1196فتح الأحد الصمد شرح الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير ومحمد البلوشي وكديم وعبدالحميد البلوشي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى ، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا )
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
قال الشيخ مقبل الوادعي في الصحيح المسند (ج2/ رقم 1196):
قال الإمام أبو بكر بن أبي عاصم رحمه الله في «السنة» (ج ٢ ص ٦٣٠): حدثنا أبو بكر، ثنا زيد بن الحباب، ثنا عبد الله بن العلاء بن زيد أبو الزَّبْرِ (١) الدمشقي، ثنا عبد الله بن عامر، عن واثلة بن الأسقع، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لا تزالون بخير ما دام فيكم من رآني وصاحبني، والله لا تزالون بخير ما دام فيكم من رأى من رآني وصاحب من صاحبني، والله لا تزالون بخير ما دام فيكم من رأى من رأى من رآني وصاحب من صاحب من صاحبني».
ثنا الحوطي، ثنا الوليد بن مسلم، ثنا عبد الله بن العلاء، حدثني عبد الله بن عامر اليحصبي، عن واثلة بن الأسقع، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم … نحوه.
هذا حديث صحيحٌ، وأبو بكر شيخ المؤلف هو ابن أبي شيبة، وقد أخرجه (ج ١٢ ص ١٧٨).
وفي الحاشية ذكر الوادعي رحمه الله: (١) “في الأصل: أبو الزبير. والصواب ما أثبتناه، كما في «تهذيب التهذيب»”.
===================
الحديث سيكون من وجوه:
ذكر الحديث الإمام أبو بكر بن أبي عاصم رحمه الله في السنة، 215- باب ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزالون بخير ما دام فيكم من رآني»، (1481).
والوادعي رحمه الله جعله في الجامع: كتاب العلم، ١٢٣ – تعديل الصحابة – رضي الله عنه -، (٢٣٤)، وكتاب الفضائل، ١ – فضائل الصحابة رضوان الله عليهم، (٢٤٠٠).
وفي مصنف ابن أبي شيبة رحمه الله، كتاب الفضائل، ما ذُكِرَ فِي الكَفِّ عَنْ أصْحابِ النَّبِيِّ ﷺ، (٣٢٤١٧).
والحديث عن فضل الصحابة رضي الله عنهم، مضى في صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم، (٥٣) – (بابُ فَضْلِ الصَّحابَةِ – رضي الله عنهم -، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)، وفي الصحيح المسند مضى الحديث عن القرون المفضلة، وفضل الصحابة رضي الله عنهم.
وانظر: الصحيح المسند (2/1156).
فوائد ومسائل في الباب:
الأول: الفوائد.
أولاً: أحاديث في الباب.
قال الإمام مسلم رحمه الله: (حَدَّثَنا أبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وأحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ – واللَّفْظُ لِزُهَيْرٍ – قالا: حَدَّثَنا سُفْيانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، قالَ: سَمِعَ عَمْرٌو جابِرًا يُخْبِرُ عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ – ﷺ -، قالَ: «يَأْتي عَلى النّاسِ زَمانٌ، يَغْزُو فِئامٌ مِنَ النّاسِ، فَيُقالُ لَهُمْ: فِيكُمْ مَن رَأى رَسُولَ اللهِ – ﷺ -؟، فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ، ثُمَّ يَغْزُو فِئامٌ مِنَ النّاسِ، فَيُقالُ لَهُمْ: فِيكلمْ مَن رَأى مَن صَحِبَ رَسُولَ اللهِ – ﷺ -؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ، ثُمَّ يَغْزُو فِئامٌ مِنَ النّاسِ، فَيُقالُ لَهُمْ: هَلْ فِيكُمْ مَن رَأى مَن صَحِبَ مَن صَحِبَ رَسُولَ اللهِ – ﷺ -؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ»). [٦٤٤٦] (٢٥٣٢)].
وقال الوادعي رحمه الله في باب ١٢٣ – تعديل الصحابة – رضي الله عنهم – من الجامع:
٨٤٢ – قال الإمام أحمد رحمه الله (٣٦٠٠): حدثنا أبو بكر حدثنا عاصم عن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود قال: إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه فما رأى المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن وما رأوا سيئًا فهو عند الله سيئ.
٢٣٦ – قال الإمام أحمد رحمه الله (ج ٤ ص ٢٦٧): حدثنا هاشم قال حدثنا شيبان عن عاصم عن خيثمة والشعبي عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يأتي قوم تسبق أيمانهم شهادتهم وشهادتهم أيمانهم».
٢٣٧ – قال الإمام أحمد رحمه الله (ج ٣ ص ٢٦): حدثنا يحيى عن محمد بن أبي يحيى قال حدثني أبي أن أبا سعيد الخدري حدثه: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما كان يوم الحديبية قال: «لا توقدوا نارًا بليل»، قال فلما كان بعد ذاك قال «أوقدوا واصطنعوا، فإنه لا يدرك قوم بعدكم صاعكم ولا مدكم». انتهى المقصود بتصرف.
ثانيًا:
قال ابن بطال -رحمه الله-: هو كقوله – ﷺ – في الحديث الآخر: ((خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم))؛ لأنه يُفتح للصحابة – رضي الله عنهم -؛ لِفَضْلهم، ثم للتابعين لفضلهم، ثم لتابعيهم لفضلهم، قال: ولذلك كان الصلاح، والفضل، والنصر للطبقة الرابعة أقلّ، فكيف بمن بَعْدَهم؟ والله المستعان. انتهى [«شرح ابن بطّال على البخاريّ» ٥/ ٩١].
وفيه معجزة لرسول الله – ﷺ -، وفضيلة لأصحابه، وتابعيهم – رضي الله عنهم -.
ثالثًا:
((خير الناس قرنيّ))، قال القرطبيّ -رحمه الله-: القرن- بسكون الراء- من الناس: أهل زمان واحد، قال الشاعر [من الطويل]:
إذا ذَهَبَ القَرنُ الذي أنتَ فِيهِمُ … وخُلِّفْتَ في قَرْنٍ فأنتَ غَرِيبُ
وقيل: مقدار زمانه: ثمانون سنة، وقيل: ستون، ويعني: أن هذه القرون الثلاثة: أفضل مِمّا بعدها إلى يوم القيامة، وهذه القرون في أنفسها متفاضلة،
فأفضلها: الأول، ثم الذي بعده، ثم الذي بعده، هذا ظاهر الحديث، فأما أفضلية الصحابة، وهم القرن الأول على من بَعْدَهم، فلا تخفى، وقد بيّنّا إبطال قول من زعم أنه يكون فيمن بعدهم أفضلُ منهم، أو مساوٍ لهم في (كتاب الطهارة)، وأما أفضلية مَن بعدهم، بعضهم على بعض، فبحسب قرْبهم
من القرن الأول، وبحسب ما ظهر على أيديهم من إعلاء كلمة الدين، ونَشْر العلم، وفَتْح الأمصار، وإخماد كلمة الكفر، ولا خفاء: أن الذي كان من ذلك في قرن التابعين كان أكثر وأغلب مما كان في أتباعهم، وكذلك الأمر في الذين بعدهم، ثم بعد هذا غلبت الشرور، وارتُكبت الأمور، وقد دلَّ على صحة هذا قوله في حديث أبي سعيد: ((يغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من صحب
رسول الله – ﷺ -؟ فيقال: نعم، فيُفتح لهم … )). الحديث متّفقٌ عليه. انتهى [»المفهم” ٦/ ٤٨٥ – ٤٨٦]. وسيأتي تفصيل ذلك.
رابعًا:
قال النوويّ -رحمه الله-: اتفق العلماء على أن خير القرون قرنه – ﷺ -، والمراد
أصحابه، وقد قدمنا أن الصحيح الذي عليه الجمهور أن كل مسلم رأى النبيّ – ﷺ -، ولو ساعة فهو من أصحابه، ورواية: ((خير الناس)) على عمومها، والمراد منه: جملة القرن، ولا يلزم منه تفضيل الصحابيّ على الأنبياء – صلوات الله وسلامه عليهم- ولا أفراد النساء على مريم، وآسية، وغيرهما، بل المراد: جملة القرن بالنسبة إلى كل قرن بجُملته.
قال القاضي عياض: واختلفوا في المراد بالقرن هنا، فقال المغيرة: قرنه أصحابه، والذين يلونهم أبناؤهم، والثالث أبناء أبنائهم، وقال شهر: قرنه ما بقيت عين رأته، والثاني ما بقيت عين رأت من رآه، ثم كذلك، وقال غير واحد: القرن كل طبقة مقترنين في وقت، وقيل: هو لأهل مدة بُعث فيها نبيّ
طالت مدته أم قصرت، وذكر الحربيّ الاختلاف في قَدْره بالسنين، من عشر سنين إلى مائة وعشرين، ثم قال: وليس منه شيء واضح، ورأى أن القرن كل أمة هلكت، فلم يبق منها أحد، وقال الحسن وغيره: القرن عشر سنين، وقتادة: سبعون، والنخعيّ: أربعون، وزرارة بن أبي أوفى: مائة وعشرون،
وعبد الملك بن عمير: مائة، وقال ابن الأعرابيّ: هو الوقت، هذا آخر ما نَقَل القاضي.
قال النوويّ: والصحيح أن قرنه – ﷺ – الصحابة، والثاني التابعون، والثالث تابعوهم. انتهى كلام النوويّ -رحمه الله-، وهو بحث نفيسٌ [«شرح النوويّ» ١٦/ ٨٤ – ٨٥].
وقال في «الفتح»: والمراد بقرن النبيّ – ﷺ – في هذا الحديث: الصحابة، وقد سبق في صفة النبيّ – ﷺ – قوله: «وبُعثت في خير قرون بني آدم»، وفي رواية بُريدة عند أحمد: «خير هذه الأمة القرن الذين بُعثت فيهم»، وقد ظهر أن الذي بين البعثة وآخر من مات من الصحابة مائة سنة وعشرون سنة، أو دونها، أو فوقها بقليل، على الاختلاف في وفاة أبي الطفيل، وإن اعتُبِر ذلك من بعد وفاته – ﷺ -، فيكون مائة سنة، أو تسعين، أو سبعًا وتسعين.
وأما قرن التابعين فإن اعتُبر من سنة مائة، كان نحو سبعين، أو ثمانين، وأما الذين بعدهم، فإن اعتُبر منها كان نحوًا من خمسين، فظهر بذلك أن مدة القرن تختلف باختلاف أعمار أهل كل زمان، والله أعلم.
واتفقوا أن آخر من كان من أتباع التابعين ممن يقبل قوله، من عاش إلى حدود العشرين ومائتين، وفي هذا الوقت ظهرت البدع ظهورًا فاشيًا، وأطلقت المعتزلة ألسنتها، ورفعت الفلاسفة رؤوسها، وامتُحِن أهل العلم ليقولوا بخلق القران، وتغيَّرت الأحوال تغيّرًا شديدًا، ولم يزل الأمر في نقص إلى الآن، وظهر قوله – ﷺ -:»ثم يفشو الكذب«ظهورًا بيِّنًا، حتى يشمل الأقوال،
والأفعال، والمعتقدات، والله المستعان. انتهى ما في»الفتح«[»الفتح«٨/ ٣١٦ – ٣١٧، كتاب»فضائل الصحابة«رقم (٣٦٥١)]، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
وسيأتي تمام البحث في أقوال أهل العلم في معنى القرن.
الثاني: المسائل:
(المسألة الأولى): تمام المسائل
فرع1: مسألة: في تكميل البحث في (معنى القرن) المذكور في الحديث:
[اعلم]: أنه قد تكلّم العلماء في معنى القرن، وقد ذكرنا بعض الأقوال فيما مضى، ونزيد تكميله هنا.
قال الفيّوميّ -رحمه الله-: القَرْنُ: الجِيل من الناس، فيه ثمانون سنةً، وقيل:
سبعون، وقال الزجاج: الذي عندي – والله أعلم- أن القَرْنَ أهل كلّ مدّة، كان
فيها نبيّ، أو طبقة من أهل العلم، سواء قَلّت السنون، أو كثرت، قال:
والدليل عليه قوله – ﷺ -: «خير القُرُونِ قرني- يعني: أصحابه- ثم الذين يلونهم
– يعني: التابعين- ثم الذين يلونهم»؛ أي: الذين يأخذون عن التابعين.
انتهى [«لمصباح المنير» ٢/ ٥٠٠].
وقال في «القاموس»، و«شرحه»: القرن زمن معيَّن، أو أهل زمن مخصوص، واختار بعضٌ أنه حقيقة فيهما، واختُلف هل هو من الاقتران؛ أي: الأمة المقترنة في مدة من الزمان، من قَرْن الجبل؛ لارتفاع سهم، أو غير ذلك؟ واختلفوا في مدة القرن، وتحديدها، فقيل: أربعون سنة، عن ابن الأعرابيّ، ودليله قول الجعديّ:
ثَلاثَةَ أهْلِينَ أفْنَيْتُهُمْ … وكانَ الإلهُ هُوَ المُسْتَآسا
فإنه قال هذا، وهو ابن مائة وعشرين. أو عشرة، أو عشرون، أو ثلاثون، أو ستون، أو سبعون، أو ثمانون، نقلها الزجاج في تفسير قوله تعالى: ﴿ألَمْ يَرَوْا كَمْ أهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ القُرُونِ﴾ الآية [يس ٣١] والأخير نقله ابن الاعرابيّ أيضًا، وقالوا: هو مقدار المتوسط من أعمار أهل الزمان، أو مائة، أو مائة وعشرون،
وفى «فتح الباري»: اختلفوا في تحديد مدة القرن من عشرة إلى مائة وعشرين، لكن لم أر من صرَّح بالتسعين، ولا بمائة وعشرة، وما عدا ذلك فقد قال به قائل، والأول من القولين الأخيرين أصحّ، وقال ثعلب: هو الاختيار؛ لقوله – ﷺ – لغلام بعد أن مسح رأسه: «يعيش قَرْنًا» [في الحاشية: هو: ما أخرجه الطبرانيّ عن عبد الله بن بسر – رضي الله عنه – قال: وضع رسول الله – ﷺ – يده على رأسي، فقال: «يعيش هذا الغلام قرنًا»، فعاش مائة سنة، وكان في وجهه ثؤلول، فقال: «لا يموت حتى يذهب الثؤلول من وجهه»، فلم يمت حتى ذهب الثؤلول من وجهه.
[وهو في الصحيح المسند 553 أخرجه من مسند أحمد 4/189 والبزار كشف الأستار 3/280]
وصحَّح الحديث الشيخ الألبانيّ -رحمه الله-. راجع: «الصحيحة» ٦/ ٣٤٣]،
فعاش مائة سنة، قال: وبالأخير فُسّر حديث: «إن الله يبعث على رأس كل قرن
لهذه الأمة من يجدد أمر دينها»، كما حققه الحافظ السيوطيّ -رحمه الله-، والقرن:
كل أمة هلكت، فلم يبق منها أحدٌ، وبه فُسّرت الآية المذكورة، وقيل: الوقت
من الزمان، عن ابن الأعرابيّ. انتهى [«تاج العروس من جواهر القاموس» ١/ ٨١٣٦].
وقال في «الفتح»: القرن أهل زمان واحد متقارب، اشتركوا في أمر من الأمور المقصودة، …..وذكر الإختلاف والله أعلم [«الفتح» ٧/ ٥].
قال [الأتيوبي] عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر من الأقوال وأدلّتها، أن
الأرجح قول من قال: إن القرن مائة سنة؛ لقوّة حججه؛ ومِن أبرزها حديث
عبد الله بن بسر – رضي الله عنه – قال: وضع رسول الله – ﷺ – يده على رأسي، فقال: «هذا الغلام يعيش قرنًا»، فعاش مائة سنة، وهو حديث صحيح، أخرجه الحاكم،
وغيره، والله تعالى أعلم.
فرع2: مسألة: ” في إتمام البحث الذي أشرنا إليه [تفضيل أهل القرن الأول، ثم مَن بعدهم على ترتيب ظاهر الحديث]:
قال في «الفتح»: اقتضى هذا الحديث أن تكون الصحابة أفضل من التابعين، والتابعون أفضل من أتباع التابعين، لكن هل هذه الأفضلية بالنسبة إلى المجموع، أو الأفراد؟ محلّ بحث،
وإلى الثاني نحا الجمهور، والأول قول ابن عبد البرّ: والذي يظهر أن من قاتَل مع النبيّ – ﷺ -، أو في زمانه بأمره، أو أنفق شيئًا من ماله بسببه لا يعدله في الفضل أحد بعده كائنًا من كان، وأما من لم يقع له ذلك فهو محل البحث، والأصل في ذلك قوله تعالى: ﴿لا يَسْتَوِي مِنكُمْ مَن أنْفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ وقاتَلَ أُولَئِكَ أعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أنْفَقُوا مِن بَعْدُ وقاتَلُوا﴾
الآية [الحديد ١٠]، واحتج ابن عبد البرّ بحديث: «مثَل أمتي مثل المطر، لا
يُدرى أوله خير أم آخره»، وهو حديث حسن، له طرق قد يرتقي بها إلى
الصحة.
وأغرب النوويّ، فعزاه في «فتاويه» إلى مسند أبي يعلى من حديث أنس بإسناد ضعيف، مع أنه عند الترمذيّ بإسناد أقوى منه، من حديث أنس، وصححه ابن حبان من حديث عمار، وأجاب عنه النوويّ بما حاصله: أن المراد: من يشتبه عليه الحال في ذلك، من أهل الزمان الذين يُدركون عيسى ابن مريم -عليهما السلام-، ويرون في زمانه من الخير والبركة وانتظام كلمة الإسلام، ودحض
كلمة الكفر، فيشتبه الحال على من شاهد ذلك: أيّ الزمانين خير؟
وهذا الاشتباه مندفع بصريح قوله – ﷺ -: «خير القرون قرني»، والله أعلم.
وقد روى ابن أبي شيبة من حديث عبد الرحمن بن جبير بن نفير أحد التابعين، بإسناد حسن، قال: قال رسول الله – ﷺ -: «لَيُدْرِكَنَّ المسيحُ أقوامًا إنهم
لمثلكم، أو خيرٌ ثلاثًا، ولن يخزي الله أمة أنا أولها، والمسيح آخرها».
وروى أبو داود، والترمذيّ من حديث أبي ثعلبة، رفعه: «تأتي أيامٌ للعامل فيهنّ أجر خمسين»، قيل: منهم، أو منّا يا رسول الله؟ قال: «بل منكم»، وهو شاهد لحديث: «مَثَلُ أمتي مثل المطر».
واحتجّ ابن عبد البر أيضًا بحديث عمر – رضي الله عنه -، رفعه: «أفضل الخلق إيمانًا
قوم في أصلاب الرجال، يؤمنون بي، ولم يروني …» الحديث، أخرجه
الطيالسيّ، وغيره، لكن إسناده ضعيف، فلا حجة فيه.
وروى أحمد، والدارميّ، والطبرانيّ، من حديث أبي جمعة، قال: قال أبو عبيدة: يا رسول الله أأحد خيرٌ منا، أسلمنا معك، وجاهدنا معك؟ قال: «قوم يكونون من بعدكم، يؤمنون بي، ولم يروني»، وإسناده حسن، وقد صححه الحاكم.
واحتجّ أيضًا بأن السبب في كون القرن الأول خير القرون أنهم كانوا غرباء في إيمانهم؛ لكثرة الكفار حينئذ، وصبرهم على أذاهم، وتمسكهم بدينهم، قال: فكذلك أواخرهم إذا أقاموا الدين، وتمسكوا به، وصبروا على الطاعة حين ظهور المعاصي والفتن، كانوا أيضًا عند ذلك غرباء، وزكت أعمالهم في ذلك الزمان، كما زكت أعمال أولئك، ويشهد له ما رواه مسلم،
عن أبي هريرة، رفعه: «بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى
للغرباء».
وقد تُعُقّب كلام ابن عبد البر بأن مقتضى كلامه أن يكون فيمن يأتي بعد الصحابة من يكون أفضل من بعض الصحابة، وبذلك صرّح القرطبيّ، لكن كلام ابن عبد البر ليس على الإطلاق في حق جميع الصحابة، فإنه صرّح في كلامه باستثناء أهل بدر، والحديبية، نَعَم والذي ذهب إليه الجمهور أن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل؛ لمشاهدة رسول الله – ﷺ -، وأما من اتفق له الذب عنه،
والسَّبْق إليه بالهجرة، أو النصرة، وضَبْط الشرع المتلقى عنه، وتبليغه لمن بعده، فإنه لا يعدله أحد ممن يأتي بعده؟ لأنه ما من خصلة من الخصال المذكورة إلا وللذي سبق بها مِثل أجر مَن عمل بها مِن بعده، فظهر فَضْلهم.
ومحصّل النزاع يتمحض فيمن لم يحصل له إلا مجرد المشاهدة، كما تقدم، فإنْ جَمَع بين مختلف الأحاديث المذكورة كان متجهًا.
على أن حديث: «للعامل منهم أجر خمسين منكم» لا يدلّ على أفضلية غير الصحابة على الصحابة؛ لأن مجرد زيادة الأجر لا يستلزم ثبوت الأفضلية المطلقة، وأيضًا فالأجر إنما يقع تفاضله بالنسبة إلى ما يماثله في ذلك العمل،
فأما ما فاز به من شاهد النبيّ – ﷺ – من زيادة فضيلة المشاهدة، فلا يعدله فيها
أحد، فبهذه الطريق يمكن تأويل الأحاديث المتقدمة.
وأما حديث أبي جمعة، فلم تتفق الرواة على لفظه، فقد رواه بعضهم بلفظ الخيرية، كما تقدم، ورواه بعضهم بلفظ: «قلنا: يا رسول الله، هل من
قوم أعظم منّا أجرًا …» الحديث، أخرجه الطبرانيّ، وإسناد هذه الرواية أقوى من إسناد الرواية المتقدمة، وهي توافق حديث أبي ثعلبة، وقد تقدم الجواب
عنه، والله أعلم. انتهى كلام الحافظ -رحمه الله- [«الفتح» ٧/ ٧]، وهو بحث نفيسٌ.
قال الأتيوبي عفا الله عنه: قد تلخّص مما سبق أن ما ذهب إليه الجمهور من تفضيل أهل القرن الأول، ثم مَن بعدهم على ترتيب ظاهر الحديث هو الحقّ؛ لقوة حُجَجه، كما مرّ عليك آنفًا، في تحقيق الحافظ -رحمه الله-، والله تعالى
أعلم.
[انظر: البحر المحيط الثجاج، كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم، (٥٣) – (بابُ فَضْلِ الصَّحابَةِ – رضي الله عنهم -، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)]
وقد سبق ذكر المسألة في الصحيح المسند.
قلت سيف بن دوره : وكذلك توسعنا في شرحنا لمسلم في باب فضائل الصحابة ومما قلناه :
وتفضيل غير الصحابة قال بعض الباحثين: لم يأت من طريق صحيح، أحسنها حديث أبي ثعلبة وقد علمت ما فيه، وحديث أبي هريرة لكنه من رواية الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير وفيها كلام كما في شرح علل الترمذي، وروايته عنه في الصحيحين لكن لعل الشيخين انتقيا له، أما هذا الحديث ففيه تفضيل غير الصحابة على الصحابة وتوجد نصوص تخالفه.
ثم روايته ليس فيها إلا قوله (أجر خمسين)
قلت: ورد من طرق أخرى عن أنس، وعن أبي أمامه وعن معاذ وابن عمر، لا تخلو من ضعف، ولا يتحمل رواتها التفرد.
ولتفسير الآية راجع تفسير الشوكاني.
وورد حديث في الصحيح المسند 1236
أرأيت من رآك فآمن بك وصدقك واتبعك، ماذا له؟ قال: ” طوبى له ” قال: فمسح على يده فانصرف، ثم أقبل الآخر حتى أخذ بيده ليبايعه، قال: يا رسول الله، أرأيت من آمن بك وصدقك واتبعك ولم يرك؟ قال: ” طوبى له، ثم طوبى له، ثم طوبى له ” قال: فمسح على يده، فانصرف.
قلت وكذلك ورد في الصحيح المسند 1215 من مسند أبي جمعه؛ وأن أبا عبيدة بن الجراح قال: يا رسول الله، أحد خير منا، أسلمنا معك، وجاهدنا معك، قال: نعم، قوم يكونون من بعدكم، يؤمنون بي ولم يروني.
ورجح ابن حجر رواية من رواه (أحد أعظم أجرا)، وهي الموافقة لحديث أبي ثعلبه، وكون مضاعفة الأجر لا تستلزم الأفضلية المطلقة، خاصة أن الصحابة نالوا حسنة مشاهدة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أعظم حسنة. (انتهى بمعناه من الفتح)
وذهب الطحاوي إلى أن المقصود أناس منعهم مانع من الهجرة ثم هاجروا وأبلوا بلاء أعظم ممن سبقهم.
لكن يشكل على ترجيح الطحاوي أن السائل هو أبوعبيدة أمين هذه الأمة.
المهم حديث (للعامل أجر خمسين منكم) توسعت في تخريجه في تحقيق كشف الأستار 3370 وله طرق كلها ضعيفه، بقي الأحاديث السابقة التي ذكرناها وتشهد لأصل معناه، وقد سبق توجيهها. انتهى المراد.
(المسألة الثانية): خلاصة أوجه “خيرية هذه الأمة:
وثمة حقيقة ينبغي الالتفات إليها، وهي أن أي أمة من الأمم السابقة، لم توصف بأنها الأمة الوسط؛ لأن تلك الصفة إنما تتفق وتتمشى مع خيرية هذه الأمة، التي جاءت وصفًا آخر لها في قول الله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران ١١٠].
وخيرية هذه الأمة من وجوه عدة:
١ – أمرها بالمعروف، ونهيها عن المنكر، وإيمانها بالله، كما في الآية الكريمة السابقة.
٢ – كونها أكثر الأمم نفعًا للناس، كما فسر أبو هريرة – رضي الله عنه- الآية الكريمة بقوله: «خير الناس للناس، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام».
٣ – كونها أكثر الناس استجابة للأنبياء، قال ﷺ: «أنا أول شفيع في الجنة، لم يصدَّق نبي من الأنبياء، ما صُدقت، وإن من الأنبياء نبيًا ما يصدقه من أمته إلا رجل واحد». (رواه مسلم).
٤ – كونها لا تجتمع على ضلالة.
٥ – كون كتابها خير الكتب السماوية، ونبيها أفضل الأنبياء، وتقديمها على الأمم في الحشر؛ كما في الحديث عن رسول الله ﷺ: «نحن الآخِرون السابقون يوم القيامة». [متفق عليه].
٦ – كونها أكثر أهل الجنة؛ كما قال ﷺ: «إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة». [رواه مسلم].
فـ(الأمة) لا تقتصر على جماعة من الناس أو المخلوقات، كالطير مثلًا، وإنما يشير اللفظ إلى التفرد بخصائص وميزات.
وهكذا لفظ (الوسط) الذي يكاد ينحصر معناه، في غير لغة القرآن الكريم، في أنه موقع بين طرفين، أو درجة بين الأعلى والأدنى، فإنه يمتد في لغة القرآن الكريم إلى معنى: الفضل والخير والعدل، فيصل إلى الدرجة الأعلى في الكمال أو الاكتمال،
وبذلك يتوافق معنى الوسطية في قول الله تعالى: ﴿وكَذَلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وسَطًا﴾ [البقرة ١٤٣].
مع معنى الخيرية في قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ﴾ [آل عمران ١١٠]. [الأمة الوسط والمنهاج النبوي في الدعوة إلى الله].
فصل: ((الْأُمَّةُ الْوَسَطُ))
قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].
النَّبِيُّ ﷺ يَحْكِي لَنَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «يُدْعَى نُوحٌ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟
فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُقَالُ لِأُمَّتِهِ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟
فَيَقُولُونَ: مَا أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ.
فَيَقُولُ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟
فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ، فَتَشْهَدُونَ …..
وقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَمَّا الْأُولَى فَأَثْنَيْتُمْ عَلَيْهَا خَيْرًا، فَوَجَبَتْ لَهَا الْجَنَّةُ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَأَثْنَيْتُمْ عَلَيْهَا شَرًّا، فَوَجَبَتْ لَهَا النَّارُ؛ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ)).
قَالَ الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143].
قَالَ: ((ذَكَرَ فِي هَذِهِ الآيَةِ السَّبَبَ المُوجِبَ لِهِدَايَةِ هَذِهِ الأُمَّةِ مُطْلَقًا بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ، وَمِنَّةَ اللهِ عَلَيْهَا؛ فَقَالَ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}؛ أَيْ: عَدْلًا خِيَارًا، وَمَا عَدَا الْوَسَطِ فَأَطْرَافٌ دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْخَطَرِ، فَجَعَلَ اللهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ وَسَطًا فِي كُلِّ أُمُورِ الدِّينِ:
وَسَطًا فِي الْأَنْبِيَاءِ، بَيْنَ مَنْ غَلَا فِيهِمْ كَالنَّصَارَى، وَبَيْنَ مَنْ جَفَاهُمْ، كَالْيَهُودِ، بِأَنْ آمَنُوا بِهِمْ كُلِّهِمْ عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ بِذَلِكَ.
وَوَسَطًا فِي الشَّرِيعَةِ: لَا بِتَشْدِيدَاتِ الْيَهُودِ وَآصَارِهِمْ، وَلَا بِتَهَاوُنِ النَّصَارَى.
وَفِي بَابِ الطَّهَارَةِ وَالْمَطَاعِمِ: لَا كَالْيَهُودِ الَّذِين لَا تَصِحُّ لَهُمْ صَلَاةٌ إِلَّا فِي بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ، وَلَا يُطَهِّرُهُمُ الْمَاءُ مِنَ النَّجَاسَاتِ، وَقَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٌ عُقُوبَةً لَهُمْ، وَلَا كَالنَّصَارَى الَّذِينَ لَا يُنَجِّسُونَ شَيْئًا، وَلَا يُحَرِّمُونَ شَيْئًا، بَلْ أَبَاحُوا مَا دَبَّ وَدَرَجَ.
بَلْ طَهَارَتُهُمْ أَكْمَلُ طَهَارَةٍ وَأَتَمُّهَا، وَأَبَاحَ اللهُ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَنَاكِحِ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ مِنْ ذَلِكَ.
فَلِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ الدِّينِ أَكْمَلُهُ، وَمِنَ الْأَخْلَاقِ أَجَلُّهَا، وَمِنَ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُهَا، وَوَهَبَهُمُ اللهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِلْمِ وَالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ مَا لَمْ يَهَبْهُ لِأُمَّةٍ سِوَاهُمْ، فَلِهَذَا كَانُوا {أُمَّةً وَسَطًا}، كَامِلِينَ مُعْتَدِلِينَ.
لِيَكُونُوا {شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}؛ بِسَبَبِ عَدَالَتِهِمْ وَحُكْمِهِمْ بِالْقِسْطِ، يَحْكُمُونَ عَلَى النَّاسِ مِنْ سَائِرِ الْأَدْيَانِ، وَلَا يَحْكُمُ عَلَيْهِمْ غَيْرُهُمْ، فَمَا شَهِدَتْ لَهُ هَذِهِ الأُمَّةُ بِالقَبُولِ فَهُوَ مَقْبُولٌ، وَمَا شَهِدَتْ لَهُ بِالرَّدِّ فَهُوَ مَرْدُودٌ)).
((أُمَّةٌ مُتَمَيِّزَةٌ مَتْبُوعَةٌ لَا تَابِعَةٌ))
هَذِهِ الْأُمَّةُ أُمَّةٌ مَتَمَيِّزَةٌ؛ لِأَنَّهَا مَتْبُوعَةٌ وَلَيْسَتْ بِتَابِعَةٍ.
هَذِهِ الْأُمَّةُ أُمَّةٌ مَتْبُوعَةٌ، وَلَيْسَتْ بِتَابِعَةٍ، وَقَدْ أَغْنَاهَا اللهُ بِعَقِيدَتِهَا، وَبِشَرِيعَتِهَا عَنِ التَّشَبُّهِ بِغَيْرِهَا.
أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ بِالسَّيْفِ؛ حَتَّى يُعْبَدَ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ)).
((وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ)).
هَذِهِ أُمَّةٌ مَتْبُوعَةٌ، وَلَيْسَتْ بِأُمَّةٍ تَابِعَةٍ، أَغْنَاهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ -بِدِينِهَا، بِعَقِيدَتِهَا وَشَرِيعَتِهَا- عَنْ أَنْ تَتَشَبَّهَ بِغَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ تَتَّبِعَ الْأُمَمَ -مِنْ كَافِرَةٍ وَمُلْحِدَةٍ- حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ، أَغْنَاهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ.
قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16].
فَنَهَى عَنْ مُطْلَقِ الْمُشَابَهَةِ لِلْأُمَمِ السَّابِقَةِ، وَلِجَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ مِمَّنْ لَيْسَ عَلَى الْحَقِّ.
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الحديد: 16].
{لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا}، وَهَذِهِ كَلِمَةٌ؛ لِأَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَقُولُونَ: {وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ}، وَهِيَ مِنَ الرُّعُونَةِ -يَقْصِدُ ذَلِكَ الْيَهُودُ- لَا مِنَ الرِّعَايَةِ كَمَا يَقْصِدُ الْأَصْحَابُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.
فَلَمَّا وَقَعَتِ الْمُشَابَهَةُ وَتَمَّتِ الْمُوَاطَأَةُ بَيْنَ (رَاعِنَا) وَ(رَاعِنَا) -لَفْظًا لَا مَعْنًى- نَهَاهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَنْهَا: {وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا}.
{لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} كمَا يَقُولُ الْيَهُودُ، {وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا}. يَنْهَى عَنِ الْمُشَابَهَةِ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ يُحَذِّرُنَا مِنْ ذَلِكَ، وَيُنْذِرُنَا مِنْ أَنْ نَتَوَرَّطَ فِي ((مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ)).
عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عُمَيْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ عُمُومَةٍ لَهُ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي أَمْرِ الْأَذَانِ، لَمَّا أَهَمَّ أَمْرُ الْأَذَانِ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَبْلَ أَنْ يَرَى الصَّحَابِيُّ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةَ وَيَعْتَمِدَهَا رَسُولُ اللهِ، فَأَهَمَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمْرُ جَمْعِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ؛ فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ ﷺ الْقُنْعُ -يَعْنِي الشَّبُّورَ؛ وَهُوَ الْبُوقُ- فَقَالَ: ((هُوَ مِنْ أَمْرِ الْيَهُودِ))، فَكَرِهَهُ.
فَذُكِرَ لَهُ النَّاقُوسُ؛ فَقَالَ: ((هُوَ مِنْ أَمْرِ النَّصَارَى))، حَتَّى رَأَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ رُؤْيَاهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-
((الْأَذَانُ لَنَا، الشَّبُّورُ لِغَيْرِنَا، النَّاقُوسُ لَيْسَ لَنَا))، أُمَّةٌ مُتَمَيِّزَةٌ، بِذَا قَضَى رَبُّنَا، وَبِذَا جَاءَ نَبِيُّنَا ﷺ، تَذُوبُ فِيهَا الْأُمَمُ وَلَا تَذُوبُ هِيَ فِي الْأُمَمِ، مَتْبُوعَةٌ لَا تَابِعَةٌ.
عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- نَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنِ الصَّلَاةِ حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ وَحِينَ تَغْرُبُ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ((لِأَنَّهَا تَطْلُعُ وَتَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ)).
فَنَهَى عَنْ مُشَابَهَةِ الْكُفَّارِ.
وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ جُنْدُبٍ يَرْفَعُهُ: ((أَلَا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، وَكَذَا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ صَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ؛ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ)).
فَنَهَى عَنِ الْمُشَابَهَةِ، وَسَدَّ الذَّرِيعَةَ إِلَى الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَعِبَادَةِ الْقُبُورِ.
وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَرْفَعُهُ: ((خَالِفُوا الْيَهُودَ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ وَلَا فِي خِفَافِهِمْ)).
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- نَهْيَ النَّبِيِّ ﷺ أَنْ يَجْلِسَ الرَّجُلُ فِي الصَّلَاةِ مُعْتَمِدًا عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى، وَقَالَ: ((إِنَّهَا صَلَاةُ الْيَهُودِ)).
وَفِي رِوَايَةٍ: ((إِنَّمَا هَذِهِ جِلْسَةُ الَّذِينَ يُعَذَّبُونَ)) .
فَلَا تَتَشَبَّهُوا بِهِمْ؛ لَا بِالَّذِينِ يُعَذَّبُونَ، وَلَا بِالْيَهُودِ.
وَقَالَ ﷺ: ((اللَّحْدُ لَنَا، وَالشَّقُّ لِغَيْرِنَا)) .
حَتَّى بَعْدَ الْوَفَاةِ، حَتَّى فِي الْقُبُورِ، نَتَمَيَّزُ حَتَّى فِي الْقُبُورِ، نَتَمَيَّزُ فِي الدَّفْنِ، فِي الْقُبُورِ!!
يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ دِينِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ.
يَقُولُ ﷺ: ((فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ)) .
وَيَقُولُ ﷺ: ((لَئِنْ عِشْتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ)) ، وَذَلِكَ لَمَّا صَامَ عَاشُورَاءَ، وَكَانَتِ الْيَهُودُ تَصُومُهُ؛ فَأَرَادَ مُخَالَفَةَ الْيَهُودِ ﷺ، مَا زَالَ يُخَالِفُهُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى قَالُوا: ((مَا يُرِيدُ هَذَا الرَّجُلُ أَنْ يَدَعَ لَنَا أَمْرًا إِلَّا خَالَفَنَا فِيهِ!)) .
نَعَمْ، هُوَ مَتْبُوعٌ، لَا تَابِعٌ، اتَّبِعُوهُ تُفْلِحُوا ﷺ.
نَهَى عَنِ الذَّبْحِ بِالسِّنِّ وَالظُّفُرِ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ((فَأَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفُر فَمُدَى الْحَبَشَةِ)) .
وَقَالَ ﷺ: ((خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ؛ أَحْفُوا الشَّوَارِبَ، وَأَعْفُوا اللِّحَى)) .
وَفِي حَدِيثٍ: ((أَرْخُوا اللِّحَى)) .
يَقُولُ ﷺ -حَتَّى فِي السَّلَامِ-: ((لَا تُسَلِّمُوا تَسْلِيمَ الْيَهُودِ؛ فَإِنَّ تَسْلِيمَهُمْ بِالرُّءُوسِ وَالْأَكُفِّ وَالْإِشَارَةِ)) .
وَعَنِ الشَّرِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ، قَالَ: ((مَرَّ بِي رَسُولُ اللهِ ﷺ وَأَنَا جَالِسٌ هَكَذَا؛ وَقَدْ وَضَعْتُ يَدِي الْيُسْرَى خَلْفَ ظَهْرِي وَاتَّكَأْتُ عَلَى أَلْيَةِ يَدِي -لَمْ يَكُنْ فِي صَلَاةٍ، وَإِنَّمَا مَرَّ بِهِ فِي جِلْسَةٍ عَادِيَّةٍ، وَقَدْ جَعَلَ يَدَهُ الْيُسْرَى خَلْفَ ظَهْرِهِ وَاتَّكَأَ عَلَى أَلْيَةِ يَدِهِ الْيُسْرَى- فَقَالَ: ((أَتَقْعُدُ قِعْدَةَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ؟!!)). وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَهَذَا سِوَى الْحَدِيثِ الَّذِي مَرَّ عَنِ النَّهْيِ عَنْ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْيَدِ الْيُسْرَى فِي الصَّلَاةِ، وَقَالَ: ((إِنَّهَا صَلَاةُ الْيَهُودِ))، أَوْ ((هِيَ جِلْسَةُ الْمُعَذَّبِينَ))، وَأَمَّا هُنَا فَهِيَ قِعْدَةُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ.
تَحْوِيلُ الْقِبْلَةِ لَنَا دَلَالَتُهُ وَعَلَامَتُهُ..
نَحْنُ أُمَّةٌ مُتَمَيِّزَةٌ؛ رَبُّهَا وَاحِدٌ، وَنَبِيُّهَا وَاحِدٌ، وَكِتَابُهَا وَاحِدٌ، وَقِبْلَتُهَا وَاحِدَةٌ، وَهَدَفُهَا وَاحِدٌ: إِقَامَةُ دِينِ اللهِ فِي أَرْضِ اللهِ عَلَى خَلْقِ اللهِ، تَعْبِيدُ الْخَلْقِ لِلْخَلَّاقِ الْعَظِيمِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:32].
((وُجُوهُ وَأَدِلَّةُ خَيْرِيَّةِ النَّبِيِّ ﷺ))
* وَمِنَ الْمَزَايَا الَّتِي امْتَازَ بِهَا ﷺ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمُرْسَلِينَ -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ-:
أَنْ بَعَثَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَى الْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ، بَلْ إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ جَمِيعًا؛
وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28].
وَيَقُولُ سُبْحَانَهُ: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158].
وكَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا- عَنِ الْجِنِّ الَّذِينَ اسْتَمَعُوا لِقِرَاءَتِهِ ﷺ ثُمَّ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الأحقاف: 31-32].
وَقَالَ ﷺ -فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ-: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي..»، فَذَكَرَ مِنْ بَيْنِهَا: «وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً».
وَقَدْ أَوْضَحَ النَّبِيُّ ﷺ ذَلِكَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ».
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هود: 17])) .
وَقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ»؛ يَعْنِي: أُمَّةَ الدَّعْوَةِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَرْسَلَهُ ﷺ إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ جَمِيعًا فِي مُطْلَقِ الزَّمَانِ وَمُطْلَقِ الْمَكَانِ، لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ.
وقال تعالى
{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ} [الأعراف: 157].
وَصْفُهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ﷺ، وَقَدْ سُئِلَ ابْنُ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنْ وَصْفِ النَّبِيِّ، قَالَ: أَجَلْ وَاللهِ؛ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب: 45].
فِي التَّوْرَاةِ: ((وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، فَأَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ، بِأَنْ يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)) .
* وَهُوَ أَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ تَبَعًا ﷺ؛ وسبق ذكر الدليل
* وَالنَّبِيُّ ﷺ غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ .
* وَهُوَ ﷺ فِي الْقِيَامَةِ صَاحِبُ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ ﷺ، صَاحِبُ الشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى
((جُمْلَةٌ مِنْ مَظَاهِرِ تَعْظِيمِ اللهِ لِلنَّبِيِّ ﷺ))
مِنْ مَظَاهِرِ تَعْظِيمِ اللهِ لِنَبِيِّهِ وَتَوْقِيرِهِ لَهُ: أَنْ أَقْسَمَ بِحَيَاتِهِ؛
قَالَ تَعَالَى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72].
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى شَرَفِ حَيَاتِهِ ﷺ.
* وَقَدْ وَهَبَ اللهُ نَبِيَّهُ ﷺ مِنَ الْآيَاتِ فَوْقَ مَا آتَى جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ، فَمَا مِنْ آية لِنَبِيٍّ إِلَّا وَآتَى اللهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا أَعْظَمَ مِنْهَا وَأَبْقَى.
و الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ أعظم برهان الَّذِي أَعْجَزَ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ، وَإِعْجَازُهُ قَائِمٌ بَيْنَ النَّاسِ أَبَدًا
إِذَا كَانَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- قَدْ آتَى سُلَيْمَانَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- آيَةَ الرِّيحِ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ؛ فَإِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- أَسْرَى بِنَبِيِّهِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، ثُمَّ تَقَدَّمَ ﷺ حَتَّى كَلَّمَ رَبَّهُ وَكَلَّمَهُ، ثُمَّ رَجَعَ وَفِرَاشُهُ مَا زَالَ دَافِئًا بَعْدُ، فَمَا آيَةُ الرِّيحِ بِجِوَارِ هَذِهِ؟!!
إِذَا كَانَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- قَدْ جَعَلَ لِمُوسَى آيَةً: أَنْ ضَرَبَ الْحَجَرَ بِعَصَاهُ، فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا؛ فَإِنَّ الْحِجَارَةَ وَإِنَّ الْأَرْضَ مَظِنَّةٌ أَنْ تَنْبَجِسَ وَتَنْبَثِقَ مِنْهَا الْمِيَاهُ، وَأَمَّا اللَّحْمُ الْحَيُّ.. فَهَلْ يُخْرِجُ اللَّحْمُ الْحَيُّ مَاءً؟!!
وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ أَنْبَعَ اللهُ الْمَاءَ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللهِ ﷺ .
مَا مِنْ مُعْجِزَةٍ أُوتِيَهَا نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا آتَى اللهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا فَوْقَهَا وَأَعْظَمَ مِنْهَا.
إِذَا كَانَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- قَدْ أَحْيَا عَلَى يَدَيْ عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بَعْضَ الْمَوْتَى؛ فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- أَحْيَا عَلَى يَدَيْ مُحَمَّدٍ مَا لَا يُحْصَى عَدًّا مِنَ الْبَشَرِ كَانُوا فِي مَواتِ الْكُفْرِ؛ {أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} [الأنعام: 122].
كَانَ مَيْتًا فِي ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ؛ فَأحْيَاهُ اللهُ بِنُورِ الْإِيمَانِ، فَكَمْ مِنْ مَيْتٍ أَحْيَاهُ اللهُ عَلَى يَدَيْ رَسُولِ اللهِ! لَا يُحْصِي عَدَدَهُمْ إِلَّا اللهُ، فَأَيْنَ تِلْكَ مِنْ هَذِهِ؟!!
النَّبِيُّ ﷺ آتَاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي مُعْجِزَةِ رَدِّ الْبَصَرِ أَعْظَمَ مِمَّا أُوتِيَ عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ فَإِنَّ عِيسَى أَبْرَأَ اللهُ الْأَكْمَهَ عَلَى يَدَيْهِ، وَأَمَّا النَّبِيُّ ﷺ فَإِنَّ عَيْنَ قَتَادَةَ لَمَّا أَصَابَهَا السَّهْمُ فَأَخْرَجَهَا السَّهْمُ مِنْ مَحْجِرِهَا؛ رَدَّهَا النَّبِيُّ ﷺ.
قَالَ قَتَادَةُ: ((فَعَادَتْ أَصَحَّ عَيْنَيَّ)) .
وَتَفَلَ فِي عَيْنَيْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَبَرِئَ مِمَّا كَانَ بِهِ مِنَ الرَّمَدِ.. صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى نَبِيِّهِ، وَصَفِيِّهِ، وَنَجِيِّهِ، وَخَلِيلِهِ وَكَلِيمِهِ، نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ .
أَوَّلُ مَنْ يَجُوزُ عَلَى الصِّرَاطِ بِأُمَّتِهِ: رَسُولُ اللهِ ﷺ.
((سُبُلُ تَحْقِيقِ خَيْرِيَةِ الْأُمَّةِ وَاسْتِعَادَةِ رِيَادَتِهَا الْآنَ))
وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي ((سُنَنِهِ)) ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ؛ سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ)). وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ بِمَجْمُوعِ طُرُقِهِ.
وَفِيهِ بَيَانُ الدَّاءِ وَالدَّوَاءِ، وَفِيهِ التَّشْخِيصُ وَالْعِلَاجُ مِنْ خَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ ﷺ.
* مِنْ سُبُلِ تَحْقِيقِ خَيْرِيَّةِ الْأُمَّةِ: تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ؛قال تعالى {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} [النور: 55].
قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «هَذَا مِنْ وُعُودِهِ الصَّادِقَةِ، الَّتِي شُوهِدَ تَأْوِيلُهَا وَعُرِفَ مَخْبَرُهَا، فَإِنَّهُ وَعَدَ مَنْ قَامَ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، أَنْ يَسْتَخْلِفَهُمْ فِي الْأَرْضِ، يَكُونُونَ هُمُ الْخُلَفَاءَ فِي الْأَرْضِ، وَيَكُونُونَ الْمُتَصَرِّفِينَ فِي تَدْبِيرِهَا.
وَأَنَّهُ يُمَكِّنُ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ، الَّذِي فَاقَ الْأَدْيَانَ كُلَّهَا، ارْتَضَاهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ؛ لِفَضْلِهَا وَشَرَفِهَا وَنِعْمَتِهِ عَلَيْهَا، بِأَنْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ إِقَامَتِهِ، وَإِقَامَةِ شَرَائِعِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ، لِكَوْنِ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ وَسَائِرِ الْكُفَّارِ مَغْلُوبِينَ ذَلِيلِينَ، وَأَنَّهُ يُبَدِّلُهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمُ الَّذِي كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إِظْهَارِ دِينِهِ وَمَا هُوَ عَلَيْهِ إِلَّا بِأَذًى كَثِيرٍ مِنَ الْكُفَّارِ، وَكَوْنِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ قَلِيلِينَ جِدًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَقَدْ رَمَاهُمْ أَهْلُ الْأَرْضِ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَبَغَوْا لَهُمُ الْغَوَائِلَ، فَوَعَدَهُمُ اللهُ هَذِهِ الْأُمُورَ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَهِيَ لَمْ تُشَاهِدْ الِاسْتِخْلَافَ فِي الْأَرْضِ، وَالتَّمْكِينَ فِيهَا، وَالتَّمْكِينَ مِنْ إِقَامَةِ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ، وَالْأَمْنَ التَّامَّ، بِحَيْثُ يَعْبُدُونَ اللهَ وَلَا يُشْرِكُونَ بِهِ شَيْئًا، وَلَا يَخَافُونَ إِلَّا اللهَ.
فَقَامَ صَدْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ -مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ- بِمَا يَفُوقُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَمَكَّنَهُمْ مِنَ الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ، وَفُتِحَتْ مَشَارِقُ الْأَرْضِ وَمَغَارِبُهَا، وَحَصَلَ الْأَمْنُ التَّامُّ وَالتَّمْكِينُ التَّامُّ».
* مِنْ سُبُلِ تَحْقِيقِ خَيْرِيَّةِ الْأُمَّةِ: التَّمَسُّكُ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، يَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا ۖ وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ۖ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * صِبْغَةَ اللَّهِ ۖ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ۖ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة: 137-138].
* مِنْ سُبُلِ تَحْقِيقِ خَيْرِيَّةِ الْأُمَّةِ: الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ؛ فَقَدْ ذَكَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنَّ مَنَاطَ الْخَيْرِيَّةِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مَوْصُولُ الْعُرَى بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، مِنْ مُنْطَلَقِ الْإِيمَانِ بِاللهِ تَعَالَى، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110].
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَمَنِ اتَّصَفَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ دَخَلَ مَعَهُمْ فِي هَذَا الْمَدْحِ، وَمَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِذَلِكَ أَشْبَهَ أَهْلَ الْكِتَابِ الَّذِينَ ذَمَّهُمُ اللهُ بِقَوْلِهِ: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 79])).
وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ لَيْسَ مِمَّا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى فَاعِلِهِ وَحْدَهُ، بَلْ هُوَ سَفِينَةُ النَّجَاةِ لِلْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ كُلِّهِ.
وَعَلَيْكَ أَنْ يَكُونَ أَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيُكَ عَنِ الْمُنْكَرِ غَيْرَ مُنْكَرٍ.
قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ)): «شَرَعَ النَّبِيُّ ﷺ لِأُمَّتِهِ إِيجَابَ إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ؛ لِيَحْصُلَ بِإِنْكَارِهِ مِنَ الْمَعْرُوفِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ, فَإِذَا كَانَ إِنْكَارُ الْمُنْكَرِ يَسْتَلْزِمُ مَا هُوَ أَنْكَرُ مِنْهُ وَأَبْغَضُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَسُوغُ إِنْكَارُهُ -وَإِنْ كَانَ اللَّهُ يُبْغِضُهُ وَيَمْقُتُ أَهْلَهُ-)).
* مِنْ سُبُلِ تَحْقِيقِ خَيْرِيَّةِ الْأُمَّةِ: تَحْقِيقُ الْخَيْرِ وَالنَّفْعِ لِكَافَّةِ الْبَشَرِ، وَدَفْعُ الشُّرُورِ عَنْهُمْ؛ فَقَدْ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ وَأَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟
فَقَالَ ﷺ: «أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا».
* مِنْ سُبُلِ تَحْقِيقِ خَيْرِيَّةِ الْأُمَّةِ: الِاعْتِدَالُ وَالتَّوَازُنُ؛ فَإِنَّ مِنْ خَصَائِصِ الإِسْلَامِ: الِاعْتِدَالَ وَالتَّوَازُنَ، وَالِاسْتِقَامَةُ مِنْ أَهَمِّ مَعَالِمِ الدِّينِ؛ قَالَ تَعَالَى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة:6-7].
قَالَ الأَوْزَاعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مَا مِنْ أَمْرٍ أَمَرَ اللهُ -تَعَالَى- بِهِ إِلَّا عَارَضَ الشَّيْطَانُ فِيهِ بِخَصْلَتَيْنِ؛ لَا يُبَالِي أَيَّهُمَا أَصَابَ: الغُلُوُّ، أَوِ التَّقْصِيرُ)) .
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَطًّا، ثُمَّ قَالَ: ((هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ))، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ: ((هَذِهِ سُبُلٌ مُتَفَرِّقَةٌ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ))، ثُمَّ قَرَأَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ}. وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالدَّارِمِيُّ، وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَغَيْرُهُمْ.
وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ يَقْتَضِي مَعْنَى الْخَيْرِيَّةِ الَّتِي بَيْنَ طَرَفَيِ التَّفْرِيطِ وَالْإِفْرَاطِ.
* مِنْ سُبُلِ تَحْقِيقِ خَيْرِيَّةِ الْأُمَّةِ: الِاهْتِمَامُ بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ؛ قِرَاءَةً، وَفَهْمًا، وَتَطْبِيقًا؛ فَالْقُرْآنُ شَرَفٌ لِمُحَمَّدٍ ﷺ وَلِأَتْبَاعِ مُحَمَّدٍ مِنْ كُلِّ نَاطِقٍ بِهَذِهِ اللُّغَةِ الشَّرِيفَةِ لُغَةِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ؛ فَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي كِتَابِهِ الْمَجِيدِ: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: ٤٤ ]
* وَمِنْ مُقَوِّمَاتِ تَحْقِيقِ خَيْرِيَّةِ الْأُمَّةِ: تَحَلِّي أَبْنَاءِ الْأُمَّةِ بِحُسْنِ الْخُلُقِ مَعَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ؛ فَقَدْ قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}؛
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: «قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}؛ أَيْ: كَلِّمُوهُمْ طَيِّبًا، وَلِينُوا لَهُمْ جَانِبًا، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ بِالْمَعْرُوفِ، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}.
* وَمِنْ سُبُلِ تَحْقِيقِ خَيْرِيَّةِ الْأُمَّةِ: التَّوْبَةُ مِنَ الْمَعَاصِي، وَالْإِقْلَاعُ عَنِ الذُّنُوبِ؛ «فَمَا نَزَلَ بَلَاءٌ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَلَا رُفِعَ إِلَّا بِتَوْبَةٍ».
قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 53]
* مِنْ سُبُلِ تَحْقِيقِ خَيْرِيَّةِ الْأُمَّةِ: الْعَمَلُ بِالْعِلْمِ؛ فالصحابة
((تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ عَشْرَ آيَاتٍ عَشْرَ آيَاتٍ، لَا يُجَاوِزُوهُنَّ حَتَّى يَفْقَهُوهُنَّ وَيَعْمَلُوا بِهِنَّ، فَتَعَلَّمُوا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا)) .
* مِنْ سُبُلِ تَحْقِيقِ خَيْرِيَّةِ الْأُمَّةِ: الِاجْتِهَادُ فِي الْعَمَلِ وَالْإِنْتَاجِ؛ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَدْعُو الْمُؤْمِنِينَ بِهِ إِلَى الْعَمَلِ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى السَّعْيِ وَالتَّكَسُّبِ، فَهُوَ دِينٌ يُؤَكِّدُ عَلَى الْحَرَكَةِ وَالْحَيَوِيَّةِ، وَيَذُمُّ الْكَسَلَ وَالْخُمُولَ وَالِاتِّكَالِيَّةَ .
* مِنْ سُبُلِ تَحْقِيقِ خَيْرِيَّةِ الْأُمَّةِ: الِاهْتِمَامُ بِالْعُلُومِ الْمَادِّيَّةِ الْحَدِيثَةِ؛ فَإِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ يَحُضُّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى التَّرَقِّي فِي الْعُلُومِ، وَفِي النَّظَرِ فِي آفَاقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَعَلَى النَّظَرِ فِي الْأَنْفُسِ، بَلْ وَعَلَى النَّظَرِ فِيمَا تَحْتَ الثَّرَى،
وَكُلُّ ذَلِكَ أَشَارَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ إِشَارَةً مُجْمَلَةً {وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} [طه: 6].
فَالْمُسْلِمُونَ لَمَّا أَخَذُوا بِتَعَالِيمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَقَدَّمُوا حَتَّى مَلَكُوا الْعَالَمَ الْقَدِيمَ كُلَّهُ.
قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَهَذَا الدِّينُ الْإِسْلَامِيُّ يَحُثُّ عَلَى الرُّقِيِّ الصَّحِيحِ وَالْقُوَّةِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، عَكْسَ مَا افْتَرَاهُ أَعْدَاؤُهُ أَنَّهُ -أَيِ الْإِسْلَامَ- مُخَدِّرٌ مُفَتِّرٌ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ كَذِبَهُمْ وَافْتَرَاءَهُمْ عَنْهُ، وَلَكِنَّ الْمُبَاهَتَاتِ وَالْمُكَابَرَاتِ سَهَّلَتْ عَلَيْهِمْ، وَظَنُّوا مِنْ جَهْلِهِمْ أَنَّهَا تَرُوجُ عَلَى الْعُقَلَاءِ.
وَكُلُّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ كَذِبَهُمْ وَافْتِرَاءَهُمْ، وَإِنَّمَا يَغْتَرُّ بِهِمُ الْجَاهِلُونَ الضَّالُّونَ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ عَنِ الْإِسْلَامِ لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا.
بَلْ يُصَوِّرُ لَهُمْ هَؤُلَاءِ الْأَعْدَاءُ الْإِسْلَامَ بِصُوَرٍ شَنِيعَةٍ؛ لِيُرَوِّجُوا مَا يَقُولُونَهُ مِنَ الْبَاطِلِ، وَإِلَّا فَمَنْ عَرَفَ الْإِسْلَامَ مَعْرِفَةً صَحِيحَةً عَرَفَ أَنَّهُ لَا تَسْتَقِيمُ أُمُورُ الْبَشَرِ دِينِيُّهَا وَدُنْيَوِيُّهَا إِلَّا بِهِ، وَأَنَّ تَعَالِيمَهُ الْحَكِيمَةَ أَكْبَرُ بُرْهَانٍ عَلَى أَنَّهُ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، عَالِمٍ بِالْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، رَحِيمٍ بِعِبَادِهِ؛ حَيْثُ شَرَعَ لَهُمْ هَذَا الدِّينَ)). انْتَهَى كَلَامُ السَّعْدِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ-.
(المسألة الثالثة): في فوائد الباب:
١ – (منها): بيان فضل القرن الأول على جميع القرون مطلقًا، بسبب اشتماله على النبيّ – ﷺ – المفضَّل على جميع الأنبياء والمرسلين – عليهم الصلاة والسلام-.
٢ – (ومنها): بيان فضل القرون الثلاثة، وأنهم أفضل ممن جاء بعدهم، وإن عمل ما عمل، وهذا هو الذي عليه الجمهور.
٣ – (ومنها): أنه استُدِلّ بهذا الحديث على تعديل أهل القرون الثلاثة، وإن تفاوتت منازلهم في الفضل، وهذا محمول على الغالب والأكثرية، فقد وُجد فيمن بعد الصحابة من القرنين من وُجدت فيه الصفات المذكورة المذمومة، لكن بقلّة، بخلاف مَن بعد القرون الثلاثة، فإن ذلك كَثُر فيهم، واشتَهَرَ.
٤ – (ومنها): بيان من تُرَدّ شهادتهم، وهم من اتصف بالصفات المذكورة، والى ذلك الإشارة بقوله: «ثم يفشو الكذب»: أي: يكثر.
٥- (ومنها): أنه استُدِلّ به على جواز المفاضلة بين الصحابة – رضي الله عنهم -، قاله المازريّ [»الفتح«٨/ ٣١٩، كتاب»فضائل الصحابة” رقم (٣٦٥١)]، والله تعالى أعلم.
٦ – (منها): بيان بركة النبيّ – ﷺ -، وبركة أصحابه ببركة صحبته.
٧- (ومنها): بيان بركة التابعين، وتابعيهم بسبب مصاحبتهم لأصحاب النبيّ – ﷺ -، وصحبة من صاحبهم؛ كما في حديث أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ – ﷺ -، قالَ: «يَأْتي عَلى النّاسِ زَمانٌ، يَغْزُو فِئامٌ مِنَ النّاسِ، فَيُقالُ لَهُمْ: فِيكُمْ مَن رَأى رَسُولَ اللهِ – ﷺ -؟، فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ، ثُمَّ يَغْزُو فِئامٌ مِنَ النّاسِ، فَيُقالُ لَهُمْ: فِيكلمْ مَن رَأى مَن صَحِبَ رَسُولَ اللهِ – ﷺ -؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ، ثُمَّ يَغْزُو فِئامٌ مِنَ النّاسِ، فَيُقالُ لَهُمْ: هَلْ فِيكُمْ مَن رَأى مَن صَحِبَ مَن صَحِبَ رَسُولَ اللهِ – ﷺ -؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ». رواه مسلم.
٨ – (ومنها): ما قاله القرطبيّ -رحمه الله-: فيه دليل واضح على صحّة نبوّة نبيّنا
محمد-رحمه الله-؛ إذ مضمونه خبر عن غَيْب وقع على نحو ما أخبر به – ﷺ – [«المفهم» ٦/ ٤٨٨ – ٤٨٩].[البحر المحيط الثجاج].
٩ – (ومنها): ما قاله في «الفتح»: إنه يستفاد من هذا الحديث بطلان قول من ادَّعى في هذه الأعصار المتأخرة الصحبة؛ لأن الخبر يتضمن استمرار الجهاد، والبعوث إلى بلاد الكفار، وأنهم يسألون: هل فيكم أحدٌ من أصحابه؟
فيقولون: لا، وكذلك في التابعين، وفي أتباع التابعين، وقد وقع كلُّ ذلك فيما
مضى، وانقطعت البعوث عن بلاد الكفار في هذه الأعصار، بل انعكس الحال في ذلك، على ما هو معلوم مشاهَد من مدة متطاولة، ولا سيما في بلاد الأندلس، وضَبَط أهل الحديث آخر من مات من الصحابة، وهو على الإطلاق أبو الطفيل عامر بن واثلة الليثيّ، كما جزم به مسلم في «صحيحه»، وكان موته سنة مائة، وقيل: سنة سبع ومائة، وقيل: سنة عشر ومائة، وهو مطابق لقوله – ﷺ – قبل وفاته بشهر: «على رأس مائة سنة لا يبقى على وجه الأرض ممن هو عليها اليوم أحد». انتهى [«الفتح» ٧/ ٥].