16/119)].
قال: (أي: لا يحقِّقه في نفسه بعقد ولا فعل، لا في القلب ولا في الجوارح، أما في القلب فبتغيره إلى النُّفرة والكراهة، وأما في الجوارح فبالعمل بموجبه.
والشَّيطان قد يقرِّر على القلب بأدنى مَخِيلة مَسَاءة النَّاس، ويلقي إليه أنَّ هذا من فطنتك، وسرعة فهمك وذكائك، وأنَّ المؤمن ينظر بنور الله تعالى، وهو على التَّحقيق ناظر بغرور الشَّيطان وظلمته). [((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/151)].
2- وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، فقال: ((ما أعظم حُرْمَتك)). وفي رواية أبي حازم: ((لما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، قال: مرحبًا بك من بيت، ما أعظمك وأعظم حُرْمَتك، ولَلْمؤمن أعظم حُرْمَة عند الله منكِ، إنَّ الله حرَّم منكِ واحدة، وحرَّم من المؤمن ثلاثًا: دمه، وماله، وأن يُظنَّ به ظنَّ السَّوء)) [رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)) (5/296) (6706)، ضعَّف إسناده العراقي في ((تخريج الإحياء)) (3/186)، وقال في موضع آخر (2/221): رجاله ثقات، وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (3420): إسناده حسن رجاله ثقات].
قال: (فلا يُستباح ظنُّ السُّوء إلا بما يُستباح به المال، وهو نفس مشاهدته أو بيِّنةٍ عادلةٍ.
فإذا لم يكن كذلك، وخطر لك وسواس سوء الظَّن، فينبغي أن تدفعه عن نفسك، وتقرِّر عليها أنَّ حاله عندك مستور كما كان، وأنَّ ما رأيته منه يحتمل الخير والشَّر. فإنْ قلت: فبماذا يُعرف عقد الظَّن والشُّكوك تختلج، والنَّفس تحدِّث؟
فتقول: أمارة عقد سوء الظَّن أن يتغيَّر القلب معه عما كان، فينفِر عنه نُفُورًا ما، ويستثقله، ويفتر عن مراعاته، وتفقُّده وإكرامه، والاغتمام بسببه.
فهذه أمارات عقد الظَّن وتحقيقه). [((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/151)].
3- وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة وهو يقول: ((ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حُرْمَتك. والذي نفس محمَّد بيده، لحُرْمَة المؤمن أعظم عند الله حرْمَة منكِ، ماله ودمه، وأن نظنَّ به إلَّا خيرًا)) [رواه ابن ماجه (785)، قال البوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (2/284): إسناده فيه مقال. وقال ابن حجر في ((الكافي الشاف)) (268): إسناده فيه لين. وقال السخاوي في ((المقاصد الحسنة)) (512): إسناده لين. وأورده الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) رقم: (3420)، و ((صحيح الترغيب والترهيب)) رقم: (2441)].
رابعًا: أقوال السَّلف والعلماء في حُسْن الظَّن
– قال عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه: (لا يحلُّ لامرئ مسلم يسمع من أخيه كلمة يظنُّ بها سوءًا، وهو يجد لها في شيء من الخير مخرجًا. وقال أيضًا: لا ينتفع بنفسه من لا ينتفع بظنه). [((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (1/47)].
– وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (من علم من أخيه مروءة جميلة فلا يسمعنَّ فيه مقالات الرِّجال، ومن حَسُنت علانيته فنحن لسريرته أرجى). [ذكره ابن بطال في ((شرح صحيح البخاري)) (9/261)].
– وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: (كنَّا إذا فقدنا الرَّجل في صلاة العشاء وصلاة الفجر، أسأنا به الظَّنَّ). [رواه الطبراني (12/271) (13085)، والبيهقي (3/59) (5152). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (2/43): رجال الطبراني موثقون. وصحَّح إسناده الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (7/209)].
– وعن سعيد بن المسيَّب، قال: (كتب إليَّ بعض إخواني من أصحاب رسول الله: أن ضع أمر أخيك على أحسنه، ما لم يأتك ما يغلبك، ولا تظنَّن بكلمة خرجت من امرئ مسلم شرًّا، وأنت تجد لها في الخير محملًا) [((الاستذكار)) لابن عبد البر (8/291)].
– وقال المهلب: (قد أوجب الله تعالى أن يكون ظنُّ المؤمن بالمؤمن حسنًا أبدًا، إذ يقول: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ} [النور: 12]، فإذا جعل الله سوء الظَّن بالمؤمنين إفكًا مبينًا، فقد ألزم أن يكون حُسْن الظَّن بهم صدقًا بينًا). [((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (9/261)].
– وروى معمر عن إسماعيل بن أمية، قال: (ثلاث لا يعجزن ابن آدم، الطِّيرة، وسوء الظَّن والحسد.
قال: فينجيك من سوء الظَّن أن لا تتكلم به، وينجيك من الحسد أن لا تبغي أخاك سوءًا، وينجيك من الطِّيرة أن لا تعمل بها). [((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (9/261)].
– وقال قتادة: (إنَّ الظَّن اثنان: ظنٌّ يُنْجِي، وظنٌّ يُرْدِي).[انظر: ((تفسير القرطبي)) (15/353)].
خامسًا: فوائد حُسْن الظَّن
إن لم يكن في هذه الصِّفة إلَّا راحة القلب، وسلامة البال لكفى، كيف لا، وبها يسلم الإنسان من الخواطر الرَّديئة التي تقلقه، وتؤذي نفسه، وتجلب عليه كَدَرَ البال، وتعب النَّفس والجسد، ومن هنا نعرف فضيلة هذه الصِّفة الرَّائعة والخُلق الفاضل، وهذه جملة من فوائد حسن الظن:
1- حُسْن الظَّن علامة على كمال الإيمان في قلب المتحلِّي به، فلا يظنُّ بالمؤمنين خيرًا إلا من كان منهم، كما قال تبارك وتعالى في سورة النُّور: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ} [النور: 12].
2- فيه إغلاق باب الفتنة والشَّر على الشَّيطان الرَّجيم؛ فإنَّ من أبوابه سوء الظَّن بالمسلمين، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ} [الحجرات: 12]، فمن يَحْكُم بشرٍّ على غيره بالظَّن، بعثه الشَّيطان على أن يطول فيه اللِّسان بالغيبة فيهلك، أو يقصر في القيام بحقوقه، أو يتوانى في إكرامه، وينظر إليه بعين الاحتقار، ويرى نفسه خيرًا منه. وكل ذلك من المهلكات.
3- طريق من طرق زيادة الألفة والمحبَّة بين أفراد المجتمع المسلم، وحماية له من التَّفكُّك والتَّشرذم.
4- حصن منيع يحمي المجتمع من إشاعة الفاحشة، وانتشار الرَّذيلة، وبه يسلم المجتمع من انتِّهاك حقوق النَّاس وأعراضهم وخصوصياتهم.
5- دليل على سلامة القلب وطهارة النَّفس، وزكاء الرُّوح.
سادسًا: أقسام الظَّن:
ينقسم الظَّن من حيث الحمد والذم إلى قسمين:
1- ظنٌّ محمود:
وهو ما عبرنا عنه هنا بحسن الظَّن، وهو المقصود هنا، قال القرطبي: (الظَّن في الشَّريعة قسمان: محمود ومذموم، فالمحمود منه: ما سلم معه دين الظَّان والمظنون به عند بلوغه.
والمذموم ضدُّه) [ ((تفسير القرطبي)) (16/332)].
2- ظنٌّ مذموم:
وهو ضد الأول المحمود، كما سبق في كلام القرطبي، ولزيادة توضيحه وبيانه نقول: هو ما تخيلت وقوعه من غيرك من غير مستند يقيني لك عليه، وقد صمَّم عليه قلبك، أو تكلَّم به لسانك من غير مسوِّغ شرعي. [((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) للهيتمي (2/9)].
وهو سوء الظَّن المنهي عنه شرعًا، والذي حذرنا منه كتاب الله عزَّ وجلَّ وسنَّة رسوله صلَّى الله عليه وسلم، وقد أجاز العلماء بعض صوره، قال أبو حاتم: (سوء الظَّن على ضربين:
أحدهما: منهي عنه بحكم النَّبي صلَّى الله عليه وآله وسلم.
والآخر: مستحب.
فأما الذي نهى عنه، فهو استعمال سوء الظَّن بالمسلمين كافةً، وأمَّا الذي يستحب من سوء الظَّن، فهو كمن بينه وبين آخر عداوة أو شحناء في دين أو دنيا، يخاف على نفسه من مَكْرِه، فحينئذ يلزمه سوء الظَّن بمكائده ومَكْرِه؛ كي لا يصادفه على غرَّة بمكره فيهلكه. قال الشَّاعر:
وحُسْن الظَّن يَحْسُن في أمور ويمكن في عواقبه ندامه
وسوء الظَّن يسمج في وجوه وفيه من سماجته حزامه. [((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 127)]
و[يسمج: يقبح ((القاموس المحيط)) (ص 194)]
سابعًا: صور حُسْن الظَّن:
1- حُسْن الظَّن بالله:
عن جابر رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام، يقول: ((لا يموتنَّ أحدكم إلا وهو يحُسْن الظَّن بالله عزَّ وجلَّ )). [ رواه مسلم (2877)].
فإحسان الظَّن بالله تبارك وتعالى واجب، وهو أُنْسٌ للعبد في حياته، ومَنْجَى له بعد مماته، قال النَّووي في شرحه على صحيح مسلم: (قال العلماء: معنى حُسْن الظَّن بالله تعالى: أن يَظُنَّ أنَّه يرحمه، ويعفو عنه.
قالوا: وفي حالة الصِّحَّة يكون خائفًا، راجيًا، ويكونان سواء، وقيل: يكون الخوف أرجح.
فإذا دنت أمارات الموت، غلَّب الرَّجاء، أو محَّضه؛ لأنَّ مقصود الخوف الانكفاف عن المعاصي، والقبائح، والحرص على الإكثار من الطَّاعات، والأعمال، وقد تعذَّر ذلك، أو معظمه في هذا الحال، واستُحِبَّ إحسان الظَّن المتضمِّن للافتقار إلى الله تعالى، والإذعان له). [انظر: ((شرح النووي على مسلم)) (9/256)].
وانظر ما سبق في الشرح
2- حُسْن الظَّن بين الرؤساء والمرؤوسين:
لا ينتظم أمر هذه الأمَّة إلا بالعلاقة الحسنة بين أفرادها رؤساء ومرؤوسين، لذا كان من وصيَّة عليٍّ رضي الله عنه للأشتر عندما ولَّاه مصر: (اعلم أنَّه ليس شيء أدعى إلى حُسْن ظنِّ والٍ برعيَّته من إحسانه إليهم، وتخفيفه المؤونات عنهم، وترك استكراهه إيَّاهم على ما ليس له قِبَلهم، فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حُسْن الظَّن برعيتك، فإنَّ حُسْن الظَّن يقطع عنك نصبًا طويلًا، وإنَّ أحقَّ من حَسُن ظنُّك به، لمنْ حَسُن بلاؤك عنده، وإنَّ أحقَّ مَنْ ساء ظنُّك به، لمنْ ساء بلاؤك عنده…) [((التذكرة الحمدونية)) لابن حمدون (1/318 – 319)].
وقال طاهر بن الحسين لابنه وهو يوصيه: (ولا تتَّهمنَّ أحدًا من النَّاس فيما تولِّيه من عملك قبل أن تكشف أمره، فإنَّ إيقاع التُّهم بالبرآء، والظُّنون السَّيئة بهم مَأْثَمٌ، واجعل من شأنك حُسْن الظَّن بأصحابك، واطرد عنك سوء الظَّن بهم، وارفضه فيهم، يعينك ذلك على اصطناعهم ورياضتهم، لا يجدنَّ عدوُّ الله الشَّيطان في أمرك مفخرًا، فإنَّه إنَّما يكتفي بالقليل من وهنك، فيُدخل عليك من الغمِّ في سوء الظَّن ما ينغصك لذاذة عيشك، واعلم أنَّك تجد بحُسْن الظَّن قوة وراحة، وتكفى به ما أحببت كفايته من أمورك، وتدعو به النَّاس إلى محبَّتك، والاستقامة في الأمور كلِّها لك، ولا يمنعك حُسْن الظَّن بأصحابك والرأفة برعيَّتك، أن تستعمل المسألة والبحث عن أمورك، والمباشرة لأمور الأولياء، والحياطة للرَّعيَّة، والنَّظر في حوائجهم وحمل مؤوناتهم، آثر عندك مما سوى ذلك، فإنَّه أقوم للدِّين، وأحيا للسُّنَّة) [((جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة)) لأحمد زكي (3/136-137)].
3- حُسْن الظَّن بالإخوان والأصدقاء:
على المسلم أن يُحِسَن الظَّن بإخوانه المسلمين عامَّة، وبأصدقائه المقرَّبين خاصَّة، وهذا ما أرشدنا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحمل عليها ما يبلغه عنهم من قول أو فعل. فإذا لم يجد محملًا، فليقل: لعل لهم عذرًا لم أعرفه.
فإذا لم تطق ما سمعت من قول أو فعل أو تصرف، فاذهب إلى أخيك وصارحه بالأمر، وبيِّن له، فإنْ كان أخطأ بادر بتصحيح خطئه، وإن لم يكن كذلك أزال ما في قلبك من لَبْس، وبيَّن لك حقيقة الأمر فتطيب نفسك بذلك.
(إنَّ الخطأ في حُسْن الظَّن بالمسلم، أسلم من الصَّواب بالطَّعن فيهم، فلو سكت إنسان مثلًا عن لعن إبليس، أو لعن أبي جهل، أو أبي لهب، أو من شاء من الأشرار طول عمره، لم يضرَّه السُّكوت، ولو هفا هفوة بالطَّعن في مسلم بما هو بريء عند الله تعالى منه فقد تعرض للهلاك، بل أكثر ما يُعْلم في النَّاس لا يحل النُّطق به؛ لتعظيم الشَّرع الزَّجر عن الغيبة، مع أنَّه إخبار عما هو متحقِّق في المغتاب. فمن يلاحظ هذه الفصول، ولم يكن في طبعه ميلٌ إلى الفضول، آثر ملازمته السُّكوت وحُسْن الظَّن بكافة المسلمين، وإطلاق اللِّسان بالثَّناء على جميع السَّلف الصَّالحين. هذا حكم الصَّحابة عامَّة). [((الاقتصاد في الاعتقاد)) لأبي حامد الغزالي (1/79)].
4- حُسْن الظَّن بين الزَّوجين:
إنَّ إحسان الظَّن بين الزَّوجين من أهم الدَّعائم التي يُبْنى عليها البيت الدَّائم والمستقر.
هناك الكثير من الأزواج والزَّوجات أصحاب طبيعة قلقة، وأنفس متوتِّرة، يغلِّبون جانب الشُّكوك على جانب السَّلامة، فتراهم يجنحون إلى سوء الظَّن، ويفسِّرون الأمور على أسوأ تفسيراتها وأردأ احتمالاتها، وفي هذا خطر كبير على استمرار الحياة الأسرية، فينبغي على الأزواج والزَّوجات أن يغلِّبوا حسْن الظَّن، ويطردوا الشَّك والرِّيبة.
ثامنًا: موانع اكتساب حُسْن الظَّن
1- العيش في مجتمع يغلب عليه سوء الظَّن، وانتشار الشُّكوك في أفراده.
2- التَّربية منذ الصِّغر على سوء الظَّن وتغليب جانب التُّهمة على السَّلامة.
3- الجهل بأحكام الدِّين الحنيف، والابتعاد عن تعاليمه الدَّاعية إلى حُسْن الظَّن.
4- الجهل بهذه الصِّفة الطَّيبة وآثارها الجميلة في المجتمع.
5- مصاحبة الأشرار: فقرناء السُّوء لهم تأثير كبير في هذا الجانب، فمن عاشرهم وخالطهم أورثوه من أخلاقهم، وأعطوه من صفاتهم، قال أبو حاتم البستي: (العاقل يلزم صحبة الأخيار، ويفارق صحبة الأشرار؛ لأنَّ مَوَدَّة الأخيار سريع اتصالها، بطيء انقطاعها، ومودة الأشرار سريع انقطاعها، بطيء اتصالها، وصحبة الأشرار تورث سوء الظَّن بالأخيار، ومن خَادَن الأشرار لم يسلم من الدخول في جملتهم). [((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (99-100)].
6- الحسد والغلُّ والحقد، وهذه الصِّفات تدعو إلى سوء الظَّنِّ بالإخوان النَّاشئ عن تمنِّي الشَّر لهم.
تاسعًا: الوسائل المعينة على اكتساب حُسْن الظَّن
1- دعاء الله سبحانه، والابتهال إليه حتى يمن عليك بقلب سليم، فالدُّعاء علاج ناجع، ووسيلة نافعة، ليس لهذه الصِّفة فحسب، بل لجميع الأمور الدينيَّة والدنيويَّة.
2- الاقتداء بالرَّسول صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام، وسلف الأمَّة الصَّالح في حُسْن ظنِّهم ببعضهم، وتعاملهم مع الإشاعات والأكاذيب، ومحافظتهم على أواصر الحبِّ والموَدَّة بينهم.
3- التَّربية الحسنة للأبناء منذ نعومة أظفارهم، على حُسْن الظَّن، فينمو الفرد، ويترعرع في ظلِّ هذه الصِّفة الحميدة، فتتجذَّر في نفسه، وتتأصَّل في داخله، وتصبح سجيَّة له لا تنفك عنه أبدًا بإذن الله.
4- أن ينزل المرء نفسه منزلة غيره، وهو علاج ربَّاني، ودواء قرآني، أرشد الله إليه المؤمنين، وعلَّمهم إيَّاه، حيث قال: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ} [النور: 12]، فأشعرهم تبارك وتعالى أنَّ المؤمنين كيان واحد، وضرر الفرد منهم ضرر للجماعة بأكملها.
ولو استشعر كلُّ مؤمن هذا الأمر عند صدور فعل أو قول من أخيه، فوضع نفسه مكانه، لدعاه ذلك إلى إحسان الظَّن بالآخرين.
5- محاولة زيادة الإيمان بفعل الخيرات والطَّاعات، وعلاج أمراض القلب من الحسد والغلِّ والخيانة وغيرها، فمتى ما زاد إيمان المرء وصفى قلبه من هذه الأمراض والأوبئة، حَسُن ظنُّه بإخوانه.
6- حمل الكلام على أحسن محامله ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.
7- أن يلتمس المؤمن الأعذار للمؤمنين، قال ابن سيرين: (إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذرًا، فإن لم تجد، فقل: لعل له عذرًا لا أعرفه). [((روض الأخيار المنتخب من ربيع الأبرار)) للأماسي (1/70)].
وفي التماس الأعذار راحة للنَّفس من عناء الظَّن السَّيئ، الذي يشغلها ويقلقها، وفيه أيضًا إبقاء على الموَدَّة، وحفاظ عليها من الزوال والانتهاء.
تأن ولا تعجل بلومك صاحبا لعلَّ له عذرًا وأنت تلوم [((المستقصى في أمثال العرب)) للزمخشري (2/282)]
8- إجراء الأحكام على الظاهر، ويوكل أمر الضَّمائر إلى الله عز وجل، ويتجنَّب الحكم على النِّيَّات، فإنَّ الله لم يكلِّفنا أنَّ نفتِّش في ضمائر النَّاس.
والاكتفاء بظاهر الشَّخص، والحكم عليه من خلاله، من أعظم بواعث حُسْن الظَّن، وأقوى أسبابها.
9- أن يستحضر العبد الآفات التي تنتج عن سوء الظَّن، وما يترتب عليه من آثار، فهو دافع لأن يُحْسِن الرَّجل ظنَّه بغيره.
10- البعد عن كلِّ من اتصف بما يضادُّ هذه الصِّفة الحسنة، ممن لا يتورَّعون عن إلقاء التُّهم على عباد الله جزافًا، بلا تثبُّت. وهؤلاء هم أسوأ النَّاس، فقد قيل لبعض العلماء: من أسوأ النَّاس حالًا؟ قال: من لا يثق بأحد لسوء ظنه، ولا يثق به أحد لسوء فعله. [انظر: ((البرصان والعرجان والعميان والحولان)) للجاحظ (ص 32)، بتصرف يسير].
عاشرًا: نماذج لحُسْن الظَّن
[1] نموذج لحُسْن الظَّن من حياة النَّبي صلى الله عليه وسلم
فهذا رجل جاء إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم وقد داخلته الرِّيبة في امرأته، وأحاطت به ظنون السُّوء فيها؛ لأنَّها ولدت غلامًا أسود، على غير لونه ولونها، فأزال النَّبي صلى الله عليه وسلم ما في قلبه من ظنٍّ وريبة، بسؤاله عن لون إبله، فقال: ((ألوانها حمر. قال: هل فيها من أورق؟ قال: نعم. قال: فأنَّى ذلك؟ قال: لعله نزعه عرق. قال: فلعل ابنك هذا نزعه عرق). [رواه البخاري (5305)، ومسلم (1500)].
الأورق: هو الذي فيه سواد ليس بصاف. ((شرح النووي على مسلم)) (10/133)
ونزعة عرق: العرق الأصل من النسب تشبيهًا بعرق الثمرة…، ومعنى نزعه: أشبهه واجتذبه إليه وأظهر لونه عليه. ((شرح النووي على مسلم)) (10/133)
[2] نموذج لحُسْن الظَّن من الصَّحابة رضي الله عنهم
وقد كان الصَّحابة رضوان الله عليهم، مثالًا يُحتذى بهم في حُسْن الظَّن بالمؤمنين، فهذا أبو أيوب خالد بن زيد قالت له امرأته أم أيوب: يا أبا أيوب ألا تسمع ما يقول النَّاس في عائشة؟ قال: بلى، وذلك الكذب. أكنت أنت يا أمَّ أيوب فاعلة ذلك؟ قالت: لا، والله ما كنت لأفعله. [رواه الطبري في ((تفسيره)) (17/212)].
[3] نموذج لحُسْن الظَّن من السَّلف
مرض الشافعي رحمه الله، فأتاه بعض إخوانه يعوده، فقال للشافعي: قوَّى الله ضعفك. فقال الشافعي: لو قوى ضعفي لقتلني. قال: والله ما أردت إلَّا الخير. فقال الشافعي: أعلم أنك لو سببتني ما أردت إلا الخير.[((آداب الشافعي ومناقبه)) لابن أبي حاتم (ص 209)].
الحادي عشر: حُسْن الظَّن في واحة الأدب والأمثال
1- قالوا: من جعل لنفسه من حُسْن الظَّن بإخوانه نصيبًا، أراح قلبه.
يعني إنَّ الرَّجل إذا رأى من أخيه إعراضًا أو تغيرًا، فحمله منه على وجه جميل، وطلب له الأعذار، خفَّف ذلك عن قلبه، وقَلَّ منه غيظه واغتمامه.[((الأمثال)) لابن سلام (ص 184)].
2- وقال محمَّد بن حرب: صواب الظَّن، الباب الأكبر من الفراسة.
3- وقال رجل لصاحب له: إنَّما اشتدَّ غضبي؛ لأنَّ من كان علمه أكثر، كان ذنبه أكبر، قال: فهلا جعلت سعة علمي سبيلًا إلى حُسْن الظَّن بنزوعي، أو إلى أنِّي غالط في تفريطي، مخطئ بقصدي، غير معاند لك، ولا جريء عليك.
4- وقال الخليل بن أحمد: يجب على الصَّديق مع صديقه استعمال أربع خصال: الصَّفح قبل الاستقالة، وتقديم حُسْن الظَّن قبل التُّهمة، والبذل قبل المسألة، ومخرج العذر قبل العتب.
وقال رجل لمطيع بن إياس: جئتك خاطبًا لموَدَّتك. قال: قد زوجتكها على شرط أن تجعل صداقها أن لا تسمع في مقالة النَّاس. وقالوا: السِّتر لما عاينت، أحسن من إذاعة ما ظننت. [((غرر الخصائص الواضحة)) لأبي إسحاق الوطواط (ص 542)].
5- وقيل: (ليكن حُسْن الظَّن بمقدار ما، والفَطِن لا تخفى عليه مخايل الأحوال، وفي الوجوه دلالات وعلامات). [((جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة)) لأحمد زكي (3/213)].
6- وقيل: (ألق حُسْن الظَّن على الخَلْق، وسوء الظَّن على نفسك، لتكون من الأوَّل في سلامة، ومن الآخر على الزيادة).
الثاني عشر: حُسْن الظَّن في واحة الشِّعر
قال المتنبي:
إذا ساء فعلُ المرءِ ساءتْ ظنونُه وصدَّق ما يعتادُه من توهُّمِ
وعادى محبِّيه بقولِ عُـداتِه فأصبح في دَاجٍ من الشَّكِّ مظلمِ
[((نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب)) لأحمد المقري (5/576)]
(في دَاجٍ) من دجا: الدجى: سواد الليل مع غيم، وأن لا ترى نجما ولا قمرا، وقيل: هو إذا ألبس كل شيء وليس هو من الظلمة. انظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (14/249)
قال الشَّاعر:
حَسِّنِ الظَّنَّ تعشْ في غبطةٍ إنَّ حُسْن الظَّنِّ مِن أوقى الجننْ
مَن يظن السُّوءَ يُجْزَى مثلَه قلَّما يُجْزَى قبيحٌ بحسنْ [((ديوان المتنبي)) (ص 459)]
وقال آخر:
من ساء ظنًّا بما يهواه فارقه وحرَّضته على إبعادِه التُّهمُ [((محاضرات الأدباء)) للراغب الأصفهاني (2/25)]
ولقد أحسن الذي يقول:
ما يستريحُ المسيءُ ظنًّا مِن طولِ غمٍّ وما يريحُ [((صيد الأفكار)) لحسين بن محمد المهدي (1/505)]
[موسوعة الأخلاق، بتصرف يسير، وانظر: مسألة حسن الظن في (نضرة النعيم)، وقد سبق ذكر مسألة حسن الظن بالله تعالى في التعليق على الصحيح المسند (٢٧)].
(المسألة الثانية): إشكال
جاء في مسلم، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ – ﷺ – قالَ: (قالَ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ حَسَنَةً قَطُّ لأهْلِهِ: إذا ماتَ فَحَرِّقُوهُ، ثُمَّ اذْرُوا نِصْفَهُ فِي البَرِّ، ونِصْفَهُ فِي البَحْرِ، فَواللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللهُ عَلَيْهِ لَيُعَذِّبَنَّهُ عَذابًا لا يُعَذِّبُهُ أحَدًا مِنَ العالَمِينَ، فَلَمّا ماتَ الرَّجُلُ فَعَلُوا ما أمَرَهُمْ، فَأمَرَ اللهُ البَرَّ، فَجَمَعَ ما فِيهِ، وأمَرَ البَحْرَ، فَجَمَعَ ما فِيهِ، ثمَّ قالَ: لِمَ فَعَلْتَ هَذا؟ قالَ: مِن خَشْيَتِكَ يا رَبِّ، وأنْتَ أعْلَمُ، فَغَفَرَ اللهُ لَهُ»).
قال الحافظ وليّ الدين – رحمه الله -: إن قلت: في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -، عن النبيّ – ﷺ -، عن الله تعالى: «أنا عند ظنّ عبدي بي»، وهذا قد ظنّ بربه تعذيبه، وعدم المغفرة له، فكيف غفر له؟
قلت: قد اختلفوا في معنى هذا الحديث، فقيل: المراد به الرجاء، وتأميل العفو.
وقيل: معناه: بالغفران له إذا استغفر، والقبول له إذا تاب، والإجابة إذا دعا، والكفاية إذا طلب الكفاية.
فإن قلنا بالثاني، فالجمع واضح؛ لأنّ هذا قد ندم على ما فَرَطَ منه، ولولا ندمه لَما أمَر أن يُفعل به ذلك، فكان تائبًا، فقُبلت توبته، وغُفر له.
وإن قلنا بالأوّل، فقد حكى القاضي عياض، والنوويّ في «شرح مسلم» أنّه قيل: إنما أوصى بذلك تحقيرًا لنفسه، وعقوبة لها؛ لعصيانها، وإسرافها، رجاء أن يرحمه الله تعالى، فهو حينئذ قد رجا العفو، وأمّله، فكان الله عند ظنّه به، فعفا عنه، وهذا بعيد من قوله: «إن قدر الله عليّ»، إن لم يؤوّله بما تقدَّم، والله تعالى أعلم. انتهى.
قال الأتيوبي عفا الله تعالى عنه: ما قاله القاضي عياض، والنوويّ – رحمهما الله تعالى – جواب سليم، وتوجيه مستقيم، وبه يزول الإشكال. والله تعالى أعلم. [البحر المحيط الثجاج]
—
وراجع
الصحيح المسند
86 – روى الإمام أحمد رحمه الله (ج 3 ص 210): عن أنس بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال «يقول الله عز وجل أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني».
حيث ذكرنا نقولات عن ابن القيم وغيره في حسن الظن