119 الفوائد المنتقاه على صحيح مسلم
مجموعة رامي ومجموعة إبراهيم البلوشي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1،2،3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن دورة الكعبي
——————
تتمة باب فضائل إبراهيم عليه الصلاة والسلام
صحيح مسلم:
2371 وحدثني أبو الطاهر أخبرنا عبد الله بن وهب أخبرني جرير بن حازم عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال * لم يكذب إبراهيم النبي عليه السلام قط إلا ثلاث كذبات ثنتين في ذات الله قوله! < إني سقيم >! وقوله! < بل فعله كبيرهم هذا >! وواحدة في شأن سارة فإنه قدم أرض جبار ومعه سارة وكانت أحسن الناس فقال لها إن هذا الجبار إن يعلم إنك امراتي يغلبني عليك فإن سألك فأخبريه إنك أختي فإنك أختي في الإسلام فإني لا أعلم في الأرض مسلما غيري وغيرك فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار أتاه فقال له لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي لها أن تكون إلا لك فأرسل إليها فأتى بها فقام إبراهيم عليه السلام إلى الصلاة فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها فقبضت يده قبضة شديدة فقال لها ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرك ففعلت فعاد فقبضت أشد من القبضة الأولى فقال لها مثل ذلك ففعلت فعاد فقبضت أشد من القبضتين الأوليين فقال ادعي الله أن يطلق يدي فلك الله أن لا أضرك ففعلت وأطلقت يده ودعا الذي جاء بها فقال له إنك إنما أتيتني بشيطان ولم تأتني بإنسان فأخرجها من أرضي وأعطها هاجر قال فأقبلت تمشي فلما رآها إبراهيم عليه السلام انصرف فقال لها مهيم قالت خيرا كف الله يد الفاجر وأخدم خادما قال أبو هريرة فتلك أمكم يا بني ماء السماء
-_-_–_-_-_-_-_-_
قال باحث: رد الفخر الرازي الحديث في أثناء تفسير سورة يوسف هذا الحديث زاعما انه يستلزم كذب إبراهيم وسيأتي أن هذا ليس كذبا بل من باب التورية
ثم الفخر الرازي: مزجي البضاعة في الحديث،
تام الفقر في هذا الباب،
وقد قضى الرجل حياته في محاربة السنة،
ووضع الأصول الفاسدة لردها، وقد اعترف في آخر حياته بندمه على عمره الذي أنفقه في هذا الخطل. قال الذهبيُّ في “سير النبلاء” (21 – 501): “وقد بدت منه في تواليفه بلايا وعظائم، وسحرٌ وانحرافات عن السُّنة، والله يعفو عنه، فإنه توفى على طريقة حميدة والله يتولى السرائر”.
والحديث في فى مسلم عن أبي هريرة وكذلك عن أبي هريرة في عدة مواضع ومرة ذكره موقوفا فابن سيرين تارة يوقفه وتاره يرفعه
قلت سيف: قال الدارقطني، وذكر الخلاف: ورفعه صحيح عن أبي هريرة (العلل 1431. انتهى
وكذلك ورد من حديث أنس في ضمن حديث الشفاعة أخرجه النسائي وإسناده قوي
وكذلك ورد من حديث أبي سعيد الخدريّ ضمن حديث الشفاعة لكنه اختلف فيه فمرة روي عن ابن عباس وهو أشبه.
انتهى من بحث لبعض الباحثين.
شرح متن الحديث
ورد في إكمال المعلم بفوائد مسلم:
وصف صلى الله عليه وسلم أن اثنتين من كذبات إبراهيم – عليه السلام – كانتا فى ذات الله سبحانه، والكذب إنما يترك لله، فإذا كان إنما يفعل لله انقلب حكمه فى بعض المواضع على حسب ما ورد فى الشريعة، فالقصد بهذا التقييد منه صلى الله عليه وسلم نفى مذمة الكذب عنه لجلال قدره فى الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وقد تأول بعض الناس كلماته هؤلاء حتى يخرج عن كونها كذبا، ولا معنى لأن يتحاشا العلماء مما لم يتحاش منه النبى صلى الله عليه وسلم، ولكن قد يقال: إن المراد بتسميتها كذبا على ظاهرها عندكم فى مقتضى إطلاقكم عند استعمالكم اللفظ على حقيقته.
وعلى أن قوله: ” إنها أختى “، قد يكون فى ذات الله، إذ أراد بها كف الظلم وصيانة الحريم، لكن لما كان له فيها منفعة ميزها صلى الله عليه وسلم عن الأولتين اللتين لا منفعة له فيهما، وهذا اللفظ يظهر ما فى تأويل هذا الحديث.
قال القاضى: عمدة النبوة البلاغ والخبر عن الله وشرعه وتجويز كلام منه على خلاف مخبره قادح فى صدقه مناقض لمعجزته، ونحن نعلم قطعا من مذاهب الصحابة وسيرة السلف الصالح، مبادرتهم إلى تصديق أقواله، والثقة بجميع أخباره فى أى باب كانت وعلى أى وجه جاءت، ولم يحفظ عنهم تردد ولا توقف ولا سؤال ولا استثبات عن حاله عند ذلك، هل وقع منه على سهو أو ضجر أو غيره؟ ولا حفظ عنه أنه استدرك شيئا قاله، أو اعترف بوهم فيما أخبر به.
ولو كان شىء من ذلك لنقل كما نقل رجوعه عن أشياء من أفعاله وآرائه وما ليس طريقه الخبر؛ كرجوعه عن رأيه فى ترك تلقيح النخل، وكقوله: ” والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا [منها] إلا فعلت الذى حلفت عليه [وكفرت] عن يمينى “، وكقوله: ” إنكم تختصمون إلى ” الحديث إلى قوله: ” قضيت له من حق أخيه، فإنما أقطع له قطعة من النار “،
وقد قيل: فى قوله: {إني سقيم} تأويلات، قيل: سقيم القلب بما أشاهد من كفركم وعنادكم.
وكذلك قوله: {بل فعله كبيرهم هذا} فإنه علق خبره بشرط نطقه، كأنه قال:
إن كان ينطق وهو فعله على طريق التنكيت لقومه، وهذا كله ليس بكذب وخارج عن حد الكذب فى حق المخبر، داخل فى باب المعاريض التى جعلها الشرع مندوحة عن الكذب
وفى هذا الحديث – فى قصة سارة – إجابة دعوة إبراهيم، وعلامات نبوته، ومنع الكافر ما أراده.
وقوله فى هاجر: ” فتلك أمكم يا بنى ماء السماء “: قال الخطابى: إن المراد بهذا العرب؛ لانتجاعهم المطر وماء السماء للعير؛ لأن أكثرهم أصحاب مواشى، وصلاحهم بالخصب والرعى، وسيرتهم فى ذلك معلومة.
قال القاضى: والأظهر عندى أن المراد بذلك الأنصار، ونسبهم إلى جدهم عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، وكان يعرف بماء السماء، وهو مشهور. والأنصار كلهم بنو حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر المذكور، ويكون ذلك على قول من جعل العرب من ولد إسماعيل، وهذا مثل قوله فى الحديث الآخر لمسلم: ” ارموا يا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميا “، وكله حجة لمن يجعل اليمن والعرب كليهما من ذرية إسماعيل. وقد ترجم البخارى على هذا الحديث ” باب نسبة اليمن إلى إسماعيل “).
وقيل: أراد بـ ” بنى ماء السماء “. العرب؛ لخلوص نسبهم وصفائه. وفى الحديث قبول هدية المشرك، وقد تقدم الكلام فيها.
وقوله: ” مهيم ” قال الخليل: هى كلمة لأهل اليمن خاصة، معناها: ما هذا؟ قال الطبرى: معناها: ما شأنك وما أمرك. انتهى.
وفي الفتح ذكر ابن حجر ما سبق وزاد عليه أشياء حذفت كثيراً منها؛ لأنها بصيغة التمريض وبدون أسانيد؛ قال ابن حجر وذكر أن في بعض الطرق في صحيح مسلم زيادة ذكر الكوكب:
قال القرطبي ذكر الكوكب يقتضي أنها أربع وقد جاء في رواية ابن سيرين بصيغة الحصر فيحتاج في ذكر الكوكب إلى تأويل قلت الذي يظهر أنها وهم من بعض الرواة.
قلت سيف: ذكر الكوكب ذكر مسلم في صحيحه أنها من رواية عمارة بن القعقاع.
تتمة كلام ابن حجر: وأما تسميته إياها كذبات فلا يريد أنها تذم فإن الكذب وإن كان قبيحا مخلا لكنه قد يحسن في مواضع وهذا منها.
قوله (ثنتين منهن في ذات الله) خصهما بذلك لأن قصة سارة وإن كانت أيضا في ذات الله لكن تضمنت حظا لنفسه ونفعا له بخلاف الثنتين الأخيرتين فإنهما في ذات الله محضا وقد وقع في رواية هشام بن حسان المذكورة إن إبراهيم لم يكذب قط إلا ثلاث كذبات كل ذلك في ذات الله وفي حديث بن عباس عند أحمد والله إن جادل بهن إلا عن دين الله.
قلت سيف: أما رواية هشام بن حسان فرواها عنه مخلد بن الحسين وهو ثقة لكن خالف الثقات. أخرجها ابويعلى 6039 وجعل باحث العهدة على شيخ أبي يعلى مسلم بن أبي مسلم الجرمي. قرره باحث
وقول ابن عباس – والله إن حاول بهن إلا عن دين الله – أخرجها أحمد 1/ 281 في حديث ابن عباس في الشفاعة وذكره مقبل في كتابه الشفاعة وقال فيه: علي بن زيد لكنه يقبل في الشواهد. المهم هذه اللفظه كما ذكرنا وإن انفرد بها علي بن زيد يمكن توجيهها أن دفاعه عن زوجه يعتبر من الدفاع عن الدين كما سبق تقريره
فيه إطلاق أن لله ذات، وكما أن له ذات لا تشبه الذوات فله صفات لا تشبه الصفات، والمقصود بها الذات التي توصف بالصفات. (قرره العباد في شرح سنن أبي داود)
قوله (بينا هو ذات يوم وسارة) في رواية مسلم (وواحدة في شأن سارة فإنه قدم أرض جبار ومعه سارة وكانت أحسن الناس ….. )
وذكر ابن حجر توجيهات بعضها استبعده هو بنفسه، وبعضها عن أهل الكتاب وبعضها بعيدة على غيرة إبراهيم على أهله. وأقرب ما نقل أنه هذا الملك يغالب الأزواج على زوجاتهم بقتلهم أما إن كان أخا لها فلا يقتله وهو على يقين من ربه أنه يحفظ زوجته بما أوحى الله إليه، وهذا الحديث ذكرناه في كتابنا مشكل الحديث
الجواب على مشكل الحديث:
هناك زيادة في مسند أبي يعلى6039 ربما تحل الإشكال وهي (وسألني أن أرسلك إليه، فاذهبي إليه، فإن الله سيمنعه منك)
وإسناده حسن. انتهى
قال العباد: وسبب قول إبراهيم أنها أخته أن الملك سيغار، فيحاول التخلص منه انتهى بمعناه
قوله (ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك) يشكل عليه كون لوط كان معه كما قال تعالى فآمن له لوط ويمكن أن يجاب بأن مراده بالأرض الأرض التي وقع له فيها ما وقع ولم يكن معه لوط إذ ذاك
ورد في رواية أبي الزناد عن الأعرج في البخاري من الزيادة (فقام إليها فقامت توضأ وتصلي) وقوله في هذه الرواية (فغط) هو بضم المعجمة في أوله وقوله (حتى ركض برجله) يعني أنه اختنق حتى صار كأنه مصروع قيل الغط صوت النائم من شدة النفخ وحكى بن التين أنه ضبط في بعض الأصول فغط بفتح الغين والصواب ضمها ويمكن الجمع بأنه عوقب تارة بقبض يده وتارة بانصراعه وقوله (فدعت من الدعاء) في رواية الأعرج في البخاري المذكورة ولفظه فقالت (اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط علي الكافر) ويجاب عن قولها إن كنت مع كونها قاطعة بأنه سبحانه وتعالى يعلم ذلك بأنها ذكرته على سبيل الفرض هضما لنفسها.
قوله (فقال ادعي الله لي ولا أضرك). في رواية أبي الزناد المذكورة (قال أبو سلمة قال أبو هريرة قالت اللهم إن يمت يقولوا هي التي قتلته قال فأرسل)
قوله (إنك لم تأتني بإنسان إنما أتيتني بشيطان) وكانوا يعظمون الجن
قوله (فأتته) في رواية الأعرج (فأقبلت تمشي فلما رآها إبراهيم)
قوله (مهيم) ومعناها ما الخبر
قوله (رد الله كيد الكافر أو الفاجر في نحره) هذا مثل تقوله العرب لمن أراد أمرا باطلا فلم يصل إليه ووقع في رواية الأعرج أشعرت أن الله كبت الكافر وأخدم وليدة أي جارية للخدمة وكبت بفتح الكاف والموحدة ثم مثناة أي رده خاسئا
وفي الحديث مشروعية أخوة الإسلام وإباحة المعاريض والرخصة في الإنقياد للظالم والغاصب وقبول صلة الملك الظالم وقبول هدية المشرك وإجابة الدعاء بإخلاص النية وكفاية الرب لمن أخلص في الدعاء بعمله الصالح وسيأتي نظيره في قصة أصحاب الغار وفيه ابتلاء الصالحين لرفع درجاتهم
وفيه أن من نابه أمر مهم من الكرب ينبغي له أن يفزع إلى الصلاة وفيه أن الوضوء كان مشروعا للأمم قبلنا وليس مختصا بهذه الأمة ولا بالأنبياء لثبوت ذلك عن سارة والجمهور على أنها ليست بنبية. انتهى من فتح الباري مع اختصار وتصرف في مواضع
قال العلامة السعدي في ” القواعد والأصول الجامعة ” (23):
والصدق مصلحته خالصة، والكذب بضده، ولهذا إذا ترتب على أنواع الكذب مصلحة كبرى تزيد على مفسدته كالكذب في الحرب، والإصلاح بين الناس فقد رخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم لرجحان مصلحته.
——–
قال الشيخ بن عثيمين في شرح رياض الصالحين
في شرح حديث: “ان الصدق يهدي إلي البر … ”
ولكن بعض أهل العلم قال:
إن المراد بالكذب في هذا الحديث التورية وليس الكذب الصريح وقال التورية قد تسمى كذبا كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ثنتين فيهن في ذات الله تعالى، قوله إني سقيم، وقوله بل فعله كبيرهم) هذا وواحدة في شأن سارة الحديث وهو لم يكذب إنما ورى تورية هو فيها صادق.
قال العلامة المعلمي رحمه الله:
الكذب في نفسه قبيح محرَّم، فإذا ترتبت عليه مفسدة كان أشدَّ قبحًا وإثمًا, ولا يخلو عن مفاسد تترتب عليه. ولا يُعْهَد في الشرع ولا العرف الترخيص في شيء منه، إلا إذا كان فيه دفع لمفسدة لا تندفع إلا به، وظهر أنه لا يترتب عليه مفسدة أعظم منها.
ولكن مثل هذا إن جاز لعامة الناس
فلا أراه يجوز للأنبياء بعد النبوة؛ لأن مبنى الرسالة على الصدق المحض.
فإن قيل:
فقد ثبت في “الصحيح”: “لم يكذب إبراهيم – عليه السلام – إلا ثلاث كذبات” البخاري رقم (3357)، ومسلم رقم (2371) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
قلت:
كلمات إبراهيم – عليه السلام – تجمع أمورً ا
الأول: التورية القريبة
الثاني: أنه كان في حاله ما يدعو إلى أن يُظَنّ أنه وَرَّى، وهذا شبه قرينة، وذلك كقوله لما سُئل عن امرأته: “هي أختي”، وأراد الأخوَّة في الدين
الأمر الثالث: أنه إنما بتلك الكلمات يدفع مفاسد عظيمة، ولهذا قال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم: “لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات، كُلُّهنّ في ذات الله “.
ولا أستبعد أن تكون تلك الكلمات وقعت منه – عليه السلام – قبل النبوة، ويدل على ذلك قول الله عَزَّ وَجَلَّ فيما حكاه عن قومه بعد تكسير أصنامهم: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 60]، والفتى: الشاب، والغالب أن النبوة تكون بعد الأربعين
وعلى ذلك أدلة أخرى من كيفية محاورته مع قومه، فكأنه – عليه السلام – أدرك التوحيد بصفاء فطرته وذكاء قريحته.
ومع هذا كله فإن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم سماها: “كذبات”، وبيَّن أنه لم يقع من إبراهيم مما يطلق عليه الكذب غيرها.
وثبت في “الصحيح” (في حديث الشفاعة الطويل عند البخاري رقم (4712)، ومسلم رقم (194) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
أن إبراهيم – عليه السلام – يعتذر عن الشفاعة يوم القيامة بهذه الكلمات، فيعدُّها يومئذٍ خطايا، كما يعتذر آدم بأكله من الشجرة، ويعتذر موسى بقتله نفسًا، وهذا مما يوضِّح شدة بُعدِ الأنبياء عن الكذب، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
من رسالته يسر العقيدة الاسلامية ضمن مجموع اثار المعلمي.
و سئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى:
هل يجوز الكذب من أجل الإصلاح لغير الزوجين، فمثلاً: عندما أقوم بالدعوة إلى طريق الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هل يجوز لي أن استحدث قصة من خيالي أي غير حقيقية، إما للترهيب وإما للترغيب، وما هي المواضع التي يجوز فيها الكذب؟
فأجاب:
ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فيقول خيراً وينمي خيراً). وقالت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط – رضي الله عنها -: لم أسمع النبي – صلى الله عليه وسلم – يرخص في شيء من الكذب إلا في ثلاث: الإصلاح بين الناس، والحرب، وحديث الرجل لامرأته والمرآة زوجها). ففي الحرب لا مانع من الكذب الذي ينفع المسلمين، ولا يكون فيه خداع ولا يكون فيه غدر للكفار، لكن يكون فيه مصلحة للمسلمين كأن يقول أمير الجيش نحن راحلون غداً إن شاء الله إلى كذا وكذا، أو يقول: نحن سنتوجه إلى الجهة الفلانية، ليعمي الخبر عن العدو حتى يفجأهم على غرة إذا كانوا قد بلغوا وأنذروا ودعوا …. ثم ذكر معنى ذلك في الإصلاح بين الناس ومع الزوجة
كتب باحث هذا البحث حول المعاريض:
توضيح معنى المعاريض و حكمها:
حد المعاريض (التورية):
قال ابن الأثير في ” النهاية في غريب الأثر”: (المَعَارِيضُ: جمعُ مِعْرَاض من التَّعْرِيض وهو خِلافُ التَّصْرِيح من القَولِ. يقال: عَرَفْت ذلك في مِعْرَاض كلامه ومِعْرَض كلامِه بحَذْفِ الألف) اهـ (ص 439، ج 3).
وقال صاحب (الخلاصة في علوم البلاغة):
” التورية لغةً – مصدرٌ، ورّيتُ الخبرَ توريةً: إذا سترتُه، وأظهرتُ غيره.
واصطلاحاً: هي أن يذكُرَ المتكلمُ لفظاً مفرداً له معنيان; أحدهُما قريبٌ غيرُ مقصودٍ ودلالةُ اللفظِ عليه ظاهرةُ، والآخرُ بعيدٌ مقصودٌ، ودلالةُ اللفظِ عليه خَفِيَّةٌ، فيتوهَّمُ السَّامعُ: أنه يُريدُ المعنَى القريبَ، وهو إنَّما يُريدُ المعنى البعيدَ بقرينةٍ تشيرُ إليه اهـ.
مباحث المعاريض:
يَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ التَّعْرِيضَ فِي الابْوَابِ الاتِيَةِ: فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، وَالْعِدَّةِ، وَفِي الْحُدُودِ: فِي الْقَذْفِ، وَالرُّجُوعِ عَنِ الاقْرَارِ. وَفِي الْهُدْنَةِ: وَفِي الايْمَانِ فِي الْقَضَاءِ فَقَطْ.
حكمها الشرعي:
فيه تفصيل فما كانت من مظلوم يريد أن يتخلص من الظلم فهذه لا شيء فيها، وأما التي تكون من الظالم يريد ظلم العباد فهذه محرمة لا تجوز وهي نوع من الكذب، وأما التي هي خلاف الأمرين الماضيين فتركها أحسن.
قال النووي: قال العلماء: فإن دعَت إلى ذلك مصلحة شرعيَّة راجحة على خداع المخاطب، أو دعت إليه حاجة لا مندوحة عنها إلا بالكذب: فلا بأس بالتعريض، فإن لم تدع إليه مصلحة ولا حاجة: فهو مكروه وليس بحرام، فإن توصل به إلى أخذ باطل أو دفع حق فيصير حينئذ حراماً، وهذا ضابط الباب. اهـ ” الأذكار ” (ص 380.)
وذهب بعض العلماء إلى تحريم التعريض لغير حاجة أو مصلحة، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. انظر الاختيارات ص 563.
و أما حديث ” إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب ” فهو ضعيف كما في السلسلة الضعيفة و الموضوعة (3/ 213) وإنما هو قول منقول عن بعض السلف.
و سئل سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله عن الحالات التي ورد ذكرها في حديث أم كلثوم وحديث أسماء بنت يزيد التي يجوز فيها الكذب، هل المراد بالكذب الكذب الحقيقي أم المعاريض والتورية؟ وإذا كان حقيقياً هل يقاس عليه مصلحة درء مفسدة؟
فأجاب رحمه الله:
الكذب في ثلاث الأولى: الحرب.
الثانية: حديث الرجل مع زوجته والعكس.
الثالثة: للإصلاح بين متخاصمين.
بعض العلماء يقول: هذا هو الكذب الصريح؛ لأن التورية تجوز في هذا وغيره.
ومنهم من يقول: إن المراد التورية كما قال إبراهيم: إنه يعتذر بأنه كذب ثلاث كذبات وهي كلها تورية، والاحتياط: ألا يقول إلا تورية، حتى في الحرب لا يقول: إلا تورية. و الإصلاح بين الناس، إذا رأيت اثنين متخاصمين تصلح بينهما تقول: لا والله لا يذكرك إلا بخير وما أشبه ذلك وتنوي شيئاً آخر.
أما حديث الرجل مع زوجته فاحذر أن تكذب عليها، لا تكذب عليها، لا تقل: والله أنا اشتريت الثوب هذا بألف ريال وهو بعشرين ريالاً، لا بأس أن تقول: إني أحبك وأنتِ غالية عليَّ وما أشبه ذلك، وهي كذلك أيضاً، فالظاهر لي والله أعلم: أن المراد بذلك التورية وأن الكذب الصريح لا يجوز إلا عند الضرورة القصوى. انتهى
قلت سيف: قال ابن القيم في زاد المعاد:
قال: جواز كذب الإنسان على نفسه وعلى غيره إذا لم يتضمن ضرر ذلك الغير إذا كان يتوصل بالكذب إلى حقه كما كذب الحجاج بن علاط على المسلمين حتى أخذ ماله من مكة من غير مضرة لحقت المسلمين من ذلك الكذب وأما ما نال من بمكة من المسلمين من الأذى والحزن فمفسدة يسيرة في جنب المصلحة التي حصلت بالكذب ولا سيما تكميل الفرح والسرور وزيادة الإيمان الذي حصل بالخبر الصادق بعد هذا الكذب فكان الكذب سببا في حصول هذه المصلحة الراجحة ونظير هذا الإمام والحاكم يوهم الخصم خلاف الحق ليتوصل بذلك إلى استعلام الحق كما أوهم سليمان بن داود إحدى المرأتين بشق الولد نصفين حتى توصل بذلك إلى معرفة عين الأم. (3/ 290)
وقصة إسلام حجاج بن علاط أخرجها أحمد 12409 وفي رواية معمر عن ثابت ضعف لكن ابن عبدالبر وغيره من الأئمة ينقلونها دون نقد. انتهى كلامي
وأنقل هنا كلام الشيخ محمد ناصر الدين الألباني حول حديث ” رخص النبي صلى الله عليه وسلم من الكذب في ثلاث: في الحرب و في الإصلاح بين الناس و قول الرجل لامرأته. (و في رواية): و حديث الرجل امرأته و حديث المرأة زوجها “.
” بعد أن فرغنا من تحقيق القول في صحة الحديث و دفع إعلاله بالإدراج أنقل إلى القارئ الكريم ما ذكره النووي رحمه الله في شرح الحديث: ” قال القاضي لا خلاف في جواز الكذب في هذه الصور و اختلفوا في المراد بالكذب المباح فيها ما هو؟ فقالت طائفة: هو على إطلاقه و أجازوا قول ما لم يكن في هذه المواضيع للمصلحة و قالوا: الكذب المذموم ما فيه مضرة و احتجوا بقول إبراهيم صلى الله عليه وسلم: (بل فعله كبيرهم) و (إني سقيم) و قوله ” إنها أختي “، و قول منادي يوسف صلى الله عليه وسلم (أيتها العير إنكم لسارقون). قالوا: و لا خلاف أنه لو قصد ظالم قتل رجل هو عنده مختف وجب عليه الكذب في أنه لا يعلم أين هو. و قال آخرون منهم الطبري: لا يجوز الكذب في شيء أصلا، قالوا: و ما جاء من الإباحة في هذا المراد به التورية و استعمال المعاريض لا صريح الكذب مثل أن يعد زوجته أن يحسن إليها و يكسوها كذا و ينوي: إن قدر الله ذلك.
و حاصله أن يأتي بكلمات محتملة يفهم المخاطب منها ما يطيب قلبه و إذا سعى في الإصلاح نقل عن هؤلاء إلى هؤلاء كلاما جميلا و من هؤلاء إلى هؤلاء كذلك وورى، و كذا في الحرب بأن يقول لعدوه: مات إمامكم الأعظم و ينوي إمامهم في الأزمان الماضية أو غدا يأتينا مدد. أي طعام و نحوه، هذا من المعاريض المباحة، فكل هذا جائز. و تأولوا في قصة إبراهيم و يوسف و ما جاء من هذا على المعاريض و الله أعلم “.
قلت: و لا يخفى على البصير أن قول الطائفة الأولى هو الأرجح و الأليق بظواهر هذه الأحاديث و تأويلها بما تأولته الطائفة الأخرى من حملها على المعاريض مما لا يخفى بعده، لاسيما في الكذب في الحرب. فإنه أوضح من أن يحتاج إلى التدليل على جوازه و لذلك قال الحافظ في ” الفتح ” (6/ 119): ” قال النووي: الظاهر إباحة حقيقة الكذب في الأمور الثلاثة لكن التعريض أولى. و قال ابن العربي: ” الكذب في الحرب من المستثنى الجائز بالنص رفقا بالمسلمين لحاجتهم إليه و ليس للعقل فيه مجال و لو كان تحريم الكذب بالعقل ما انقلب حلالا ” انتهى. و يقويه ما أخرجه أحمد و ابن حبان من حديث أنس في قصة الحجاج بن علاط الذي أخرجه النسائي و صححه الحاكم في استئذانه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول عنه ما شاء لمصلحته في استخلاص ماله من أهل مكة و إذن النبي صلى الله عليه وسلم و إخباره لأهل مكة أن أهل خيبر هزموا المسلمين و غير ذلك مما هو مشهور فيه ” اهـ.
الكذب:
هناك بحث عن الكذب، هذه مقتطفات منه:
مفهوم الكذب وحقيقته:
قال ابن حجر رحمه الله: “الكذب: هو الإخبار بالشّيء على خلاف ما هو عليه، سواء كان عمدا أم خطأ”.
وقال النووي رحمه الله: هو “الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو، عمدا كان أو سهوا، سواء كان الإخبار عن ماض أو مستقبل”.
خطورة الكذب والافتراء:
الكذب: ظاهرة مستشرية، وسمة غالبة، وداء عضال، ومرض فتَّاك، وخُلُقٌ ساقطٌ بغيضٌ إلى الله، بغيض إلى رسوله، بغيض إلى ذوي الفِطر السليمة، يأباه الشرفاء، ويمقته العقلاء، وتمجُّه أنفس النبلاء، يُهين أصحابه، ويُذل أربابه، ويزري بمروجيه ..
وهل النفاق إلا معتقَدٌ أساسه الكذب؟ وهل الرياء إلا عمل غُلِّفَ بالكذب؟ وهل البِدَع والخرافات إلا ثمرة للكذب على الله ورسوله؟ وهل التجني على الوحي، والنيل من الصحابة، والانحراف في المعتقد، إلا بسبب الكذب؟ وهل شوه الدين، ونُفر من الإسلام إلا بالكذب؟ وهل الحمَلات الضارية اليوم على المسلمين، والتخويف منهم، والاتهامات لهم إلا بسبب الكذب؟ وهل استبيحت بلدان، وانتهكت أعراض، ونُهبت مقدسات، واحتُلَّت الأوطان، وسلبت خيرات إلا بالكذب؟ .. وهل فسدت المودة وضاعت الثقة بين المسلمين شعوبًا وأفرادًا إلا بالكذب؟ فأصبح المسلم يمسي ويصبح وهو لا يكاد يصدق أحدًا، أو يثق بأحد، حتى بأقرب الناس إليه …
فالكذب بريد المعاصي والمنكرات؛ فالكفر والنفاق والرياء والفجور، والبهتان والخديعة والمكر، والظلم والخُلف والغش، والتحايل والغيبة والنميمة، كلها أمراض أستاذها الكذب، ولو بحثتَ وراء كُلِّ مُصِيبة، وتحتَ كُلِّ خطيئة، فستجد أنها مُتَلَطِّخة بالكَذِب، مغلَّفَة به، أو هو أساسُها وبنيانُها وعِمَادُها.
الكذب: مفتاح النفاق وأساسه، وفي الحديث: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان». (متفق عليه).
وقال سبحانه: {إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ} [المنافقون: 1].
يقول ابنُ القيم رحمه الله: “والإيمان أساسه الصدق، والنفاق أساسه الكذب، فلا يجتمع كذب وإيمان إلا وأحدهما محارب للآخر”.
قال مالك بن دينار رحمه الله: “الصدق والكذب يعتركان في القلب، حتى يُخرج أحدهما صاحبه”.
الكذبُ: مدخل من مداخل الشياطينِ؛ قَالَ تَعَالَى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} [الشعراء: 221 – 223].
فالكذب سلاح يصد به الشيطان العباد عن طاعة الله. {وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 20، 21].
الكذب: داء لا يصلح منه جدّ ولا هزْل، يمزق الأمم، ويقطع الأرحام، وتؤكل به الحقوق، وتنتهك به الحرمات، ويهدي إلى الفجور والفساد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: « … وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا» متفق عليه.
الْكَذِبُ: جِمَاعُ كُلِّ شَرٍّ، وَأَصْلُ كُلِّ ذَمٍّ؛ لِسُوءِ عَوَاقِبِهِ وَخُبْثِ نَتَائِجِهِ؛ لِأَنَّهُ يُنْتِجُ النَّمِيمَةَ، وَالنَّمِيمَة تُنْتِجُ الْبَغْضَاءَ، وَالْبَغْضَاءُ تؤول إلَى الْعَدَاوَةِ، وَلَيْسَ مَعَ الْعَدَاوَةِ أَمْنٌ وَلَا رَاحَةٌ.
الكذب: صفة من صفات الجاحدين الملحدين المعرضين عن آيات الله المكذبين بها، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل: 105].
ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الكذب سيفشو ويكثر بشكل لم يسبق له مثيل في آخر الزمان، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: خطبنا عمر بالجابية، فقال: يا أيّها النّاس إنّي قمت فيكم كمقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فينا. فقال: «أوصيكم بأصحابي، ثمّ الّذين يلونهم، ثمّ الّذين يلونهم، ثمّ يفشو الكذب، حتّى يَحلِف الرّجل ولا يُستحلف، ويَشهد الشّاهد ولا يُستشهد. ألا لا يخلونّ رجل بامرأة إلّا كان ثالثهما الشّيطان، عليكم بالجماعة وإيّاكم والفرقة؛ فإنّ الشّيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد. من أراد بحبوحة الجنّة فليلزم الجماعة، من سرّته حسنته وساءته سيّئته فذلك المؤمن». أخرجه الترمذي والنسائي والحاكم وقال الحاكم: “صحيح على شرط الشيخين” ووافقه الذهبي. وقال الألباني في الإرواء: وهو كما قالا.
قلت سيف: وذكره الشيخ مقبل في أحاديث معلة وقال: الحديث بمجموع طرقه صحيح.
كذا قلنا سابقاً لكن اتضح أن رواية عبدالملك معلة أعلها الحاكم كما في الصحيحة 430، وأما رواية محمد بن سوقة فرجح الدارقطني 2/ 65 مرسل الزهري، والبخاري في التاريخ 1/ 120 رجح المرسل أما في ترتيب العلل فذكر متابعة ابن المبارك لابي المغيرة عن محمد بن سوقة، لكن أبوزرعة وأبو حاتم رجحا رواية الزهري عن السائب أن عمر أخذ من الخيل الزكاة. انتهى فاللفظ يختلف
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يكون في آخر الزّمان دجّالون كذّابون، يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإيّاكم وإيّاهم، لا يُضِلّونكم، ولا يَفتنونكم» ..
فلقد انتشر الكذب في هذا الزمان حتى كاد أن يكون بضاعة التجار والأزواج والأولاد والكُتاب والإعلاميين وغيرهم … وحتى فقدت الثقة بين العباد، وأصبحوا يتعاملون فيما بينهم على حَذر ووجل، لكثرة الكذابين والأفاكين. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أنواع الكذب:
للكذب أشكال عديدة، ومظاهر كثيرة، نُجْمِلها في ثلاث: كذب على الله، وكذب على رسول الله، وكذب على عباد الله.
1 – الكذِب على الله تعالى؛ فمن الناس من اعتاد الكذب وجعله لباسا يرتديه في كل وقت وحين، يختلق الأكاذيب، ويخترع الأباطيل، حتى تجرأ بالكذب على خالقه ومولاه. وأخطر أنواع الكذب مِن دون استثناء أن يَكذبَ المرء على الله تعالى، يقول الله عز وجل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}. ومن صور الكذب على الله تعالى:
• أن يَصِف العبدُ ربّه بما لا يليق به سبحانه؛ فالله تعالى متصف بكل جلال وكمال، مُنزّه عن كل عيب ونقصان، {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}. وقدْ ذمّ الله تعالى مَن يَنسُبُ إليهِ ما هو مُنزّه عنه، فقال سبحانه: {وَيَجْعَلونَ لِلهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ ألْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لا جَرَمَ أنّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنّهُمْ مُفرَطونَ} [النحل: 62].
• أن يتلاعب المرء بدين الله تعالى؛ فيُحِلّ لنفسه ما حرّمه الله، أويُحرم ما أحله الله:
قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116].
• التكذيب بآيات الله، والتشكيك في صلاحيتها لكل زمان ومكان؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ}.
فقد أصبحنا اليوم نسمع ونرى من يُشكك الناسَ في دينهم.
2 – الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ومِن صُوَر الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم:
• نسبة الأحاديث المكذوبة والموضوعة إليه عليه الصلاة والسلام
- اتهام الأنبياء والرسل بالكذب على الله سبحانه؛ قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} [الفرقان: 4].
تقول أمُّ المؤمنين عائشةُ رضي الله عنها: “ما كان خُلُقٌ أبغَضَ إلى أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب، ولقد كان الرجلُ يَكذِب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الكِذبة، فما يزال في نفسه عليه حتى يعلَمَ أنْ قد أحدَث منها توبة”؛ رواه الإمام أحمد، وقال عنه شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين.
قلت سيف: أخرجه أحمد 25183 وقلنا في تخريجه:
الجواب: أعله البخاري وأبو حاتم والدارقطني بالارسال ورجحوا رواية من رواه عن أيوب عن إبراهيم بن مسيرة عن عائشة به، وإبراهيم بن ميسرة لم يلق عائشة.
وذكر ابن أبي مليكة خطأ (راجع علل ابن أبي حاتم 2198، والتاريخ الكبير 1/ 49،وعلل الدارقطني 14/ 359
ونقل البيهقي في الشعب 9/ 109 تعليل البخاري مؤيدا له
3 – الكذب على العباد
وللكذب على العباد صور عديدة، ومظاهر كثيرة، وهذه أبرزها:
الكذب لإضحاك الناس:
فعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: سمعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ويل للّذي يُحدّث بالحديث ليُضحِك به القوم فيكذب، ويل له ويل له» رواه أحمد والترمذي والنسائي وأبو داود والدارمي والحاكم. وقال الترمذي هذا حديث حسن. وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب.
قلت سيف: أخرجه أحمد 20073 وقلنا في تخريج نا للمسند: على شرط المتمم على الذيل، وكلام أبي حاتم، يحتمل أن النكارة راجعه للسند لقول أبي هريرة، ويحتمل أن النكارة راجعة للمتن وهذا أقرب عندي.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لا يجد عبدٌ حقيقة الإيمان حتى يَدعَ المِراء وهو مُحِقّ، ويَدَع الكذب في المزاح وهو يرى أنه لو شاء لغَلَب.
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان مُحِقا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا، وببيت في أعلى الجنة لمن حَسُن خلقه». أخرجه أبو داود، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة.
قلت سيف: وحسنه غير واحد من الباحثين.
– الكذب في البيع والشراء:
روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما: «أن رجلا أقام سِلعة في السوق، فحلف فيها، لقد أعطِي بها ما لم يُعْطَه، لِيُوقِع فيها رجلا من المسلمين»، فنزلت: {الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} إلى آخر الآية [آل عمران: 77].
والكذب المؤكد باليمين الغموس، المؤدِّي إلى أكل أموال الناس بالباطل من موجبات غضب الله على العبد؛ ففي صحيح البخاري عن عبد الله رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من اقتطع مال امرئ مسلم بيَمين كاذِبة، لقيَ الله وهو عليه غضبان» …
ويمحق الله بركة البيع المبني على الكذب
-الكذب على الأبناء:
عن عبد الله بن عامر رضي الله عنه قال: دَعتني أمي يوما، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم قاعِد في بيتنا، فقالت: هَا؛ تعال أعطِيك. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما أرَدتِ أن تعطيه؟» قالت: أعطيه تمرا، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما إنك لو لم تعطِه شيئا كتِبتْ عليك كِذبة». أخرجه أحمد وأبو داود والبيهقي، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة.
قلت سيف: قال المنذري: مولى عبدالله مجهول.
وحسنه محققو المسند لغيره بحديث الزهري عن أبي هريرة وهو منقطع، وبأثر موقوف عن ابن مسعود (لا يعد الرجل صبيا ثم لا ينجز له) انتهى من تخريجنا لسنن أبي داود 4991
-شهادة الزور:
وعدَّه النبي صلى الله عليه وسلم من أكبر الكبائر.
-الكذب لإفساد ذات البين:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن شرّ الناس ذو الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه». متفق عليه.
-الكذب على المخالفين:
فهناك من إذا خالفه أحد، أو كان بينه وبين أحد عداوة أو حسد، بدأ يبحث عمّا يَشفي غليله من هذا المخالف أو المعادي، فتراه يَكذِب عليه، ويُلصق التهم به، ويُغري به من يؤذيه.
– الكذب للتخلص من المواقف المُحرجة:
كحال من يكذب على والديه، أو مُدَرّسِيه، أو مسؤوليه
– الكذب في نقل الأخبار وإشاعتها:
وفي الحديث “كفى بالمرء كذبا أن يُحَدِّث بكلِّ ما يسمع” رواه مسلم.
ويقول الإمام مالك رحمه الله: اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ يَسْلَمُ رَجُلٌ حَدَّثَ بكُلِّ مَا سَمِعَ، وَلاَ يَكُونُ إِمَامًا أَبَدًا وَهُوَ يُحَدِّثُ بكُلِّ مَا سَمِعَ ..
-الكذب لاستدرار العطف، وكسب المؤيدين
كحال من قال الله فيهم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت: 12، 13].
كيف تكون الوقاية من الكذب:
1 – الاستعانة بالله عز وجل:
وقد كان من دعاء إبراهيم عليه السلام فيما قال الله تعالى عنه: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84]. وعن شَدَّاد بْن أَوْسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا أَنْ نَقُولَ: “اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَأَسْأَلُكَ عَزِيمَةَ الرُشْدِ، وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ لِسَانًا صَادِقًا، وَقَلْبًا سَلِيمًا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ مِمَّا تَعْلَمُ، إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ”. رواه أحمد (17155) والترمذي (3407) والنسائي (1304) وصححه الألباني في السلسة الصحيحة رقم 3228 وحسنه شعيب الأرنؤوط في تحقيق المسند.
قلت سيف: ضعفه الألباني: ضعيف النسائي 1303 وقال في تخريج مشكاة المصابيح 915 صحيح لغيره وفي الكلم الطيب 105قال إسناده ضعيف
قال الشوكاني: لا وجه لما قاله العراقي إنه منقطع وضعيف بعد تصحيح هذين الإمامين: تحفة الذاكرين: 460
وقد حسنه ابن حجر بمجموع طرقه، ولابن رجب رسالة اسمها (شرح حديث شداد بن أوس)
وبين محقق الرسالة أن أصل الدعاء ثابت دون تقييده بالصلاة، وكذلك لفظة (إذا كنز الذهب والفضة فاكنزوا هؤلاء الكلمات) في النفس منها شئ انتهى كلام المحقق.
2 – مراقبة الله واستشعار اطلاعه جلّ وعلا على عباده:
قال سبحانه: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ}.
3 – تعويد النفس على الصدق، وتوطينها عليه:
4 – النظر في العواقب:
ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، لا يلقي لها بالا، يَرفعُه الله بها درَجات، وإنّ العبد ليتكلم بالكلمة مِن سخط الله، لا يُلقي لها بالا، يَهوي بها في جهنم».
5 – معاشرة الصادقين، ومجانبة الكاذبين
وفي الحديث: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليَقلْ خيرا أو لِيصمتْ».
قلت سيف: تكلمنا على المعاريض بشئ من الإختصار في تعليقنا على الصحيح المسند حديث رقم 919:
عن عدي بن عمير الكندي رضي الله عنه قال: خاصم رجل من كندة يقال له امرؤ القيس بن عابس رجلا من حضرموت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض، فقضى على الحضرمي بالبينة فلم تكن له بينة، فقضى على امرئ القيس باليمين، فقال الحضرمي: إن أمكنته من اليمين يا رسول الله ذهبت، والله – أو ورب الكعبة أرضي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال أخيه، لقي الله وهو عليه غضبان)
قال رجاء: وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) فقال امرؤ القيس: ماذا لمن تركها يا رسول الله؟ قال: (الجنة)، قال: فاشهد أني قد تركتها له كلها.
وتكلمنا كذلك فيه على خطر اليمين الغموس
وقد توسعنا في الكلام على الكذب في تعليقنا على الصحيح المسند في حديث 912 عن عثمان بن عفان مرفوعاً (من قال علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار)