1184 فتح الأحد الصمد شرح الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير ومحمد البلوشي وكديم
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
قال الشيخ مقبل الوادعي في الصحيح المسند (ج2/ رقم 1184):
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج (3) ص (485)): حدثنا عبد الله بن عمران بن أبي علي أبو محمد من أهل الري وكان أصله أصبهانيًّا قال حدثنا يحيى بن الضريس قال حدثنا عكرمة بن عمار عن هرماس قال: كنت ردف أبي فرأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على بعير وهو يقول: «لبيك بحجة وعمرة معًا».
هذا حديث حسنٌ.
===================
الحديث سيكون من وجوه:
قال ابوحاتم: ذكرته لأحمد بن حنبل فأنكره: قال أبوحاتم: أرى دخل لعبدالله بن عمران حديث في حديث وسرقه الشاذكوني؛ لأنه حدَّث به بعد يحيى بن الضريس. وأنكره كذلك ابن حجر في أطراف المسند 5/ 429 واتحاف المهرة 7223 قال ابن حجر: وهذه زيادة منكرة. قلت يعني لبيك حجة وعمرة.
لكن ذكر ابن حجر في التلخيص أحاديث تلبيته بالحج والعمرة جميعا وبعضها في الصحيحين. وسيأتي بعضها
فلعل الانكار على لفظة (معا) او التعليل على الإسناد لأنَّه وقع في بعض الروايات أن جبريل أتاه وقال انك في واد مبارك فقل عمرة في حجة فصار قارنا بعد أن كان مفردًا. وسيأتي واختار الأتيوبي أنه صلَّى الله عليه وسَلَّم إنما لبى قارنا كما سيأتي فالله أعلم.
الوادعي رحمه الله جعله في الجامع:
(7) – كتاب الحج والعمرة، (10) – قرانه – صلى الله عليه وسلم – بين الحج والعمرة، برقم ((1346)).
و (44) – الخطبة يوم النحر، برقم ((1399)).
و (32) – كتاب الأدب، (97) – الإرداف على الدابة، برقم ((3663)).
الأول: شرح الحديث:
قال الإمام النسائي رحمه الله في (المجتبى) – (أخْبَرَنا إسْحاقُ بْنُ إبْراهِيمَ، قالَ: أنْبَأنا أبُو عامِرٍ، قالَ: حَدَّثَنا شُعْبَةُ،،، عَنِ الحَكَمِ، قالَ: سَمِعْتُ عَلِىَّ بْنَ حُسَيْنٍ، يُحَدِّثُ عَنْ مَرْوانَ، أنَّ عُثْمانَ نَهى عَنِ المُتْعَةِ، وأنْ يَجْمَعَ الرَّجُلُ بَيْنَ الحَجِّ والعُمْرَةِ، فَقالَ: عَلِيٌّ: لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وعُمْرَةٍ مَعًا، فَقالَ: عُثْمانُ: أتَفْعَلُها، وأنا أنْهى عَنْها؟، فَقالَ: عَلِيٌّ: لَمْ أكُنْ لأدَعَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -، لأحَدٍ مِنَ النّاسِ). من كتاب مناسك الحج، باب: القِرانُ، برقم ((2723)).
قال الأتيوبي – رحمه الله -: ” والحديث متّفق عليه”. انتهى.
اختلف عليّ وعثمان – رضي اللَّه تعالى عنهما -، وهما بعُسفان في المتعة، فقال عليّ: ما تريد إلى أن تنهى عن أمر فعله النبيّ – صلى الله عليه وسلم -، قال: فلما رأى ذلك عليّ، أهلّ بهما جميعًا.
وفي رواية في النسائي «أن عثمان نهى عن المتعة، وأن يجمع الرجل بين الحجّ والعمرة». قال في «الفتح»: قوله: «وأن يجمع بينهما» يحتمل أن تكون الواو عاطفة، فيكون نهى عن التمتّع والقران معًا. ويحتمل أن يكون عطفًا تفسيريًا، وهو على ما تقدّم أن السلف كانوا يطلقون على القران تمتّعًا، ووجهه أن القارن يتمتّع بترك النَّصَبِ بالسفر مرّتين، فيكون المراد أن يجمع بينهما قرانًا، أو إيقاعًا لهما في سنة واحدة بتقديم العمرة على الحجّ. وقد رواه النسائيّ من طريق عبد الرحمن بن حرملة، عن سعيد بن المسيّب بلفظ: «نهى عثمان عن التمتّع»، وزاد فيه: «فلبّى عليّ، وأصحابه بالعمرة، فلم ينههم عثمان، فقال له عليّ: ألم تسمع رسول اللَّه – صلى الله عليه وسلم – تمتّع؟، قال: بلى»، وله من وجه آخر: «سمعت رسول اللَّه – صلى الله عليه وسلم – يلبّي بهما جميعًا»، زاد مسلم من طريق عبد اللَّه بن شقيق، عن عثمان، قال: «أجل، ولكنا كنّا خائفين».
قال النوويّ: لعله أشار إلى عمرة القضيّة سنة سبع، لكن لم يكن في تلك السنة حقيقة تمتّع، إنما كان عمرة وحدها.
قال الحافظ: هي رواية شاذّة، فقد روى الحديث مروان بن الحكم، وسعيد بن المسيّب، وهما أعلم من عبد اللَّه بن شقيق، فلم يقولا ذلك، والتمتّع إنما كان في حجة الوداع، وقد قال ابن مسعود -كما ثبت عنه في «الصحيحين» -: «كنّا آمن ما يكون الناس».
وقال القرطبيّ: قوله: «كنا خائفين» أي من أن يكون أجر من أفرد أعظم من أجر من تمتّع. كذا قال، وهو جمع حسن، ولكن لا يخفى بُعده.
ويحتمل أن يكون عثمان أشار إلى أن الأصل في اختياره – صلى الله عليه وسلم – فسخ الحجّ إلى العمرة في حجة الوداع دفع اعتقاد قريش منع العمرة في أشهر الحجّ، وكان ابتداء ذلك بالحديبية؛ لأن إحرامهم بالعمرة كان في ذي القعدة، وهو من أشهر الحجّ، وهناك يصحّ إطلاق كونهم خائفين، أي من وقوع القتال بينهم وبين المشركين، وكان المشركون صدّوهم عن الوصول إلى البيت، فتحلّلوا من عمرتهم، وكانت أول عمرة وقعت في أشهر الحجّ، ثم جاءت عمرة القضيّة في ذي القعدة أيضًا، ثم أراد – صلى الله عليه وسلم – تأكيد ذلك بالمبالغة فيه، حتى أمرهم بفسخ الحجّ إلى العمرة انتهى كلام الحافظ [«فتح» (4) / (212)].
(ولَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -، يُلَبِّي بِهما جَمِيعًا) وهذا موضع الترجمة، حيث إنه يدلّ على جواز القران، وقد تقدّم أن إهلال النبيّ- صلى الله عليه وسلم – بهما جميعًا، كان في نهاية الأمر، وإلا فإنه بدأ بالحجّ، إلا أنه أدخل عليه العمرة، فصار قارنًا (فَلَمْ أدع قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – لِقَوْلِكَ) يعني أنه لا يسعني مخالفة سنته – صلى الله عليه وسلم – لأجل نهيك، لأن طاعة ولاة الأمر لا بدّ أن تكون في حدود الشرع، فإذا خالفوا ذلك، فلا طاعة لهم، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
[ذخيرة العقبى].
الثاني: مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): تعريف القران
و «القران» -بكسر القاف، وتخفيف الراء-: لغةً الجمع، يقال: قَرَن بين الحجّ والعمرة، من باب قتل، وفي لغة من باب ضرب: إذا جمع بينهما في الإحرام، والاسم القِران -بالكسر-، كأنه مأخوذ من قرَنَ الشخصُ للسائل: إذا جمع له بعيرين في قِرانِ، وهو الحَبْلُ، والقَرَنُ لغة فيه. أفاده الفيّوميّ.
والقِرانُ: هو أن يُحْرِمَ بالعُمْرَةِ والحَجِّ معًا في نُسُكٍ واحدٍ، فيقول: لبَّيْكَ اللهم عُمْرَةً في حَجَّةٍ. [((مجلة البحوث الإسلامية)) (59/ 208)]
قال في «الفتح»: وصورته الإهلال بالحجّ والعمرة معًا، وهذا لا خلاف في جوازه، أو الإهلال بالعمرة، ثم يدخل عليها الحجّ، أو عكسه. وهذا مختلف فيه انتهى [«فتح» (4) / (209)].
وقال المحبّ الطبريّ – رحمه الله تعالى-: للقران ثلاث صور:
[الأولى]: أن يُهلّ بهما جميعًا، وعليه دلّ ظواهر الأحاديث.
[الثانية]: أن يُهلّ بالعمرة، ثم يُدخل عليها الحجّ قبل الطواف، وعليه دلّ حديث ابن عبّاس، وابن عمر، وعائشة، وحفصة – رضي الله عنهم -.
[الثالثة]: عكسه، وفيه قولان للشافعيّ: أحدهما: لا يجوز، وبه قال مالك، وهو الأصحّ. والثاني: يجوز، وبه قال أبو حنيفة. والأول أصحّ، ويؤيده ما روي عن عليّ أنه سأله أبو نضرة، فقال: قد أهللت بالحجّ، فهل أستطيع أن أُضيف إليه عمرة؟ قال: لا، ذاك لو كنت بدأت بالعمرة. وبأن أفعال العمرة استُحقّت بالإحرام بالحجّ، فلم يبق في إدخالها فائدة، بخلاف العكس انتهى [راجع «المرعاة» (8) / (459)].
قال الأتيوبي رحمه الله معلقا: هذا الذي رجحه المحبّ الطبريّ من عدم جواز إدخال العمرة على الحجّ فيه نظر لا يخفى، بل الصواب جوازه؛ لما صحّ أن رسول اللَّه – صلى الله عليه وسلم – بدأ بالحجّ، ثم أدخل عليه العمرة، وأما الاحتجاج بأثر عليّ – رضي الله عنه -، فإنه احتجاج بالموقوف في معارضة المرفوع، وكذا الذي ذكره بعده، فإنه احتجاج بالقياس في مقابلة النصّ، وكلاهما غير صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب. انتهى. [ذخيرة العقبى].
(المسألة الثانية): إطلاقُ التمَتُّعِ على القِرانِ
يُطلَقُ التمتُّعُ على القِرانِ في عُرْفِ السَّلَفِ؛ قرَّرَ ذلك ابنُ عَبْدِ البَرِّ، والنَّوَوِيُّ، وابنُ تيميَّة، وابنُ حَجَرٍ، والكَمالُ ابنُ الهمامِ، والشِّنْقيطيُّ، وغيرُهم.
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
قال الله عَزَّ وجَلَّ: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196].
أنَّ القارِنَ متَمَتِّعٌ بجَمْعِ النُّسُكَينِ في نُسُكٍ واحدٍ، ومتمَتِّعٌ بسُقوطِ أحَدِ السَّفَرينِ عنه، فلم يُحْرِمْ لكلِّ نُسُكٍ مِن ميقاتِه، فيَدْخل بذلك في عمومِ الآيَةِ في مُسَمَّى التمتُّعِ. [((التمهيد)) لابن عَبْدِ البَرِّ (8/ 354)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (26/ 81)].
ثانيًا: إطلاقُ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللهُ عنهم التمَتُّعَ على نُسُكِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم، وإنَّما كان نُسُكُه القِرانَ. [((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (2/ 521)]:
1 – عن عِمْرانَ بنِ حُصَينٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((تمتَّعَ نَبِيُّ الله صلَّى الله عليه وسَلَّم وتمتَّعْنا معه)) [رواه مسلم (1226)].
2 – عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((تمتَّعَ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم في حَجَّةِ الوداعِ بالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ)) [رواه البخاري (1691)، ومسلم (1227)].
3 – عن سعيدِ بنِ المسيِّب قال: ((اختلفَ عليٌّ وعثمانُ رَضِيَ اللهُ عنهما وهما بعُسْفانَ في المُتعَة، فقال عليٌّ: ما تريدُ إلَّا أن تنهى عن أمْرٍ فَعَلَه النبي صلَّى الله عليه وسَلَّم، فلمَّا رأى ذلك عليٌّ أهَلَّ بهما جميعًا)). [رواه البخاري (1569)، ومسلم (1223)].
ثالثًا: أنَّ كِلا النُّسُكَينِ فيه تمتُّعٌ لغةً; لأنَّ التمتُّعَ مِن المتاعِ أو المُتْعَة، وهو الانتفاعُ أو النَّفْعُ، وكلٌّ مِنَ القارِنِ والمتمَتِّع، انتفَعَ بإسقاطِ أحَدِ السَّفَرينِ، وانتَفَعَ القارِنُ باندراجِ أعمالِ العُمْرَةِ في الحَجِّ. [((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/ 127)]. [الموسوعة الفقهية-الدرر]
(المسألة الثالثة): صُوَرُ القِرانِ:
للقِرانِ ثَلاثُ صُوَرٍ:
الصورةُ الأولى: صورةُ القِرانِ الأَصْلِيَّةُ:
أن يُحْرِمَ بالعُمْرَةِ والحَجِّ معًا، فيَجْمَع بينهما في إحرامِه، فيقول: لبَّيْكَ عُمْرَةً وحجًّا، أو لبَّيْك حجًّا وعُمْرَةً، قال: “الأفضل أن يُقَدِّمَ العُمْرَةَ في التَّلْبِيَةِ؛ فيقول: (لبَّيْكَ عُمْرَةً وحجًّا)؛ لأنَّ تلبيةَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم هكذا، ولأنَّها سابقةٌ على الحَجِّ. ((المجموع)) للنووي (7/ 171).
الأدلَّة: أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1 – أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم جاءه جبريلُ- عليه السلام- وقال: ((صَلِّ في هذا الوادي المُبارَكِ، وقل: عُمْرَةً في حَجَّةٍ، أو قال: عُمْرَةً وحَجَّةً)) [رواه البخاري (1534)].
2 – عن عائشةَ- رَضِيَ اللهُ عنها- قالت: ((فمِنَّا مَن أهَلَّ بعُمْرَةٍ، ومِنَّا مَن أهَلَّ بحَجة، ومِنَّا مَن أهَلَّ بحَجٍّ وعُمْرَةٍ)) [رواه البخاري (4408) واللفظ له، ومسلم (1211)].
ثانيًا: مِنَ الإجماعِ
نَقَلَ الإجْماعَ على جوازِ هذه الصُّورَةِ ابنُ عَبْدِ البَرِّ، والمُباركفوريُّ، قال المباركفوري: (الإهلالُ بالحَجِّ والعُمْرَةِ معًا، وهذا متَّفَقٌ على جوازِه) ((مرعاة المفاتيح)) (8/ 459)، ويُنْظَر: ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قُدامة (3/ 239)، ويُنْظَر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (4/ 38)، ((شرح السنة)) للبغوي (7/ 74)، وتُنظَرُ الإجماعاتُ المتقَدِّمة عن جوازِ القِرانِ.
الصُّورة الثَّانيةُ: إدخالُ الحَجِّ على العُمْرَةِ:
أن يُحْرِمَ بالعُمْرَةِ، ثم يُدخِلَ عليها الحَجَّ.
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1 – عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((خَرَجْنا مع النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم لا نذْكُرُ إلَّا الحَجَّ، فلمَّا جِئْنَا سَرِفَ طَمِثْتُ، فدخل عليَّ النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم وأنا أبكي، فقال: ما يُبْكِيكِ؟ قُلْتُ: لوَدِدْتُ- واللهِ- أنِّي لم أحُجَّ العامَ. قال: لعَلَّكِ نَفِسْتِ؟ قُلْتُ: نعم. قال: فإنَّ ذلكِ شَيءٌ كَتَبَه اللهُ على بناتِ آدَمَ، فافْعَلِي ما يفْعَلُ الحاجُّ، غيرَ أن لا تَطُوفي بالبَيْتِ حتَّى تَطْهُري)) [رواه البخاري (305) واللفظ له، ومسلم (1211)].
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم جوَّز لعائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها إدخالَ الحَجِّ على العُمْرَةِ [((زاد المعاد)) لابن القَيِّمِ (2/ 163)].
2 – عن نافعٍ: ((أنَّ ابنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما أراد الحَجَّ عام نزَلَ الحَجَّاجُ بابنِ الزُّبيرِ، فقيل له: إنَّ النَّاسَ كائِنٌ بينهم قتالٌ، وإنَّا نخاف أن يَصُدُّوك، فقال: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21] إذًا أصنَعَ كما صَنَعَ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم، إنِّي أُشْهِدُكم أنِّي قد أوجَبْتُ عُمْرَةً. ثم خرج حتى إذا كان بظَاهِرِ البَيداءِ، قال: ما شأنُ الحَجِّ والعُمْرَةِ إلا واحِدٌ، أُشْهِدُكم أنِّي قد أوجَبْتُ حجًّا مع عُمْرَتي. وأَهْدَى هديًا اشتراه بقُدَيْدٍ ولم يَزِدْ على ذلك، فلم يَنْحَرْ، ولم يَحِلَّ من شيءٍ حَرُمَ منه، ولم يَحْلِقْ ولم يُقَصِّرْ حتى كان يومُ النَّحْرِ، فنَحَرَ وحَلَقَ، ورأى أنْ قد قَضى طوافَ الحَجِّ والعُمْرَةِ بطوافِه الأَوَّل. وقال ابنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما: كذلك فَعَلَ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم)) [رواه البخاري (1640) واللفظ له، ومسلم (1230)].
ثانيًا: مِنَ الإجماعِ
نَقَلَ الإجْماعَ على جوازِ إدخالِ الحَجِّ على العُمْرَة: ابنُ المُنْذِر، وابنُ عَبْدِ البَرِّ، وابنُ قُدامة، وابنُ أخيه ابنُ أبي عُمَر، والقُرطبيُّ، والرَّمليُّ، قال ابنُ المُنْذِر: (أجمع كلُّ من نحفظ عنه من أَهْل العِلْم، أنَّ لِمَن أهَلَّ بعُمْرَةٍ أن يُدْخِلَ عليها الحَجَّ، ما لم يفتَتِحِ الطَّوافَ بالبَيْتِ) ((الإشراف)) (3/ 300). وقال ابنُ عبدِ البرِّ: (قولُ أبي ثورٍ لا يُدْخِلُ إحرامًا على إحرامٍ كما لا تَدْخُل صلاةٌ على صلاةٍ؛ ينفي دخولَ الحَجِّ على العُمْرَة، وهذا شذوذٌ، وفِعْلُ ابنِ عُمَرَ في إدخاله الحَجَّ على العُمْرَة ومعه على ذلك جمهور العلماء خيرٌ من قولِ أبي ثورٍ الذي لا أصْلَ له إلا القياسُ الفاسِدُ في هذا الموضع؛ واللهُ المستعان) ((التمهيد)) (15/ 219). وقال النووي: (اتفقَ جمهورُ العلماء علي جوازِ إدخالِ الحَجِّ على العُمْرَةِ، وشذَّ بعض الناس فمَنَعَه، وقال: لا يدخل إحرامٌ على إحرام، كما لا يدخُلُ صلاةٌ على صلاة) ((المجموع)) (7/ 162)، ويُنْظَر: ((فتح الباري)) لابن حجر (4/ 7).
مَسْألةٌ:
يُشْتَرَطُ في إدخالِ الحَجِّ على العُمْرَة أن يكون قبل الطَّوافِ، وهو مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّة، والحَنابِلَة، وهو قَوْلُ أشهَبَ من المالِكِيَّةِ، واختارَه ابنُ عبدِ البَرِّ؛ وذلك لأنَّه إذا طاف فيكون حينئذٍ قد اشتغَلَ بمعظَمِ أعمالِ العُمْرَةِ، وشُرِعَ في سبَبِ التحَلُّلِ، ففات بذلك إدخالُ الحَجِّ على العُمْرَةِ [((المجموع)) للنووي (7/ 172)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (3/ 323)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قُدامة (3/ 240)، ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (7/ 100)].
الصورة الثَّالِثة: إدخالُ العُمْرَةِ على الحَجِّ
اختلف أَهْلُ العِلْم في حُكْمِ إدخالِ العُمْرَةِ على الحَجِّ، وذلك بأنْ يُحْرِمَ بالحَجِّ مُفْرِدًا، ثمَّ يُدْخِلَ عليها العُمْرَةَ ليكون قارنًا، وذلك على قولينِ:
القول الأوّل: لا يصِحُّ إدخالُ العُمْرَةِ على الحَجِّ، فإن فعل لم يَلْزَمْه، ويتمادى على حَجِّه مفرِدًا، وهذا مَذْهَبُ الجُمْهورِ: المالِكِيَّة، والشَّافِعِيَّة- في الأصَحِّ – والحَنابِلَة، وبه قالَتْ طائِفةٌ مِنَ السَّلَف.
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ الأنصاريِّ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّه حَجَّ مع رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم عام ساقَ الهَدْيَ معه، وقد أهلُّوا بالحَجِّ مُفْرَدًا، فقال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم: أحِلُّوا من إحرامِكم، فطوفوا بالبَيتِ وبَينَ الصَّفا والمروةِ، وقَصِّروا، وأقيموا حَلالًا، حتى إذا كان يومُ التَّرويةِ فأَهِلُّوا بالحَجِّ، واجعلوا التي قَدَّمْتُم بها مُتعةً)) [رواه البخاري (1568)، ومسلم (1216) واللفظ له].
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ أَمْرَهم بفَسْخِ الحَجِّ إلى عُمْرَة إنَّما كان بغَرَضِ إعلامِهم بجوازِ العُمْرَةِ في أشهُرِ الحَجِّ؛ لإبطالِ ما كانوا عليه في الجاهليَّة مِن عَدَمِ الجوازِ، فلو كان يجوزُ إدخالُ العُمْرَةِ على الحَجِّ لأَمَرَهم بذلك، ولَمَا احتاجَ أن يأمُرَهم بفَسْخِ الحَجِّ [((التمهيد)) لابن عَبْدِ البَرِّ (23/ 365)].
ثانيًا: أنَّ أفعالَ العُمْرَةِ من الطَّوافِ والسعيِ والحَلْقِ، استُحِقَّتْ بالإحرامِ بالحَجِّ، فلم يبقَ في إدخالِ الإحرامِ بها فائدة، بخلاف العكس من إدخال الحَجِّ على العُمْرَة، فإنَّه يستفيدُ به الوقوفَ والرَّميَ والمَبِيتَ [((نهاية المحتاج)) للرملي (3/ 323)، ((مرعاة المفاتيح)) للمباركفوري (8/ 459)].
ثالثًا: أنَّ التداخُلَ على خلافِ الأصلِ، ولا يُصارُ إليه إلَّا بدليلٍ، لاسيما أنَّ فيه إدخالَ الأصغرِ على الأكبرِ، وهو لا يصِحُّ [((نهاية المحتاج)) للرملي (3/ 323)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قُدامة (3/ 240)].
رابعًا: أنَّ العُمْرَة أضعَفُ من الحَجِّ، فلم يَجُزْ أن تُزاحِمَ ما هو أقوى منها بالدُّخولِ عليها، وجاز للحَجِّ مُزاحَمَتُها؛ لأنَّه أقوى منها [((الحاوي الكبير)) للماوردي (4/ 38)].
القول الثاني: يجوزُ إدخالُ العُمْرَةِ على الحَجِّ، ويكون قارنًا، وهذا مَذْهَبُ الحَنَفيَّةِ، وهو قولُ الشَّافعيِّ في القديمُ، واللَّخمي من المالِكِيَّة، وبه قال عطاءٌ، والأوزاعيُّ، وقوَّاه ابنُ عُثيمين.
الأدلَّة: أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1 – عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: ((أهَلَّ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم بالحَجِّ، ثم جاءه جبريلُ عليه السَّلامُ، وقال: صلِّ في هذا الوادي المُبارَك، وقل: عُمْرَةً في حجَّةٍ، أو عُمْرَةً وحَجَّةً)) [رواه البخاري (1534)].
أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم أُمِرَ أن يُدخِلَ العُمْرَةَ على الحَجِّ، وهذا يدلُّ على جوازِ إدخالِ العُمْرَةِ على الحَجِّ.
2 – عن جابرٍ رَضِيَ الله عنه قال: ((لو أنِّي استقبلْتُ من أمري ما استدبَرْتُ، لم أسُقِ الهديَ، وجعلتُها عمرةً. فمن كان منكم ليس معه هَدْيٌ فليُحِلَّ. وليَجْعلْها عُمرةً. فقام سراقةُ بنُ مالكِ بنِ جُعشمٍ، فقال: يا رسولَ اللهِ! ألِعَامِنا هذا أم لأبدٍ؟ فشبَّك رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أصابعَه واحدةً في الأخرى. وقال دخلتِ العمرةُ في الحجِّ مرتَين، لا بل لأبدِ أبدٍ)) [رواه البخاري (1785)، ومسلم (1218) واللفظ له].
3 – عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلم: ((هذه عمرةٌ استمتَعْنا بها، فمَن لم يكن عنده الهَدْيُ، فليُحِلَّ الحِلَّ كُلَّه؛ فإنَّ العُمرةَ قد دخَلَت في الحَجِّ إلى يومِ القيامةِ)) [أخرجه مسلم (1241)].
ثالثًا: أنَّه يستفيدُ بذلك أن يأتيَ بنُسُكَينِ بَدَلَ نُسُكٍ واحدٍ [((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (7/ 87)].
رابعًا: قياسًا على إدخالِ الحَجِّ على العُمْرَةِ؛ لأنَّه أحَدُ النُّسُكينِ. [((مرعاة المفاتيح)) للمباركفوري (8/ 460)]. [الموسوعة الفقهية-الدرر]
(المسألة الرابعة): أعمالُ القارِن
الفرع الأوَّل: أعمالُ القارِن
عَمَلُ القارِنِ والمُفْرِدِ واحِدٌ؛ فالقارِنُ يكفيه إحرامٌ واحِدٌ، وطوافٌ واحِدٌ، وسعيٌ واحِدٌ، ولا يَحِلُّ إلَّا يومَ النَّحْرِ، ويقتَصِرُ على أفعالِ الحَجِّ، وتندرج أفعالُ العُمْرَةِ كلُّها في أفعالِ الحَجِّ، وهذا مَذْهَبُ الجُمْهورِ من: المالِكِيَّة، والشَّافِعِيَّة، والحَنابِلَة، وبه قال أكثَرُ السَّلَفِ، [منهم: ابن عمر رَضِيَ اللهُ عنهما، وجابر بن عبد الله، وعائشة، وعطاء، وطاووس، والحسن، ومجاهد، والماجشون, وإسحاق، وأبو ثور، وابن المُنْذِر وداود. ((التمهيد)) لابن عَبْدِ البَرِّ (8/ 230)، ((تفسير القرطبي)) (2/ 391)، ((المجموع)) للنووي (8/ 61)، ((حاشية ابن القَيِّمِ)) (5/ 347)].
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1 – عن جابرِ بنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((لم يَطُفِ النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم ولا أصحابُه بين الصَّفا والمروةِ إلَّا طَوافًا واحِدًا)) [رواه مسلم (1215)].
2 – عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((وأمَّا الذين جمَعوا الحَجّ والعُمْرَة فإنَّما طافوا طوافًا واحدًا)) [رواه البخاري (1556) واللفظ له، ومسلم (1211)].
وَجْهُ الدَّلالَةِ: أنَّ الحديثَ نَصٌّ صريحٌ على اكتفاءِ القارِنِ بطوافٍ واحدٍ لحَجِّه وعُمْرَتِه [((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/ 378)].
3 – عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: أنَّها أهَلَّت بعُمْرَةٍ، فقَدِمَتْ ولم تَطُفْ بالبيتِ حتى حاضت، فنَسَكَت المناسِكَ كُلَّها، وقد أهلَّتْ بالحَجِّ، فقال لها النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم: ((يَسَعُكِ طوافُكِ لحَجِّكِ وعُمْرَتِكِ)) [رواه مسلم (1211)].
وَجْهُ الدَّلالَةِ: أنَّ هذا الحديثَ الصَّحيحَ صريحٌ في أنَّ القارِنَ يكفيه لحَجِّه وعُمْرَتِه طوافٌ واحِدٌ وسعيٌ واحدٌ [((فتح الباري)) لابن حجر (3/ 495)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/ 375)].
4 – عن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، عَنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم أنَّه قال: ((دخَلَتِ العُمْرَةُ في الحَجِّ؛ مَرَّتينِ)) [رواه البخاري (1785)، ومسلم (1218) واللفظ له].
وَجْهُ الدَّلالَةِ: أنَّ تصريحَه صلَّى الله عليه وسَلَّم بدُخولِها فيه؛ يدلُّ على دخولِ أعمالِها في أعمالِه حالةَ القِرانِ [((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/ 378)، ((مرعاة المفاتيح)) للمباركفوري (9/ 67)].
5 – عن نافعٍ: ((أنَّ عبدَ اللهِ بنَ عبدِ الله، وسالمَ بنَ عبدِ الله، كلَّمَا عبدَ اللهِ حين نزل الحجَّاجُ لقتالِ ابنِ الزُّبيرِ، قالا: لا يضُرُّك ألَّا تحُجَّ العامَ؛ فإنَّا نخشى أن يكونَ بين النَّاسِ قتِالٌ يُحالُ بينك وبين البَيتِ، قال: فإنْ حِيلَ بيني وبينه، فعَلْتُ كما فعل رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم وأنا معه، حين حالت كفَّارُ قُريشٍ بينه وبين البيتِ، أُشهِدُكم أنِّي قد أوجبتُ عُمرةً، فانطلق حتى أتى ذا الحُلَيفةِ فلبَّى بالعمرةِ، ثم قال: إنْ خُلِّيَ سبيلي قضيتُ عُمرَتي، وإن حيلَ بيني وبينه فعَلْتُ كما فعلَ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم وأنا معه، ثم تلا: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ الأحزاب: 21، ثم سار حتى إذا كان بظَهرِ البَيداءِ، قال: ما أمْرُهما إلَّا واحِدٌ، إن حيلَ بيني وبين العُمرةِ حيل بيني وبين الحَجِّ، أُشهِدُكم أنِّي قد أوجَبتُ حَجَّةً مع عمرةٍ، فانطلق حتى ابتاع بقُدَيدٍ هَديًا، ثم طاف لهما طوافًا واحدًا بالبيتِ وبين الصَّفا والمروةِ، ثم لم يحِلَّ منهما حتى حلَّ منهما بحَجَّةٍ يومَ النَّحرِ)) [رواه البخاري (1640)، ومسلم (1230) واللفظ له].
وَجْهُ الدَّلالَةِ: أنَّ في هذه الرِّوايةِ التَّصريحَ مِنِ ابنِ عُمَرَ باكتفاءِ القارِنِ بطوافٍ واحدٍ، وهو الذي طافَه يومَ النَّحْرِ للإفاضةِ، وأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم كذلك فَعَلَ [((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/ 376)، ((مرعاة المفاتيح)) للمباركفوري (9/ 65)].
ثانيًا: مِنَ الآثارِ
عن سَلَمَةَ بنِ كُهَيلٍ قال: (حلَفَ طاوس: ما طاف أحدٌ مِن أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم لحَجِّه وعُمْرَتِه إلَّا طوافًا واحدًا) [أخرجه عبدالرزاق كما في ((فتح الباري)) لابن حجر (3/ 579)، وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (14530) صَحَّح إسناده ابن حجر، والشَّوْكاني في ((نيل الأوطار)) (5/ 158)]. [الموسوعة الفقهية-الدرر]
الفرع الثَّاني: وجوبُ الهَدْيِ على القارِنِ
قال الشيرازي: (ويجب على القارِنِ دمٌ؛ لأنَّه رُوِيَ ذلك عن ابنِ مَسعودٍ وابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما) ((المهذب)) (1/ 371). وقال ابنُ عبدِ البرِّ: (يتَّفِقان] أي التمتُّع والقِران [عند أكثَرِ العلماء في الهدي) ((الاستذكار)) (4/ 93). وقال الشِّنْقيطيُّ: (أجمع من يُعتَدُّ به من أَهْل العِلْم أنَّ القارِنَ يلزَمُه ما يلزم المتمَتِّعَ من الهدي، والصَّوْم عند العجْزِ عن الهَدْيِ، وهذا مذهَبُ عامَّة العلماء؛ منهم الأئمة الأربعة، إلَّا من شذ شذوذًا لا عِبْرَة به، وليس كلُّ خلافٍ جاء معتبرًا إلا خلافًا له وَجْهٌ من النَّظر) ((أضواء البيان)) (5/ 128) باختصار.
وممَّن خالف في ذلك ابنُ حَزْم، فقال: (ولا هَدْيَ على القارنِ- مَكِّيًّا كان أو غيرَ مَكِّيٍّ- حاشا الهديَ الَّذي كان معه عندَ إحرامِه). ((المحلى)) (5/ 113). ووصَفَ ابنُ حَجَرٍ قولَه بالشُّذوذِ. يُنْظَر: ((فتح الباري)) لابن حجر (4/ 7).
يجِبُ الهَدْيُ على القارِن إذا لم يَكُنْ مِن حاضِرِي المسجِدِ الحرامِ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَةِ: الحَنَفيَّة، والمالِكِيَّة، والشَّافِعِيَّة، والحَنابِلَة.
الأدلَّة: أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
قولُه تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة: 196].
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أ- أنَّ القارِنَ متَمَتِّعٌ بالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ، فهو داخِلٌ في مسمَّى التمتُّعِ في عُرْفِ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللهُ عنهم؛ يدلُّ على ذلك ما يلي:
1 – عن مروان بن الحكم، قال: (شهدت عثمان، وعليا رضي الله عنهما وعثمان «ينهى عن المتعة، وأن يجمع بينهما، فلما رأى علي أهل بهما، لبيك بعمرة وحجة، قال: ما كنت لأدع سنة النبي صلى الله عليه وسلم لقول أحد) [رواه البخاري (1563)، واللفظ له، ومسلم (1223)].
2 – عن سعيدِ بنِ المسَيِّبِ، قال: ((اختلف عليٌّ وعثمانُ رَضِيَ اللهُ عنهما وهما بعُسْفانَ في المُتعَةِ، فقال عليٌّ: ما تريدُ إلَّا أن تنهى عن أمْرٍ فَعَلَه رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم، فلمَّا رأى ذلك عليٌّ، أهلَّ بهما جميعًا)) [رواه البخاري (1569)، ومسلم (1223)].
3 – عن عِمرانَ بنِ حُصَينٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((تمتَّعَ نبيُّ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم وتَمَتَّعْنا معه)) [رواه مسلم (1226)].
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّه وَصَفَ نُسُكَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم بالتمتُّعِ مع كونِه صلَّى الله عليه وسَلَّم كان قارنًا [((زاد المعاد)) لابن القَيِّمِ (2/ 113)].
ب- دلَّ ظاهِرُ الآيةِ على أنَّ من تمتَّعَ فعليه الهَدْي إذا لم يكُنْ مِن حاضِري المسجِدِ؛ فإنْ كان فلا دَمَ. [((المجموع)) للنوي (7/ 169)].
ثانيًا: أنَّ الهَدْيَ إذا كان واجبًا على المتمَتِّعِ بنَصِّ القرآنِ والسنَّةِ والإجماعِ، فإنَّ القارِنَ أَوْلى لأمرينِ:
الأوَّل: أنَّ فِعْلَ المتَمَتِّع أكثَرُ مِن فِعْلِ القارِنِ، فإذا لَزِمَه الدَّمُ فالقارِنُ أَوْلَى. [((مغني المحتاج)) للشربيني (1/ 517)].
الثَّاني: أنَّه إذا وجب على المُتَمَتِّع لأنَّه جمَعَ بين النُّسُكينِ في وقتِ أحدِهما؛ فلَأَنْ يَجِبَ على القارِنِ- وقد جمَعَ بينهما في إحرامٍ واحِدٍ- أَوْلَى، وقد اندرجَتْ جميعُ أفعالِ العُمْرَةِ في أفعالِ الحَجِّ، [قال ابنُ عبدِ البرِّ: (من معنى التمتُّع أيضًا القِرانُ عند جماعةٍ من الفقهاءِ؛ لأنَّ القارِنَ يتمَتَّعُ بسقوطِ سَفَرِه الثَّاني مِن بَلَدِه، كما صنع المتمتِّعُ في عمرته إذا حجَّ من عامه ولم ينصَرِفْ إلى بلده، فالتمتُّع والقِران يتَّفقان في هذا المعنى) ((الاستذكار)) (4/ 93)، ((المجموع)) للنووي (7/ 190)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/ 517)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قُدامة (3/ 246)]. [الموسوعة الفقهية-الدرر]
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في أيّ الأنساك الثلاثة أفضل:
قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: اختلف العلماء في أفضل وجوه الإحرام بحسب اختلافهم فيما فعله النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عام حجة الوداع على أقوال:
(أحدها): أن الأفضل الإفراد، وهو مذهب مالك، والشافعيّ، وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر، وجابر، وعائشة، وأبي ثور، وحكاه النوويّ في «شرح المهذّب» عنهم، وعن عمر، وعثمان، وعليّ، وابن مسعود، والأوزايرّ، وداود، قال المالكيّة، والشافعيّة: ثم الأفضل بعد الإفراد التمتّع، ثم القران.
(الثاني): أن التمتّع أفضل، وهو قول أحمد بن حنبل، قال ابن قُدامة في «المغني»: وممن رُوي عنه اختيار التمتع ابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، وعائشة، وا لحسن، وعطاء، وطاؤوس، ومجاهد، وجابر بن زيد، وسالم، والقاسم، وعكرمة، وهو أحد قولي الشافعيّ، وحكاه الترمذيّ عنه، وعن أحمد، وإسحاق، وأهل الحديث، قال الحنابلة: ثم الأفضل بعد التمتع الإفراد، ثم القران.
وممن انتصر أن التمتع أفضل بل هو الواجب الألباني صفة في حجة النبي صلى الله عليه وسلم.
(الثالث): أن القران أفضل، وهذا قول أبي حنيفة، وحكاه ابن المنذر عن سفيان الثوريّ، وإسحاق ابن راهويه، ثم قال: لا شكّ أنه -صلى الله عليه وسلم- كان قارنًا. انتهى.
وهو قول للشافعيّ، وقال به من أصحاب الشافعيّ: المزنيّ، وأبو إسحاق المروزيّ، وإليه ذهب ابن حزم الظاهريّ، كما سيأتي، والمشهور عند الحنفيّة أن الأفضل بعد القران التمتّع، ثم الإفراد، وعن أبي حنيفة أن الإفراد أفضل من التمتّع.
(الرابع): أنه إن ساق الهدي فالقران أفضل، وإن لم يسقه فالتمتّع أفضل، حكاه المروزيّ عن أحمد بن حنبل.
(الخامس): أن الأنواع الثلاثة سواء في الفضيلة، لا فضيلة لبعضها على بعض، حكاه القاضي عياض عن بعض العلماء.
(السادس): أن التمتّع والقران سواء، وهما أفضل من الإفراد، حكي عن أبي يوسف، ثم ذكر وليّ الدين أدلة ترجيح الشافعي الإفراد على غيره، وطوّل في ذلك.
وقال الحافظ- بعد أن ذكر أدلّة كونه -صلى الله عليه وسلم- قارنًا-: ومقتضى ذلك أن يكون القران أفضل من الإفراد والتمتّع، وهو قول جماعة من الصحابة، والتابعين، وبه قال الثوريّ، وأبو حنيفة، وإسحاق ابن راهويه، واختاره من الشافعية: المزنيّ، وابن المنذر، وأبو إسحاق المروزيّ، ومن المتأخّرين: تقيّ الدين السبكيّ، وبحث مع النوويّ في اختياره أنه -صلى الله عليه وسلم- كان قارنأ، وأن الإفراد مع ذلك أفضل، مستندًا إلى أنه – صلى الله عليه وسلم- ما اختار الإفراد أوّلًا، ثم أدخل عليه العمرة؛
لبيان جواز الاعتمار في أشهر الحجّ؛ لكونهم كانوا يعتقدونه من أفجر الفجور،
وملخّص ما يُتعقّب به كلامه أن البيان قد سبق منه -صلى الله عليه وسلم- في عُمَره الثلاث، فانه
أحرم بكل منها في ذي القعدة: عمرة الحديبية التي صُدّ عن البيت فيها، وعمرة
القضيّة التي بعدها، وعمرة الجعرانة، ولو كان أراد باعتماره عمرة حجته بيان
الجواز فقط، مع أن الأفضل خلافه لاكتفى في ذلك بأمره أصحابه أن يفسخوا حجهم إلى العمرة.
وذهب جماعة من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم إلى أن التمتع أفضل؛ لكونه -صلى الله عليه وسلم- تمنّاه، فقال: «لولا أني سُقت الهدي لأحللت»، ولا يتمنّى إلا الأفضل، وهو قول أحمد بن حنبل في المشهور عنه.
وأجيب بأنه إنما تمنّاه تطييبأ لقلوب أصحابه؛ لحزنهم على فوات موافقته، وإلا فالأفضل ما اختاره الله له، واستمرّ عليه.
وقال ابن قدامة: يترجّح التمتع بأن الذي يُفرِد إن اعتمر بعدها، فهي مختلف في إجزائها عن عمرة الإسلام، بخلاف عمرة التمتّع فهي مجزئة بلا خلاف، فيترجّح التمتّع على الإفراد، ويليه القران.
وقال من رجّح القران: هو أشقّ من التمتع، وعمرته مجزئة بلا خلاف، فيكون أفضل منهما، وحكى عياض عن بعض العلماء أن الصور الثلاث في
الفضل سواء، وهو مقتضى تصرّف ابن خزيمة في «صحيحه».
وعن أبي يوسف: القران، والتمتع في الفضل سواء، وهما أفضل من الإفراد.
وعن أحمد: من ساق الهدي فالقران أفضل له؛ ليوافق فعل النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ومن لم يسق الهدي فالتمتّع أفضل له؛ ليوافق ما تمناه، وأمر به أصحابه.
زاد بعض أتباعه: ومن أراد أن ينشاء لعمرته من بلده سفرًا فالإفراد أفضل له.
قال: وهذا أعدل المذاهب، وأشبهها بموافقة الأحاديث الصحيحة، فمن
قال: الإفراد أفضل فعلى هذا؛ لأن أعمال سَفَرَيْن للنسكين أكثر مشقّة، فيكون أعظم أجرًا، ولتُجزئ عنه عمرته من غير نقص، ولا اختلاف. انتهى كلام الحافظ رحمه الله [«الفتح» (4) / (217) – (218)].
قال الأتيوبي عفا الله تعالى عنه: الذي يترجّح عنديّ بعد النظر في هذه الأقوال، وأدلتها أن القران أفضل لمن ساق الهدي موافقة لفعل النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، والتمتع أفضل لمن لم يسق الهدي عملًا بأمر النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أصحابه الكرام –رضي الله عنهم-.
وهذا هو الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله، فإنه قال: وأما إذا أراد أن يجمع بين النسكين بسفرة واحدة، ويسوق الهدي، فالقران أفضل، اقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حيث قرن، وساق الهدي.
وقال في تفضيل التمتع لمن لم يسق الهدي: فإن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذين حجوا معه، ولم يسوقوا الهدي أمرهم جميعهم أن يحجوا هكذا، أمرهم إذا طافوا بالبيت، وبين الصفا والمروة أن يحقوا من إحرامهم، ويجعلوها متعة،
قال: ومعلوم أنهم أفضل الأمة بعده، ولا حجة تكون أفضل من حجة أفضل الأمة، مع أفضل الخلق بامره، فكيف يكون حج من حج مفردًا، واعتمر عقب ذلك، أو قارنًا، ولم يسق الهدي أفضل من حج هؤلاء معه بأمره؟
قال: ويقال في الجواب عن الحديث: «أبُو استقبلت … »: إنه لم يقل هذا لأجل أن الذي فعله مفضول، بل لأن أصحابه شقّ عليهم أن يحلّوا من إحرامهم مع بقائه محرمًا، فكان يختار موافقتهم ليفعلوا ما أُمروا به عن انشراح، أو موافقة، قال: وقد ينتقل من الأفضل للمفضول لما فيه من الموافقة، وائتلاف القلوب.
قال: وعلى هذا التقدير يكون الله قد جمع له بين أن فعل الأفضل، وبين أن أعطاه بما يراه من الموافقة لهم ما في ذلك من الفضل، فاجتمع له الأجران، وهذا هو اللائق بحاله -صلى الله عليه وسلم-. انتهى المقصود من كلام ابن تيمية رحمه الله بتصرّف [راجع: «مجموع الفتاوى» (26) / (86) – (91)]، وهو كلام نفيس جدًّا.
والحاصل أن من ساق الهدي فالقران له أفضل، ومن لم يسق الهدي فالتمتّع له أفضل.
(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في- صفة حجة النبيّ -صلى الله عليه وسلم-:
(اعلم): أنه اختلفت روايات الصحابة –رضي الله عنهم- في حجه -صلى الله عليه وسلم- حجة الوداع، هل كان مفردًا، أو قارنًا، أو متمتّعًا؛ ورُوي كلّ منها في «الصحيحين»، وغيرهما، واختلف الناس في ذلك، وفي إحرامه على أقوال:
(أحدها): أنه حجّ مفردًا، لم يعتمر معه [قال الأتيوبي في الحاشية: ” أبعد هذا القول من الأحاديث الصحيحة، أنه -صلى الله عليه وسلم- قرن بين الحج والعمرة، فتنبّه”]، حُكي هذا عن الإمام الشافعيّ وغيره، قال القسطلّاني في «المواهب»: والذي ذهب إليه الشافعيّ في جماعة أنه -صلى الله عليه وسلم- حج مفردًا، وحكاه الزرقانيّ في «شرح المواهب» عن الإمام مالك، وحكي عن الشافعيّ وغيره أن نسبة القران والتمتّع إليه -صلى الله عليه وسلم- على سبيل الاتساع؛ لكونه أمر بهما. انتهى.
وبه جزم الخطابيّ، حيث قال: اختلفت الروايات فيما كان النبيّ -صلى الله عليه وسلم- به محرمًا.
والجواب عن ذلك أن كلّ راو أضاف إليه ما أمر به اتساعًا، ثم رجّح أنه كان أفرد الحجّ. قال الحافظ في «الفتح»: هذا هو المشهور عند الشافعيّة، والمالكيّة، وقد بسط الشافعيّ القول فيه في اختلاف الحديث وغيره. انتهى.
(القول الثاني): أنه لبّى بالعمرة وحدها، واستمرّ عليها حتى فرغ منها، ثم أحرم بعد ذلك بالحجّ، فكان متمتّعًا، وكان حجه حجّ تمتّع، قاله القاضي أبو يعلى وغيره [قال الأتيوبي رحمه الله في الحاشية: “لا يخفى ضعف هذا القول، والذي بعده؛ لمخالفته الأحاديث الصحيحة، فتنبّه”].
(القول الثالث): أنه حجّ متمتّعًا تمتعًا لم يحلّ فيه لأجل سوق الهدي، ولم يكن قارنًا، حكاه ابن القيّم عن صاحب «المغني» وغيره.
(القول الرابع): أنه لبّى بالحجّ وحده، وحج مفردًا، واعتمر بعده من التنعيم، قال الإمام ابن تيمئة: وهذا غلط، لم يقله أحد من الصحابة، ولا التابعين، ولا الأئمة الأربعة، ولا أحد من أهل الحديث. انتهى.
وقال الإمام ابن القيّم: الذين قالوا: إنه حجّ مفردًا، واعتمر عقبه من التنعيم، لا يُعلم لهم عذر البتّة، إلا أنهم سمعوا أنه -صلى الله عليه وسلم- أفرد الحجّ، وأن عادة المفردين أن يعتمروا من التنعيم، فتوهموا أنه فعل كذلك.
(القول الخامس): أنه لبّى بالحجّ مفردًا، ثم أدخل عليه العمرة [قال الأتيوبي معلقا: “هذا القول يرده حديث عمر في “صحيح البخاريّ! أن الملَك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقران، كما سياتي، فتنبّه”]، وصار قارنًا، فكان مفردًا ابتداءً، وقارنًا انتهاءً، وبه جزم عامة محققي الشافعيّة، وبعض المالكيّة.
قال النوويّ في «شرح المهذّب»: والصواب الذي نعتقده أنه -صلى الله عليه وسلم- أحرم بالحجّ أوّلًا مفردًا [قال الأتيوبي معلقا: “بل الصحيح أنه أحرم قارنًا، كما سيأتي تحقيقه، فتنبّه”]، ثم أدخل عليه العمرة، فصار قارنًا، وإدخال العمرة على الحجّ جائز على أحد القولين عندنا، وعلى الأصحّ لا يجوز لنا، وجاز للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- تلك السنة للحاجة. انتهى.
واختاره القاضي عياض، إذ قال: أما إحرامه -صلى الله عليه وسلم- بنفسه، فأخذ بالأفضل، فأحرم مفردًا للحجّ، تضافرت به الروايات الصحيحة، وأما رواية من روى أنه كان متمتّعًا، فمعناه أمر به، وأما رواية من روى القران، فهو إخبار عن آخر أحواله، لا عن ابتداء إحرامه [قال الأتيوبي: “بل الصواب أنه من أول الأمر قارن، كما سياتي تحقيقه، فتنبه”]؛ لأنه أدخل العمرة على الحجّ لَمّا جاء إلى الوادي، وقيل له: «قل: عمرة في حجة». انتهى.
قال الحافظ: وهذا الجمع هو المعتمد، وقد سبق إليه قديمًا ابن المنذر، ومهّده المحدث الطبريّ تمهيدًا بالغًا، يطول ذكره، ومحصّله: أن كلّ من روى عنه الإفراد حمل على ما أهلّ به في أول الحال، وكل من روى عنه التمتّع أراد ما أمر به أصحابه، وكلّ من روى عنه القران أراد ما استقرّ عليه أمره.
(القول السادس): أنه لبّى بالعمرة وحدها، ثم لم يتحلّل منها إلى أن أدخل عليها الحجّ يوم التروية [قال الأتيوبي معلقا: “لا يخفى كون هذا القول غير صحيح، فتنبه”]، فصار قارنًا، حكاه الحافظ عن الطحاويّ، وابن حبان.
(القول السابع): أنه أحرم إحرامًا مطلقًا لم يُعيّن فيه نسكًا [قال الأتيوبي معلقا: “لا يخفى كون هذا القول بعيدأ عن الصواب؛ لمصادمته الأحاديث الصحيحة المصزحة بأنه -صلى الله عليه وسلم- أهلّ بالحج والعمرة، فتنئه”]، ثم عيّنه بعدُ، رجحه الشافعيّ في «اختلاف الحديث»، كما قال الحافظ في «الفتح».
وقال وليّ الدين العراقي: قال القاضي: وقال بعض علمائنا: إنه أحرم إحرامًا مطلقًا منتظرًا ما يؤمر به، من إفراد، أو تمتع، أو قران، ثم أمر بالحجّ،
ثم أمر بالعمرة في وادي العقيق بقوله: «صلّ في هذا الوادي، وقل: عمرة في حجة»، ثم قال القاضي في موضمع آخر بعد ذلك: لا يصحّ قول من قال: أحرم النبيّ -صلى الله عليه وسلم- مطلقًا مبهمًا؛ لأن رواية جابر وغيره من الصحابة في الأحاديث الصحيحة تردّه، وهي مصرّحة بخلافه. انتهى.
(القول الثامن): أنه لبّى بالحجّ والعمرة معًا [قالأتيوبي معلقا: “هذا القول هو الحقّ الموافق، كما سياتي تحقيقه، فتنبّه”]، وكان قارنًا من أول الأمر، وحقّق هذا القول ابن الهمام في «شرح الهداية»، وابن القيّم في «الهدي»، وأجابا عن كلّ ما خالفه، قال ابن القيّم: والصواب أنه أحرم بالحجّ والعمرة معًا من حيث أنشأ الإحرام، ولم يحلّ حتى حلّ منهما جميعًا، كما دلّت عليه النصوص المستفيضة التي تواترت تواترًا يعلمه أهل الحديث. انتهى، وإليه مال ابن حزم في كتابه «حجة الوداع»، وتأوّل باقي الأحاديث إليه، كما حكاه النوويّ، والوليّ العراقيّ.
وقال أبو محمد بن حزم رحمه الله في كتابه «حجة الوداع»، ما مختصره:
لما اختلفت الرواية عن الصحابة، فقال بعضهم: أفرد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحجّ، وقال بعضهم: تمتع -صلى الله عليه وسلم -، وقال بعضهم قرن -صلى الله عليه وسلم- بين حج وعمرة، كان هذا تنازعًا يجب رده إلى الله تعالى، وإلى نبيه -صلى الله عليه وسلم- بنص القرآن، فلما فعلنا ذلك وجدناه -صلى الله عليه وسلم- قد حكم بينهم، ونص بكلامه الذي ليس موقوفًا على غيره أنه كان قارنًا، كما ذكر عنه البراء بن عازب، إذ قال -صلى الله عليه وسلم-: «لكني سقت الهدي، وقَرَنْتُ»، وكما ذكر أنس -رضي الله عنه – أنه سمعه يقول: «لبيك عمرة وحجًّا، لبيك عمرةً وحجًّا»، وكما ذكر عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه سمعه -صلى الله عليه وسلم- يلبي بهما معًا، وكما ذكرت حفصة أم المؤمنين -رضي الله عنها- أنها قررته على أنه معتمر بعمرة لم يحل منها، فلم ينكر -صلى الله عليه وسلم- ذلك عليها، بل صدقها، وأجابها أنه مع ذلك حاجّ، وهو -صلى الله عليه وسلم- لا يُقِرّ على باطل يسمعه أصلًا، بل ينكره، لا بدّ من ذلك، فصح بما ذكرنا قرانه -صلى الله عليه وسلم- يقينًا.
وليس في كل ما رُوي ما يَتَعَلّق به مَن ظَنّ أنه -صلى الله عليه وسلم- يقول: لبيك بحج مفرد، ولا أحد قال: إنه -صلى الله عليه وسلم- أخبر عن نفسه، فقال: أفردت الحجّ، ولا رُوي
ذلك أيضًا عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: لبيك بعمرة مفردة، ولا أنه قال: إني تمتعت، وهو
بلا شكّ أعلم بنفسه، فلما ذَكَرَ -صلى الله عليه وسلم- أنه قَرَنَ، وسُمِع يلبي بحج وعمرة صحّ أنه
قارن يقينًا. فهؤلاء أربعةٌ عدولٌ من أئمة الصحابة -رضي الله عنهم- يشهدون أنهم سمعوه -صلى الله عليه وسلم- يُخبر عن نفسه بأنه قارنٌ، وكان هذا أولى عند كل ذي فهم من حكاية صاحب لم ينسبها إلى أنه سمعه من فيه -صلى الله عليه وسلم-.
فان قيل: إن ابن عمر ذكر أنه سمع النبيّ -صلى الله عليه وسلم- يقول: «لبيك بحجة»، قيل له: نعم، قد روينا ذلك، وهذا لا حجة فيه؛ لأنه -رضي الله عنه- لم يقل: إنه سمعه يقول في ذي الحليفة، ولعله سمعه -صلى الله عليه وسلم- يقول ذلك إذ أتم عمرته، ونهض إلى منى.
وقد يمكن أن يكون سمع ذكر الحجّ، ولم يسمع ذكر العمرة، ومن زاد ذكر العمرة أولى؛ لأنه زاد علمًا. ثم قال: فهذا وجه الرد إلى الله تعالى وإلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- قد لاح أنه -صلى الله عليه وسلم- كان قارنًا، وبالله تعالى التوفيق.
قال: أما من ذهب إلى إسقاط المتعارض من الروايات والأخذ بما لم يتعارض منها، فوجه علمه في هذا أن نقول: إن كل من رُوي عنه الإفراد قد اضطربت عنه الرواية، وروي عن جميعهم القران، وهم: عائشة، وجابر، وابن عمر، وابن عباس -رضي الله عنهم-، ووجدنا أيضًا عمران بن الحصين، وعليّ بن أبي طالب قد روي عنهم التمتع، وروي عنهم القران، ووجدنا أم المؤمنين حفصة، والبراء بن عازب، وأنس بن مالك -رضي الله عنهم- تضطرب الرواية عنهم، ولا اختلفت عنهم في أنه -صلى الله عليه وسلم- كان قارنًا، فننزل رواية كل من اضطُرِب عنه، ونرجع إلى
رواية من لم يُضطرَب عنه، وليست إلا رواية من روى القران خاصة؛ كحفصة،
والبراء، وأنس -رضي الله عنه-.
هذا وجه العمل على قول من يرى إسقاط ما تعارض من الروايات، والأخذ بما لم يتعارض منها.
قال: وأما من ذهب إلى الأخذ بالزائد، وهو وجه يجب استعماله إذأ كانت الألفاظ كلها، أو الأفعال كلها منسوبة إلى النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ولم تكن موقوفة
على غيره من دونه، ولا تنازعًا ممن سواه -صلى الله عليه وسلم-، فوجه العمل في هذا أن نقول-وبالله تعالى التوفيق-: إنا وجدنا من روى الإفراد إنما اقتصر على ذكر الإهلال
بالحج وحده، دون عمرة معه، ووجدنا من روى التمتع إنما اقتصر على ذكر
الإهلال بعمرة وحدها، دون حج معها، ووجدنا من روى القران قد جمع الأمرين معًا، فزاد على ذكر الحج وحده عمرة، وزاد على من ذكر العمرة وحدها حجًّا، وكانت هذه زيادة علم لم يذكرها الآخرون، وزيادة حفظ ونقل على كلتا الطائفتين المتقدمتين، وزيادةُ العدل مقبولةٌ، وواجب الأخذ بها، فوجب بهذا أيضًا أن يُصْدَر إلى رواية من روى القران، دون رواية من روى غير ذلك، وأيضًا فالذين رووا القران زادوا زيادة لا يحل لمسلم تركها، وهي أنهم حكموا أنهم سمعوا ذلك من لفظه -صلى الله عليه وسلم-، ولم يذكر ذلك غيرهم، فوجب ألا يُلْتَفَت إلى لفظ أحد بعد لفظه -صلى الله عليه وسلم-. انتهى مختصر كلام ابن حزم رحمه الله [«حجة الوداع» ص (440) – (448)].
قال الأتيوبي عفا الله عنه: هذا الذي ذكره ابن حزم في الجمع بين أحاديث الباب جمع نفيسٌ، وتحقيقٌ أنيسٌ.
وحاصله أن الصواب والأرجح في حجة النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أنه كان قارنًا، وأهلّ
بالقران أوّلَ ما أهلّ، ثم استمرّ على ذلك إلى أن تحلّل يوم النحر، والله تعالى أعلم.